﴿... وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ (البقرة:184)
كثر ما جاء في فضل الصيام من الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث الشريفة، وقد جعل ذلك كثيراً من الناس يعتقدون أن فوائد الصيام مقصورة على الجوانب التعبدية, وانعكاساتها الروحية والعاطفية والأخلاقية والسلوكية على الأفراد والمجتمعات، ولكن ثبت بالعديد من الدراسات المستفيضة أن للصيام فوائدَ صحيةً لخصها خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم في قوله الشريف : " صوموا تصحوا " .
وقد أظهرت نتائج تلك الدراسات أن الأداء البدني للصائم من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب أفضل من أداء غير الصائم لتحسن كل من درجة تحمل البدن للمجهودات العضلية, وأداء كل من القلب وبقية الجهاز الدوري، والجهاز الهضمي، والجهاز التنفسي وغيرها من أجهزة الجسم أثناء الصيام, ومن هنا كانت قلة الشعور بالإجهاد, وتحمل ما لا يمكن للفرد تحمله في ساعات الإفطار العادية, وذلك لاختلاف مصدر الطاقة في الجسم بين الصائم والمفطر , أما إذا زادت مدة الصيام عن المتوسط الذي شرعه الإسلام (11 – 14 ساعة تقريبا) فإن الأداء البدني والعضلي يبدأ في التأثر, ويبدأ الصائم في الشعور بالإعياء .
فمن المعروف أن الصوم يسبب انصهار الدهون في الجسم، مما يؤدي إلى زيادة في الأحماض الدهنية الحرة في الدم, فتصبح هذه الأحماض مصدرا رئيسيا لطاقة الصائم بدلاً من الجلوكوز في حالة المفطر, وهذا يساعد على تقليل استهلاك مادة "الجليوكوﭽين" في كل من العضلات والكبد أثناء بذل الجهد من قبل الصائم, ويساعد كذلك في ضبط مستوى سكر الجلوكوز في الدم الذي يؤدي نقصه إلى الشعور بالإعياء، ولما كان مستوى سكر الجلوكوز في دم المفطر هو المصدر الرئيسي لطاقته, كان جهده المبذول يشعره بإعياء أكبر مما يشعر به الصائم إذا قام بنفس المجهود, تحت نفس الظروف .
بالإضافة إلى ذلك فإن حالة الرضى النفسي للصائم, وارتفاع معنوياته, لشعوره بالقرب من خالقه سبحانه وتعالى, ولإحساسه بالقيام بعبادة من أشرف العبادات, في شهر يعتبر أفضل شهور السنة على الإطلاق , وأكثرها بركة, ورحمة, ومغفرة, وقبولا للدعاء، وعتقًا من النار, كل ذلك يؤدي إلى زيادة واضحة في داخل جسم الإنسان لعدد من الهرمونات النافعة من مثل مجموعة "الأندروفين" التي يعزى إليها تحسن الأداء البدني, وقلة الشعور بالإعياء أو الإجهاد . فما أحكم من شرع الصيام, وما أصدق مقولة الرسول الخاتم : " صوموا تصحوا ".
*كذلك فإنه لمن البديهات أن توقف الإنسان عن متابعة نظامه اليومي في تناول وجبات الطعام الثلاث لفترة محددة يؤدي إلى راحة أجهزة الجسم, الذي يبدأ خلال فترة الصيام في التخلص مما تراكم فيه على مدار السنة من دهون, وشحوم, وفضلات وسموم, وفيروسات, وطفيليات, وغيرها, وهي من الأمور المهلكة لصحة الإنسان إذا تراكمت في داخل جسده بكميات كبيرة, ومن هنا كانت ضرورة التخلص منها بين فترة وأخرى, والصوم أفضل وسيلة لذلك .
من هنا شرع- ربنا تبارك-وتعالى لنا الصيام في شهر رمضان وجعله أحد أركان الإسلام, كما شرع لنا نبينا صلى الله عليه وسلم "صوم التطوع" , و"صوم الكفارات" , و"صوم النذر" على مدار السنة، وكان-صلى الله عليه وسلم- من المواظبين على صيام التطوع, وأوصى أمته بالصوم ووصفه بأنه عبادة من أعظم العبادات لله, ووسيلة من وسائل المحافظة على صحة الأبدان, وسلامة الأرواح , وطهارة النفوس ، والتحام المجتمعات المسلمة فقال : "صوموا تصحوا " .
وحذر الرسول- صلى الله عليه وسلم- من الإسراف في كل شيء, وبخاصة في تناول الطعام والشراب, ووضع لذلك دستورًا من الآداب والسلوكيات التي نصح بها أمته, وأثبتت الدراسات العلمية-في زمن تفجر المعرفة الذي نعيشه- دقتها, وصحتها, وشموليتها.
والسؤال الذي يفرض نفسه : كيف عرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من قبل ألف وأربعمائة سنة أن في الصيام صحةً للأرواح وللأبدان ؟.
ومن الذي كان يضطره إلى إصدار حكم كهذا في هذا الزمن المتقدم؟ لولا أن الله تعالى قد علمه ذلك, وأنطقه إياه, ولولا أنه-سبحانه وتعالى- يعلم بعلمه المحيط أن الإنسان سيصل في يوم من الأيام إلى إدراك تلك الحقيقة العلمية فتبقى هذه الومضة المبهرة في حديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-شاهد صدق على أن هذا النبي الخاتم, والرسول الخاتم الذي نطق بهذا الحق كان دومًا موصولاً بالوحي, ومعلمًا من قبل خالق السماوات والأرض الذي وصفه تعالى بقوله :
﴿ وما ينطق عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى**﴾ (النجم:3–10) .
من هنا كانت ضرورة الاهتمام بالإشارات العلمية في كتاب الله, وفي سنة رسوله-صلى الله عليه وسلم-, وفهمها في ضوء الحقائق العلمية المتاحة, وتقديمها لأهل العصر دليلاً ماديًا قاطعًا (لا يمكن لعاقل أن يرفضه) على صدق نبوة ورسالة هذا النبي الخاتم-صلى الله عليه وسلم-, وفي ذلك نجاة لنا ولهم, وفلاح في الدنيا والآخرة, في زمن اختلطت المفاهيم, وزاغت القلوب والأبصار, وتراجع أهل الحق وعلا أهل الباطل, وبقي الناس حيرى في عالم تقاربت فيه المسافات, وتصارعت الحضارات, وتعارضت المعتقدات, وقد وآن لأهل الحق أن يظهروه, وأن يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة, بخطاب العصر ولغته : الخطاب العلمي, لعل الله تعالى أن يجعل في ذلك حقنًا للدماء التي تسفك في كل يوم, ونهاية للحروب التي تشتعل في كل مكان, ووقفًا للمظالم التي تجتاح أغلب بقاع الأرض, وما ذلك على الله بعزيز, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.