" وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ... "

هذا النص القرآني جاء في مطلع الخمس الأخير من سورة "البقرة" وهي سورة مدنية وعدد آياتها (286) بعد البسملة، وهي أطول سور القرآن الكريم على الإطلاق، وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى تلك المعجزة التي أجراها ربنا (تبارك وتعالى) على يدي نبيه موسى (على نبينا وعليه من الله السلام) , حين تعرض شخص من بني إسرائيل في زمانه للقتل، ولم يعرف قاتله، فأوحى الله (تعالى) إلى عبده موسى أن يأمر قومه بذبح بقرة، وأن يضربوا الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله ويخبرهم عن قاتله إحقاقا للحق، وشهادة لله (تعالى) بالقدرة على إحياء الموتى.
و يدور المحور الرئيسي لسورة البقرة حول قضية التشريع الإسلامي في العبادات والأخلاق والمعاملات، وإن لم تغفل ركائز العقيدة الإسلامية.
كذلك حددت السورة الكريمة صفات كل من المؤمنين، والكافرين، والمنافقين، وسجلت قصة خلق الإنسان ممثلة في أبوينا آدم وحواء (عليهما من الله السلام)، وأشارت إلى عدد من أنبياء الله ورسله. وتناولت سورة البقرة أهل الكتاب بإسهاب وصل إلى أكثر من ثلث السورة، وختمت بإقرار حقيقة الإيمان وبدعاء إلى الله (تعالى) يهز القلب والروح والعقل معا...!! ويمكن إيجاز أهم معطيات هذه السورة الكريمة فيما يلي:
أولا- من ركائز العقيدة الإسلامية:
(1) الإيمان بالقرآن الكريم آخر الكتب السماوية التي أنزلها الله (تعالى) بهدايته للبشرية، وأتمها وأكملها فيه، وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وسلم)، ولذلك تعهد ربنا (تبارك وتعالى) بحفظ رسالته الخاتمة في ذات اللغة التي أوحيت بها (اللغة *********، وحفظها كلمة كلمة، وحرفا حرفا على مدى أربعة عشر قرنا أو يزيد وتعهد بهذا الحفظ إلى قيام الساعة تحقيقا للوعد الإلهي الذي قطعه على ذاته العلية نظرا لضياع أصول الرسالات السابقة كلها، وتعرض ما بقي منها من ذكريات إلى التحريف الذي أخرجها عن إطارها الرباني، وجعلها عاجزة عن هداية أتباعها.
ونظرا لهذا الحفظ الدقيق للقرآن الكريم بصفائه الرباني، واشراقاته النورانية، كان معجزا في كل أمر من أموره، وبذلك تحدى الله (تعالى) الجن والإنس متعاضدين أن يأتوا بسورة من مثله، ولا يزال هذا التحدي قائما دون أن يستطيع أحد من العقلاء أن يجابهه.

(2) الإيمان بالغيب الذي أنزله ربنا- تبارك وتعالى- في محكم كتابه وفي سنة خاتم أنبيائه ورسله-صلى الله عليه وسلم- انطلاقا من الإيمان بالله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وانطلاقا من الإيمان بملائكته وبجميع كتبه ورسله، بغير تمييز، ولا تفريق والإيمان باليوم الآخر الذي ترجع فيه كل الخلائق إلى الله خالقها واليقين بالخلود في الآخرة إما في الجنة أبدا، أو في النار أبدا.
(3) الإيمان بأن الله تعالى هو خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، وأن من خلقه السماوات السبع والأراضون السبع، وأنه (تعالى) أوجد الخلق من العدم، وأنه سوف يميتهم فردا فردا، ثم يحيهم بعثا واحدا ليعودوا إليه فيحاسبهم ويجازيهم وهو الرحمن الرحيم، وأنه تعالى شديد العقاب.
(4) الإيمان بوحدة الجنس البشري، وبانتهاء نسبه إلى أبوينا: آدم وحواء (عليهما السلام)، ومن هنا كانت ضرورة العمل على نبذ جميع أشكال العصبيات العرقية، والدينية والاجتماعية وغيرها.
(5) الإيمان بأن الله (تعالى) قد علم آدم الأسماء كلها، وبذلك يكون الإنسان قد بدأ وجوده عالما عابدا، وليس جاهلا كافرا كما يدعي أصحاب الدراسات الوضعية في "علم الإنسان".
(6)‏ الإيمان بوحدة رسالة السماء‏,‏ وبالأخوة بين جميع الأنبياء والمرسلين الذين أرسلهم الله‏ (تعالى) بالإسلام الصافي‏,‏ والتوحيد الخالص لله‏ ‏ وقد تكاملت رسالاتهم جميعاً في الرسالة الخاتمة التي بعث بها النبي والرسول الخاتم‏ ـ‏ صلى الله عليه وسلم‏ ـ‏ بشيراً ونذيراً للعالمين إلى يوم الدين‏ .‏
‏(7)‏ الإيمان بتنزيه الله‏ (تعالى) عن الشريك‏,‏ والشبيه‏,‏ والمنازع‏,‏ والصاحبة‏,‏ والولد‏,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله‏,‏ واليقين بأن الشرك من أبشع صور الكفر بالله‏,‏ وأن من الكفر بالله كذلك منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه‏,‏ أو السعي في خرابها ‏.‏
‏(8)‏ الإيمان بأن الشيطان للإنسان عدو مبين‏,‏ وأنه يأمر بالسوء والفحشاء‏,‏ ويغري العباد بأن يقولوا على الله ما لا يعلمون .‏ ومن هنا كانت مخالفته‏ من الأمور الواجبة على كل مسلم ومسلمة؛‏ اعتصاماً بحبل الله المتين‏,‏ ونجاة من وساوس هذا اللعين‏,‏ وللتأكيد على ذلك عرضت السورة الكريمة لقصة الشيطان مع أبوينا آدم وحواء‏ ـ‏ عليهما السلام‏ ـ‏ حتى تم إخراجهما من الجنة بوسوسته وغوايته‏,‏ ثم توبتهما‏,‏ وقبول الله ـ تعالى ـ تلك التوبة‏,‏ وأن ذنب هذه المعصية لا يطول أحداً من ذريتهما أبداً؛ لأن ذلك يتنافى مع العدل الإلهي المطلق.
(9)الإيمان بان أهل الكتاب قد حرفوا كتبهم ولذلك يكفر بعضهم بعضا-وان تعاونوا علينا جميعا اليوم لأنهم لم يؤمنوا ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين(صلى الله عليه وسلم),ونحن لم نقم بواجبنا فى التبليغ عن الله وعن رسوله ولذلك يقف اليهود من الإسلام والمسلمين موقف العداء والإستعداء باستمرار, بينما النصارى لايرضون عن المسلمين طمعا فى تنصيرهم وأملا فى أن يتبعوا ملتهم .
‏(10)‏ الإيمان بأن دين الله‏ ـ‏ وهو الإسلام ـ مبني على السماحة واليسر‏,‏ وعلى رفع الحرج عن الخلق‏,‏ وأن من أصوله الثابتة أنه : " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ "‏ (‏ البقرة‏:256) .‏
‏(11)‏ الإيمان بحتمية الآخرة وبضرورتها، وبضرورة الخوف من فجائيتها وأهوالها . وفي ذلك يقول الحق‏ـ‏ تبارك وتعالى‏ ـ : ‏" وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ "‏* (‏ البقرة‏:281)‏ .
ثانياً ‏:‏ من أسس العبادة:
‏(1)‏ إقامة الصلاة‏,‏ وإيتاء الزكاة‏,‏ وصوم رمضان‏,‏ وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا‏ًً,‏ والإنفاق في سبيل الله‏,‏ والإحسان إلى الخلق بصفة عامة‏,‏ واليقين بأن ذلك كان من متطلبات العبادة في كل الشرائع السماوية السابقة ‏.‏
‏(2)‏ الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله‏؛ ردعاً للمُعتدِين والغاصبين والمُتجبِّرين‏,‏ فالقتال مشروع في الإسلام لدفع الظالمين والغائرين على أراضي المسلمين والمعتدين على دمائهم وأموالهم وأعراضهم ومقدساتهم ودينهم ؛ وذلك صوناً لكرامة الإنسان، وإقامة لعدل الله في الأرض‏,‏ وإعزازاً للدين الذي لا يرتضي ربنا‏ ـ تبارك وتعالى‏ ـ‏ من عباده ديناً سواه‏ .‏
‏(3)‏ التوجه بالدعاء إلى الله وحده‏ في الأوقات المُفضَّلة مع الالتزام بآداب الدعاء ‏.‏
‏(4)‏ مراعاة حرمة الأشهر الحرم وتوقيرها‏,‏ وإقامة السنن التي شرعها لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها ‏.‏
‏(5)‏ التزام تقوى الله‏ ـ‏ تعالى‏ ـ‏ في كل حال‏ .‏
ثالثاً ‏:‏ من مكارم الأخلاق:
‏(1)‏ الصبر في البأساء والضراء وحين البأس‏ .‏
‏(2)‏ الوفاء بالعهود والمواثيق‏ .‏
‏(3)‏ الشجاعة، والإقدام، وحب الاستشهاد في سبيل الله‏ .‏
‏(4)‏ الجرأة في مناصرة الحق‏,‏ وإعلان الرأي‏,‏ وعدم كتمان الشهادة‏ .‏
‏(5)‏ الجود، والكرم، والإنفاق في سبيل الله ‏.‏
‏(6)‏ الحرص على العمل الصالح‏,‏ وقول المعروف‏,‏ والعفو عن الناس‏ .‏
‏(7)‏ بر الوالدين ، والإحسان إلى ذوي القربي واليتامى والمساكين، وإلى الناس كافة دون مَنٍّ أو أذى ‏.‏
‏(8)‏ تجنب المال الحرام بكافة صوره وأشكاله‏,‏ ومن أبرز أشكاله الربا‏,‏ والرشوة‏,‏ والسرقة‏,‏ والغش‏,‏ وغير ذلك من صور التحايل الباطل على الكسب الحرام‏ .‏
رابعا‏ًً :‏ من التشريعات الإسلامية ‏
‏(1)‏ تفصيل أحكام الأسرة المسلمة من الخِطْبَة إلى الزواج‏,‏ والتعرض للحالات الطارئة ، مثل الطلاق‏,‏ والمتعة‏,‏ والرضاعة‏,‏ والعدة وغيرها‏,‏ والأمر باعتزال النساء في المحيض، والنهي عن نكاح المشركات والمشركين حتى يؤمنوا‏ .‏
‏(2)‏ تحديد المُحرَّمات من الطعام* مثل " المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ " (البقرة:173)، كما حرمت كلاً من الخمر والميسر‏.
‏(3)‏ تشريع القصاص في القتلى ؛ حمايةً للمجتمعات الإنسانية من انحراف المنحرفين وإجرام المجرمين‏ .‏
‏(4)‏ الحض على كتابة الوصية قبل الموت، وتحريم وتجريم تبديلها أو إخفاءها‏ .‏
‏(5)‏ تحريم أكل أموال الناس بالباطل‏ .‏
‏(6)‏ وضع ضوابط للتعامل بالدَيْن ‏.‏
‏(7)‏ تحريم التعامل بالربا تحريماً قاطعا‏ًً .‏
‏(8)‏ الحض على رعاية اليتيم حتى يبلغ أشده‏, وحددت ضوابط الإنفاق في سبيل الله ‏.‏
‏(9)‏ تحريم إنكار معلوم من الدين بالضرورة ‏.‏
خامساً ‏:‏ من القصص القرآني:
جاء في سورة البقرة ذكر عدد من أنبياء الله ورسله‏,‏ كما جاءت الإشارة إلى عدد من الأحداث للاعتبار بها وأخذ الدروس منها، ونوجز ذلك فيما يلي ‏:‏
‏(1)‏ قصة أبوينا آدم وحواء ـ عليهما من الله السلام .‏
‏(2)‏ قصة بني إسرائيل مع فرعون مصر وخروجهم منها مع نبي الله موسى ‏ـ عليه السلام‏ ـ الذي عبر بهم البحر‏,‏ وفجر الأرض لهم بالماء الزلال‏,‏ وعصيانهم من بعد ذلك كله‏,‏ وارتدادهم إلى عبادة العجل‏,‏ وصعقهم ثم إحيائهم‏,‏ ومسخ الذين اعتدوا منهم في السبت‏ إلى قردة وخنازير,‏ ثم كفرهم بآيات الله‏,‏ وقتلهم للأنبياء بغير حق‏,‏ وعصيانهم لأوامر الله ، واعتدائهم على حدوده‏,‏ ورفع الطور فوقهم تهديداً لهم وتخويفا‏ًً,‏ وقصتهم مع القتيل‏,‏ وأمر الله لهم أن يذبحوا بقرة، وأن يضربوا القتيل ببعضها فيبعثه الله ـ‏ تعالى ـ حتى يخبر عن قاتله ثم يموت‏,‏ وقصتهم مع كلٍ من طالوت وجالوت وداود ـ عليه السلام‏ .‏
‏(3)‏ قصص بعض أنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا من بعد موسى وهارون‏,‏ وذلك من أمثال كلٍ من داود وسليمان‏ ـ‏ عليهما السلام .‏
‏(4)‏ قصة نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل ـ عليهما من الله السلام ـ‏ ورفعهما لقواعد الكعبة المُشرَّفة‏,‏ ودعوتهما إلى الله‏ ـ‏ تعالى‏ ـ أن يبعث خاتم الأنبياء والمرسلين‏ ـ صلى الله عليه وسلم‏ ـ‏ في مكة المُكرَّمة‏,‏ وحوار إبراهيم‏ ـ‏ عليه السلام‏ ـ‏ مع نمرود بن كنعان‏ (‏ أول من ادعى الربوبية كذباً وبهتانا‏ًً) .‏
‏(5)‏ قصة نبي الله يعقوب‏ ـ‏ عليه السلام ـ‏ مع بنيه إذ حضره الموت ‏.‏
‏(6)‏ حادثة تحويل القبلة ‏.‏
‏(7)‏ قصة نبي الله عيسى ابن مريم‏ ـ‏ عليهما السلام‏ ـ‏ واقتتال أتباعه من بعده‏,‏ واختلافهم فيما بينهم‏,‏ من بعد ما جاءتهم البينات‏ .‏
‏(8)‏ قصة الرجل الصالح عزير الذي مر على بيت المقدس بعد أن خربها "بختنصر".
سادسا‏ًً :‏ من الإشارات الكونية:
جاء في هذه السورة المباركة عدد كبير من الإشارات الكونية نوجزها فيما يلي ‏:‏
‏(1)‏ التفرقة الدقيقة بين الضياء والنور، وهما أمران متمايزان‏,‏ والمقابلة بين الظلمات والنور‏,‏ وهذه من الحقائق العلمية التي لم تُدرك إلا مؤخراً‏ .‏
‏(2)‏ تقديم حاسة السمع على حاسة الإبصار‏ .‏ وثبت علمياً أن مراكز السمع تتقدم مراكز البصر في مخ الإنسان، وأن حاسة السمع تسبق حاسة البصر نضجاً في مراحل خلق الإنسان‏ .‏
‏(3)‏ وصف التلازم الدقيق بين هطول المطر الغزير وبين كلٍ من الظلمات والرعد والبرق والصواعق ‏.‏
‏(4)‏ الإشارة إلى إمكانية خطف البصر بواسطة البرق‏ .‏
‏(5) ذكر المراحل المتتالية في إعداد الأرض لعمارتها بالإنسان، ومن ذلك تمهيد سطحها‏,‏ وإنزال الماء عليها‏,‏ وإخراج الثمرات منها، وإحياء الأرض بعد موتها وبث كل دابة فيها‏ .‏
(6)‏ الإشارة إلى البعوضة وما فوقها من الخلق‏,‏ وهي من أبسط الحشرات المعروفة لنا‏,‏ ولكنها تبلغ في روعة بناء جسدها‏‏ وتأهيله لوظائفها ما يشهد للإله الخالق بطلاقة القدرة،‏ وببديع الصنعة، وبإحكام الخلق ‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة مستقلة‏,‏ ولذلك فإني سوف أقصر حديثي هنا على النقطة الخامسة عشرة منه، وهي المتعلقة بفترة تمام الرضاعة‏ .‏
‏(7)‏ ذكر معجزات فلق البحر لنبي الله موسى ـ‏ عليه السلام‏ ـ ونجاته ومن معه‏,‏ وهلاك فرعون وجنده‏,‏ وكذلك تفجير اثنتي عشرة عيناً مائية بضربة من عصى موسى‏‏.‏
‏(8)‏ الإشارة إلى بعض أمراض القلوب، ومنها الخوف‏,‏ والوسوسة‏,‏ والشك‏,‏ والاكتئاب‏ .‏ وقد أثبتت الدراسات النفسية أنها حقائق علمية لم تكن معروفة وقت تنزل القرآن الكريم‏,‏ وتشبيه قسوة قلوب اليهود بأنها أشد قسوة من الحجارة؛ لأن من الحجارة ما يلين بتفجرها بالأنهار‏,‏ أو بتشققها وخروج الماء منها‏,‏ أو بهبوطها من خشية الله ـ‏ تعالى‏ ـ‏ وقسوة قلوب اليهود لاتلين أبدا‏ًً,‏ وهي حقيقة أثبتها التاريخ .‏
‏(9)‏ الحديث عن المشرق الحقيقي والمغرب الحقيقي للأرض، مما يشير إلى وجود شمال وجنوب حقيقيين ، وهو صحيح‏.‏
‏(10)‏ الإشارة إلى خلق السماوات والأرض بالحق‏,‏ وإلى اختلاف الليل والنهار‏,‏ وإلى الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس‏ .‏
‏(11)الإشارة إلى تصريف الرياح‏,‏ وإلى السحاب المسخر بين السماء والأرض، وهي حقائق لم تدرك بشيء من التفصيل إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين‏ .‏
‏(12)‏ وصف الأهلِّة بأنها مواقيت للناس والحج ‏.‏
‏(13)‏ ‏ الإشارة إلى أذى المحيض‏,‏ والنصيحة باعتزال النساء في فترة المحيض . وقد أثبتت الدراسات الطبية صحة ذلك‏ .‏
‏(14)‏ التأكيد على ما في كلٍ من الخمر والميسر من آثام تفوق أية منافع يمكن أن تُجتنى من وراء الخوض في آثامها‏,‏ والتجارب الإنسانية تؤكد ذلك وتشهد عليه‏ .‏
(15) الإشارة إلى أمد تمام الرضاعة من الأم للرضيع هو حولين كاملين.
‏(16)‏ التأكيد على حقيقة أن الجنة‏ ـ‏ أي الحديقة ذات الأشجار الكثيفة الملتفة على بعضها البعض‏ ـ‏ بالربوة المرتفعة‏(‏ عن كل من الهضاب والسهول المحيطة بها‏)‏، إذا أصابها وابل‏ ـ أي مطر غزير‏ـ‏ آتت أكلها ضعفين؛ لأن احتمال إغراقها بماء المطر الغزير غير وارد لسرعة انحسار الماء عنها بعد أخذ كفايتها منه نظراً لارتفاعها فوق أعلى منسوب للسهول المحيطة بها‏.‏ وفي حالة عدم هطول المطر الغزير فإن الطل ـ أي رذاذ المطر الخفيف أو الند‏ى ـ يكفيها لري نباتاتها، وطيب ثمارها، ووفرة عطائها‏ .‏ والمقصود بذلك أن الجنة بالربوة العالية تزكو، وتزدهر، وتثمر، وتجود بعطائها سواء كَثُرَ المطر عليها أو قلَّ ‏.‏
وقد وصفت سورة البقرة إنفاق الصالحين من عباد الله‏‏ الذين لا يبغون من وراء إنفاقهم إلا مرضاة الله والثبات على الحق بأنه يزكو عند الله ويطيب‏ ـ‏ زاد قدره أم قل‏ ـ‏ تماماً كما يزكو عطاء الجنة بالربوة العالية ـ زاد المطر عليها أو قل‏ .‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏:‏ " وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ..." ‏(‏ البقرة‏:233).‏
‏ *‏ ذكر ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ ما نصه‏:‏ هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهما‏(‏ سنتان‏)‏ فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك‏,‏ ولهذا قال‏:(‏ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ).‏ وذهب أكثر الأئمة إلي أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين‏,‏ فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم‏,‏ قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم‏:(‏ لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام‏)....‏
‏*‏ وجاء في الظلال ـ رحم الله كاتبها برحمته الواسعة ـ ما نصه‏:‏ إن علي الوالدة المطلقة واجبا تجاه طفلها الرضيع‏.‏ واجبا يفرضه الله عليها ولا يتركها فيه لفطرتها وعاطفتها التي قد تفسدها الخلافات الزوجية‏,‏ ويقع الغرم علي هذا الصغير‏..‏ إذن يكفله الله ويفرضه له في عنق أمه‏,‏ فالله أولي بالناس من أنفسهم‏,‏ وأبر منهم وأرحم من والديهم‏.‏ والله يفرض للمولود علي أمه أن ترضعه حولين كاملين لأنه سبحانه يعلم أن هذه الفترة هي المثلي من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل‏..(‏ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)‏ وتثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية لينمو الطفل نموا سليما من الجهتين الصحية والنفسية‏.‏ ولكن نعمة الله علي الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتي يعلموا هذا من تجاربهم‏,‏ فالرصيد الإنساني من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك يأكله الجهل كل هذا الأمد الطويل‏,‏ والله رحيم بعباده‏,‏ خاصة بهؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية‏...‏
من الدلالات الطبية والتشريعية في النص الكريم
يؤكد هذا النص القرآني الكريم أهمية الرضاعة الطبيعية من الأم الوالدة لمدة أقصاها حولين كاملين‏(‏ أربعة وعشرون شهرا قمريا‏)‏ ولذلك قال ـ تعالي ـ " وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ..." ‏‏(‏ البقرة‏:233)‏ وهذا النص فيه من الدلالات الطبية والتشريعية ما يمكن إيجازه فيما يلي‏:‏
أولا‏:‏ من الدلالات الطبية‏:‏
‏1)‏ أن لبن الوالدة مناسب في تركيبه الكيميائي وصفاته الطبيعية وكمياته لحاجة الرضيع طوال فترة الرضاعة‏,‏ ومن معجزات الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ أن هذا التركيب الكيميائي وتلك الصفات والكميات للبن الوالدة يتغير تلقائيا مع تغير أحوال الرضيع ووزنه وهل هو مكتمل العمر الرحمي أو مبتسر‏,‏ ومع إحتياجاته الغذائية وحالته الصحية بل مع مراحل الرضعة الواحدة من أولها إلي آخرها‏.‏ ففي الأسبوع الأول من عمر الرضيع يحتوي لبن الوالدة علي كميات أعلي من البروتينات‏,‏ ومن كريات الدم البيضاء والفيتامينات خاصة فيتامين ـ أ‏,‏ ومادة اللاكتوفرين المثبتة لعنصر الحديد حتي يستفيد منه الرضيع‏,‏ وعلي كميات أقل من الدهون والمواد الكربوهيدراتية عن اللبن في الأسابيع التالية‏.‏
‏(2)‏ أن الدهون في لبن الأم هي دهون ثلاثية بسيطة يسهل هضمها وامتصاصها مع كميات متدرجة من الأحماض الدهنية المشبعة والزيوت الدهنية الطيارة‏,‏ وكذلك الكربوهيدرات وأغلبها سكر ثنائي بسيط يعرف باسم سكر اللبن أو اللاكتوز‏(Lactose)‏ يسهل علي معدة الرضيع هضمه وامتصاصه‏,‏ ويحول بعضه إلي حمض اللبن‏(Lacticacid)‏ في أمعاء الرضيع مما يساعد علي امتصاص عنصر الكالسيوم اللازم لبناء عظامه‏.‏ والأملاح في لبن الوالدة محددة بنسب يسهل امتصاصها وتمثيلها في جسد الرضيع‏,‏ والفيتامينات في هذا اللبن الفطري كافية لتلبية كل احتياجات الرضيع طوال الشهور الستة الأولي من عمره‏,‏ وفيه من الخمائر الهاضمة ما يعين معدته علي امتصاص ما في الرضعة من مركبات كيميائية‏.‏
‏(3)‏ أن لبن الوالدة معقم تعقيما ربانيا‏,‏ ولذلك فهو خال تماما من الميكروبات والفيروسات ومن غيرها من مسببات الأمراض خاصة إذا كانت الوالدة من صاحبات الأيدي المتوضئة والمحافظات علي طهارة البدن والثياب والمكان‏,‏ والحريصات علي سلامة فلذات أكبادهن‏.‏
هذا بالإضافة إلي أن هذا اللبن الفطري جاهز للرضيع في كل زمان ومكان ودائم الطازجة‏,‏ والوجود في درجة حرارة توائم المناخ المحيط به صيفا وشتاء‏.‏
‏(4)‏ في لبن الوالدة من المضادات الحيوية النوعية ومن مقويات جهاز المناعة ما يحمي الرضيع من كثير من الأمراض خاصة أمراض الحساسية‏(‏ التحسس‏).‏ والإسهال‏,‏ والنزيف المعوي‏,‏ والمغص‏,‏ وغيرها‏,‏ وعلي ذلك فهو أفضل غذاء للوليد حتي تمام السنتين من عمره وإن كان بإمكان الأم إضافة قدر ملائم من الطعام المناسب ابتداء من الشهر السادس من عمر الوليد‏.‏
‏(5)‏ أن الرضاعة الطبيعية ليست فقط مفيدة للرضيع بل للوالدة المرضعة أيضا‏,‏ لأن الرضاعة تساعد في تنشيط إفرازات الغدد المختلفة في جسدها مما يعين علي استقرارها النفسي والجسدي‏,‏ وعلي وقف نزيف ما بعد الولادة برجوع الرحم إلي حجمه الطبيعي وانطماره‏,‏ هذا بالإضافة إلي إن الهرمونات المسئولة عن إدرار اللبن هي المسئولة عن عملية تثبيط عملية التبويض‏(‏ إنتاج البيوضات‏)‏ حتي لا تحمل الأم وهي لا تزال ترضع لما في ذلك من أخطار صحية عليها وعلي رضيعها‏,‏ كما يريحها ذلك من آلام الطمث وهي في مرحلة الإرضاع‏,‏ وفوق ذلك كله لوحظ أن الوالدات المرضعات هن أقل إصابة بالأورام السرطانية ـ خاصة في الصدر وفي المبيضين ـ عن كل من غير المرضعات‏,‏ وغير الوالدات‏,‏ وغير المتزوجات‏.‏
‏(6)‏ أن نشاط مخ المرضعة أثناء الرضاعة هو من الأمور المتعلقة بنشاط وظائف الأعضاء في جسدها كله حيث تنبعث إشارات عصبية من الهالة الداكنة المحيطة بحلمة الثدي إلي الغدة النخامية بالمخ عن طريق العصب الحائر فتفرز هرمون البرولاكتين ‏(Prolactin)‏ اللازم لإنتاج اللبن في الثديين عن طريق الخلايا المختصة بذلك في كل منهما ـ كما أن عملية الرضاعة ذاتها تنبه الغدة النخامية أيضا لإفراز هرمون الأكسيتوسين‏(Oxytocin)‏ المنشط لعضلات الثدي فتبدأ في الانقباض والانبساط من أجل إفراز اللبن وتوجيهه إلي الحلمة‏,‏ وعدم استخدام هذه الأجهزة التي وهبها الله ـ تعالي ـ لجسد المرأة قد يكون فيه من الأضرار الصحية لها ما لا يعلمه إلا الله ـ تعالي ـ‏.‏
‏(7)‏ أن الانعكاسات الإيجابية التي تحققها عملية الرضاعة الطبيعية علي نفسية كل من الرضيع والمرضعة‏,‏ والتي تتجلي في تقوية الصلة الروحية بينهما علي أساس من التعاطف والحب والحنان والارتباط الوثيق هي من الأمور الفطرية التي أودعها الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ في قلب كل من الوالدة والمولود‏,‏ وبفقدانها يفقد كل منهما مرحلة من مراحل حياته تهبه من أسباب التوازن النفسي والعاطفي ما يجعله مخلوقا سويا‏.‏
‏(8)‏ ولما كان للرضاعة في الحولين الأولين من عمر الوليد تأثير علي صفاته الوراثية أعطي القرآن الكريم الأولوية في إرضاع المولود للأم التي ولدته فقال ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏:‏ " وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ..."‏(‏ البقرة‏:233)‏
والأمر الإلهي بالإرضاع جاء بصيغة المضارع إقرارا لاستمرارية هذا الأمر لكل والدة أن ترضع مولودها تحقيقا لدور الأمومة ولحق مولودها عليها‏.‏ ولكن في بعض الظروف الخاصة التي لا تستطيع الوالدة أن ترضع فيها وليدها صرح القرآن الكريم بأن ترضع له أخري مع بقاء الأولوية في الرضاعة للأم الوالدة فقال ـ تعالي ـ‏..‏" وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى" ‏(‏ الطلاق‏:6).‏
‏(9)‏ ويفهم من النص الكريم أن تمام مدة الرضاعة هو حولان كاملان‏(‏ أربعة وعشرون شهرا قمريا‏)‏ ولكن ترك الأمر لتقدير الوالدين فقال ـ تعالي ـ‏:‏ "فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا..." (‏ البقرة‏:233)‏ علي أن تمام الرضاعة هو عامان وذلك في مقام آخر بقوله ـ تعالي ـ‏:" ... وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ" (‏ لقمان‏:14)‏ وذلك لتباين مدد الحمل بين ستة وتسعة أشهر قمرية‏(‏ بين‏117‏ و‏266‏ يوما‏)‏ لقوله تعالي‏: "...وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً..." (‏ الأحقاف‏:15).‏ فإذا ولد الحميل لستة أشهر قمرية كان واجبا إتمام مدة الحمل والفصال ثلاثين شهرا قمريا‏,‏ ولكن إذا اكتملت فترة الحمل إلي تسعة أشهر قمرية كان كافيا لفترة الرضاعة التامة واحد وعشرون شهرا ليكمل فترتي الحمل والرضاعة إلي ثلاثين شهرا‏.‏
‏(10)‏ أثبتت الأبحاث في مجال طب الأطفال‏(‏ كما أشار الأستاذ الدكتور مجاهد أبو المجد‏)‏ أن هناك ارتباطا وثيقا بين الرضاعة من منتجات الألبان الحيوانية المصنعة وغير المصنعة ـ خاصة لبن الأبقار ـ وبين انتشار مرض الداء السكري بين الأطفال الرضع‏,‏ وانعدام ذلك في حالات الرضاعة الطبيعية من الوالدة‏.‏ وكان تعليل ذلك أن البروتين الموجود في لبن الأبقار يؤدي إلي تكوين أجسام مناعية مضادة في دم الرضع دون العامين لأن إنزيمات الهضم عندهم لا تستطيع تكسير البروتينات المعقدة في ألبان الأبقار‏,‏ وأن هذه الأجسام المناعية تقوم بتدمير أعداد من الخلايا المهمة في بنكرياس الرضيع من مثل الخلايا التي تقوم بإفراز مادة الأنسولين‏.‏
ولكن بعد تجاوز العام الثاني من عمر الوليد فإن تناوله للبن الأبقار لايسبب تكون مثل هذه الأجسام المناعية المضادة ويفسر ذلك باكتمال نمو الغشاء المخاطي المبطن للجهاز الهضمي عند الوليد والذي لا يتم اكتماله إلا بعد عامين كاملين من عمره‏,‏ فتستطيع إنزيمات الهضم عنده تكسير البروتينات المعقدة في ألبان الحيوانات فلا تتكون أجسام مناعية مضادة لها‏,‏ وهنا تتضح ومضة الإعجاز العلمي والطبي في قول ربنا ـ تبارك وتعالي ‏ " وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ..."‏(‏ البقرة‏:233)‏
‏(11)‏ كذلك أثبتت الدراسات العلمية أخيرا أن ألبان الأنعام ـ خاصة ألبان الأبقار ـ تحتوي علي عدد من الأحماض الأمينية تزيد بثلاثة إلي أربعة الأمثال علي ما في لبن الأم مما قد يؤدي إلي ارتفاع نسبة تلك الأحماض في دم الرضيع فيعرضه للإصابة ببعض الإعاقات الذهنية‏,‏ ويؤدي إلي رفع نسب وفيات الرضع الذين يتغذون أساسا علي الألبان الحيوانية غير المصنعة والمصنعة‏.‏
ثانيا‏:‏ من الدلالات التشريعية‏:‏
‏(1)‏ في قول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏:‏ ‏ " وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ..."‏(‏ البقرة‏:233)‏
دليل علي أن الأولوية في رضاعة المولود هي لأمه التي ولدته‏,‏ وذلك لأن الدراسات المختبرية أكدت أن تفاصيل التركيب الكيميائي لألبان النساء يختلف من امرأة الي أخري‏.‏ وهذا له تأثيره علي نمو الوليد واتزانه العاطفي والنفسي‏,‏ وان الجهاز الهضمي للرضيع مهيأ أفضل تهيئة لهضم وامتصاص لبن أمه التي ولدته‏.‏
‏(2)‏ ويفهم من النص الكريم أن الوالدات لسن فقط اللائي ولدن‏,‏ ولكن تنزل المرضعة منزلة الوالدة فتصبح كل مرضعة والدة‏,‏ مع بقاء الأولوية في الرضاعة للأم التي ولدت‏,‏ ولما كانت المرضعة والدة كانت الحرمة من الرضاعة في الحولين الأولين من عمر الرضيع لقول الرسول ـ صلي الله عليه وسلم‏:‏ يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب‏(‏ صحيح مسلم‏).‏
ولقوله‏:‏ الرضاعة ما كان في الحولين‏(‏ جامع الترمذي‏).‏
وقوله‏:‏ لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء من الثدي وكان قبل الفطام‏(‏ جامع الترمذي‏)‏
وقوله‏:‏ لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشأ العظم‏)(‏ سنن أبي داود‏).‏
وقد أثبتت الدراسات العلمية أن تأثير الرضاعة علي المولود طوال العامين الأولين من عمره في بناء جسده‏,‏ وتكوين جهازه المناعي‏,‏ وتشكيل شيء من صفاته الشخصية والوراثية ما يبقي معه إلي آخر عمره‏,‏ ويبلغ من خطورته أنه يحلل له ويحرم من أمر الزواج وذلك بسبب انتقال بعض العوامل الوراثية والمناعية من حليب المرضعة إلي جسد الرضيع واندماجها مع سلاسل الموروثات في داخل خلاياه‏.‏

وهذه الحقيقة التي أثبتتها الدراسات المختبرية أخيرا قد سبق بها كل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من قبل ألف وأربعمائة من السنين وذلك بتحريم الزواج بين الذين اشتركوا في الرضاعة من امرأة واحدة خلال العامين الأولين من العمر‏,‏ واعتبرهم الشرع إخوة من الرضاعة‏,‏ كما اعتبر مرضعتهم أما لهم بالرضاعة تنسحب عليها كل حقوق الأمومة ماعدا الإرث‏,‏ ويحرم من هذه الصلة ما تحرم الأمومة بالنسب لأن التقارب في الصفات الموروثة بين الزوجين يؤدي إلي شيء من الاضطراب الذي ينحي بعض الصفات الإيجابية في المورثات أو يسود بعض الصفات السلبية مما يضر بالنسل ضررا بليغا‏.‏
فالحمد لله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.