"أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ"(الزخرف‏:18)

هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أواخر الخمس الأول من سورة الزخرف‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها‏(89)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لوصفها جانبا من متاع الدنيا الزائل‏,‏ وزخرفها المبهر الذي ينخدع به كثير من أهل الأرض حتى ينسوا حقيقة رسالتهم في الحياة الدنيا‏,‏ وحتمية مصيرهم من بعدها‏,‏ ذلك المصير الذي لا هروب منه‏,‏ ولا فكاك عنه‏,‏ ومن هنا كانت الدنيا الفانية لا تساوي عند الله جناح بعوضة ولذلك فإنه ـ تعالي ـ يهبها لمن يحب ولمن لا يحب‏,‏ أما الآخرة الباقية فلا يهب الخلود في جنات نعيمها إلا لمن يحب‏.‏ ويدور المحور الرئيسي لسورة الزخرف حول عدد من ركائز العقيدة الإسلامية - شأنها في ذلك شأن كل السور المكية - ومقارنة تلك العقيدة الصحيحة بعدد من العقائد الفاسدة التي سادت - ولا تزال تسود - المجتمعات الجاهلية في كل زمان ومكان‏:‏ من بدء الخليقة إلي اليوم وحتى قيام الساعة‏,‏ وذلك من أجل تصحيح الانحرافات الاعتقادية‏,‏ ورد الناس إلي الفطرة التي فطرهم الخالق - تعالي - عليها‏,‏ والتي علمها لأبينا آدم - عليه السلام - لحظة خلقه‏,‏ وغرسها في جبلة كل واحد من المخلوقين‏,‏ وأنزلها علي سلسلة طويلة من أنبيائه ورسله‏,‏ ثم أتمها وأكملها وحفظها في آخر رسالاته وكتبه‏:‏ في القرآن الكريم وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين - صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏.‏
وتستهل سورة الزخرف بالحرفين المقطعين‏(‏ حم‏)‏ اللذين استهلت بهما ست من سور القرآن الكريم تجمع تحت مسمى ‏(‏ الحواميم‏)‏ وهي‏:‏ غافر‏,‏ فصلت‏,‏ الزخرف‏,‏ الدخان‏,‏ الجاثية‏,‏ والأحقاف‏,‏ هذا وقد سبق لنا مناقشة الفواتح الهجائية بما يغنيني عن تكرار ذلك هنا‏..‏
وبعد هذا الاستهلال يقسم ربنا - تبارك وتعالي - وهو الغني عن القسم لعباده قسما مغلظا بالقرآن الكريم تشريفا له وتكريما حتى يدرك الناس جميعا فضل هذا الكتاب العزيز علي غيره من الكتب بوصفه الصورة الوحيدة من كلام رب العالمين التي تعهد بحفظها فحفظت بين أيدي الناس علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية في نفس لغة وحيها‏,‏ دون أن ينتزع منها أو يضاف إليها حرف واحد‏.‏ وفي ذلك يقول ربنا - تبارك وتعالي -‏:‏﴿ حـم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾(‏الزخرف‏:1‏ -‏4).‏
وفي ذلك تأكيد من الله - تعالي - علي أن القرآن الكريم كتاب بين الحجة‏,‏ واضح الدلالة‏,‏ جلي المعاني‏,‏ جعله الله - تعالي - بلغة العرب وهي أصل اللغات كلها‏,‏ وأفصحها وأبلغها‏,‏ وأقدرها علي البيان من أجل تبليغ دين الله إلي العرب‏,‏ وتكليفهم بحمله إلي غيرهم من الأمم حسب لغات كل منهم‏,‏ ولذلك فالعرب هم أقدر الناس علي فهم كتاب الله‏,‏ وتدبر معانيه وهدايته‏,‏ وإدراك الإعجاز فيه‏:‏ في كل حرف‏,‏ وكلمة‏,‏ وآية وسورة من سوره‏,‏ وفي كل خبر‏,‏ وحقيقة‏,‏ وأمر ونهي جاء فيه‏,‏ وفي كل زاوية ينظر إنسان منصف منها إليه‏,‏ وعلي ذلك فمسئولية العرب عن تبليغ كلام الله مسئولية كبيرة سوف يسائلنا ربنا - تبارك وتعالي - فردا فردا عنها ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾(‏الشعراء‏:88‏ -‏89).‏

وتقرر الآيات أن القرآن الكريم ثابت في علم الله - تعالي - ومدون في اللوح المحفوظ‏,‏ وأنه لذو شرف وكرامة ومكانة سامقة في الملأ الأعلى‏,‏ عند رب العالمين وعند أهل السماء أجمعين‏,‏ تجعل الملائكة يعظمونه ويقدرونه ويبجلونه‏,‏ وهكذا يجب أن يفعل العقلاء من أهل الأرض‏,‏ فيعرفوا قدره‏,‏ ويعظموه بتحكيمه في حياتهم الخاصة والعامة بطاعة أوامره‏,‏ واجتناب نواهيه حتى يحققوا الفوز في الدنيا والآخرة‏.‏
وبعد ذلك توجه الآيات العتاب إلى كفار ومشركي مكة - وإلي جميع الكفار والمشركين من بعدهم إلي اليوم وحتى قيام الساعة - مذكرة إياهم بسنة الله في المكذبين فتقول‏:‏﴿ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ * وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ ﴾ (‏ الزخرف‏:5‏ -‏8).‏
وبهذه الآيات يتهدد الله - تعالي - الكفار والمشركين بحجب القرآن الكريم عنهم‏,‏ إعراضا وعقابا بسبب إسرافهم في الكفر أو الشرك‏,‏ والحجب هنا كما يكون حجبا ماديا بتوقف نزوله علي كفار ومشركي مكة‏,‏ يكون حجبا معنويا بانصراف الكفار والمشركين من بعدهم عنه‏,‏ وضيق صدورهم به كما هو حاصل مع كفار ومشركي زماننا الراهن‏..!!‏ والآيات فيها من التهديد والوعيد ما فيها‏,‏ وفيها من التأكيد علي اطراد سنن الله في خلقه بغير توقف ولا تعطل ولا تخلف ما فيها‏,‏ وفيها وما فيها من المواساة والتثبيت لخاتم الأنبياء والمرسلين - صلي الله عليه وسلم - ولجميع دعاة الإسلام من بعده إلي يوم الدين‏,‏ فمن اتبع هداه ودعا بدعوته‏,‏ وثبت علي الحق الذي جاء به برغم ضراوة الشر وجنده‏,‏ ومؤامرات الشيطان وأعوانه‏,‏ وفيها من التذكير بضرورة الاعتبار بما نزل من مختلف صور العقاب الإلهي بالمكذبين لأنبياء الله ورسله ما فيها‏.‏
ثم تتوجه الآيات بالخطاب إلي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - مؤكدة أن مشركي مكة كانوا من المؤمنين بالله - تعالي - الذين يشهدون له بخلق السماوات والأرض‏,‏ ولكن الشيطان اجتالتهم وأوقعهم في أوحال الشرك بالله كما فعل مع العديد من الأمم والأفراد من قبل ومن بعد‏.‏ وتستشهد سورة الزخرف بعدد من آيات الله في الخلق علي ألوهيته‏,‏ وربوبيته‏,‏ ووحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه‏,‏ وقدرته علي الخلق وعلي الإفناء والبعث فتقول‏:‏﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴾ [‏الزخرف‏:9‏ -‏14).‏
وتستمر الآيات في استعراض بعض صور الشرك المتوارث في الجاهلية وقد زينها الشيطان في عقول عدد من أتباعه‏,‏ حيث ادعوا كذبا علي الله - تعالي - أن له ذرية‏,‏ كما أن للمخلوقين ذريات‏,‏ ونسووا أن الخالق - سبحانه وتعالي - منزه عن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله‏,‏ وسول لهم الشيطان بأن الملائكة بنات الله‏,‏ مع أنهم يكرهون البنات لأنفسهم‏,‏ ويعبدون الملائكة‏,‏ ويشركونهم في عبادة الله‏,‏ مدعين كذبا أنهم يعبدونهم بمشيئة الله‏,‏ ولو شاء ما عبدوهم‏,‏ وأنهم وجدوا آباءهم يعبدونهم فاتبعوهم‏,‏ وهي أسطورة ناشئة عن نزغات الشياطين الذين يسعون جاهدين من أجل صرف الناس عن الحق وإغراقهم في أوحال الباطل‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
﴿ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَداًّ وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ‏﴾ (‏ الزخرف‏:15‏ -‏25).‏
ثم تعرضت الآيات لمواقف عدد من أنبياء الله مع أقوامهم من مثل موقف نبي الله إبراهيم - عليه السلام - مع أبيه وقومه‏,‏ وموقف نبي الله موسي - عليه السلام ـ مع فرعون وملئه‏,‏ وموقف نبي الله عيسي - عليه السلام - مع يهود زمانه‏.‏
وفي هذه المواقف رد علي التقليد الأعمى للآباء الذي درج عليه المشركون في القديم والحديث‏,‏ ومقابلة ذلك مع موقف إبراهيم - عليه السلام - من عبادة كل من أبيه وقومه للأصنام والأوثان أو للنجوم والكواكب‏,‏ ورفضه الخضوع لذلك الانحراف‏,‏ وتعرفه علي خالقه من خلال تأمله في بديع خلقه‏,‏ وهو سلوك مطالب به كل عاقل عند بلوغه سن الرشد لأنه لن يكون اتباع الآباء عذرا كافيا أمام الله - تعالي - في يوم الحساب‏,‏ إن لم يكن الآباء علي الدين الحق الذي لا يرتضي ربنا - تبارك وتعالي - من عباده دينا سواه‏.‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ *وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏﴾ (‏ الزخرف‏:26‏ -‏28).‏
ومن الدروس المستفادة من قصص الأنبياء في هذه السورة المباركة ضرورة تقييم الأفراد بذواتهم وأشخاصهم ومعتقداتهم وما يدعون إليه‏,‏ وأدوارهم في هداية الناس وإصلاح المجتمع الذي يعيش فيه كل منهم‏,‏ لا علي أساس مما يملكون من مال وجاه وسلطان‏.‏ ولذلك حينما رفض مشركو قريش الاعتراف بنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ ليتمه وفقره - وهو المشهور بينهم بوصف الصادق الأمين - نزلت الآيات في سورة الزخرف بقول ربنا - تبارك وتعالي -‏:‏﴿ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ‏﴾ (‏ الزخرف‏:29‏ -‏32).‏
ثم تنتقل الآيات إلي التأكيد علي هوان الدنيا وزخرفها ومتعها الفانية فتقول بأنه لولا أن يفتتن الناس إذا رأوا الكفار والمشركين في سعة من الرزق لجعل الله - تعالي - لمن يكفر من عباده بيوتا سقوفها من فضة‏,‏ ولها من الدرج أو المصاعد ما عليها يرتقون‏,‏ وبه العديد من الأبواب والغرف المليئة بالسرر التي عليها يتكئون‏,‏ وبالزخارف وأنواع الزينة المختلفة مما يسر العين ويبهج القلب‏,‏ وتؤكد الآيات أنه لهوان ذلك علي الله يجعله لمن يكفر به‏,‏ كما يجعله لمن يؤمن به‏,‏ لأنه متاع زائل لا يتجاوز حدود هذه الدنيا الفانية التي سوف يغادرها كل حي‏,‏ أما نعيم الآخرة الأزلية الأبدية ـ وهو نعيم مقيم ـ فقد خص به ربنا - تبارك وتعالي - عباده المتقين‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
﴿وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ *وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾(‏ الزخرف‏33‏ ـ‏35).‏
وبعد ذلك تنتقل الآيات في سورة الزخرف إلي التحذير من التكاسل عن ذكر الله - تعالي - ومن التغاضي عن تلاوة القرآن الكريم وتدبر آياته وأخطار ذلك التكاسل والإهمال في الدنيا والآخرة فتقول‏:‏﴿ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ القَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ اليَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴾ (‏ الزخرف‏:36‏ -‏39).‏
ثم ينتقل الخطاب إلي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - مؤكدا أن الهداية بيد الله - تعالي - وحده‏,‏ وهو قادر علي الانتقام من الكفار والمشركين في الدنيا قبل الآخرة‏,‏ ومؤكدا كذلك أن الرسول الخاتم علي الحق المبين‏,‏ وتأمره بقول ربنا - تبارك وتعالي -‏:‏﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾‏(‏الزخرف‏:44,43).‏
وتؤكد الآيات أن جميع أنبياء الله ورسله قد جاءوا بالتوحيد الخالص لله - تعالي -‏,‏ وتضرب علي ذلك مثلا بنبي الله موسي - عليه السلام - ودعوته لفرعون وملئه‏,‏ وتنكر فرعون للدعوة‏,‏ ونزول عقاب الله به وبقومه‏.‏ ثم بنبي الله عيسي - عليه السلام - وهدايته ليهود عصره‏.‏ وتصفل الآيات بالخطاب إلي عباد الله الصالحين فتقول‏: ﴿‏ يَا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ﴾ (‏ الزخرف‏:70,68).‏

وتصف الآيات بعد ذلك نعيم أهل الجنة في الجنة‏,‏ وجحيم أهل النار في النار‏.‏ وتختتم هذه السورة المباركة بتمجيد الخالق - سبحانه وتعالي - وتنزيهه عن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله فتقول‏:﴿‏‏ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ * سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ (‏الزخرف‏:81‏ -‏89).‏

وتنتهي سورة الزخرف بشكوى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - إلي رب العالمين من الذين لا يؤمنون‏,‏ ويأمره الله - تعالي - بالصفح والإعراض عنهم‏,‏ ومواجهتهم بالسلام مع التحذير مما ينتظرهم يوم الدين‏,‏ والأمر إلي خاتم الأنبياء والمرسلين هو أمر إلي جميع المؤمنين بدعوته إلي يوم الدين‏.
من ركائز العقيدة في سورة الزخرف
‏(1)‏ الإيمان بالله ـ تعالي ـ ربا واحدا أحدا‏,‏ فردا صمدا‏,‏ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏,‏ وتنزيهه ـ سبحانه وتعالي ـ عن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لايليق بجلاله
‏(2)‏ التصديق بملائكة الله‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله‏,‏ واليوم الآخر‏,‏ وبكل من البعث‏,‏ والحشر‏,‏ والحساب‏,‏ والجزاء إما بالخلود في الجنة أو في النار‏,‏ والتصديق ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين ـ وبأنه ليس من بعده من نبي ولا من رسول‏,‏ وأن انبياء الله ورسله قد بعثوا جميعا بالإسلام القائم علي التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالي‏.‏
‏(3)‏ اليقين بأن القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية نزولا‏,‏ وأنه الكتاب السماوي الوحيد المحفوظ بين أيدي الناس اليوم في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ محفوظا بحفظ الله حرفا حرفا‏,‏ وكلمة كلمة‏,‏ وآية آية‏,‏ وسورة سورة‏,‏ وعلي ذلك فلا يمكن مقارنة أي كتاب آخر به في كماله وتمامه وإعجازه في كل أمر من أموره‏,‏ ومن هنا كانت ضرورة التمسك به‏,‏ واتباع أوامره واجتناب نواهيه‏,‏ والتبليغ عنه‏,‏ والتعريف به لجميع اهل الأرض‏.‏
‏(4)‏ التسليم بكل ماجاء بالقرآن الكريم‏,‏ ومن ذلك الاخبار عما انزل الله ـ تعالي ــ من عقاب بالكفار والمشركين وبالطغاة المتجبرين علي الخلق عبر مسيرة التاريخ‏,‏ وأنه عقاب في الدنيا سابق لعقاب الآخرة لعله يكون رادعا للناس‏.‏
‏(5)‏ الإيمان بأن الشيطان للانسان عدو مبين‏,‏ وأن الحماية من مكائده تتركز في المداومة علي ذكر الله ـ تعالي ـ وتلاوة القرآن الكريم لأن من يغفل عن ذلك تفترسه الشياطين‏,‏ ويتيح الله ـ تعالي شأنه ـ له شيطانا أي يتركه نهبا لأحد الشياطين يتسلط عليه حتي يصبح قرينا ملازما له‏,‏ يدوام علي إضلاله وغوايته‏,‏ وذلك لأنه لايهدي الناس إلا رب العالمين
‏(6)‏ التسليم بالفروق الفطرية بين الذكر والأنثي مع الايمان بمساواتهما في الحقوق والواجبات‏.‏
‏(7)‏ اليقين بأن الكون مليء بالغيوب المرحلية والمطلقة‏,‏ وبأنه لايجوز للمسلم الخوض في أمر من أمور الغيب المطلق بغير علم من الله ـ تعالي ـ أو من خاتم انبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ــ ومن هذه الغيوب المطلقة أمر الساعة التي لن تأتي الناس الا بغتة بأمر من الله ـ تعالي‏.‏
‏(8)‏ التصديق بمسئولية كل إنسان فرد عن نفسه‏,‏ وعلي ذلك فإن الاتباع الأعمي للآباء في قضية الدين إذا كانوا علي ضلال‏,‏ لن يكون عذرا مقبولا عند رب العالمين ساعة الحساب‏,‏ وخير دليل علي ذلك موقف نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ من أبيه وقومه في قضية الاعتقاد‏.‏
‏(9)‏ التسليم بأن متاع الدنيا قليل‏,‏ ولذلك يعطيه الله ـ تعالي ـ لمن يحب ولمن لايحب‏,‏ أما متاع الآخرة فلا يعطيه الله ـ سبحانه وتعالي ـ إلا لمن يحب من عباده المتقين‏,‏ ومن هنا فلا يجوز أن يفتن مسلم بما يري من متاع الكفار والمشركين في الحياة الدنيا‏.‏
‏(10)‏ الإيمان بأن الله ـ تعالي ـ لايخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏,‏ وعلي الرغم من ذلك فإن الحفظة من ملائكته الكرام البررة مكلفون بتدوين افعال الناس وأقوالهم حتي تكون حجة عليهم‏.‏
‏(11)‏ التصديق بأنه لايملك الشفاعة في يوم القيامة إلا من رضي الله ـ تعالي ـ له ذلك ممن يشاء من عباده المؤمنين
‏(12)‏ التسليم بحرية الإنسان في اختيار الدين الذي يتعبد الله ـ تعالي ـ به‏,‏ ومن هنا فإن علي المسلمين الدعوة الي دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة‏,‏ فإن خالفهم الناس تركوهم وشأنهم إلي مصيرهم المحتوم الذي أخبر به رب العالمين‏.‏

من الاشارات الكونية في سورة الزخرف
‏(1)‏ التأكيد علي حقيقة الخلق‏,‏ وعلي أن الله ـ تعالي ـ هو خالق كل شيء‏,‏ والمعارف المكتسبة بدأت في تأكيد ذلك بعد ادعاءات كاذبة بأزلية الكون وانتفاء الخلق سادت كل الحضارات المادية السابقة والحاضرة
‏(2)‏ الإشارة إلي تمهيد سطح الأرض‏,‏ وشق الفجاج والسبل فيها‏,‏ والعلوم المكتسبة تؤكد بدء الأرض بتضاريس معقدة للغاية‏,‏ ثم سخر الله ـ تعالي ـ عوامل التعرية المختلفة من الرياح والمياه الجارية‏,‏ وأنهار الجليد‏(‏ المجالد‏),‏ والجاذبية وغيرها في تمهيد سطح الأرض وجعلها صالحة للعمران‏.‏
‏(3)‏ وصف دورة الماء حول الأرض‏,‏ وإحياء النبات بهذا الماء‏,‏ وتشبيه عملية بعث الأموات من القبور بإخراج النبات من الأرض‏.‏
‏(4)‏ التأكيد علي أن الله ـ تعالي ـ خلق كل شيء في زوجية كاملة حتي يبقي التوحيد المطلق خالصا لله ـ سبحانه وتعالي ـ فوق جميع خلقه‏.‏
‏(5)‏ الاشارة إلي ما أودع الله ـ تعالي ـ في ماء الأرض من الصفات الفطرية مايمكنه من حمل الفلك‏(‏ أي السفن بمختلف اشكالها وأحجامها وأوزانها‏)‏ علي ظهره‏.‏ وتشبيه ذلك بما جعل الله ـ سبحانه وتعالي ـ من الصفات الفطرية في الأنعام مما جعلها مسخرة لركوب الإنسان علي ظهورها‏,‏ وهذا كله من نعم الله علي العباد‏.‏
‏(6)‏ وصف الأنوثة بحب الزينة‏,‏ وبالقصور في البيان والجدال وإقامة الحجة عند الخصام‏,‏ وهو ما أثبتته كل دراسات علم النفس‏.‏
‏(7)‏ التأكيد علي هوان الدنيا ومتعها الزائلة علي الله‏,‏ ولذلك يعطيها لمن يحب ولمن لايحب‏,‏ ولايعطي نعيم الآخرة إلا لمن يحب وازدهار الحياة في ديار الكفار والمشركين خير دليل علي ذلك‏.‏
‏(8)‏ الدقة العلمية الشديدة في تعبير المشرقين عن النهايتين الطرفيتين للكرة الأرضية عند خط الاستواء لأن كل نقطة منهما هي مشرق ومغرب في آن واحد‏..‏
‏(9)‏ التأكيد علي حتمية البعث والحساب والجزاء‏,‏ وكل من المعارف المكتسبة والمنطق السوي يؤكد ذلك‏.‏
‏(10)‏ وصف نهاية فرعون الخروج وملئه بالإغراق في اليم‏,‏ وترك جثث بعضهم وقصصهم سلفا ومثلا للآخرين وهو ما أثبتته الدراسات الأثرية والتاريخية‏.‏
‏(11)‏ التأكيد علي أن الآخرة لا تأتي إلا فجأة‏,‏ ومعظم الشواهد والسنن الملاحظة علي الموت في الكون بطيئة جدا‏,‏ مما يؤكد علي أن الآخرة لن تتم بأي من هذه السنن‏,‏ وإنما بأمر من الله ـ تعالي ـ بـ‏:‏ كن فيكون‏.‏
‏ (12)‏ تنزيه الله ـ تعالي ـ الذي خلق السماوات والأرض عن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لايليق بجلاله‏,‏ ومن ذلك إدعاء الولد له ـ تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا ـ والمنطق السوي ينزه الله ـ تعالي ـ عن الشريك‏,‏ والشبيه‏,‏ والمنازع‏,‏ والصاحبة‏,‏ والولد وذلك لأنه ـ تعالي ـ هو رب كل شيء ومليكه‏,‏ وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم
‏(13)‏ ذكر البينية الفاصلة للأرض عن السموات‏,‏ والعلوم المكتسبة تشير إلي أن الغلاف الغازي للأرض هو خليط من مادتي الأرض والسماء‏,‏ وذكر البينية يشير إلي مركزية الأرض من الكون‏,‏ وهو مالا تستطيع العلوم المكتسبة الوصول إليه‏.‏
‏(14)‏ التأكيد علي أن علم الساعة من الغيوب المطلقة التي لايعلمها إلا الله ـ تعالي ـ‏,‏ وأن الرجوع الي الله من الأمور الحتمية التي يقبلها كل منطق سوي‏.‏
من الدلالات العلمية للآية الكريمة
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في الرد علي مشركي الجاهلية الذين انحطت أفهامهم‏,‏ وثقافتهم‏,‏ وانحرفت عقائدهم وتصوراتهم الي حد التطاول علي الذات الإلهية بأوصاف ما أنزل الله بها من سلطان‏,‏ ومن ذلك ادعاء نسبة الولد إليه‏,‏ والله ـ تعالي ـ منزه تنزيها كاملا عن الصاحبة والولد‏,‏ وعن غير ذلك من صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لايليق بجلاله‏.‏
ولكن الشيطان يسول دوما للإنسان حب الإساءة إلي الذات الإلهية ليلقيه خالدا في نار جهنم‏,‏ ومن هذه الإساءات تلك الخرافة التي تبناها نفر من مشركي الجاهلية‏,‏ والتي صور لهم الشيطان فيها حب الادعاء الباطل بأن الله ـ تعالي ـ قد اتخذ من الجن زوجة ـ تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا ـ‏,‏ وأن من نتاج هذا الزواج المزعوم كانت الملائكة الذين وصفوا في خيال المشركين المريض بأنهم إناث ـ مع أنهم لم يشهدوا خلق الملائكة‏,‏ ولايعرفون شيئا عنهم‏,‏ فضلا عن أنهم كانوا يكرهون مولد الإناث لهم‏,‏ وكانوا يئدونهن أحياء ـ ويبدو أن ذلك جاء إمعانا في كفرهم وشركهم‏,‏ فعبدوا الملائكة من دون الله‏,‏ وادعوا كذبا أنهم ماعبدوهم إلا بمشيئة الله ـ تعالي ـ وأنه لو شاء ماعبدوهم‏,‏ وهذه اسطورة زينها الشيطان في عقول كفار ومشركي الجاهلية‏,‏ ولايزال يزين أمثالها في عقول الملايين من أهل الأرض اليوم‏,‏ وسيظل هذا اللعين يعبث بعقول الملايين منهم إلي يوم الدين‏,‏ في غيبة سيادة العقيدة الصحيحة والدين الحق‏,‏ علي الرغم من أن أية مناقشة منطقية لمثل هذه الأساطير تثبت بطلانها لكل ذي عقل سليم‏.‏
والآية الكريمة تأتي في مقام تصحيح العقيدة‏,‏ وتبقي الإشارة فيها إلي الإناث بوصف‏:..‏ من ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين من المعجزات العلمية في القرآن الكريم للأسباب التالية‏:‏
أولا‏:‏ في قوله ـ تعالي ـ‏:‏ "أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَة..."
ثبت علميا أن جميع الإناث ينشأن في حب مختلف صور التنعيم من الحلي والزينة والثياب الأنيقة ذات الألوان الزاهية‏,‏ والروائح الطيبة‏,‏ والأصوات الجميلة‏,‏ وذلك يحدث منذ بداية إدراكهن إلي آخر أعمارهن‏,‏ لأنه شأن غرسه الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ في جبلة كل أنثي من الإنسان‏,‏ والحيوان‏,‏ والنبات‏,‏ كي يكون في زينتها مايجذب اليها قرينها حتي يتم بينهما التزاوج‏,‏ وتستمر الحياة إلي أن يشاء الله‏.‏
والله ـ سبحانه وتعالي ـ خلق كل شيء في زوجية واضحة حتي يبقي متفردا بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏.‏ ولكي يجمع بين كل زوجين من مخلوقاته اعطي كل طرف منهما من مجموع الصفات مايجتذب به الطرف الآخر‏,‏ فأعطي للإناث من حب التجمل والتزين‏,‏ والتحلي بكل حلية مايرغب فيهن الذكور الذين اعطاهم من القوة البدنية والعقلية مايرغب فيهم الإناث‏,‏ ولذلك أمر الله ـ تعالي ـ الإناث بعدم إبداء زينتهن الا ما ظهر منها‏,‏ إلا لبعولتهن أو محارمهن أو لغيرهن من النساء المسلمات او للطفل الذين لم يظهروا علي عورات النساء‏,‏ وألا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن كما جاء في الآية‏(31)‏ من سورة النور‏.‏
وهذا يرد دعاوي المتبرجات من بنات ونساء المسلمين‏,‏ والمدافعات بالباطل عن التبرج منهن ردا كاملا لا حجة لهم فيه ابدا‏.‏
ثانيا‏:‏ في قوله ـ تعالي ـ‏:..‏ "وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ"
ثبت علميا كذلك أن هناك فروقا نفسية كبيرة بين كل من الأنثي والذكر من بني آدم‏,‏ فالتكوين النفسي للأنثي يميل الي تقديم العاطفة علي العقل‏,‏ وبالتميز بالحساسية المفرطة‏,‏ ورقة المشاعر‏,‏ واتساع الخيال‏,‏ وقوة الحدس‏,‏ والبداهة الفطرية‏,‏ وحب التملك‏,‏ والغيرة الشديدة وغلبة الخوف‏,‏ والوهم‏,‏ والتشاؤم‏,‏ وعدم القدرة علي الانسلاخ عن الذات والصفات الشخصية‏.‏ فإذا اضيف ذلك إلي ضعف البنية الجسدية مقارنة بالرجل وإلي غير ذلك من صفات الأنوثة‏,‏ فإننا نجد الأنثي في مواقف الشدة والخصومة أو الخطر تعجز عن البيان‏,‏ ويتلعثم منها اللسان‏,‏ وترتبك ارتباكا شديدا حتي ولو كانت من الفصيحات المبدعات‏,‏ ولذلك وصفها الله ـ تعالي ـ هذا الوصف المعجز بقوله العزيز‏:..‏ "وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ".
وهذا مما يثبت اعجاز القرآن الكريم في كل أمر من أموره‏,‏ وفي كل آية من آياته‏,‏ ونص من نصوصه حتي لو كان ذلك واردا في تصحيح أمر من أمور العقيدة‏,‏ أو في مقام التشبيه‏,‏ أو ضرب المثل‏,‏ أو إسداء التوجيه والنصح‏,‏ لأنه الصورة الوحيدة من كلام رب العالمين المحفوظة بين أيدي الناس اليوم وعلي مدي أربعة عشر قرنا في نفس لغة وحيها ـ اللغة العربية ـ‏,‏ وكلام الله ـ تعالي ـ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏,‏ فالحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته الي يوم الدين‏,‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏

*