"فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ‏*‏ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ *وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ‏*‏ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ ‏" (الإنشقاق‏:16‏ ـ‏19)

هذه الآيات الأربع جاءت في بداية الثلث الأخير من سورة الانشقاق وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها خمس وعشرون بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لاستدلالها بإحدي علامات الساعة وهي إنشقاق السماء‏.‏
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول عدد من ركائز العقيدة الإسلامية ومنها الإيمان بحتمية الآخرة التي يدمر في أولها نظام الكون‏,‏ ويقضي علي كل شيء إلا ماشاء الله‏,‏ ثم يبعث الكون كما يبعث الناس للحساب والجزاء‏.‏ ومنها الإيمان بحتمية الرجوع الي الله الذي خلقنا أول مرة‏,‏ وحتمية الحساب والجزاء في يوم يتمايز فيه الخلق الي سعداء يعطون كتابهم بيمينهم فيخلدون في الجنة‏,‏ وتعساء يعطي كل واحد منهم كتابه بشماله ومن وراء ظهره فيخلدون في النار لأنهم كفروا بربهم وبالبعث والحساب والجزاء‏,‏ والله بصير بهم وبأعمالهم‏.‏
ثم يقسم ربنا ـ تبارك وتعالي ـ بعدد من الآيات الكونية المبهرة ـ وهو تعالي غني عن القسم لعباده ـ مؤكدا اهوال يوم القيامة والشدائد المصاحبة له والتي سوف يمر بها الخلق شدة بعد شدة والكون يدمر بهم وبمن حولهم ثم يعاد الخلق والبعث‏,‏ وتعرض الآيات لموقف الكفار والمشركين من القرآن الكريم وتكذيبهم به‏,‏ والله ـ تعالي ـ أعلم بما في ضمائرهم من الكراهية والعداوة للرسول الخاتم ـ صلي الله عليه وسلم ـ ولما جاء به من الحق هداية من رب العالمين‏,‏ ولذلك بشرتهم الآيات بالعذاب الأليم‏..!!‏

وتبدأ هذه السورة الكريمة بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏:‏
"إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ " (‏الانشقاق‏:1‏ و‏2)‏
وانشقاق السماء من علامات تهدم النظام الكوني‏,‏ لأن الكون بناء شديد الإحكام والترابط‏,‏ بين مختلف صور كل من المادة والطاقة اللتين تملآن كل المكان والزمان‏,‏ فلا يوجد في الكون فراغ ـ بمعني الخلو التام من المادة والطاقة ـ وقد تخيل السابقون فراغ الكون نظرا للتناقص المستمر في ضغط الغلاف الغازي للأرض مع الارتفاع حتي لايكاد يدرك بعد ألف كيلو متر فوق مستوي سطح البحر‏.‏
كذلك فإن قوي الجاذبية‏,‏ والكهرومغناطيسية‏,‏ والقوتين النوويتين الشديدة والضعيفة ـ والتي يتصور علماء الفيزياء الكونية إمكانية جمعها في قوة واحدة ـ هذه القوة تمسك بكل أجزاء الكون بإرادة خالقه ـ سبحانه وتعالي ـ ولا تجعل في الكون فراغا أي مكانا خاليا خلوا تاما من المادة والطاقة‏.‏ ومن هنا كان تشقق السماء بداية لتفكك تلك القوي وانهيار الكون بأكمله‏.‏
والسماء لاتنشق إلا بأمر من خالقها‏,‏ فإذا صدر هذا الأمر الإلهي لاتملك إلا أن تستجيب في الحال وتطيع‏,‏ وحق لها أن تستجيب وتطيع لأمر الله ـ تعالي ـ الذي هو رب كل شيء ومليكه‏,‏ خالقه ومسيره‏,‏ ومدبر أمره‏,‏ والذي لا يخرج شيء عن طاعته إلا عصاة الإنس والجن ولذلك قال ـ عز من قائل ـ‏:‏
"إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ " (‏الانشقاق‏:1‏ و‏2)‏

وأضاف ـ تعالي ـ قوله العزيز‏:‏
"وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ* وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ" (‏ الانشقاق‏:3‏ ـ‏5).‏
ومد الأرض إشارة إلي توسعتها بطريقة لايعلمها إلا الله‏,‏ وإلقاء مافي بطنها وتخليها عنه انصياعا لأمر ربها وطاعة له إشارة كذلك الي تهدمها‏,‏ وحق لها أن تنصاع وتطيع‏..‏ فقد روي الإمام مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال‏::‏ قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ‏:‏ تلقي الأرض أفلاذ كبدها أمثال الاسطوان من الذهب والفضة‏,‏ فيجيء القاطع فيقول‏:‏ في هذا ـ أي‏:‏ لأجل هذا المال ـ قتلت‏,‏ ويجيء القاطع فيقول‏:‏ في هذا قطعت رحمي‏,‏ ويجيء السارق فيقول‏:‏ في هذا قطعت يدي‏,‏ ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا‏.‏
وجواب‏(‏ إذا‏)‏ في الآيتين الأولي والثالثة من هذه السورة المباركة وماعطف عليهما محذوف‏,‏ وتقديره‏:‏ لقي الإنسان نتيجة عمله في الدنيا وهو عائد إلي ربه بعد الموت والبعث‏,‏ ولذلك أكدت السورة الكريمة تلك الحقيقة

يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏:‏
" يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ "(‏الانشقاق‏:6).‏
والخطاب بـ‏(‏ يأيها الإنسان‏)‏ موجه إلي كل الناس للتأكيد علي حقيقة أن كل فرد منهم يكدح في الحياة الدنيا مايكدح‏,‏ ويجاهد ويكد‏,‏ ثم ليس له من بعد ذلك إلا الموت والقبر‏,‏ والبعث‏,‏ والحساب والجزاء علي عمله الدنيوي‏:‏ إن خيرا فخير‏,‏ وإن شرا فشر‏.(‏ و‏(‏ الكدح‏)‏ هو جهد النفس بالعمل في الحياة الدنيا‏,‏ وبنهايته لقاء نتيجة هذا الكدح الدنيوي في الآخرة‏,‏ فيلقي كل فرد منا جزاء كدحه‏.‏ والضمير في قوله ـ تعالي ـ‏(‏ فملاقيه‏)‏ إما يعود علي الكدح أو علي الذات الإلهية في قوله ـ تعالي ـ‏:‏ ياأيها الإنسان إنك كادح الي ربك كدحا فملاقيه أي‏:‏ فملاق ربك ليجازيك علي عملك‏,‏ وليكافئك علي سعيك في الحياة الدنيا‏,‏ أوملاق عملك وكدحك في الدنيا‏.‏ والمعني واحد انطلاقا مما رواه جابر ـ عليه رضوان الله ـ عن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أنه قال‏:‏ قال جبريل‏:‏ يامحمد‏!!‏ عش ماشئت فإنك ميت وأحبب ما شئت فإنك مفارقه‏,‏ واعمل ماشئت فإنك ملاقيه‏(‏ أخرجه أبو داود الطيالسي‏).‏

ولذلك قال ـ تعالي ـ
" فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً " (‏ الانشقاق‏:7‏ ـ‏15).‏
وهذا هو مصير الخلائق في الآخرة‏:‏ فالسعيد هو الذي يؤتي كتابه بيمينه ـ رمزا لرضاء الله عنه وتكريمه له‏,‏ ومن علامات ذلك اليسر في حسابه‏,‏ فلايناقش‏,‏ ولايدقق معه في الحساب‏,‏ بل تقبل حسناته ويتجاوز الله ـ تعالي ـ له عن سيئاته‏,‏ وذلك انطلاقا مما روته أم المؤمنين السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أنه قال‏:‏ من نوقش الحساب عذب‏,‏ قالت‏:‏ قلت‏:‏ أفليس قال الله ـ تعالي‏:(‏ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً).‏ قال‏:‏ ليس ذلك بالحساب‏,‏ ولكن ذلك العرض‏.‏ من نوقش الحساب يوم القيامة عذب‏(‏ أخرجه من الأئمة‏:‏ البخاري‏,‏ ومسلم‏,‏ والترمذي‏,‏ والنسائي‏).‏
وعنها ـ رضي الله عنها وأرضاها ـ كذلك أنها قالت‏:‏ سمعت رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يقول في بعض صلاته‏:‏ اللهم حاسبني حسابا يسيرا‏...‏ فلما انصرف قلت‏:‏ يارسول الله‏!!‏ ما الحساب اليسير؟ قال‏:‏ أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه‏.‏ من نوقش الحساب ياعائشة يومئذ هلك‏!!‏
(‏رواه الإمام أحمد‏).‏
فهذا هو الحساب اليسير الذي يلقاه كل من يؤتي كتابه بيمينه فينجو ويصل الي من سبقه من أهله وصحبه الي الجنة فرحا مغتبطا بتكريم الله له ولهم‏...,‏ أما أصحاب الأعمال السيئة من الكفار والمشركين والطغاة المفسدين في الأرض والمتجبرين علي الخلق فيؤتي كل منهم كتابه بشماله ومن وراء ظهره‏,‏ تثني يده اليسري الي الوراء‏,‏ ويعطي كتابه بها‏,‏ إذلالا له وتحقيرا لشأنه‏.‏ فيعرف في الحال مصيره‏,‏ ويدرك نهايته في نار الجحيم وحينئذ يتمني الهلاك إنقاذا له مما سوف يلاقيه‏,‏ ولذلك يدعو ثبورا لأن الهلاك قد أصبح أقصي أمانيه‏,‏ ولكن هيهات هيهات فإنه سوف يصلي سعيرا في نار جهنم جزاء كفره أو شركه أو إفساده في الأرض‏,‏ وتجبره علي الخلق‏,‏ وقضاء حياته الدنيا غارقا في المعاصي والآثام والضياع والضلال لأنه كان في أهله بطرا بنعم الله‏,‏ مسرورا بفسقه‏,‏ لاهيا بملذات الدنيا الحقيرة عن حقيقة رسالته في الحياة‏,‏ وعما ينتظره في الآخرة من حساب وجزاء‏,‏ منكرا لها‏,‏ رافضا حتمية رجوعه إلي ربه‏,‏ وربه مطلع علي جميع أمره‏,‏ محيط بحقيقة فكره‏,‏ عالم بما في قلبه وعقله‏,‏ محص عليه حركاته وسكناته وصمته ونطقه‏,‏ ولذلك قال ـ عز من قائل ـ‏:‏ "بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً" (‏ الإنشقاق‏:15)‏
وينتقل السياق في سورة الانشقاق إلي القسم بعدد من آيات الله في الخلق منها الشفق‏,‏ وهو فترة الانتقال من النهار الي الليل ومن الليل إلي النهار‏,‏ ومنها الليل وماجمع وحمل من أحياء وجمادات‏.‏ وأحداث ومشاعر وانفعالات‏,‏ وعوالم ظاهرة وخفية‏,‏ وغير ذلك من الأمور العديدة التي يحتويها النص القرآني الكريم الذي يقول فيه ربنا ـ تبارك وتعالي ـ " وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ " ومن الآيات المقسم بها القمر في ليالي اكتمال نوره فيقول ربنا تبارك وتعالي ـ‏:‏ " وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ " ويأتي جواب القسم بقوله تعالي ـ‏:‏ " لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ ".‏

وأصله‏:(‏ لتركبونن‏)‏ فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال‏,‏ وحذفت الواو لالتقاء الساكنين‏,‏ والمراد بالركوب هنا هو الملاقاة‏,‏ و‏(‏ طبقا عن طبق‏)‏ أي مرتبة بعد أخري‏,‏ من مراتب الموت‏,‏ والقبر‏,‏ والبعث والحساب والجزاء‏.‏ و‏(‏ عن‏)‏ هنا بمعني بعد‏.‏ وجواب القسم محذوف‏,‏ وتقديره أن مرور الخلق بأهوال تلك المراحل هو حق مطلق‏,‏ لاتستطيع قوة علي وجه الأرض إلغاء مرحلة منها أو تجاوزها‏,‏ ولذلك قال ـ تعالي ـ‏:‏ " فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ " (‏الانشقاق‏:21,20).‏
ومن معاني هاتين الآيتين الكريمتين أنه إذا كان الأمر كذلك‏,‏ وكان الموت‏,‏ والقبر‏,‏ والبعث‏,‏ والحشر‏,‏ والحساب‏,‏ والجزاء مراحل مكتوب علي كل إنسان اجتيازها والمرور بأهوالها فأي شيء يمنع الإنسان العاقل من الإيمان بها‏,‏ والتسليم بحتميتها ؟ وإذا كان القرآن بإعجاز بيانه ونظمه‏,‏ وصدق إنبائه‏,‏ ونبل رسالته‏,‏ وصحة كل ماجاء به من عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات‏,‏ ومن شواهد تاريخية‏,‏ وإشارات علمية‏,‏ وضوابط نفسية وتربوية‏,‏ وأمور اقتصادية واجتماعية‏,‏ ومن دقة حفظه في نفس لغة وحيه‏,‏ وتحديه للإنس‏,‏ والجن ـ فرادي ـ ومجتمعين ـ أن يأتوا بشيء من مثله‏,‏ وإذا كان القرآن الكريم له كل هذه المزايا فما للكفار والمشركين إذا سمعوا آياته تتلي عليهم ـ وكلها هدي ونور ـ لايخضعون لأوامر الله فيه‏,‏ ولايؤمنون به‏!!‏ ولعل المقصود هنا استنكار عدم خضوعهم للحق رغم وضوح أدلته‏,‏ وثبات حجته‏,‏ وقدرته علي هداية الخلق من عباد الله المكلفين الذين يقابلون كلام الله بمكابرة صلفة‏,‏ وعناد بغير حجة ولا منطق‏!!‏ ولذلك قال ـ تعالي " بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ " (‏ الانشقاق‏:22‏ ـ‏25).‏

وتؤكد هذه الآيات الكريمة في ختام سورة الإنشقاق أن الكافرين مهما أقمت عليهم الحجة وأتيت لهم بالدليل القاطع فإنهم لن ينصاعوا للحق أبدا‏,‏ بل سيظلون في تكذيبه وعناده ومخالفته إلي أن يدركهم الموت فيندمون ويتحسرون ساعة لاينفع الندم‏,‏ ولا تفيد الحسرة‏,‏ لأن الله ـ تعالي ـ قد أنذرهم وأمهلهم وأمد لهم في الأجل فلم يستفيدوا به‏,‏ والله محيط بكل مايضمرون في صدورهم من الكراهية للحق وأهله‏,‏ ومن الكفر به والتآمر عليه‏,‏ ولذلك فسوف يجازيهم بأعمالهم السيئة في الآخرة الجزاء العادل ولذلك قال‏:‏ والله أعلم بما يوعون‏.‏والأصل في‏(‏ الإيعاء‏)‏ حفظ الأمتعة في‏(‏ الوعاء‏)‏ واستعمل هنا في الإضمار المذكور مجازا عما يكتمون في صدورهم من شرور‏,‏ ولذلك أتبع علم الله ـ تعالي ـ بهم بحكمه القاطع عليهم فقال ـ عز من قائل ـ‏:‏ "فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ "‏ أي أخبرهم يامحمد‏,‏ وياكل مسلم مؤمن برسالة هذا النبي والرسول الخاتم ـ صلي الله عليه وسلم ـ‏:‏ بأن الله ـ عز وجل ـ قد أعد لهم عذابا أليما‏,‏ واستخدام الفعل فبشرهم هنا هو من قبيل التوبيخ لهم والتهكم عليهم لأن البشري لاتكون إلا بخير‏.‏
و‏(‏ إلا‏)‏ هنا بمعني لكن لاستثناء ماينتظر المؤمنين من تكريم في الآخرة جزاء أعمالهم الصالحة في الدنيا‏,‏ وهو استثناء منقطع لأن‏(‏ الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏)‏ لم يكونوا داخلين ابتداء في البشارة بالعذاب الأليم ثم استثنوا منها‏,‏ ولكن خص بها الكفار والمشركون المكذبون بالدين الخاتم والرسالة الخاتمة‏,‏ وهذه الصياغة المعجزة هي أشد إثارة للانتباه الي الأمر المستثني‏,‏ فالمؤمنون الصالحون في الدنيا لهم‏(‏ أجر غير ممنون‏)‏ في الآخرة‏,‏ أي غير مقطوع في دار البقاء والخلود‏,‏ وغير معتد به ومحسوب عليهم من الفعل‏(‏ من‏)‏ بمعني قطع‏,‏ أو‏(‏ من عليه‏)‏ أي اعتد بالصنيعة وحسبها عليه‏,‏ وبذلك تختتم سورة الانشقاق المحدودة في عدد آياتها وكلماتها وحروفها‏,‏ والواسعة في دلالاتها لتشمل الدنيا والآخرة في معادلة واحدة‏,‏ بالإضافة إلي بعض معجزات الله في الخلق‏,‏ وبعض مشاهد الساعة‏,‏ ورسالة الإنسان في هذه الحياة الدنيا‏,‏ ومصيره من بعدها‏.‏

من ركائز العقيدة في سورة الانشقاق
(1)‏ الإيمان بحتمية الآخرة وبمشاهدها التي ورد ذكرها في كتاب الله وفي سنة خاتم أنبيائه ورسله‏.‏
‏(2)‏ اليقين بأن لكل شيء في الوجود قدرا من الوعي والإدراك‏,‏ والشعور والإنفعال‏,‏ والذاكرة‏,‏ والتعبير‏,‏ والعبادة الفطرية لله ـ تعالي ـ والخضوع لأوامره إلا عصاة الإنس والجن‏,‏ ومن أمثلة ذلك السماء والأرض‏.‏
‏(3)‏ التصديق بأن كل إنسان كادح الي ربه كدحا فملاقيه‏,‏ وأن الناس سوف يتمايزون في الآخرة الي أهل الجنة السعداء‏,‏ وأهل النار الأشقياء‏.‏
‏(4)‏ التسليم بأهوال الانتقال من الدنيا الي الآخرة‏.‏
‏(5)‏ الإيمان بأن المكذبين بالدين لهم في الآخرة عذاب أليم‏,‏ وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم في الدنيا وفي الآخرة أجر غير ممنون‏.‏

من الإشارات العلمية في سورة الانشقاق
(1)‏ وصف نهاية السماء بالانشقاق مما يؤكد شدة تماسكها وترابطها وانتشار المادة والطاقة في كل المكان والزمان‏.‏
‏(2)‏ وصف نهاية الأرض بالتمدد‏,‏ وإلقاء مافيها‏,‏ وتخليها عنه‏.‏
‏(3)‏ القسم بالشفق‏,‏ وبالليل وماوسق‏,‏ وبالقمر إذا اتسق وهي من الظواهر الكونية الدالة علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج الي معالجة خاصة بها ولذلك فسوف أقصر الحديث في المقال القادم إن شاء الله ـ تعالي ـ علي النقطة الثالثة من القائمة السابقة وإلي ذلك الحين أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏
هذه الآيات الأربع جاءت في بداية الثلث الأخير من سورة الانشقاق‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها خمس وعشرون بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها باحدي علامات الساعة‏:‏ وهي انشقاق السماء‏.‏ ويدور المحور الرئيسي للسورة الكريمة حول عدد من ركائز العقيدة الاسلامية شأنها في ذلك شأن كل السور الملكية‏.‏
وقد سبق لنا استعراض سورة الانشقاق‏,‏ وما جاء فيها من ركائز العقيدة‏,‏ والاشارات العلمية‏,‏ وأركز هنا علي ومضة الاعجاز العلمي في الآيات الأربع‏(16‏ ـ‏19)‏ من هذه السورة المباركة‏,‏ وقبل الوصول الي ذلك أري ضرورة استعراض أقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هذه الآيات الأربع‏.‏
من أقوال المفسرين في تفسير قوله ـ تعالي
" فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ‏* وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ *‏ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ" (الإنشقاق‏:16‏ ـ‏19)

‏‏ ذكر ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:‏ قال علي وابن عباس‏:(‏ الشفق‏)‏ الحمرة‏,‏ وقال عبد الرزاق‏,‏ عن أبي هريرة‏:(‏ الشفق‏)‏ البياض‏,‏ فالشفق هو حمرة الأفق‏,‏ إما قبل طلوع الشمس‏,‏ كما قال مجاهد‏,‏ وإما بعد غروبها كما هو معروف عند أهل اللغة‏,‏ قال الخليل‏:‏ الشفق‏:‏ الحمرة من غروب الشمس الي وقت العشاء الآخرة‏,‏ فاذا ذهب قيل‏:‏ غاب الشفق‏,‏ وفي الحديث‏:‏ وقت المغرب ما لم يغب الشفق‏(‏ أخرجه مسلم‏).‏ وصح عن مجاهد أنه قال في هذه الآية‏:(‏ فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ‏)‏ هو النهار كله‏,‏
وإنما حمله علي هذا قرنه بقوله تعالي‏:(‏ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ‏)‏ أي جمع‏,‏ كأنه أقسم بالضياء‏(‏ والصحيح هو أقسم بالنور‏)‏ والظلام‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ أقسم الله بالنهار مدبرا وبالليل مقبلا‏.‏ وقال آخرون‏:‏ الشفق اسم للحمرة والبياض‏,‏ وهو من الأضداد‏.‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:(‏ وَمَا وَسَقَ ‏)‏ وما جمع‏,‏ قال قتادة‏:‏ وما جمع من نجم ودابة‏,‏ وقال عكرمة‏:‏ ما ساق من ظلمة إذا كان الليل ذهب كل شيء إلي مأواه‏,‏ وقوله تعالي (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ‏)‏ قال ابن عباس‏:‏ اذا اجتمع واستوي‏,‏ وقال الحسن‏:‏ إذا اجتمع وامتلأ‏,‏ وقال قتادة‏:‏ إذا استدار‏,‏ ومعني كلامهم إنه تكامل نوره وأبدر جعله مقابلا لليل وما وسق‏.‏ وقوله تعالي‏:(‏ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ ‏)‏ قال البخاري‏,‏ قال ابن عباس‏:‏ حالا بعد حال‏,‏ قال هذا نبيكم ـ صلي الله عليه وسلم‏....‏
‏ وجاء في تفسير الجلالين‏(‏ رحم الله كاتبيه‏)‏ ما مختصره‏:(‏ فَلاَ أُقْسِمُ ‏)‏ لا زائدة لتأكيد القسم‏(‏ بالشفق‏)‏ هو‏:‏ الحمرة في الأفق بعد غروب الشمس‏.(‏ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ‏)‏ جمع ما دخل عليه من الدواب وغيرها‏,(‏ والقمر اذا اتسق‏)‏ اجتمع وتم نوره‏(‏ أي صار بدرا كاملا‏),‏ وذلك في الليالي البيض‏.(‏ لتركبن‏),‏ أصله‏(‏ تركبونن‏)‏ حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال‏,‏ وحذفت‏(‏ الواو‏)‏ لالتقاء الساكنين‏(‏ طَبَقاً عَن طَبَقٍ ‏)‏ حالا بعد حال‏,‏ وهو الموت ثم الحياة وما بعدها من أحوال القيامة‏...‏
‏وبقلم الأديب المبدع ذكر صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة جزاء ما قدم‏),‏ تفصيلا رائعا مسهبا نوجزه فيما يلي‏:..‏ فالشفق هو الوقت الخاشع المرهوب بعد الغروب‏...‏ وبعد الغروب تأخذ النفس روعة ساكنة عميقة‏.‏ ويحس القلب بمعني الوداع وما فيه من أسي صامت وشجي عميق‏,‏ كما يحس برهبة الليل المقبل‏,‏ ووحشة الظلام الزاحف‏,‏ ويلفه في النهاية خشوع وخوف خفي وسكون‏!!.(‏ والليل وما وسق‏).....‏ هو الليل وما جمع وما حمل‏..‏ بهذا التعميم‏,‏ وبهذا التجهيل‏,‏ وبهذا التهويل‏,‏ والليل يجمع ويضم ويحمل الكثير‏...‏ ويذهب التأمل بعيدا‏,‏ وهو يتقصي ما يجمعه الليل ويضمه ويحمله من أشياء وأحياء‏,‏ وأحداث ومشاعر‏,‏ وعوالم خافية ومضمرة‏,‏ ساربة في الأرض وغائرة في الضمير‏...‏ ثم يؤوب من هذه الرحلة المديدة‏,‏ ولم يبلغ من الصور ما يحتويه النص القرآني القصير‏.(‏ والليل وما وسق‏)..‏ إنما يغمره من النص العميق العجيب‏,‏ رهبة ووجل‏,‏ وخشوع وسكون تتسق مع الشفق وما يضفيه من خشوع وخوف وسكون‏!!.(‏ والقمر إذا اتسق‏)...‏ مشهد كذلك هاديء رائع ساحر‏...‏ وهو القمر في ليالي اكتماله‏..‏ وهو يفيض علي الأرض بنوره الحالم الخاشع الموحي بالصمت الجليل‏,‏ والسياح المديدة في العوالم الظاهرة والمكنونة في الشعور‏...‏ وهو جو له صلة خفية بجو الشفق‏,(‏ والليل وما وسق‏)‏ يلتقي معهما في الجلال والخشوع والسكون‏..(‏لتركبن طبقا عن طبق‏)‏ أي لتعانن حالا بعد حال‏,‏ وفق ما هو مرسوم لكم من تقديرات وأحوال‏.‏ ويعبر عن معاناة الأحوال المتعاقبة بركوبها‏...‏
‏ وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن‏(‏ رحم الله كاتبه‏)‏ مامختصره‏:(‏ فلا أقسم‏)‏ أي أقسم بالشفق‏.‏ والشفق‏:‏ الحمرة التي تظهر في الأفق الغربي بعد الغروب‏.‏ أو البياض الذي يليها‏,‏ وسمي شفقا لرقته‏,‏ ومنه الشفقة لرقة القلب‏.(‏ والليل وما وسق‏)‏ أي وماجمعه وضمه مما كان منتشرا في النهار‏,‏ من الخلق والدواب وغيرها‏.‏ يقال‏:‏ وسق الشيء يسقه‏,‏ فاتسق واستوسق‏:‏ جمعه فاجتمع‏.‏ ومنه إبل مستوسقة‏:‏ أي مجتمعة‏.‏ وأمر متسق‏:‏ مجتمع علي ما يسر‏,(‏ والقمر إذا اتسق‏)‏ اجتمع وتم نوره وصار بدرا‏,‏ من الوسق وهو الجمع والضم‏...‏ وكلها دلائل علي القدرة توجب الايمان‏.‏ وقد أقسم الله بها علي أنهم يركبون المشاق والأهوال من وقت الموت فما بعده‏,‏ كما قال تعالي‏:(‏ لتركبن طبقا‏...)‏ جمع طبقة‏,‏ وهي المرتبة‏.‏ أي لتلاقن أيها الكفار أحوالا بعد احوال‏.‏ هي طبقات ومراتب من الشدة بعضها أرفع من بعض‏,‏ وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة‏.‏ والمراد بالركوب الملاقاة‏.‏ و‏(‏عن‏)‏ بمعني بعد‏,‏ وهو في المعني قسم علي صحة البعث وما وراءه من أهوال وشدائد‏...‏
‏وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم‏(‏ جزاهم الله خيرا‏)‏ ما نصه‏:‏ فأقسم قسما مؤكدا بحمرة الأفق بعد الغروب‏.‏ وبالليل وما جمع ولف في ظلمته من الناس والدواب وغيرها‏.‏ وبالقمر اذا تكامل وتم نوره‏,‏ لتلاقن حالا بعد حال بعضها أشد من بعض من الموت والبعث وأهوال القيامة‏.‏

‏ وجاء في صفوة التفاسير‏(‏ جزي الله كاتبه خيرا‏)‏ ما نصه‏:(‏ فلا أقسم بالشفق‏)(‏ لا‏)‏ لتأكيد القسم أي‏:‏ فأقسم قسما مؤكدا بحمرة الأفق بعد غروب الشمس‏(‏ والليل وما وسق‏)‏ أي وبالليل وماجمع وضم اليه‏,‏ ومالف في ظلمته من الناس والدواب والهوام‏.‏ قال المفسرون‏:‏ الليل يسكن فيه كل الخلق‏,‏ ويجمع ما كان منتشرا في النهار من الناس والدواب والأنعام‏,‏ فكل يأوي الي مكانه وسربه‏,‏ ولهذا امتن تعالي علي العباد بقوله‏:(..‏ وجعل الليل سكنا‏..)‏ فإذا جاء النهار انتشروا‏,‏ وإذا جاء الليل أوي كل شئ إلي مأواه‏.(‏ والقمر إذا اتسق‏*)‏ أي‏:‏ وأقسم بالقمر إذا تكامل نوره‏,‏ وصار بدرا ساطعا‏..(‏ لتركبن طبقا عن طبق‏)‏ هذا جواب القسم أي‏:‏ لتلاقن يامعشر الناس أهوالا وشدائد في الآخرة عصيبة‏,‏ قال الألوسي‏:‏ يعني لتركبن أحوالا بعد أحوال‏,‏ هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض‏,‏ وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها‏.‏ وقال الطبري‏:‏ المراد أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالا

من الدلالات العلمية في الآيات الأربع
أولا‏:‏ في قوله تعالي فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ‏:‏
روب حتي العتمة‏,‏ وأول مايري منها من وقت الفجر الصادق حتي طلوع الشمس‏.‏
وطول فترة الشفق الأحمر تحكمها سرعة الصعود الظاهري للشمس إلي الأفق في الشروق‏,‏ وسرعة نزولها الظاهري تحت الأفق عند الغروب‏,‏ ويعتمد ذلك علي اختلاف خط عرض المكان علي سطح الكرة الأرضية وعلي درجة ميل مدار الشمس الظاهري بالنسبة للأفق‏,‏ ولذلك تقصر هذه الفترة في المناطق الاستوائية‏,‏ وتطول في خطوط العرض العليا حتي يتصل الشفق المسائي بالشفق الصباحي‏,‏ ويشمل الشفق الأحمر الليل كله تقريبا‏,‏ ويتحقق ذلك في خطوط العرض العليا‏(‏ بين‏66,55,48,5‏ درجة‏)‏ في الفترة بين‏4/11‏ و‏8/23‏ من كل عام في نصف الكرة الشمالي‏.‏ وعند خطوط العرض التي تزيد قيمتها علي‏66,55‏ درجة شمالا وجنوبا فإن الشمس تظل مشرقة عليها أو غائبة عنها لمدة ستة أشهر كاملة‏,‏ لايتغير فيها إلا ارتفاع الدائرة اليومية التي تصنعها الشمس موازية لدائرة أفق الأرض‏.‏

وهنا تحسب مواقيت الصلاة بالقياس علي أقرب خط عرض تنتظم عنده العلامات الفلكية المحددة لمواقيت الصلاة‏.‏ فوقت صلاة المغرب من لحظة الغروب إلي مغيب الشفق الأحمر‏,‏ ووقت صلاة العشاء من مغيب الشفق الأحمر إلي منتصف الليل‏(‏ وإن قال جمهور الفقهاء بامتدادها إلي ماقبل طلوع الفجر الصادق‏),‏ ووقت صلاة الصبح من طلوع الف الصادق مالم تطلع الشمس‏,‏ ووقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل كل شئ كطوله مالم يحضر العصر حين يتضاعف طول ظل كل شئ وما لم تصفر الشمس‏.‏ ولذلك قال ـ تعالي ــ‏:‏ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلي غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا‏(‏ الإسراء‏:78).‏

ودلوك الشمس زوالها عند منتصف النهار‏,‏ وغسق الليل اشتداد ظلمته بعد غياب الشفق الأحمر إلي منتصف الليل أو إلي ما قبل بزوغ الفجر الصادق‏,‏ وعبر ربنا ــ تبارك وتعالي ــ عن صلاة الفجر بتعبير‏(‏ قرآن الفجر‏)‏ لأنه تطول فيها التلاوة‏.‏ ويشتمل قوله ــ تعالي ــ‏:(‏ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)‏ علي صلاتين نهاريتين هما صلاتا الظهر والعصر في النصف الأخير من النهار‏,‏ وصلاتين ليليتين هما صلاتا المغرب والعشاء في النصف الأول من الليل‏,‏ أما وقت صلاة الفجر فعند تبين شفق الشمس أي‏:‏ ضوؤها غير المباشر في أفق الأرض‏,‏ وهو البياض المعترض في الأفق الشرقي الذي ليس بعده ظلمة إلي ما قبل طلوع الشمس‏.‏
والقسم بالشفق يشير إلي أهميته في تحديد عملية تبادل الليل والنهار‏,‏ وهي عملية لازمة لاستقامة الحياة علي الأرض‏,‏ ولإدراك الإنسان لمرور الزمن‏,‏ ولتمكينه من التأريخ للأحداث المتتابعة‏,‏ وللوفاء بالعهود والمواثيق وبالحقوق والواجبات‏,‏ ولأداء العبادات المفروضة‏.‏

ثانيا‏:‏ في قوله تعالي وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ‏:‏
القسم بالليل وما جمعه وضمه مما كان منتشرا بالنهار‏,‏ وذلك لأن أغلفة الأرض الغازية والمائية والصخرية والحيوية تنكمش بالليل وتتمدد بالنهار‏,‏ وأغلب الناس والدواب والهوام يأوي إلي مكانه وسربه بالليل لكي يستريح وينام ويجدد النشاط استعدادا للكدح في نهار جديد‏,‏ فالليل يجمع كل شئ ويكدسه والنهار يفرق كل شئ وينثره‏,‏ ولذلك أقسم ربنا ــ تبارك وتعالي ــ بالليل وما يضم ويجمع من الظلمات‏,‏ والأسرار‏,‏ وأعمال الخير‏,‏ وأعمال الشر‏,‏ والمشاعر والأحاسيس والانفعالات‏,‏ والمتع والآلام والآهات‏,‏ والعديد من الحوادث الكونية وغيرها‏.‏

ثالثا‏:‏ في قوله تعالي وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ‏:
و‏(‏اتساق القمر‏)‏ اكتمال نوره عندما تكون الأرض بين كل من الشمس والقمر‏,‏ وعلي ذلك فإن أهل الأرض يرون القمر بدرا كاملا‏,‏ ولما كان مدار القمر حول الأرض ومدارهما حول الشمس كذلك بيضاوي الشكل‏(‏ أي قطع ناقص فإن سرعة جري كل من الأرض والقمر في فلكه ليست متساوية في كل الأوقات‏,‏ لأن من قوانين الحركة في مدار القطع الناقص خضوع السرعة المحيطية لقانون تكافؤ المساحات مع الزمن‏,‏ مما يقتضي اختلاف مقدار السرعة علي طول المحيط‏.‏ وعلي ذلك فإنه مع اقتراب القمر من الأرض تزداد سرعته المحيطية فتزداد بالتبعية قوة الطرد المركزية له من الأرض‏,‏ وإلا ارتطم القمر بالأرض فدمرها ودمرته‏.‏ وعلي النقيض من ذلك فإن القمر عندما يبتعد عن الأرض فإنه يقلل من سرعة جريه في مداره حولها‏(‏ أي‏:‏ من سرعته المدارية‏)‏ من أجل تقليل شدة القوة الطاردة المركزية بينه وبين الأرض وإلا انطلق بعيدا عنها وفقد إلي فسحة الكون‏.‏

والقمر في موضع الاستقبال لأشعة الشمس‏(‏ أي‏:‏ في مرحلة البدر الكامل‏)‏ يكون أبعد ما يكون عن الأرض ولذلك يبقي واقعا تحت إمكانية انفلاته من عقال جاذبيتها وفقده إلي الأبد لولا لطف الله‏,‏ ولذلك أقسم ربنا ــ وهو الغني عن القسم لعباده ــ بالقمر إذا اتسق أي‏:‏ إذا اكتمل نوره‏,‏ وزاد جماله وأنار ظلمة ليل الأرض‏.‏
ويأتي جواب القسم‏(..‏ بِالشَّفَقِ ‏* وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ *‏ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ‏)‏ بقول ربنا ــ تبارك وتعالي ــ‏:‏ لتركبن طبقا عن طبق‏*‏ أي‏:‏ حالا بعد حال من حشرجة الموت‏,‏ إلي ظلمة القبر ووحشته وحسابه وجزائه‏,‏ ثم تدمير الكون بأسره مع الاحتفاظ ببقايا كل منا فيه‏,‏ ثم إعادة خلق أرض غير أرضنا ــ مع احتواء ذرات أرضنا فيها ــ‏,‏ وخلق سماوات غير السماوات المحيطة بنا‏,‏ ثم التعرض لهول البعث وفزعه‏,‏ ولأهوال الحشر والحساب‏,‏ والميزان والصراط‏,‏ ثم الخلود في الحياة القادمة إلي أبد الآبدين‏...!!‏
وسبق القرآن الكريم بالإشارة إلي كل هذه الحقائق مما يشهد لهذا الكتاب الخالد بأنه لايمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية‏,‏ في نفس لغة وحيه ــ اللغة العربية ــ وحفظه حفظا كاملا علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد‏,‏ وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتي يبقي القرآن الكريم شاهدا علي الخلق أجمعين إلي يوم الدين بأنه كلام الله‏,‏ وشاهدا للنبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة‏,‏ فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏,‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏