" قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ "(ق‏:4)‏


وتبدأ هذه السورة المباركة بالحرف الهجائي‏ (ق‏) ,‏ والمقطعات تعتبر من أسرار القرآن الكريم التي أوكلها أغلب المفسرين إلى علم الله سبحانه وتعالى وإن حاول البعض الاجتهاد في تفسيرها بما عرضناه في أكثر من مقال سابق‏ .‏ ويلي هذا الاستهلال قسم بالقرآن المجيد تعظيما لشأنه يقول ربنا تبارك وتعالى فيه‏ : ‏" ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ "‏ (ق‏:1)‏ . والله تعالى غني عن القسم لعباده‏ ,‏ ولكن إذا جاءت الآية القرآنية في صيغة القسم كان هذا من قبيل التنبيه إلى أهمية المقسم به وهو هنا القرآن المجيد‏ ,‏ وجواب القسم محذوف وتقديره ‏:‏ أقسم بالقرآن ذي المجد والشرف أنك يا محمد لرسولنا إلى العالمين تنذرهم بحتمية البعث بعد الموت‏ ,‏ وهي الحقيقة التي أنكرها كثير من الكفار والمشركين‏ .‏ وفي ذلك يقول ربنا تبارك وتعالى ‏:‏ " بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ .أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ* " (‏ق‏:2‏-‏3) .‏ أي تعجب كفار ومشركو قريش ومن بعدهم الكثيرون من أمثالهم من إرسال الله تعالى رسولا إليهم من البشر ينذرهم بحقيقة الآخرة وحتميتها‏ ,‏ وبضرورة العمل في الدنيا والاجتهاد من أجل النجاة في كل من الدنيا والآخرة‏ ,‏ وتوضح الآيات أن من أسباب تعجبهم من حقيقة الوحي ومن قضية البعث تحلل الأجساد إلى تراب بعد وفاة أصحابها‏ ,‏ وهم هنا يقيسون قدرة الله الخالق وهي مطلقة بلا حدود قدرات البشر القاصرة المحدودة وذلك بسبب سوء فهمهم لحقيقة الألوهية‏ ,‏ وقد كان ذلك من مآسي البشرية عبر تاريخها الطويل‏ .‏ ويرد عليهم الحق ـ تبارك اسمه ـ بقوله العزيز‏ : ‏" قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ . بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ " ‏(ق‏:4-5)‏ . أي هم في أمر مضطرب من سوء الفهم والعجز عن معرفة الحق الذي جاءهم به خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه ومنه‏ ,‏ حقيقة البعث لتوفيه الحساب في العالم الآخر‏ ,‏ لأن الجزاء قد لا يوفي في الدنيا‏ ,‏ وإذا فقد الإنسان إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد حقيقة رسالته في هذه الحياة‏ ,‏ فاختلطت عنده الأمور واضطربت المفاهيم اضطرابا شديدا فخسر الدنيا والآخرة معا‏ .‏

وفي الست آيات التالية‏ (6‏-‏11)‏ تعرض سورة ق عددا من الآيات الكونية الناطقة‏ .‏ بطلاقة القدرة الإلهية‏ ,‏ المبدعة في الكون والشاهدة للإله الخالق بأنه كما أبدع خلقه الأول فهو قادر على إفنائه وعلى إعادة خلقة من جديد أي بعثه‏ .‏ وتضيف الآيات‏ (12‏-‏14)‏ إشارة إلى عدد من الأمم السابقة التي كذبت رسل ربها فحق فيها وعيد الله تعالى بعقابهم في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأقوي‏ .‏ ومن هذه الأمثلة كانت أقوام كل من أنبياء الله نوح‏ ,‏ وهود وصالح وشعيب وموسي ولوط‏ ,‏ وأقوام أنبياؤهم غير معروفين لنا وذلك من أمثال أصحاب الرس‏ ,‏ وقوم تبع‏ ,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏ " كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ . وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ . وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ " (ق‏:12‏ ـ‏14) .‏
وهنا لفتة قرآنية مبهرة تقرر وحدة رسالة السماء‏ ,‏ والإخوة بين الأنبياء‏ ,‏ فكل من كذب برسول من رسل الله فقد كذب بحقيقة الوحي وبجميع الأنبياء والمرسلين‏ .‏
ويرد ربنا تبارك وتعالى على منكري البعث بقوله العزيز‏ :‏ " أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ "‏ (ق‏:15)‏ . أي أن الله سبحانه وتعالى يضرب مثلا بالخلق الأول على إمكانية البعث بعد الموت‏ ,‏ لأنه أوجد الكون من العدم فهو قادر على إفنائه إلى العدم وعلى إعادة خلقه من جديد‏ ,‏ والآية جاءت في صيغة الاستفهام التوبيخي التقريري التقريعي لكل منكر للبعث بعد الموت‏ .‏
وبعد ذلك تنتقل الآيات بنا إلى رحلة الإنسان بين الحياة والموت والبعث وهو مراقب مراقبة شديدة من الله وذلك في سرعة خاطفة فيقول ربنا جل جلاله ‏: ‏" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ . إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَانِ عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ . مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ . وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كَنتَ مِنْهُ تَحِيدُ . وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الوَعِيدِ . وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ . لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ "‏ (ق‏:16‏-‏22) . ‏والسائق والشهيد هما الملكان الكاتبان الحافظان لكل نفس في الحياة الدنيا‏ .‏ وتشير الآيات بعد ذلك إلى حوار بين كل مشرك وقرينه من الجن وقت الحساب في الآخرة فتقول‏ :‏ " وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ . أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ . مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ . الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي العَذَابِ الشَّدِيدِ . قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ "‏ ‏ ‏ (‏ق‏:23‏-‏27) .‏
وهنا يرد الجبار‏ (سبحانه وتعالى‏)‏ بقوله العزيز ‏:‏ " قَالَ لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ . مَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ . يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ . وَأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ . هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ . مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ . ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الخُلُودِ . لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ " (ق‏:28‏-‏35) .‏
وتعاود الآيات بالإشارة إلى هلاك الكفار والمشركين والطغاة المتجبرين من الأمم السابقة في الدنيا‏ ,‏ فلم يجدوا لهم من عذاب الله مفرا ولا مهربا‏ ,‏ وتؤكد أن في مصارع هؤلاء الكفار والمشركين تذكرة لكل من كان له قلب حاضر وأصغي إلى تلك الموعظة ليأخذ العبرة منها‏ ,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏ :‏ " وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي البِلادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ " (ق‏:36-37)‏ .
وفي الرد على مزاعم اليهود الباطلة التي ادعوا فيها أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة وأنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا تعب فاستراح يوم السبت‏ ,‏ والله منزه عن ذلك تنزيها كاملا ولذلك جاء قوله الحق‏ : ‏" وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ "‏ ‏(‏ق‏:38)‏ .
ثم يوجه الخطاب إلى خاتم أنبيائه ورسله فيقول‏ : ‏" فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ . وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ . وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ المُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ . يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الخُرُوجِ . إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا المَصِيرُ . يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ . نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ " (ق‏:39‏-‏45)‏ .
وفي ذلك تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه كل من الكفار والمشركين‏ ,‏ وفيه من التذكير بأهوال يوم الحشر ما فيه‏ ,‏ وهذا التثبيت والتذكير كما كانا للنبي والرسول الخاتم فهو لكل مؤمن به وتابع له إلى قيام الساعة في وجه كل معاند للإسلام وكل مكابر‏ .‏ والتذكير بصيحة البعث التي تأتي بالحق‏ ,‏ وهي النفخة الثانية في الصور والتي على أثرها يخرج الموتى من قبورهم بعد أن تشقق الأرض عنهم فيخرجون مسرعين إلى موقف الحساب استجابة لنداء المنادي‏ ,‏ فالله تعالى هو الذي يخلق الخلق ويحييهم في الدنيا كل إلى أجله‏ ,‏ ثم يميتهم كل عند أجله‏ ,‏ ثم يبعثهم للحساب والجزاء في الآخرة حين يؤول مصير كل شيء إليه سبحانه وتعالى ‏ .‏
وتختتم سورة ق بتأكيد من الله لخاتم أنبيائه ورسله ولكل مؤمن به إلى قيام الساعة بأنه تعالى يعلم ما يقول الكفار والمشركون والعصاة المتجبرون من تطاول على الله وعلى خاتم أنبيائه ورسله وعلى محكم كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ويهددهم الله الخالق بوعده ووعيده اللذين بعث بهما كل أنبيائه ورسله‏ ,‏ وختمهما في رسالته الخاتمة ‏:‏ القرآن الكريم وسنة النبي والرسول الخاتم الذي ما عليه إلا البلاغ للناس‏ ,‏ والتذكير بالقرآن لكل من يخاف وعيد الله سبحانه وتعالى وهذا هو دوره وحسبه‏ .

من ركائز العقيدة الإسلامية في سورة ق :
(1)‏ الإيمان بالله تعالى ربا واحدا أحدا‏ ,‏ فردا صمدا‏ ,‏ بغير شريك له في ملكه‏ ,‏ ولا منازع له في سلطانه‏ ,‏ ولا شبيه له من خلقه‏ ,‏ ولا صاحبة له ولا ولد‏ ,‏ وأنه سبحانه وتعالى هو الذي يحيي ويميت وإليه المصير‏ ,‏ وهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور‏ .‏
(2)‏ اليقين بأن القرآن الكريم هو كلام الله الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله‏ ,‏ وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية‏ ,‏ وحفظه كاملا في نفس لغة وحيه‏ (اللغة العربية‏)‏ على مدي الأربعة عشر قرنا الماضية‏ ,‏ وتعهد بهذا الحفظ إلى قيام الساعة وإلى أن يشاء الله‏ .‏
‏(3)‏ التسليم بحقيقة وحي السماء‏ ,‏ وبالأخوة بين الأنبياء‏ ,‏ وبوحدة الرسالة السماوية التي تكاملت وحفظت في القرآن الكريم وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم .‏
‏(4)‏ الإيمان بحقيقة البعث بعد الموت وبضرورته وحتميته‏ ,‏ وبأن الله تعالى قادر على تحقيقه بعد تحلل الأجساد وتحولها إلى تراب‏ ,‏ وقادر على أمر الأرض فتتشقق عن رفات الأموات‏ ,‏ وأمر السماء بإنزال ماء خاص فتنبت الخلائق من رفاتها كما تنبت البقلة من بذرتها‏ ,‏ ويخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر‏ ,‏ ويحشرون للحساب والجزاء‏ .
(‏5)‏ اليقين بأن الله سبحانه وتعالى يعلم مكان كل ذرة من ذرات جسد الميت بعد تحلله وتحوله إلى تراب الأرض وهو مدون عنده في كتاب حفيظ‏ .‏
(6)‏ التسليم بأن كل من يكذب بالحق الذي أنزله ربنا تبارك وتعالى على خاتم أنبيائه ورسله قد خسر الدنيا والآخرة لأنه يعيش مضطربا قلقا حائرا في هذه الحياة ويلقي في الآخرة في نار جهنم‏ .‏ والتأكيد على أن رسالة الأنبياء هي التذكير بهداية الله تعالى لخلقه‏ ,‏ وليس فرض الدين بالقوة‏ .‏
‏(7)‏ الإيمان بأن الله تعالى هو خالق كل شيء‏ ,‏ وقد خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه‏ ,‏ وهو سبحانه أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد‏ ,‏ وأنه تعالى لا يكل ولا يتعب‏ .‏
‏(8)‏ اليقين بأن الله تعالى قد وكل بكل إنسان ملكين يحصيان عليه ألفاظه وحركاته وسكناته ‏ (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد‏) .‏
‏(9)‏ التسليم بحقيقة أن الإنسان في سكرات الموت يري من الحق ما لا يراه وهو حي‏ ,‏ وروحه محبوسة في جسده الترابي‏ .‏
(10)‏ التصديق بحقيقة نفختي الصور‏ ,‏ وبحقيقة البعث‏ ,‏ وبأن كل نفس سوف يأتي معها سائق وشهيد‏ ,‏ وأن لكل إنسان قرينا من الجن‏ ,‏ وبأن الجنة حق وأن النار حق‏ .‏
‏(11)‏ الإيمان بضرورة الخضوع لله تعالى بعبادته كما أمر‏ ,‏ وبضرورة تسبيحه وتحميده عقب كل صلاة‏ ,‏ وبالليل والنهار‏ ,‏ والتأكيد على قيمة صلاة الليل‏ (التهجد‏) .‏

من الإشارات الكونية في سورة ق :
(1)‏ الإشارة إلى فضلة تبقي من رفات الأموات بعد تحللها‏ (عجب الذنب‏)‏ وهو ما أثبتته الدراسات العلمية أخيرا‏ .‏
‏(2)‏ وصف السماء بأنها بناء محكم والإشارة إلى زينة السماء الدنيا‏ .‏
‏(3)‏ استخدام تعبير‏ (مد الأرض‏)‏ لوصف كرويتها‏ ,‏ لأن المد بلا نهاية هو قمة التكوير‏ .‏
‏(4)‏ وصف الجبال بأنها رواسي للأرض ولألواح غلافها الصخري‏ ,‏ وهي حقيقة لم يدركها الإنسان إلا في أواخر القرن العشرين‏ .‏
‏ (5)‏ وصف الحياة بالزوجية المطلقة ليبقي ربنا تبارك وتعالى متفردا بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏ .‏
‏ (6)‏ الإشارة إلى دورة الماء حول الأرض‏ ,‏ وإلى إنزاله ماء مباركا من السماء ينبت الله تعالى به جنات وحب الحصيد وغير ذلك من صور الرزق للعباد‏ .‏
‏ (7)‏ وصف النخيل بأنها باسقات ووصف طلعها بالنضيد وهو وصف دقيق‏ .‏
‏ (8)‏ تشبيه خروج الموتى من قبورهم في يوم البعث بخروج النبات من الأرض بعد إنزال الماء عليها‏ ,‏ وبأن الخلق الحالي يشهد للخالق البارئ المصور بقدرته على البعث في خلق جديد بعد الموت‏ .‏
‏ (9)‏ ذكر أعداد من الأمم السابقة التي أهلكها الله تعالى بكفرها أو شركها وبتكذيب رسل الله إليها‏ ,‏ والدراسات الأثرية المتأخرة تؤكد صدق ذلك‏ .‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها‏ ,‏ ولذلك فسوف أقصر الحديث هنا وفي الحلقة القادمة على النقطة الأولي من القائمة السابقة والتي جاءت في قول ربنا تبارك وتعالى ‏: ‏" قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ‏ " (ق‏:4)‏ .
وقبل الوصول إلى ذلك أري من اللازم عرض أقوال عدد من المفسرين القدامى والمعاصرين في شرح دلالة هذه الآية الكريمة‏ .‏

من أقوال المفسرين :
في تفسير قوله تعالى ‏:‏ " قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ " (ق‏:4) .
(1) ذكر ابن كثير‏ (رحمه الله‏)‏ ما مختصره‏ : أي ما تآكل من أجسادهم في البلى‏ ,‏ نعلم ذلك ولا يخفي علينا أين تفرقت الأبدان‏ ,‏ وأين ذهبت وإلى أين صارت‏ (وعندنا كتاب حفيظ‏)‏ أي حافظ لذلك‏ ,‏ فالعلم شامل والكتاب أيضا فيه كل الأشياء مضبوطة‏ ,‏ قال ابن عباس‏ (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم‏)‏ أي ما تأكل من لحومهم وأبشارهم‏ ,‏ وعظامهم‏ ,‏ وأشعارهم ‏ . وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن‏ (رحم الله كاتبها‏)‏ ما نصه‏ :‏ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم‏ . .‏ أي ما تأكل الأرض من أجسادهم بعد الموت‏ ,‏ فكيف يستبعدون أن نرجعهم أحياء كما كانوا؟‏ (وعندنا كتاب حفيظ‏)‏ أي وعندنا مع علمنا بذلك كتاب حافظ تفاصيل الأشياء كلها‏ ,‏ كلياتها وجزئياتها‏ ,‏ ومنها أجزاؤهم وعددهم وأسماؤهم وأعمالهم‏ .‏ وهو تأكيد لعلمه تعالى بها بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده سبحانه‏ .‏ وذكر صاحب الظلال‏ (رحمه الله رحمة واسعة جزاء ما قدم‏)‏ كلاما جميلا جاء فيه‏:‏ لكأنما التعبير يجسم حركة الأرض ويحييها وهي تذيب أجسادهم المغيبة فيها‏ ,‏ وتأكلها رويدا رويدا‏ .‏ ويصور أجسادهم وهي تتآكل باطراد وتبلي ليقول‏:‏ إن الله يعلم ما تأكله الأرض من أجسادهم‏ ,‏ وهو مسجل في كتاب حفيظ‏ ,‏ فهم لا يذهبون ضياعا إذا ماتوا وكانوا ترابا‏ .‏ أما إعادة الحياة إلى هذا التراب‏ ,‏ فقد حدثت من قبل‏ ,‏ وهي تحدث من حولهم في عمليات الإحياء المتجددة التي لا تنتهي‏ .‏
‏(2) وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم ما نصه‏:‏ قد علمنا ما تأخذه الأرض من أجسامهم بعد الموت‏ ,‏ وعندنا كتاب دقيق الإحصاء والحفظ‏ .‏
‏(3) وجاء في صفوة التفاسير‏ (جزى الله كاتبها خيرا‏)‏ ما نصه‏: أي قد علمنا ما تنقصه الأرض من أجسادهم‏ ,‏ وما تأكله من لحومهم وأشعارهم ودمائهم إذا ماتوا‏ ,‏ فلا يضل عنا شيء حتى تتعذر علينا الإعادة‏ (وعندنا كتاب حفيظ‏)‏ أي ومع علمنا الواسع عندنا كتاب حافظ لعددهم وأسمائهم وما تأكله الأرض منهم‏ ,‏ وهو اللوح المحفوظ الذي يحصي تفصيل كل شيء ‏ . هذا وسوف نناقش الدلالة العلمية للآية القرآنية الكريمة الرابعة من سورة ق في مقال قادم إن شاء الله تعالى لتتضح قيمة توظيف الحقائق العلمية في تفسير الإشارات الكونية الواردة في كتاب الله‏ ,‏ ويثبت سبق القرآن الكريم بالإشارة إلى العديد من حقائق الكون قبل توصل العلوم المكتسبة إلى شيء منها بأكثر من عشرة قرون‏ ,‏ ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدرا لهذه الحقائق غير الإله الخالق‏ ,‏ مما يؤكد صدق القرآن الكريم وصدق نبوة الرسول الخاتم الذي تلقاه‏ ,‏ فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏ .‏