" أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ . فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ . إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ‏" (المرسلات‏:20-‏23)‏.


هــذه الآيات القرآنية الأربع جاءت في نهاية النصف الأول من سورة المرسلات وهي سورة مكية‏ ,‏ وآياتها خمسون بعد البسملة‏ ,‏ وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بالقسم بالمرسلات وهي الرياح اللطيفة‏ . وكطبيعة السور المكية يدور المحور الرئيسي لسورة المرسلات حول قضية العقيدة الإسلامية ومن ركائزها الأساسية الإيمان بالبعث بعد الموت وبما يواكبه من حساب وجزاء وخلود في الآخرة إما في الجنة ونعيمها للمؤمنين المتقين أو في النار وجحيمها للمكذبين المجرمين‏ .‏وقد شددت سورة المرسلات النكير على منكري البعث‏ ,‏ وهددتهم بالويل والثبور‏ ,‏ وعظائم الأمور‏ ,‏ مقابل كبرهم وعنادهم‏ ,‏ والساعة آتية لا محالة‏ ,‏ والبعث واقع لا فرار منه‏ ,‏ ولا فكاك عنه‏ .‏

استعراض سريع لسورة المرسلات :
تبدأ سورة المرسلات بقسم من الله تعالى ـ وهو الغني عن القسم لعباده ـ بخمسة أشياء عظيمة من خلقه تأكيدا علي ما فيها من شهادة له بطلاقة القدرة وعظيم الصنعة وإبداع الخلق‏ ,‏ وبالإلوهية والربوبية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه ـ بغير شريك ولا شبيه ولا منازع‏ ,‏ ولا صاحبة ولا ولد‏ ,‏ وفي ذلك تقول الآيات ‏:‏ " وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً*. فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً*. ‏ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً*. فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً*. فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً*. عُذْراً أَوْ نُذْراً " (المرسلات‏:1‏-‏6) .‏ واختلف المفسرون في تعيين هذه الأمور الخمسة المقسم بها هل هي من الظواهر الكونية‏ ,‏ أم من الملائكة القائمة على تنفيذ أوامر الله في الكون‏ ,‏ أم تشمل الأمرين معا؟ والظاهر أنها تشمل الأمرين معا وذلك لربط الآيتين الأولي والثانية بحرف العطف‏ (ف‏) ,‏ وفصلهما عن الآيتين الثالثة والرابعة بحرف العطف‏ (و‏) ,‏ وهما مربوطتان أيضا بحرف العطف‏ (ف‏) ,‏ وبذلك اعتبر القسم بالمرسلات قسما بالرياح التي يرسلها ربنا ـ تبارك وتعالى ـ بتصريفه‏ ,‏ من الإرسال وهو التسليط والتوجيه‏ .‏ و‏(‏عرفا‏)‏ أي متتابعة متلاحقة و‏ (العرف‏)‏ هو أيضا المعروف‏ ,‏ وعلى ذلك فإن القسم بـ‏ (المرسلات عرفا‏)‏ هو قسم بالرياح المتتابعة التي يرسلها ربنا ـ تبارك وتعالى ـ بالخير‏ , (فالعاصفات عصفا‏)‏ والعطف بالفاء هنا يشير إلى أنه من عطف الصفات‏ ,‏ والعاصفات هي الرياح فائقة الشدة التي تصل في شدتها إلى مستوي العاصفة أو الإعصار‏ ,‏ وبذلك يكون القسم بالرياح اللطيفة المتتابعة‏ (أي النسيم‏) ,‏ كما يكون بالعواصف المدمرة والأعاصير وكلها من تصريف الله‏ (سبحانه وتعالى‏)‏ ومتحركة بإرادته‏ ,‏ وأمره‏ ,‏ وحكمته‏ .‏ أما القسم الثاني فقد جاء بالملائكة‏ ,‏ وهم من أعظم خلق الله قوة‏ ,‏ وأكثرهم التزاما بطاعته وعبادته وحمده وتسبيحه وتمجيده‏ ,‏ وجاء وصف الملائكة بتعبير‏ (الناشرات‏)‏ لنشرهن أجنحتهن في الفضاء الكوني‏ ,‏ أو لنشرهن الهداية الربانية بالوحي إلى أنبياء الله ورسله بما يحيي النفوس التي أماتتها العقائد الفاسدة من الكفر والشرك وغيرها من صور الضياع التي تجعل كثيرا من الأحياء كأنهم موتى‏ .‏
وكذلك الإضافة بوصف‏ (الفارقات فرقا‏)‏ فإنها تعود أيضا على الملائكة الذين جعلهم الله ـ تعالى ـ بما يرسلهم به من أنوار الوحي السماوي ـ وسيلة للتفريق بين الحق والباطل‏ ,‏ في القضايا التي يعلم ربنا ـ تبارك وتعالى ـ بعلمه المحيط عجز الإنسان عن وضع ضوابط صحيحة لنفسه فيها من مثل قضايا العقيدة‏ ,‏ والعبادة والأخلاق‏ ,‏ والمعاملات‏ ,‏ وهي تشكل ركائز الدين‏ . ويؤكد هذا المعني الوصف الذي جاء في الآية الخامسة والتي تقول‏: "‏فالملقيات ذكرا‏ "‏ (المرسلات:5) أي ‏:‏ اللاتي تلقين الذكر إلى أنبياء الله ورسله ليبلغوه إلى الناس "‏ عذرا أو نذرا ‏"‏ (المرسلات:6) أي‏ :‏ إعذارا إلى الله وإنذارا منه ـ سبحانه وتعالى ,‏ أو إعذارا إلى الخلق بمعني إزالة لأعذار الخلق عند الله‏ ,‏ وتخويفا من عقابه عند عصيان أوامره‏ ,‏ وإن كان بعض المفسرين قد جعل الأوصاف الخمسة كلها للرياح‏ ,‏ ومنهم من جعلها كلها للملائكة‏ ,‏ ومنهم من غاير بينها كما أسلفنا‏ .‏ فقد قيل في‏ (الناشرات‏)‏ إنها هي الرياح التي تنشر السحاب وتسوقه إلى حيث أراد الله‏ .‏ ويأتي جواب القسم بقول ربنا ـ تبارك وتعالى " إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ‏"* (المرسلات‏:7)‏ .
أي بحق كل ما أقسمت به إن ما وعدتم به من قيام الساعة وما يصاحبها من البعث‏ ,‏ والحشر‏ ,‏ والحساب‏ ,‏ والجزاء‏ ,‏ والخلود إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا كل ذلك لواقع لا محالة‏ .‏
‏‏ وبعد ذلك تنتقل الآيات إلى وصف بعض الأحداث الكبرى المصاحبة لقيام الساعة فتقول ‏: ‏" فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ*. وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ‏.‏ وَإِذَا الجِبَالُ نُسِفَتْ . وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ .‏ لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ . لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ .‏ لِيَوْمِ الفَصْلِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفَصْلِ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ‏" (المرسلات‏:8‏-‏15) .

وطمس النجوم يعني ذهاب ضوئها في لحظات احتضارها‏ ,‏ وانفراج السماء أي تشققها بزوال القوي الماسكة بأطرافها وبأجرامها‏ ,‏ ونسف الجبال يعني زوالها باقتلاعها من جذورها وتذريتها في الهواء‏ ,‏ والتوقيت للرسل بوقت محدد وهو يوم الفصل بينهم وبين الخلائق من الذين كذبوهم في الدنيا‏ ,‏ وتطاولوا عليهم‏ ,‏ وأساءوا إليهم وحاربوهم‏ ,‏ ومن الذين آمنوا بهم ونصروهم وأيدوهم‏ ,‏ أو حملوا لواء دعوتهم من بعدهم بإخلاص وتجرد لله ـ تعالى ـ‏ ,‏ وقد أجل ربنا ـ تبارك وتعالى ـ ذلك كله إلى يوم الحساب الذي سماه باسم‏ (يوم الفصل‏)‏ وتهويلا لشأن هذا اليوم تسأل الآيات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما تسأل كل مؤمن برسالته فتقول‏ :‏ " وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفَصْلِ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ " (المرسلات‏:15,14) .‏ أي هلاك وعذاب شديد في هذا اليوم للذين كذبوا به‏ ,‏ واستهانوا بأمره‏ ,‏ وقد تكررت هذه الآية في سورة المرسلات عشر مرات‏ ,‏ عقب كل آية كذب بها الجاحدون من الكفار والمشركين‏ ,‏ تأكيدا على أن هذا الويل سوف ينال كل واحد منهم على قدر تكذيبه بما أنزل الله ـ تعالى ـ من علم‏ ,‏ بمعني إذا حصل كل ذلك وقع ما كنتم توعدون‏ .‏‏ ثم تنتقل الآيات لعرض مصارع الغابرين من المجرمين المكذبين بالدين وكل من تابعهم فتقول‏ : ‏" أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ . ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ .‏ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ " ‏‏(‏المرسلات‏:16‏-‏19) .‏ والاستفهام هنا للتقرير‏ ,‏ استدلالا على إمكان البعث قياسا على هلاك جميع المشركين الذين عاشوا قبل عصر النبوة المحمدية وبعده‏ ,‏ وقياسا على موت الأحياء من الخلق‏ ,‏ فالذي خلق الخلق من العدم وقرر الموت على كل مخلوق قادر على بعث من أماتهم‏ ,‏ وعلى إعادة خلق السماوات والأرض بعد تدمير كل شيء‏ .‏ ويفضي ذلك التقرير إلى التوبيخ على إنكار البعث من قبل العديد من الكافرين من خلق الله المكلفين‏ .‏

‏ وفي التأكيد على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في خلق الإنسان‏ .‏ ومن منطلق الاستفهام التوبيخي التقريعي للكفار والمشركين تذكرهم الآيات في سورة المرسلات بطلاقة القدرة الإلهية وبتواضع نشأة الإنسان فتقول‏ :‏ " أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ .‏ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ . إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ .‏ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ ‏.‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ‏"* (المرسلات‏:20‏-‏24) .‏
و‏(‏الماء المهين‏)‏ هو ماء التناسل‏ ,‏ و‏(‏القرار المكين‏)‏ هو رحم الأم‏ ,‏ و‏(‏القدر المعلوم‏)‏ هو مدة الحمل من لحظة تخلق الجنين إلى ولادته‏ ,‏ بتقدير محكم دقيق يشهد للخالق ـ سبحانه وتعالى ـ بطلاقة القدرة‏ ,‏ ومن هنا جاء التعليق بأن الذي لا يري في خلقه شهادة على ذلك‏ ,‏ ويكذب به فإن تهديده بهلاك يوم القيامة وأهواله وعذابه وبحتميته أمر واجب‏ .‏ ثم تنتقل الآيات إلى الإشادة بعدد آخر من نعم الله العديدة على عباده فتقول : ‏" أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً .‏ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً . وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتاً .‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ "‏ ‏(‏المرسلات‏:25‏-‏27)‏ . و‏(‏كفات‏)‏ اسم للشيء الذي‏ (يكفت‏)‏ فيه‏ ,‏ أي يجمع ويضم فيه‏ ,‏ والأرض تضم كلا من الأحياء والأموات ولذلك وصفت بالكفات‏ ,‏ مما يشير إلى قدرة الله البالغة بجعل الأرض كوكبا صالحا لحياة الإنسان‏ ,‏ وصالحا لدفن أمواته‏ ,‏ وفي ذلك تأكيد على أن مصير كل حي إلى تراب الأرض الذي خلق منه ابتداء مما يؤكد حتمية البعث منه‏ .‏و‏(‏الرواسي الشامخات‏)‏ هي الجبال المرتفعة التي جعلها الله ـ تعالى ـ مرسية للأرض ككل بالتقليل من ترنحها في دورانها حول محورها‏ ,‏ وإلا ما كانت صالحة للعمران‏ ,‏ ومرسية لألواح الغلاف الصخري للأرض الحاملة للقارات والمفصولة عن بعضها بشبكة من الصدوع‏ ,‏ والمتحركة باستمرار تباعدا عن بعضها البعض أو تصادما عبر شبكة الصدوع الفاصلة‏ ,‏ ولولا سلاسل الجبال لكانت هذه الحركات على قدر من العنف لا يسمح للحياة على ظهر هذا الكوكب بأن تتواجد‏ .‏والربط بين‏ (الرواسي الشامخات‏)‏ وإنزال‏ (الماء الفرات‏)‏ أي العذب هو ربط معجز لأن ارتطام السحب بالجبال ـ خاصة الطباقية منها ـ والمحملة ببخار الماء‏ (والمعروفة باسم المزن‏)‏ هو من الأسباب الأساسية لنزول ماء المطر‏ ,‏ وهو أنقي صور الماء الطبيعي على وجه الأرض‏ .‏وبعد ذلك تعرض الآيات لموقف من مواقف المكذبين في يوم الحساب حيث يقال لهم ‏:‏ " انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ .‏ انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ .‏ لاَ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ . إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ . كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ‏.‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ . هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ . وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ .‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ . هَذَا يَوْمُ الفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ . فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ .‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ "***‏(‏المرسلات‏:30‏-‏40)‏ .

أي تنطلق بهم ملائكة العذاب قسرا إلى جهنم التي كانوا يكذبون بها‏ ,‏ وأعيد الأمر بالانطلاق تأكيدا على التوبيخ‏ ,‏ والتقريع والإهانة‏ ,‏ والدفع‏ .‏وأريد بالظل دخان جهنم لكثافته‏ ,‏ ووصف بذلك تهكما واستهزاء بهم لتمنيهم ظلا يأوون إلى برده وسط نيران جهنم الحامية دون جدوى‏ .‏و‏ (الشعب‏)‏ جمع شعبة وهي الفريق من الشيء والطائفة منه‏ ,‏ و‏ (ظل ذي ثلاث شعب‏)‏ أي ذي ثلاث طوائف من الدخان لكثرته وشدة انضغاطه أثناء خروجه من النار‏ ,‏ أو ذي ثلاث درجات من الشدة‏ , (لا ظليل‏)‏ أي لا ظل حقيقي له‏ ,‏ ولا يدفع عنهم شيئا من شدة حرارة اللهب‏ .‏والضمير في‏ (إنها‏)‏ يعود إلى جهنم‏ (ترمي بشرر كالقصر‏)‏ هو ما يتطاير من نار جهنم في كل جهة‏ ,‏ كل‏ (شرارة‏)‏ منها تشبه القصر‏ (وهو البناء المرتفع‏)‏ في ضخامته‏ ,‏ أو‏ (القصرة‏)‏ وهي كتل الخشب الكبيرة التي توقد للتدفئة في الشتاء‏ .‏و‏(‏الجمالات الصفر‏)‏ هي جمع‏ (جمالة‏)‏ وهي الطائفة من الجمال‏ (الإبل‏)‏ السود‏ ,‏ وقيل لها‏ (صفر‏)‏ لأن سواد الإبل يضرب إلى الصفرة‏ ,‏ وبذلك شبهت الآيات الشرر الذي ينفصل عن نار جهنم في ضخامته بالقصر‏ (أو القصرة‏) ,‏ وفي اندفاعه وتتابعه بالإبل السود المائلة إلى الصفرة المندفعة في تزاحم وتدافع واضطراب‏ .‏ وتتحدث الآيات بأن المكذبين لا يستطيعون النطق في يوم الفصل من هول المفاجأة‏ , (ولا يؤذن لهم‏)‏ في الاعتذار والتنصل من جرائمهم إمعانا في إذلالهم فلا يعتذرون عما أجرموا في حق الله بالكفر أو الشرك به في الحياة الدنيا‏ .‏ ولذلك تخاطب الآيات هؤلاء الكفار والمشركين بقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ‏:‏ هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين أي جمع كل الخلائق من الأولين والآخرين‏ .‏ومن قبيل التوبيخ والتعجيز تقول الآيات للكفار والمشركين‏: " فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ‏"*** (المرسلات:39-40) .‏
والكيد قد يكون الحيلة لاتقاء العذاب في يوم القيامة‏ ,‏ كما قد يكون ما يكيد به الكفار والمشركون لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكل من الإسلام والمسلمين في الدنيا‏ ,‏ والمعنيان مقبولان بحسب السياق‏ ,‏ وإن كان المعنى الأول أولى بدلالة الآية التالية :‏ " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ‏"‏‏ وبالمقابل تنتقل الآيات إلى الحديث عن جزاء المتقين المحسنين في يوم الحساب فتقول‏: ‏" إِنَّ المُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ . وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ . كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ .‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ "‏‏ (‏المرسلات‏:41‏-‏44) .‏

و‏ (الظلال‏)‏ هنا ظلال الأشجار والقصور للترفيه والتنعيم والتكريم‏ ,‏ و‏(‏العيون‏)‏ عيون ماء ولبن وعسل وخمر‏ ,‏ و‏(‏فواكه‏)‏ جمع فاكهة وهي ما يتفكه به ويتنعم‏ , (مما يشتهون‏)‏ أي أن الفاكهة بعض من نعم الله ـ تعالى ـ عليهم‏ ,‏ وهي مضمومة إلى ملاذ أخرى مما اشتهوه‏ .‏ومقولة‏ : " كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " (المرسلات:43) , يقصد بها المزيد من تكريمهم بعرض أطايب الطعام والشراب عليهم مع الدعاء لهم بالهناء بتناوله جزاء لأعمالهم الصالحة في الدنيا‏ ,‏ ويؤكد لهم الله ـ جل شأنه ـ بأن هذه هي سنته في جزاء المحسنين من خلقه فيقول ‏: "‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ ‏"‏ (المرسلات:44) وهي جملة تقال لكل متق من العباد يصل إلى نعيم الجنة‏ ,‏ وقد تكون موجهة للمكذبين بعد أن وصف لهم ما ينعم به المتقون‏ ,‏ بمعني إنا كذلك نجزي المحسنين دون أمثالكم أيها المكذبون المسيئون الخاطئون‏ .‏‏‏ وتعاود سورة المرسلات توجيه الحديث مرة أخري إلى المكذبين بالدين فتقول‏ :‏ " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ . كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ‏" (المرسلات‏:45‏-‏49) .‏ والآيات تكرر من تأكيد الويل‏ (أي الهلاك‏)‏ للمكذبين في يوم الدين‏ ,‏ ومن قبيل الإمهال والإنذار في الدنيا تقول لهم‏:‏ إن متاع الدنيا قليل فكلوا وتمتعوا في الحياة الدنيا ثم مأواكم جهنم وبئس المصير في الآخرة جزاء إجرامكم بالكفر أو الشرك أو التكذيب بالدين‏ .‏‏‏ وتختتم سورة المرسلات بقول ربنا ـ تبارك وتعالى : " فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏" (المرسلات:50) بمعنى‏ :‏ إن لم يؤمن المكذبون بهذا القرآن الكريم ـ وهو الصورة الوحيدة من كلام رب العالمين المحفوظة حفظا كاملا على مدى الأربعة عشر قرنا الماضية فبأي حديث بعده يؤمنون؟ والاستفهام استنكاري‏ ,‏ تعجبي‏ ,‏ تقريعي لكل من يستمع إلى الحق الجلي في القرآن الكريم ولا يؤمن به‏ .‏



من ركائز العقيدة الإسلامية في سورة المرسلات :
‏(1)‏ الإيمان بأن الله ـ تعالى ـ هو الذي يصرف الرياح بعلمه‏ ,‏ وحكمته‏ ,‏ وإرادته‏ ,‏ ويرسل الملائكة بوحيه إلى أنبيائه ورسله من أجل تحقيق الهداية لخلقه‏ .‏
‏(3)‏ التصديق بكل ما جاء بالقرآن الكريم من علامات الآخرة من مثل طمس النجوم‏ ,‏ وانفراج السماء‏ ,‏ ونسف الجبال‏ ,‏ وغيرها‏ .‏
‏(4)‏ التسليم بحقيقة الوحي والنبوة والرسالة‏ ,‏ وبأن الرسل سوف يجمعون في يوم الفصل بين الخلائق ليسألوا كل عن أمته‏ .‏
‏(5)‏ الإيمان بأهوال يوم الفصل كما عرضها القرآن الكريم‏ ,‏ وبأن المكذبين بالدين سوف يتعرضون للهلاك والدمار في هذا اليوم العصيب‏ .‏
‏(6)‏ التصديق بهلاك المكذبين‏ ,‏ الذين كذبوا ببعثة الرسول الخاتم‏ ,‏ وأجرموا في الدنيا وأفسدوا فيها فالهلاك مآلهم جميعا‏ .‏
‏(7)‏ اليقين بطلاقة القدرة الإلهية المبدعة في خلق الإنسان من ماء مهين‏ ,‏ ورعايته في رحم أمه لحظة بلحظة لفترة محددة حتى مولده‏ ,‏ وخلق الأرض وتهيئتها لسكني الأحياء ولدفن الأموات‏ ,‏ وتثبيتها وإرسائها بالجبال التي تلعب دورا هاما في إنزال المطر بأمر من الله مما يشهد للخالق سبحانه وتعالى بالألوهية والربوبية والخالقية‏ .‏
‏(8)‏ التصديق بكل ما جاء بالقرآن الكريم من وصف لعذاب المكذبين بالدين في نار جهنم‏ ,‏ ووصف لتكريم وتنعيم المؤمنين العاملين‏ ,‏ المتقين المحسنين في روضات الجنة‏ .‏
‏(9)‏ الإيمان بأن القرآن الكريم من كلام رب العالمين المحفوظ بين أيدي الناس على مدى الأربعة عشر قرنا الماضية في نفس لغة وحيه‏ (اللغة العربية‏) ,‏ والذي تعهد ربنا ـ تبارك وتعالى ـ بحفظه إلى يوم الدين‏ ;‏ فإن لم يؤمن عقلاء الناس به فبأي حديث بعده يؤمنون؟ وقد دل على ذلك تردد الآية الكريمة‏ (ويل يومئذ للمكذبين‏)‏ عشر مرات في هذه السورة المباركة‏ .

‏من الإشارات الكونية في سورة المرسلات :
‏(1)‏ الإشارة إلى شدة الرياح من الهواء الخفيف‏ (أي النسيم العليل‏)‏ إلى العواصف والأعاصير‏ .‏
‏(2)‏ وصف نهاية النجوم بالطمس‏ ,‏ ونهاية السماء بالانفراج والتشقق‏ ,‏ ونهاية الجبال بالنسف‏ .‏
‏(3)‏ الإشارة إلى الموت كسنة من سنن الله الكونية‏ ,‏ وكصورة من صور الاستئصال والإهلاك للكفار والمشركين المكذبين برسالات الله وبرسله‏ .‏
‏(4)‏ الإشارة إلى خلق الإنسان من السوائل التناسلية‏ ,‏ ووصف تلك السوائل بالماء المهين‏ ,‏ ووصف كل من الرحم والغدد التناسلية بالقرار المكين‏ ,‏ ووصف مدة الحمل بالقدر المعلوم‏ .‏
‏(5)‏ وصف الأرض بأنها مهيأة لاحتواء الإنسان حيا وميتا‏ .‏
‏(6)‏ وصف الجبال بأنها رواسي شامخات‏ ,‏ وربطها بإنزال ماء المطر بأمر من الله ـ تعالى ـ نتيجة لاصطدام السحب بها‏ .‏
‏(7)‏ وصف ماء المطر بأنه ماء فرات أي شديد العذوبة‏ ,‏ والدراسات التحليلية تؤكد أن أنقي صورة طبيعية للماء على الأرض هو ماء المطر‏ .‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها‏ ,‏ ولذلك فسوف أقصر الحديث هنا على النقطة الرابعة من القائمة السابقة والتي تتحدث عن خلق الإنسان من ماء مهين‏ ,‏ وعلى جعله في قرار مكين إلى قدر معلوم‏ .‏

من الدلالات العلمية للآيات الكريمة :
أولا‏ :‏ في قوله تعالى :‏ " أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ‏"******(المرسلات:20)
المهين في اللغة هو الضعيف‏ ,‏ المبتذل الحقير‏ ,‏ ووصف ماء التناسل بهذا الوصف ربما كان لارتباط الجهازين التناسلي والبولي ببعضهما ارتباطا يجعل منهما جهازا واحدا‏ .‏
‏ويتكون الجهاز البولي التناسلي ‏(The Urogenital System)‏ من‏ :‏
‏(1)‏ أعضاء الجهاز البولي‏ (The Urinary Organs)‏ التي تقوم علي استخلاص البول من الدم‏ ,‏ وتخزينه تخزينا مؤقتا‏ ,‏ وإخراجه‏ .‏
‏(2)‏ وأعضاء التكاثر أو التناسل‏(The Reproductive Or Genital Organs)‏ التي تنمو ـ في غالبيتها ـ من نفس الأنسجة الجنينية
‏(The Embryonic Tissues)‏ التي تنمو منها أعضاء الجهاز البولي‏ ,‏ وتظل مرتبطة معها بنفس العلاقات الوثيقة التي بدأت بها طوال مراحل الحياة‏ ,‏ ومن هنا كان جمع الجهازين البولي والتناسلي في جهاز واحد يطلق عليه اسم الجهاز البولي - التناسلي‏ .‏
‏وتشمل الأعضاء البولية كلا من الكليتين وتقومان بنزع البول من الدم‏ ,‏ والحالبين ‏(Ureters)‏ ويحملان البول من الكليتين إلى المثانة
‏(Urinary Bladder)‏ حيث يخزن فيها تخزينا مؤقتا‏ ,‏ والإحليل ‏(Urethra)‏ الذي يخرج البول عبره إلى خارج الجسم‏ .‏ والإحليل في الذكر يخرج من المثانة إلى الموثة‏ البروستاتة‏ (Prostate)‏ حيث يتصل بقنوات الغدد التناسلية فتصبح بقيته‏ (وهي الجزء الأطول منه‏)‏ مسارا طبيعيا لكل من البول والسائل المنوي‏ (المني‏) ,‏ ومن هنا كان وصف القرآن الكريم هذا السائل بوصف الماء المهين‏ .‏
أما في الأنثى فيمثل الإحليل بجزء قصير يمتد من المثانة إلى فوهة الإحليل (UrethralOrifice) ‏ وهي فتحة في مقدمة المهبل‏ .‏

‏‏ ويتكون الجهاز التناسلي في الذكر من الخصيتين وأغلفتهما‏ (كيس الصفن‏) ,‏ وقنواتهما‏ ,‏ وحويصلاتهما المنوية (‏(The Seminal Vesicles ,‏ والموثة‏ (Prostate) ,‏ وغدد الإحليل البصلية‏ ,‏ والإحليل‏ ,‏ والأعضاء الخارجية وأغلفتها‏ .‏ والخصية ‏(Testis)‏ هي غدة تناسلية تخلق بداخلها النطف وهرمونات الذكورة‏ .‏ وتتكون الخصية من مجموعة هائلة من الفصوص يصل عددها إلى الأربعمائة بكل واحد منها ثلاث قنيات منوية (‏Seminiferous Tubules‏) دقيقة‏ ,‏ يبلغ طول الواحدة منها حوالي نصف متر‏ ,‏ وهي متعرجة‏ ,‏ وملتفة حول ذاتها ومكدسة بطول يصل إلى ستمائة متر‏ (400X3X2/1‏ متر‏=600‏م‏)‏ في حيز لا يزيد عن‏20‏ سم‏3 (4X2 ,5X2‏ سم‏)‏ وهذه القنيات‏ (تصغير قنوات‏)‏ قد وهبها الله ـ سبحانه وتعالى ـ القدرة على إفراز كل من النطف الذكرية وهرمونات الذكورة والدفع بها إلى البربخ (Epididymis‏) الذي تخزن فيه تلك النطف ويكتمل نموها‏ .‏ والبربخ عبارة عن قناة بطول حوالي ستة أمتار لافة على ذاتها في حيز لا يزيد على ستة سنتيمترات مكعبة في أعلى الخصية من الخلف‏ .‏
وتندفع النطف الذكرية من البربخ عبر قناة تعرف باسم قناة النطف الذكرية ‏(The Sperm Duct)‏ حتى تلتقي بقناة الحويصـــلة المنوية (‏The Seminal Vesicle ‏ )التي تفرز غذاء تلك النطف‏ ,‏ وتفرغ ما بها في الإحليل عبر الموثة التي تفرز بدورها سوائل تنشط النطف الذكرية‏ .‏
وقبل البلوغ ‏(11‏-‏13‏ سنة‏)‏ تمتلئ جدر قنيات النطف الذكرية التي تعرف باسم قنيات المني
(‏(Seminiferous Tubules‏ بخلايا تحمل العدد الكامل من الصبغيات المميزة للإنسان‏ (46‏ صبغي‏)‏ تعرف باسم الخلايا الضعفانية‏ (Diploid Cells)‏ التي تتكاثر بالانقسام الفتيلي ‏(Mitosis Division)‏ وتعرف باسم بذور النطف الذكرية (The Spermatogonia) .‏

وعند البلوغ تقوم بعض هذه الخلايا بالانقسام الانتصافي ‏(Meiosis Division)‏ لإنتاج النطف الذكرية التي يحمل كل منها نصف عدد الصبغيات المميزة لخلايا الإنسان‏ (أي‏23‏ صبغيا‏)‏ والتي تمر بمراحل الخلايا النطفية الأولية ‏(The Primary Spermatocytes) ,‏ ثم الخلايا النطفية الثانوية‏ (The Secondary Spermatocytes) ,‏ ثم بمرحلة أرومة النطفة الذكرية ‏(The Spermatid) ,‏ ومنها تتكون النطف الذكرية ‏(Sperms)‏ التي لا يتعدي عمرها ‏72‏ ساعة في المتوسط‏ .‏
ويتكون السائل المنوي‏ (المني‏)‏ من النطف الذكرية ومجموع السوائل المتكونة في كل من البربخ والحويصلة المنوية والموثة‏ ,‏ والتي يفرزها عدد من الغدد الصغيرة حول مجرى البول تدعي غدد كوبر‏ (وهو اسم مكتشفها‏) .‏‏ وفي الأنثى يتكون الجهاز التناسلي من المبيضين‏ ,‏ وأنابيب الرحم‏ ,‏ والرحم‏ ,‏ والمهبل‏ ,‏ والأعضاء الخارجية‏ ,‏ والغدد الدهليزية العظمى‏ ,‏ وغدد الثديين‏ ,‏ وعندما تقترب حويصلة النطفة الأنثوية‏ (البييضة‏)‏ الناضجة من حافة المبيض تنفجر ويندلق ماؤها الأصفر الذي يدفع بالبييضة إلى بوق قناة الرحم حتى تلتقي بالنطف الذكرية فيخصبها أحدها بإذن الله تعالى‏ .‏ وماء البييضة يحملها تماما كما يحمل ماء الرجل النطف الذكرية‏ ,‏ وكلاهما ـ على روعة تكوينه ـ لا يعدو أن يكون ماء مهينا كما وصفه القرآن الكريم من قبل ألف وأربعمائة سنة‏ ,‏ وذلك نابع أساسا من ارتباط الجهازين التناسلي والبولي في كل من الذكر والأنثى‏ ,‏ ولأن هذا الماء يراق ويسفح‏ ,‏ ويهان ولا يكرم حتى يشاء الله ـ تعالى ـ لجزء منه القيام بالدور الذي خلق من أجله وهو التكاثر‏ .‏

ثانيا ‏:‏ في قوله تعالي ‏:‏ " فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ " (المرسلات:21)
يذهب كل من الأطباء والمفسرين إلى أن المقصود بـ‏ (القرار المكين‏)‏ في كل من الآيتين الكريمتين رقم‏(13)‏ من سورة المؤمنون ورقم‏(21)‏ من سورة المرسلات هو الرحم الذي يحتضن النطفة الأمشاج طوال مراحل نموها المتتالية حتى تولد طفلا كامل الخلقة سوي التكوين‏ .‏ والقرار هو محل القرور والمكث‏ ,‏ ومكين صفة للقرارة ومعناها حصين‏ .‏

والرحم عضو عضلي أجوف سميك الجدار يقع في منتصف جسم الأنثى فوق كل من المثانة والجزء العلوي من المهبل‏ ,‏ كمثري الشكل في ثلثيه العلويين‏ ,‏ واسطواني في ثلثه الأسفل‏ ,‏ ويضيق قليلا عند نهايته السفلي التي تمتد إلى الجزء العلوي من فراغ المهبل‏ ,‏مما يساعد علي تثبيت الرحم في موضعه‏ .‏ ويتكون جدار الرحم من طبقات ثلاث‏:‏ خارجية رقيقة من مادة بريتونية‏ ,‏ ووسطي ثخينة مكونة من مواد عضلية في ثلاث طبقات‏ ,‏ وداخلية غشائية‏ .‏ ويحاط عنق الرحم والجزء العلوي من المهبل بنسيج خلوي ضام يربط الرحم بكل من المهبل والمثانة‏ .‏
كذلك يمسك بالرحم في موضعه مجموعة من الأربطة والصفاقات المتعددة التي تثبته في مكانه‏ ,‏ وفي نفس الوقت تسمح له بالاتساع التدريجي في مراحل الحمل المتتالية ليتضاعف حجمه في مراحله المتأخرة إلى ثلاثة آلاف ضعف حجمه قبل الحمل‏ ,‏ وعلى الرغم من ذلك يبقي الرحم مثبتا بأربطته في مكانه من تجويف البطن‏ .‏ والرحم محمي كذلك بعظام الحوض وهي من أقوى أجزاء الهيكل العظمى للمرأة‏ ,‏ وهو أيضا مثبت تثبيتا محكما بعضلات كل من الحوض والعجان ‏(Perineum) .‏
ويذهب الأستاذ الدكتور كريم حسنين إلى أن مدلول التعبير القرآني‏ (قرار مكين‏)‏ هو غدد التناسل في الإنسان‏ (Gonads)‏ وهما الخصيتان في الذكر‏ (Testes)‏ والمبيضان في الأنثى ‏(Ovaries)‏ على اعتبار أن غدد التناسل هي مستقر النطف ومنبعها في جسد الإنسان‏ ,‏ وأن الضمير في‏ (جعلناه‏)‏ يعود على‏ (الماء المهين‏) ,‏ وأن لفظة‏ (قرار‏)‏ لغويا هو مستقر ومصدر للماء‏ ,‏ والمعنى الأول أولي بالإتباع مع إمكانية قبول المعنى الثاني واليقين بأن خلق الله ـ تعالى ـ مقدر بدقة بالغة سواء في غدد التناسل أو في الرحم أو في غيرهما من أجزاء جسم الإنسان‏ .‏ ويدعم ذلك قول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ في سورة المؤمنون‏ :‏ " ثُمَّ جَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ " ‏(المؤمنون:13) ,‏ والضمير في‏ (جعلناه‏)‏ هنا يعود على الإنسان وقوله ـ تعالى ـ " وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ‏" (الحج‏:‏5) .

ثالثا‏:‏ في قوله تعالي‏ :‏ " إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ‏. فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ "**** (المرسلات:22-23) .
في اللغة العربية‏ (قدر‏)‏ الشيء مبلغه‏ (وهو بسكون الدال وفتحها‏)‏ و‏(‏قدر‏)‏ الله و‏(‏قدره‏)‏ عظمته‏ ,‏ قال ـ تعالى (وما قدروا الله حق قدره) أي ما عظموه حق تعظيمه‏ .‏و‏(‏القدر‏)‏ و‏(‏القدر‏)‏ أيضا هو ما يقدره الله ـ تعالى ـ من القضاء‏ ,‏ قال تعالى‏:‏ وكان أمر الله قدرا مقدورا‏ ,‏ و‏(‏القدر‏)‏ كذلك هو وقت الشيء‏ (المقدر‏)‏ له والمكان‏ (المقدر‏)‏ له‏ ,‏ قال ـ تعالى ـ‏:‏ إلى قدر معلوم‏ .‏ويقال ‏:‏ إلى عليه‏ (مقدرة‏)‏ بكسر الدال وفتحها أي‏ (قدرة‏) ,‏ ورجل ذو‏ (مقدرة‏)‏ بضم الدال أي ذو يسار‏ ,‏ أما‏ (المقدرة‏)‏ بفتح الدال فهي من القضاء والقدر‏ .‏ ويقال‏: (قدر‏)‏ على الشيء‏ (قدرة‏)‏ و‏(‏قدرانا‏)‏ بضم القاف‏ ,‏ كما يقال‏: (قدر‏) (يقدر‏) (قدرة‏)‏ أي استطاع‏ .‏
ويقال‏: (قدر‏)‏ الشيء‏ (قدره‏) (تقديرا‏)‏ و‏(‏مقدارا‏)‏ من التقدير وهو تبيين كمية الشيء‏ ,‏ أو من إعطاء القدرة‏ ,‏ يقال‏:‏ قدرني الله على كذا أي قواني عليه‏ .‏
ويقال‏: (قدر‏)‏ الشيء فـ‏ (انقدر‏)‏ أي جاء علي‏ (المقدار‏) ,‏ و‏(‏قدر‏)‏ علي عياله أي ضيق عليهم بمعني قتر وذلك من مثل قوله ـ تعالى :‏ (ومن قدر عليه رزقه‏)‏ أي ضاق عليه رزقه‏ .‏ويقال ‏: (آستقدر الله خيرا‏) ,‏ و‏(‏تقدر‏)‏ له الشيء أي تهيأ له‏ ,‏ و‏(‏الاقتدار‏)‏ علي الشيء هو‏ (القدرة‏)‏ عليه‏ .‏و‏(‏القدرة‏)‏ إذا وصف بها الإنسان فهي اسم لهيئة له بها يتمكن من فعل شيء ما‏ ,‏ وإذا وصف بها الله ـ تعالى ـ فهي‏ (القدرة المطلقة‏)‏ على كل شيء‏ ,‏ التي ينتفي بها العجز من كل وجه‏ ,‏ و‏(‏القدير‏)‏ هو الفاعل لما يشاء على‏ (قدر‏)‏ ما تقتضي الحكمة‏ ,‏ فلا يصح أن يوصف غير الله ـ تعالى ـ بـ‏ (القدير‏) ,‏ و‏(‏المقتدر‏)‏ يقاربه‏ ,‏ لكن قد يوصف به البشر‏ .‏
و‏(‏تقدير‏)‏ الله الأشياء على وجهين‏ ,‏ أحدهما‏:‏ بإعطاء القدرة‏ ,‏ والثاني‏:‏ بأن يجعلها على مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسبما اقتضت الحكمة‏ ,‏ قال ـ تعالى : " قد جعل الله لكل شيء قدرا‏" ,‏ وقال ـ عز من قائل : " فقدرنا فنعم القادرون "‏‏ (المرسلات:23) وقال ـ وقوله الحق ـ‏:‏" إنا كل شيء خلقناه بقدر"‏‏ و‏(‏التقدير‏)‏ من الإنسان على وجهين أحدهما‏:‏ التفكر في الأمر بتعقل وروية وذلك محمود‏ ,‏ والثاني‏ :‏ أن يكون بحسب التمني والشهوة وذلك مذموم‏ ,‏ وفيه يقول تعالى ‏:‏ " إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ‏ . ‏ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏"********* (‏المدثر‏18‏و‏19)‏ .

ونفهم من قول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ‏:‏ " إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ‏" (المرسلات‏:22) .‏ أي‏:‏ ألم نجعل عملية خلق الواحد منكم في رحم أمه عملية مؤخرة مؤجلة إلى وقت معلوم قدره الله ـ تعالى ـ له‏ ,‏ بمقدار محدد من الزمن وهو فترة الحمل‏ (وأقلها ستة أشهر قمرية أي حوالي‏177‏ يوما‏ ,‏ وأكثرها تسعة أشهر قمرية أي حوالي‏266‏ يوما في المتوسط‏) ,‏ ومنكم من يكمل هذه المدة‏ ,‏ ومنكم من لا يكملها‏ ,‏ فقدرنا أطوار خلقكم حتى أخرجناكم من بطون أمهاتكم أطفالا كاملي الخلقة‏ ,‏ أسوياء التكوين أو غير ذلك‏ .‏ ونفهم من قول ربنا ـ جل شأنه ـ‏:‏ " فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ ‏" (‏المرسلات‏:23) .‏ أن الله ـ تعالى ـ يصف لنا طلاقة قدرته في إبداعه لخلقه وهذه الآية الكريمة تقرأ بتخفيف الدال في قوله ـ تعالى ـ‏: (فقدرنا‏)‏ كما تقرأ بتشديدها‏ (فقدرنا‏) ,‏ والكلمة بالتخفيف تأتي من‏ (القدرة‏)‏ بمعني فقدرنا على ذلك‏ (فنعم القادرون‏)‏ عليه نحن‏ ,‏ قدرة مطلقة بلا حدود‏ .‏
والكلمة بالتشديد‏ (فقدرنا‏)‏ تأتي من‏ (التقدير‏)‏ أي تقدير الخلق والتصوير تقديرا محكما في مراحل متتالية من النطفة الأمشاج إلى العلقة فالمضغة‏ ,‏ فالعظام‏ ,‏ فكسوة العظام باللحم‏ (العضلات والجلد‏) ,‏ ثم إنشاؤه خلقا آخر‏ (فتبارك الله أحسن الخالقين‏) ,‏ ثم قدرنا الوقت الذي يولد فيه‏ ,‏ وكان تقديرنا أفضل تقدير وأحكمه فشهد ذلك التقدير للخالق ـ سبحانه وتعالى ـ بطلاقة القدرة وإحكام الخلق ومن هنا قال رب العالمين ـ وهو أصدق القائلين‏ : " فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ ‏" (‏المرسلات‏:23) و‏(‏القادرون‏)‏ اسم فاعل من‏ (قدر‏)‏ لأن القدرة الإلهية لما أتت بما هو مقتضي الحكمة كانت قدرة جديرة بالثناء والتقدير‏ .‏ فمن كمال القدرة شمولية التقدير‏ .‏والتأكيد على خلق الإنسان من ماء التناسل‏ ,‏ ووصفه بأنه ماء مهين أي ضعيف‏ ,‏ مبتذل‏ ,‏ حقير‏ ,‏ وارتباطه بالجهاز البولي يؤكد ذلك‏ ,‏ وضعف النطف فيه يدعمه كذلك‏ ,‏ ووصف أي من غدد التناسل أو الرحم أو كل منهما بالقرار المكين‏ ,‏ وتحديد المدة‏ (إلى قدر معلوم‏)‏ يشهد للخالق بطلاقة القدرة‏ ,‏ وعظيم الصنعة وإبداع الخلق‏ .‏

كل ذلك من المعارف السابقة بأكثر من اثني عشر قرنا‏ ,‏ للعلوم المكتسبة في علم الأجنة‏ ,‏ ومما يشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية‏ ,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله‏ ,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏ (اللغة العربية‏)‏ وحفظه حفظا كاملا على مدي يزيد على أربعة عشر قرنا‏ ,‏ وتعهد ـ سبحانه وتعالى ـ بهذا الحفظ إلى ما شاء‏ ,‏ فالحمد لله على نعمة الإسلام‏ ,‏ والحمد لله على نعمة القرآن‏ ,‏ والحمد لله على بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين وسيد الخلق أجمعين ‏: ‏سيدنا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين‏ ,‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏ .‏