شهادة الزور

د. عمر عبدالكافي

آفات اللسان

هذه الآفة حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم تحذيراً شديداً، ألا وقد حذر منها من قبل رب العباد سبحانه وتعالى وقرنها بالشرك، والعياذ بالله رب العالمين.

عدلت هذه الآفة الشرك بالله، ألا وهي: آفة "شهادة الزور" أجارنا الله وإياكم وأعاذنا من غضبه وأعاذنا وإياكم من هذه الآفة الخطيرة.

الله سبحانه وتعالى يمدح المؤمنين في قوله عز وجل: ( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) (الفرقان من الآية:72).

وعدلَ كما قلنا رب العباد هذه الآفة بالشرك بالله عز وجل مرتين، قال تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج من الآية:30).

لأن الزور ينتج عنه قضيتين كبيرتين الكذب والافتراء. والكذب والافتراء هذا من أكبر الكبائر عند الله عز وجل؛ لأنها تؤدي إلى اقتطاع حقوق للناس. والله سبحانه وتعالى يقول: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (غافر: من الآية28)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يطبع المؤمن على كل شيء ليس الخيانة والكذب" (1). ....



فشاهد الزور ارتكب مصيبة كبيرة بأنه كذب وافترى، ثم شاهد الزور ظلم الإنسان الذي شَهِد عليه حتى أخذ بشهادته من ماله، ومن عرضه، ومن روحه، وساق إلى الآخر مالاً حراماً، وساق إلى الآخر ما لا يجب أن يساق إليه، فوجبت له النار، والعياذ بالله.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قضيت له من مال أخيه بغير حق، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار" (2).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر : الشرك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وشهادة الزور"، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت (3)، إذاً شهادة الزور هذه شهادة خطيرة.

لكن لنتوقف هنا لحظات، أحبتي في الله؛ الناس يظنون أن شهادة الزور هذه تخص الشهادة في داخل وأروقة المحاكم ودور القضاء فقط، أمام القاضي وغير ذلك، لا؛

شهادة الزور هذه تعم الحياة كلها، فمثلأً ربما نجد انساناً زوج ابنته من شاب، وحدث كما يحدث في كل البيوت خلاف ما بين هذا الشاب وزوجته، فجاءت البنت تشكو إلى أبيها من زوجها هذا، فعندئذٍ ينبري الأب دون أن يسمع الطرف الآخر، ويقول هذا كلام صدق، أنا ابنتي لا تخطئ أبداً، أنا ابنتي ملك من الملائكة، أنا ابنتي لا تتعدى الحدود، لقد ربيتها أفضل تربية، لقد أحسنت تربيتها، أنا واثق تماماً أن زوجها هو المخطئ، وأن ابنتي هي المصيبة، وأنها هي المستقيمة، وأنه هو المنحرف...الخ. هذا كلام لا يقول به عاقل، ولا مؤمنٌ، ولا إنسان يحكم بالعدل، قال تعالى:( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: من الآية8).

فمسألة شهادة الزور ترتبط بالمسائل العامة التي نعيشها،

فعندما تأتي ابنتك أخ الإسلام تشكو من زوجها، قل لها انتظري حتى يأتي زوجك وأسمع منه وعندئذٍ أستطيع أن أحكم بينكما بما يرضي الله رب العالمين، وليس لأنكِ ابنتي.

حتى قال صلى الله عليه وسلم لأسامة عندما كان في مسألة المرأة المخزومية التي سرقت: "أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، هكذا إنما كان من قبلكم، كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه، يعني ذو العائلة صاحب العائلة والجاه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، فوالذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها، يا عباس يا عم رسول الله اعمل لا أغني عنك من الله شيء. يا صفية يا عمة رسول الله اعملي لا أغني عنك من الله شيء. يا فاطمة يا بنت محمد خذي ما شئت من مالي اعملي لا أغني عنك من الله شيئاً" (4).

فلا وساطات في الحق، لا شهادة زور، لا يقول إنسان ما يحيف به عن الحق، يجب أن يتقي الله رب العالمين. الإنسان المخلص لدينه، الإنسان الصادق مع نفسه، الصادق مع ربه، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، يجب أن يقول الحق ولو كان مراً، ولا يشهد أبداً بالزور.

هكذا أيضاً لا يأتي ابنك ليقول لك إن زوجتي قد آذتني، أو ظلمتني أو كذا أو كذا فتقول نعم إن ابني رُبي أفضل تربية، إن ابني هذا لا يخطئ، ابني كذا، ابني كذا. لا، لا تشهد أخَ الإسلام شهادة الزور أبداً ولكن عليك أن تقول الحق.

إذاً يجب أن يكون الإنسان صادقاً؛ لأن قضية شهادة الزور تعدل الشرك بالله كما سلف في الحديث: "إياك والإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان جالساً فاتكأ، كان متكأ فاعتدل. قال ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور" حتى قلنا: ليته سكت أو ليته ما كررها (5).

فلماذا شدد الشرع على شهادة الزور؟ لأنها تقتطع حقوق الآخرين، لأنها تأخذ من حق الآخرين, لأنك تعطي إنساناً ما لا يحق، وتسحب من إنسان ما يحق له.

تنطوي شهادة الزور على مثل هذه المعاني كلها, فشاهد الزور تمنع انساناً من حقه، وتعطي إنساناً غير حقه.

إذاً لماذا شهادة الزور بهذا المنطق؟ ولماذا شدد الشرع على شهادة الزور ؟ لأنها تقتطع وتأخذ من حقوق الآخرين، لأنك تعطي إنساناً ما لا يحق وتسحب من إنسان ما يحق له. تنطوي شهادة الزور داخلها على الكذب وعلى مثل هذه المعاني كلها، فشاهد الزور يمنع انساناً من حقه، ويعطي إنساناً آخر غير حقه.

يقول والله أنا أبي قبل أن يموت قال لي خذ نصف الشركة الفلانية أو خذ العقار الفلاني أو خذ المال الفلاني أو خذ الأمر الفلاني، يقول أو تقول بنت من البنات إن أمي قبل أن تموت أسرّت لي وقالت أن كل المجوهرات لي، إن كل الحلي يجب أن آخذها وأنا أقول لكم صدقاً هذا، وهي تشهد شهادة الزور وتكذب، والعياذ بالله .

فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذر بقوله: "ربما يأتيني الخصمان منكم فيكون أحدهم ألحن في حجته من الآخر فليعلم أنني إن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فإنما أقتطع له جزءاً أو شبراً من جهنم" (6) والعياذ بالله ويقول: "وأنا بشر"، يعني النبي صلى الله عليه وسلم بشر عندما يقضي، يقضي بالظواهر، أو بما يوضح له أمامه من كلام أو من قضية فعندئذٍ ربما يقضي له.

وفي قصة داود عليه السلام عندما جاءه الرجل الذي قال له: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) (صّ:23) أي غلبني بالحجة،

(قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (صّ: من الآية24) فالله سبحانه وتعالى أمر داود أو نبه داود عليه السلام وينبهنا جميعاً إلى أن الإنسان يجب أن يسمع من الطرفين حتى لا يقول كلاماً و لا يحكم ظلم (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (صّ: من الآية26).

ويجب على المسلم أن يراعي ألا يقول إلا الصدق، حتى وإن كان الذي يقول الصدق فيه قد يتصور أو يصور الشيطان الإنسان أنني إن قلت الصدق في هذه المسألة تضر بحبيب لي، أو عزيز، أو بابن، أو زوجة، أو أخ، أو صديق، أو هكذا لأبرئه، أو أبرئ ساحته على حساب آخرين. لا، هذا مما يحرم.

إن شهادة الزور من الموبقات والكبائر السبع، والعياذ بالله رب العالمين.

شاهد الزور ينطوي على الكذب، وينطوي على الخيانة، وينطوي على الافتراء، والله سبحانه وتعالى يقول: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (غافر: من الآية28).

ليس مسرفاً في المال فحسب، وإنما مسرف في أن يميل إلى جانب دون جانب, مسرف أن يميل إلى ما يهوى, ويميل إلى ما يحب قلبه من الناس ويحيف على الآخرين. لله الأمر من قبل وبعد.

ليس مسرفاً في المال فحسب وإنما مسرف في أن يميل إلى جانب دون جانب، مسرف أن يميل إلى ما يهوى، ويميل إلى ما يحب قلبه من الناس ويحيف على الآخرين، هكذا لله الأمر من قبل وبعد.

فبشهادة الزور الإنسان يبيح ما حرّم الله سبحانه وتعالى وما عصم الله سبحانه وتعالى من المال ومن الدم و من العرض، لماذا؟ لأن عندما يكذب الشاهد مثلاً ويقول: لا أنا أعرف أن هذه الأرض ملك لفلان وهذا العقار ملك لفلان وهو لا يكون كذلك فقد كذب وقد افترى، وقد تعدى على حقوق الآخرين، ونزع حقاً من صاحب الحق وأعطى حقاً لغير صاحب الحق. وهكذا فانظر إلى مرّكب المعاصي هذا كله. فهنا تكمن كارثة كبيرة، وجلل ضخم ومصيبة كبيرة يجب أن نتوب إلى الله سبحانه وتعالى منها.

أخوة الإسلام، أحبتي في الله إياكم وشهادة الزور. قل الحق ولو كان مراً، فإن الحق ثقيل كثقله يوم القيامة، وإن الباطل خفيف كخفته يوم القيامة.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطل وارزقنا اجتنباه.


===============================================
[1] )- صحيح سبق تخريجه (صـــ ).

[2] )- أخرجه البخاري في"صحيحه"(2/867) رقم (2326) ، ومسلم في"صحيحه" (3/1337) رقم (1713) من حديث أم سلمة، رضي الله عنها

[3] )- أخرجه البخاري في"صحيحه" (2/939) رقم (2511)، ومسلم في "صحيحه" (1/91) رقم(87) من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث، رضي الله عنه.

[4] )- رواه البخاري في"صحيحه" (3/1282) رقم (3288)، ومسلم في "صحيحه" (3/1351) رقم (1688) من حديث عائشة، رضي الله عنها.

[5] )- سبق تخريجه، وهو في"الصحيحين".

[6] )- الحديث المذكور أخرجه البخاري في"صحيحه" (2/952) رقم (2534)، ومسلم في "صحيحه" (3/1337) رقم (1713) من حديث أم سلمة، رضي الله عنها.