" وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ‏.. " (‏ البقرة‏:31)‏.


هذا النص القرآني الكريم جاء في الربع الأول من سورة البقرة، وهي سورة مدنية‏,‏ وعدد آياتها‏286‏ بعد البسملة‏,‏ وهي أطول سور القرآن الكريم على الإطلاق‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى تلك المعجزة التي أجراها ربنا‏ ـ‏ تبارك وتعالى‏ ـ‏ على يدي نبيه موسى‏ ـ‏ على نبينا وعليه من الله السلام‏ ـ حين تعرض شخص من أتباعه للقتل ولم يعرف القاتل، فأوحى إليه الله‏ ـ‏ تعالى ـ‏ أن يأمر قومه بذبح بقرة‏,‏ وأن يضربوا الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله‏,‏ ويخبرهم عن قاتله ثم يموت‏؛‏ وذلك إحقاقاً للحق‏,‏ وشهادة لله‏ ـ‏ تعالى ـ‏ بالقدرة على إحياء الموتى ‏.‏ ومن مزايا هذه السورة المباركة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أوصى بقراءتها في البيوت فقال ‏:‏ " لا تجعلوا بيوتكم مقابر‏,‏ إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة " (‏ أخرجه مسلم والترمذي‏) .‏
‏وقال ـ‏ عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ـ أيضاً ‏:‏ " اقرءوا سورة البقرة‏,‏ فإن أخذها بركة‏,‏ وتركها حسرة‏,‏ ولايستطيعها البطلة (‏ أي السحرة‏) "‏‏ ‏(‏رواه مسلم‏)‏ .
ويدور المحور الرئيسي لسورة البقرة حول قضية التشريع الإسلامي في العبادات والأخلاق والمعاملات‏,‏ بالإضافة إلى عدد من ركائز العقيدة الإسلامية وفي مقدمتها الإيمان بالله‏,‏ وملائكته‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله‏,‏ واليوم الآخر‏,‏ وتنزيه الخالق‏ ـ‏ سبحانه وتعالى ـ عن كل وصف لا يليق بجلاله وعن جميع صفات خلقه‏ .‏
كذلك حددت السورة الكريمة صفات كلٍ من المؤمنين‏,‏ والكافرين‏,‏ والمنافقين‏,‏ وسجَّلت قصة خلق الإنسان ممثلة في أبوينا آدم وحواء ـ‏ عليهما من الله السلام‏ ـ‏ وأشارت إلى عدد من أنبياء الله ورسله ، مثل إبراهيم‏,‏ وولده إسماعيل‏.‏ وحفيده يعقوب‏,‏ وموسى‏,‏ وداود‏,‏ وسليمان، وعيسى ابن مريم ـ على نبينا وعليهم أجمعين أفضل السلام وازكى التسليم‏ .‏
وتناولت سورة البقرة أهل الكتاب بإسهاب وصل إلى أكثر من ثلث السورة‏,‏ وخُتمت بإقرار حقيقة الإيمان، وبدعاء إلى الله‏ ـ‏ تعالى‏ ـ‏ يهز القلب والروح والعقل معا‏ًً .‏
ويمكن إيجاز أهم معطيات سورة البقرة فيما يلي ‏:

أولا‏ًً :‏ ركائز العقيدة الإسلامية في سورة البقرة‏ :‏
‏(1)‏ الإيمان بالقرآن الكريم آخر الكتب السماوية التي أنزلها الله ـ‏ تعالى‏ ـ‏ بالحق‏,‏ والتصديق بسنة خاتم الأنبياء والمرسلين ـ‏ صلى الله عليه وسلم‏ ـ‏ وقد تعهد ربنا‏ ـ تبارك وتعالى ـ بحفظ رسالته الخاتمة المحتواة في هذين المصدرين من مصادر الهداية الربانية في ذات اللغة التي أوحيت بها‏ ـ اللغة العربية‏ ـ‏ وحفظها على مدى أربعة عشر قرناً أو يزيد‏‏ وإلى قيام الساعة؛ تحقيقاً للوعد الإلهي الذي قطعه ربنا‏ ـ‏ تبارك وتعالى ـ على ذاته العلية، فقال ـ‏ عز من قائل ـ : " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " (الحجر:9) .‏
ونظراً لهذا الحفظ الدقيق للقرآن الكريم بصفائه الرباني‏,‏ وإشراقاته النورانية‏,‏ كان معجزاً في كل أمر من أموره‏,‏ وبذلك تحدى الله‏ ـ‏ تعالى‏ ـ‏ الجن والانس متعاضدين أن يأتوا بسورة من مثله‏,‏ ولا يزال هذا التحدي قائماً دون أن يستطيع أحد من العقلاء أن يجابهه ‏.‏
‏(2)‏ الإيمان بالغيب الذي أنزله ربنا ـ تبارك وتعالى ـ في محكم كتابه وفي سنة خاتم انبيائه ورسله ـ صلى الله عليه وسلم ـ انطلاقاً من الإيمان بالله الواحد الأحد‏,‏ الفرد الصمد‏,‏ الذي لم يلد ولم يولد‏,‏ ولم يكن له كفواً أحد‏,‏ ومن الإيمان بملائكته‏,‏ وبجميع كتبه ورسله‏,‏ بغير تمييز‏‏ ولا تفريق‏,‏ وباليوم الآخر الذي ترجع فيه كل الخلائق إلى الله خالقها‏,‏ والإيمان بالخلود في الآخرة إما في الجنة أبداً‏,‏ أو في النار أبدا‏ًً .‏

‏(3)‏ الإيمان بأن الله ـ تعالى ـ هو خالق كل شيء‏,‏ وأنه على كل شيء قدير‏,‏ وأن من خلقه السماوات السبع والأرضين السبع‏,‏ وأنه ـ تعالى ـ أحيا الخلق من العدم‏,‏ وأنه سوف يميتهم فرداً فرداً‏,‏ ثم يحييهم بعثاً واحداً ليعودوا إلى بارئهم‏ ـ‏ سبحانه وتعالى‏ ـ‏ الذي يعلم غيب السماوات والأرض، فيحاسبهم ويجازيهم وهو الرحمن الرحيم‏,‏ وأنه ـ تعالى ـ شديد العقاب‏,‏ وقد وصف ذاته العلية بقوله‏ ـ عز من قائل‏ ـ :‏ " اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ‏ " (‏ البقرة‏:255)‏ .
‏(4)‏ الإيمان بوحدة الجنس البشري‏,‏ وبانتهاء نسبه إلى أبوينا‏ :‏ آدم وحواء‏ ـ عليهما من الله السلام‏ ـ ومن هنا كان وجوب العمل على نبذ جميع أشكال العصبيات العرقية والدينية والاجتماعية، وتلك التي يمكن أن تبني على أي أساس آخر ‏.‏
‏(5)‏ الإيمان بأن الله ـ‏ تعالى ـ قد علم آدم الأسماء كلها‏,‏ وبذلك يكون الإنسان قد بدأ وجوده عالماً عابداً‏,‏ وليس جاهلاً كافراً كما يدعي أصحاب الدراسات الوضعية في علم الإنسان ‏.‏
‏(6)‏ الإيمان بوحدة رسالة السماء‏,‏ وبالأخوة بين جميع الأنبياء الذين أرسلهم الله ـ‏ تعالى ـ‏ بالإسلام الصافي‏,‏ والتوحيد الخالص لجلاله‏,‏ وقد تكاملت رسالاتهم جميعاً في الرسالة الخاتمة التي بعث بها النبي الخاتم والرسول الخاتم‏ ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏ الذي بعثه الله‏ ـ تعالى‏ ـ‏ بالحق بشيراً ونذيراً للعالمين إلى يوم الدين‏ .‏
‏(7)‏ الإيمان بتنزيه الله ـ تعالى‏ ـ‏ عن كل وصف لا يليق بجلاله‏,‏ واليقين بأن الشرك من أبشع صور الكفر بالله‏,‏ وأن من الكفر بالله كذلك منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه‏,‏ أو السعي في خرابها‏ .‏
‏(8)‏ الإيمان بأن الشيطان للإنسان عدو مبين‏,‏ وأنه يأمر بالسوء والفحشاء‏,‏ ويغري العباد بأن يقولوا على الله ما لا يعلمون‏,‏ ومن هنا كانت مخالفته ورفضه من الأمور الواجبة على كل مسلم ومسلمة‏؛‏ اعتصاماً بحبل الله المتين‏,‏ ونجاة من وساوس هذا اللعين‏,‏ وللتأكيد على ذلك عرضت السورة الكريمة لقصة الشيطان مع أبوينا آدم وحواء‏ ـ‏ عليهما السلام‏ ـ حتى تم إخراجهما من الجنة بوسوسته وغوايته‏,‏ ثم توبتهما‏,‏ وقبول الله ـ تعالى ـ تلك التوبة‏,‏ وأن ذنب هذه المعصية لا يطول أحداً من ذريتهما أبداً؛ لأن ذلك يتنافى مع العدل الإلهي المطلق الذي قرره ربنا بقوله‏ ـ عز من قائل‏ ـ : "‏ أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى . وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى " ‏ (‏ النجم‏:39,38)‏ .
‏(9)‏ الإيمان بأن دين الله‏ ـ وهو الإسلام ـ مبني على السماحة واليسر‏,‏ وعلى رفع الحرج عن الخلق‏,‏ وأن من أصوله الثابتة أنه "لا إكراه في الدين" ‏(‏البقرة‏:256) .‏
‏(10)‏ الإيمان بحتمية الآخرة وبضرورتها، وبضرورة الخوف من فجائيتها وأهوالها، وفي ذلك يقول الحق‏ ـ‏ تبارك وتعالى ـ :‏ " وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ "

‏(‏ البقرة‏:281)‏ .
ثانيا‏ًً :‏ من أسس العبادة في سورة البقرة ‏:‏
‏(1)‏ إقامة الصلاة‏,‏ وإيتاء الزكاة‏,‏ وصوم رمضان‏,‏ وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا‏ًً,‏ والالتزام بآداب كل عبادة من هذه العبادات‏,‏ والإنفاق في سبيل الله‏,‏ والإحسان إلى الخلق بصفة عامة‏,‏ واليقين بأن ذلك كله كان من متطلبات العبادة في كل الشرائع السماوية السابقة، وكلها كانت إسلاماً لله‏ .‏
‏(2)‏ الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله‏‏ ردعاً للمعتدين والغاصبين والمتجبرين‏,‏ فالقتال مشروع في الإسلام لدفع الظالمين المغيرين على أراضي المسلمين‏,‏ المعتدين على دمائهم وأموالهم وأعراضهم ومقدساتهم ودينهم؛ وذلك صوناً لكرامة الإنسان، وإقامة لعدل الله في الأرض‏,‏ وإعزازاً للدين الذي لايرتضي ربنا ـ‏ تبارك وتعالى ـ‏ من عباده ديناً سواه‏ .‏
‏(3)‏ التوجه بالدعاء إلى الله‏ ـ‏ تعالى ـ ‏ وحده في الأوقات المفضلة مع الالتزام بآداب الدعاء ‏.‏
‏(4)‏ مراعاة حرمة الأشهر الحرم وتوقيرها‏,‏ وإقامة السنن التي شرعها لنا الله‏ ـ تعالى ـ‏ ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها‏ .‏
‏(5)‏ التزام تقوى الله ـ‏ تعالى ـ‏ في كل حال‏ .‏

ثالثا‏ًً :‏ من مكارم الأخلاق التي دعت إليها سورة البقرة‏ :‏
‏(1)‏ الصبر في البأساء والضراء وحين البأس ‏.‏
‏(2)‏ الوفاء بالعهود والمواثيق ‏.‏
‏(3)‏ الشجاعة والإقدام وحب الاستشهاد في سبيل الله‏ .‏
‏(4)‏ الجرأة في مناصرة الحق‏,‏ وإعلان الرأي‏,‏ وعدم كتمان الشهادة‏ .‏
‏(5)‏ الجود والكرم والإنفاق في سبيل الله‏ .‏
‏(6)‏ الحرص على العمل الصالح‏,‏ وقول المعروف‏,‏ والعفو عن الناس ‏.‏
‏(7)‏ المبالغة في بر الوالدين، والإحسان إلى ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وإلى الناس كافة دون منٍّ أو أذى ‏.‏
‏(8)‏ تجنب المال الحرام بكافة صوره وأشكاله‏,‏ ومن أبرز أشكاله الربا‏,‏ والرشوة‏,‏ والسرقة‏,‏ والغش‏,‏ وغير ذلك من صور التحايل الباطل على الكسب الحرام‏ .‏
رابعا‏ًً :‏ من التشريعات الإسلامية في سورة البقرة‏ :‏
‏(1)‏ فصلت سورة البقرة أحكام الأسرة المسلمة من الخِطْبة إلى الزواج‏,‏ وتعرضت للحالات الطارئة ، مثل الطلاق‏,‏ والمتعة‏,‏ والرضاعة‏,‏ والعدة وغيرها‏,‏ وأمرت باعتزال النساء في المحيض، ونهت عن نكاح المشركات والمشركين حتى يؤمنوا ‏.‏
‏(2)‏ عددت هذه السورة الكريمة المحرمات من الطعام ، مثل الميتة‏,‏ والدم‏,‏ ولحم الخنزير‏,‏ وما أُهلَّ به لغير الله‏,‏ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، كما حرمت كلاً من الخمر والميسر‏ .‏
‏(3)‏ وشرعت القصاص في القتلى حماية للمجتمعات الإنسانية من انحراف المنحرفين وإجرام المجرمين‏ .‏
‏(4)‏ وحضت على كتابة الوصية قبل الموت، وحرمت وجرمت تبديلها أو إخفاءها‏ .‏
‏(5)‏ وحرمت أكل أموال الناس بالباطل‏ .
‏(6)‏ ووضعت ضوابط للتعامل بالدين‏ .‏
‏(7)‏ وحرمت التعامل بالربا تحريماً قاطعا‏ًً .‏
(8)‏ وحضَّت على رعاية اليتيم حتى يبلغ أشده‏,‏ وحددت ضوابط الإنفاق في سبيل الله‏ .‏
‏(9)‏ وحرمت إنكار أي معلوم من الدين بالضرورة‏ .‏
خامسا‏ًً :‏ من القصص القرآني في سورة البقرة‏ :‏
جاء في سورة البقرة ذكر عدد من أنبياء الله ورسله‏,‏ كما جاءت الإشارة إلى عدد من الأحداث للاعتبار بها وأخذ الدروس منها، ونوجز ذلك فيما يلي ‏:‏
‏(1)‏ قصة أبوينا آدم وحواء ـ‏ عليهما من الله السلام‏ .‏
‏(2)‏ قصة بني إسرائيل مع فرعون مصر وخروجهم منها مع نبي الله موسى‏ ـ‏ عليه السلام‏ ـ‏ وعبور موسى بهم البحر‏,‏ وتفجير الأرض لهم بالماء الزلال‏,‏ وعصيانهم من بعد ذلك كله‏,‏ وارتدادهم إلى عبادة العجل‏,‏ وصعقهم ثم إحياؤهم‏,‏ ومسخ الذين اعتدوا منهم في السبت إلى قردة وخنازير‏,‏ ثم كفرهم بآيات الله‏,‏ وقتلهم للأنبياء بغير حق‏,‏ وعصيانهم لأوامر الله واعتدائهم على حدوده‏,‏ ورفع الطور فوقهم تهديداً لهم وتخويفا‏ًً,‏ وقصتهم مع القتيل‏,‏ وأمر الله لهم أن يذبحوا بقرة‏,‏ وأن يضربوا القتيل ببعضها فيبعثه الله‏ ـ‏ تعالى ـ‏ حتى يخبر عن قاتله ثم يموت‏,‏ وقصتهم مع كلٍ من طالوت وجالوت وداود ـ ‏عليه السلام .‏
‏(3)‏ قصص بعض أنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا من بعد موسى وهارون‏,‏ وذلك من أمثال كلٍ من داود وسليمان‏ ـ عليهما السلام .‏
‏(4)‏ قصة نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل ـ عليهما من الله السلام ـ‏ ورفعهما لقواعد الكعبة المشرفة، ودعوتهما إلى الله ـ تعالى‏ ـ‏ أن يبعث خاتم الأنبياء والمرسلين‏ ـ‏ صلى الله عليه وسلم‏ ـ‏ في مكة المكرمة‏,‏ وحوار إبراهيم‏ ـ عليه السلام‏ ـ‏ مع نمرود بن كنعان ‏ـ‏ أول من ادعى الربوبية كذباً وبهتاناً‏ .‏
‏(5)‏ قصة نبي الله يعقوب‏ ـ عليه السلام ـ‏ مع بنيه إذ حضره الموت .‏
‏(6)‏ حادثة تحويل القبلة‏ .‏
‏(7)‏ قصة نبي الله عيسى ابن مريم‏ ـ‏ عليهما السلام‏ ـ واقتتال أتباعه من بعده‏,‏ واختلافهم فيما بينهم‏,‏ وانقسامهم من بعد ما جاءتهم البينات ‏.‏
‏(8)‏ قصة الرجل الصالح عزير الذي مر على بيت المقدس بعد أن خربها بختنصر‏ " ...‏ قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (‏ البقرة‏:259)‏ .

سادساً ‏:‏ من الإشارات الكونية في سورة البقرة ‏:‏
جاء في هذه السورة المباركة عدد كبير من الإشارات الكونية نوجزها فيما يلي‏:‏
‏(1)‏ التفرقة الدقيقة بين الضياء والنور ـ وهما أمران متمايزان ‏ـ والمقابلة بين الظلمات والنور‏.‏
‏(2)‏ تقديم حاسة السمع وذكرها بالإفراد‏ على حاسة الإبصار، وإيرادها بالجمع‏ . وثبت علمياً أن مراكز السمع تتقدم مراكز البصر في مخ الإنسان، وأن حاسة السمع تسبق حاسة البصر نضجاً في مراحل خلق الإنسان‏,‏ وأن الإنسان لا يسمع في اللحظة الواحدة أكثر من كلمة واحدة بينما يبصر بالعينين أشياء كثيرة‏ .‏
‏(3)‏ وصف التلازم الدقيق بين هطول المطر الغزير وبين كلٍ من الظلمات والرعد والبرق والصواعق‏ .‏
‏(4)‏ الإشارة إلى إمكانية خطف البصر بواسطة البرق ‏.‏
‏(5)‏ ذكر المراحل المتتالية في إعداد الأرض لعمارتها بالإنسان، ومن ذلك تمهيد سطحها‏,‏ وبناء السماء من حولها‏,‏ وإنزال الماء عليها‏,‏ وإخراج الثمرات منها رزقاً للعباد‏,‏ وإحياء الأرض بعد موتها، وبث كل دابة فيها‏ .‏
(6)‏ الإشارة إلى البعوضة وما فوقها من الخلق، وهي من أبسط الحشرات المعروفة لنا‏,‏ ولكنها تبلغ في روعة بناء جسدها‏,‏ وتأهيله لوظائفها ما يشهد للإله الخالق بطلاقة القدرة، وببديع الصنعة، وبإحكام الخلق ‏.‏
‏(7)‏ التأكيد على أن الله ـ تعالى ـ قد علَّم أبانا آدم ـ عليه السلام ـ الأسماء كلها‏ .‏
‏(8)‏ ذكر معجزات فلق البحر لنبي الله موسى ‏ـ‏ عليه السلام ـ‏ ونجاته ومن معه‏,‏ وهلاك فرعون وجنده‏,‏ وكذلك تفجير اثنتي عشرة عيناً مائية بضربة من عصى موسى‏ ـ‏ على نبينا وعليه من الله السلام‏ ـ وواحدة على الأقل من تلك العيون لا تزال موجودة اليوم على طول صدع أرضي واحد بالمنطقة الشرقية من خليج السويس‏,‏ تعرف اليوم باسم عيون موسى ‏.‏
‏(9)‏ الإشارة إلى بعض أمراض القلوب، ومنها الخوف‏,‏ والوسوسة‏,‏ والشك‏,‏ والاكتئاب‏,‏ وقد أثبتت الدراسات النفسية أنها حقائق علمية لم تكن معروفة وقت تنزل القرآن الكريم‏,‏ ووصف قسوة قلوب اليهود بأنها أشد من الحجارة؛ لأن من الحجارة ما يلين بتفجرها بالأنهار‏,‏ أو بتشققها وخروج الماء منها‏,‏ أو بهبوطها من خشية الله‏ ـ‏ تعالى ـ‏ وقلوب اليهود لا تلين أبداً‏,‏ وهي حقيقة أثبتها التاريخ .‏
‏(10)‏ الحديث عن المشرق الحقيقي والمغرب الحقيقي للأرض، مما يشير إلى وجود شمال وجنوب حقيقيين للأرض‏ ـ‏ وهو صحيح‏ ـ كما يشير إلى وسطيتها من الكون‏,‏ وهي من الحقائق القرآنية التي لا يستطيع العلم المكتسب إدراكها ‏.‏
‏(11)‏ الإشارة إلى خلق السماوات والأرض بالحق‏,‏ وإلى اختلاف الليل والنهار‏,‏ وإلى الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ‏.‏
‏(12)‏ الإشارة إلى تصريف الرياح‏,‏ وإلى السحاب المسخر بين السماء والأرض، وهي حقائق لم تدرك بشيء من التفصيل إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين ‏.‏
‏(13)‏ وصف الأهلِّة بأنها مواقيت للناس والحج‏ .‏
‏(14)‏ الإشارة إلى أذى المحيض‏,‏ والنصيحة باعتزال النساء في فترة المحيض، وقد أثبتت الدراسات الطبية صحة ذلك ‏.‏
‏(15)‏ التأكيد على ما في كلٍ من الخمر والميسر من آثام تفوق أية منافع يمكن أن تُجتنى من وراء الخوض في آثامهما‏,‏ والتجارب الإنسانية تؤكد ذلك وتشهد عليه‏ .‏
‏(16)‏ التأكيد على حقيقة أن الجنة ـ أي الحديقة ذات الأشجار الكثيفة الملتفة على بعضها البعض‏ ـ بالربوة المرتفعة ‏(‏ عن كل من الهضاب والسهول المحيطة بها‏)‏ إذا أصابها وابل‏ ـ أي مطر غزير‏ ـ آتت أكلها ضعفين؛ لأن احتمال إغراقها بماء المطر الغزير غير وارد لسرعة انحسار الماء عنها بعد أخذ كفايتها منه نظراً لارتفاعها فوق أعلى منسوب للسهول المحيطة بها‏ .‏
وفي حالة عدم هطول المطر الغزير فإن الطل ـ أي رذاذ المطر الخفيف ـ أو الندى يكفيها لري نباتاتها، وطيب ثمارها، ووفرة عطائها ‏.‏ والمقصود بذلك أن الجنة بالربوة العالية تزكو وتزدهر وتثمر وتجود بعطائها سواء كَثُرَ المطر عليها أو قَلَّ‏ .‏ وقد وصفت سورة البقرة إنفاق الصالحين من عباد الله‏,‏ الذين لا يبغون من وراء إنفاقهم إلا مرضاة الله والثبات على الحق بأنه يزكو عند الله ويطيب‏ ـ زاد قدره أم قل‏ ـ‏ تماماً كما يزكو عطاء الجنة بالربوة العالية ـ زاد المطر عليها أو قل ‏.‏
من أقوال المفسرين في تفسير قوله ـ تعالى ـ " وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ‏.. " (‏ البقرة‏:31)‏
‏ذكر ابن كثير ـ يرحمه الله ـ ما مختصره ‏:‏ هذا مقام ذكر الله ـ تعالى ـ فيه شرف آدم على الملائكة‏,‏ بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم‏,‏ وهذا كان بعد سجودهم له‏,‏ وإنما قدم هذا الفصل على ذاك لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليقة‏,‏ حين سألوا عن ذلك فأخبرهم ـ تعالى ـ بأنه يعلم ما لا يعلمون‏,‏ ولهذا ذكر الله هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فُضل به عليهم في العلم‏,‏ فقال ـ تعالى ـ‏: " وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا‏ " والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها، ذواتها، وصفاتها، وأفعالها‏ ...‏ (انتهى قول المفسر)
‏‏ وجاء في الظلال ـ رحم الله كاتبه برحمته الواسعة ـ ما مختصره‏ :‏ ها نحن أولاء ـ بعين البصيرة في ومضات الاستشراف ـ نشهد ما شهده الملائكة في الملأ الأعلى‏ ..‏ ها نحن أولاء نشهد طرفاً من ذلك السر الإلهي العظيم الذي أودعه الله هذا الكائن البشري‏,‏ وهو يسلمه مقاليد الخلافة ‏،‏ سر القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات‏ ،‏ سر القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء المحسوسة‏،‏ وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على الأرض،‏ ندرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى‏,‏ لو لم يوهب الإنسان القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات‏,‏ والمشقة في التفاهم والتعامل‏ ..‏ إنها مشقة هائلة لا تتصور معها حياة، وإن الحياة ما كانت لتمضي في طريقها لو لم يودع الله هذا الكائن القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات‏ ...‏ (انتهى قول المفسر)
‏ وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه لا أرى ضرورة لتكراره‏ .‏
من الدلالات العلمية للنص الكريم :
يؤكد هذا النص القرآني الكريم على أن الإنسان ـ ممثلاً في شخص أبينا آدم عليه السلام ـ خلق مؤمناً عالماً عابداً‏,‏ ولم يخلق كافراً جاحداً جاهلاً كما يدعي أغلب المشتغلين بدراسات علم الإنسان ‏(Anthropology) ،‏ وهذه حقيقة لم تبدأ المعارف المكتسبة في التوصل إليها إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين‏,‏ بعد سقوط كل الفروض الزائفة التي افترضها الإنسان في الحضارة المادية المعاصرة للهروب من الإيمان بالخالق ـ سبحانه وتعالى ـ والتسليم بحقيقة الخلق‏,‏ وذلك مثل نظريات التطور العضوي‏,‏ والتطور العقلي‏,‏ والتطور اللغوي والبياني‏,‏ وهي كلها من الفرضيات والنظريات التي أُدخلت على الفكر الإنساني في زمان البعد عن الله أو الشرك به أو التشكك في حقيقة وجوده،‏ وكما أسقطتها النتائج الكلية في دراسات حديثة ، مثل دراسات علم الأجنة‏,‏ وعلوم الوراثة وقراءة الشيفرة الوراثية للإنسان‏,‏ وعلم الكيمياء الحيوية، وعلوم الحياة الجزيئية وغيرها، فإن دراسات اللغة قد أبطلت كل الدعاوى الزائفة على أن الإنسان تعلَّم النطق من أصوات الحيوانات وأصوات بعض الظواهر الطبيعية التي هابها في بادئ الأمر فعبدها وتعرف على الله من خلال عبادته لها‏,‏ وفيما يلي عرض موجز لكيفية هدم المعطيات الكلية للعلوم لهذه الفروض والنظريات في زمن الحضارة المادية المعاصرة‏ :‏
أولاً ‏:‏ مقدمة لازمة ‏:‏
من المسلَّمات أن الإنسان لم يشهد خلق نفسه ولا خلق مختلف صور الحياة من حوله‏,‏ ولا خلق الكون الذي يحتويه ويحتويها، وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك ـ وتعالى ـ‏ :‏
" ما مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً " (‏ الكهف‏:51) .‏
وفي نفس الوقت يأمرنا ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ بالتفكر في الخلق، وذلك في آيات عديدة منها قوله ـ تعالى ـ
" قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "‏ (‏ العنكبوت‏:20) .‏
وقد جاء ذكر كلمة الخلق بمشتقاتها المختلفة في مائتين واثنتين وخمسين‏(252)‏ موضعاً من كتاب الله؛ تأكيداً على حقيقة عملية الخلق بكلام الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ‏‏ ومن أدرى بالخليقة من خالقها ؟ .
الجمع بين هذه الآيات القرآنية الكريمة وأشباهها كثير في كتاب الله يشير إلى حقيقة أنه على الرغم من أن عملية الخلق بأبعادها الثلاثة‏:‏ خلق الكون‏,‏ وخلق الحياة‏,‏ وخلق الإنسان قد تمت في غيبة الإنسان، إلا أن الله ـ تعالى ـ من رحمته بعباده أبقى لنا في صخور الأرض وفي صفحة السماء من الشواهد الحسية ما يمكن أن يعين الإنسان ـ بحسه المحدود وقدراته المحدودة ـ على الوصول إلى تصور ما عن عملية الخلق، وعلى وضع النظريات المفسرة لها‏ .‏ وتتعدد هذه النظريات بتعدد خلفية واضعيها‏,‏ ويبقى للمسلم ـ وللمسلم وحده ـ نور من الله ـ سبحانه وتعالى ـ في آية قرآنية كريمة أو حديث نبوي شريف مرفوع إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعينه على حسن الاختيار بين النظريات المطروحة، فيرقى بإحداها إلى مقام الحقيقة ـ لا لأن العلوم المكتسبة قد وصلت فيها إلى ذلك ـ‏ وهو فوق إمكاناتها ـ ولكن لمجرد وجود إشارة لتلك النظرية في كتاب الله أو في سنة خاتم أنبيائه ورسله ـ صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين .
ثانيا‏ًً :‏ من الأخطاء الرئيسة في نظرية التطور العضوي ‏:‏
على الرغم من عدم كمال السجل المتوافر لدى علماء الأحياء القديمة عن تلك الحياة‏,‏ والنقص الهائل في البقايا المحفوظة عنها في صخور الأرض، أو ما يعرف باسم السجل الأحفوري‏,‏ فإن هذا السجل قد أثبت بجلاء أن أرضنا قد عُمِّرت بموجات متتابعة من صور الحياة بدأت قليلة في العدد‏,‏ وبسيطة في البناء والتركيب‏,‏ ثم تزايدت عددا‏ًً,‏ وتعقدت بناءاً وتركيباً عبر فترة قدرت بنحو الأربعة بلايين من السنين‏(3.8‏ بليون سنة‏)‏ حتى وصلت إلى مستوى الحياة الأرضية الحالي التي توَّجها الله ـ سبحانه وتعالى ـ بخلق الإنسان‏ .‏
وهذه الملاحظة العلمية الصحيحة استخدمتها الحضارة المادية المعاصرة في محاولة يائسة لنفي عملية الخلق‏,‏ والتنكر للخالق ـ سبحانه وتعالى ـ وبنوا هذا الاستنتاج الخاطئ على عدد من الفرضيات الضالة المبنية على أساس من الفكر المادي المهيمن على عقول الغالبية الساحقة من أهل الأرض في ظل الحضارة المادية المسيطرة ‏.‏ ومن هذه الفرضيات الخاطئة ما يلي ‏:‏
‏(1)‏ الادعاء الباطل بعشوائية بدء الحياة على الأرض‏ :‏
يدعي أصحاب هذه الفرضية أن تدرج عمارة الأرض بأنماط من صور الحياة التي ازدادت في العدد وفي تعقيد البناء مع الزمن عبر فترة زمنية تقدر بحوالي أربعة بلايين من السنين‏(3.8‏ بليون سنة‏)‏ قد يوحي بإمكانية ابتداء الحياة بعملية ذاتية محضة غير خارجة عن العشوائية والصدفة‏,‏ وذلك بتفاعل أشعة الشمس مع طين الأرض، مما نتج عنه تكون أعداد من الأحماض الأمينية التي تجمعت بمحض الصدفة أيضاً وارتبطت جزئياتها وتشابكت بواسطة الروابط الصحيحة عن طريق التجربة والخطأ لتكون عدداً من الجزيئات البروتينية العملاقة التي تجمعت ـ بالتجربة والخطأ أيضاً ـ حتى كونت جسد أول خلية حية ‏.‏
وبدأت هذه الخلية الحية في الانقسام بالتتابع لتعطي ملايين الأنواع المختلفة من صور الحياة التي مثَّل كلٌ منها ببلايين الأفراد‏ عبر تاريخ الأرض الطويل حتى يومنا هذا ‏.‏
وهذا افتراض ساذج ترفضه كل الملاحظات العلمية الدقيقة على بناء كلٍ من الأحماض الأمينية والجزيئات البروتينية والخلية الحية‏,‏ وكل منها على قدر من التعقيد في البناء‏,‏ والضوابط المحددة لكيفيات الترابط مع بعضها البعض، مما ينفي إمكانية تكوينها بمحض الصدفة نفياً قاطعاً‏,‏ خاصة إذا علمنا أن بناء الخلية الحية والأنشطة التي تقوم بها يفوق كل ما بناه الإنسان من مصانع‏,‏ بل يفوق كل ما طمح إلى إنشائه ولم يتمكن من تحقيقه بعد‏ .‏
‏(2)‏ الادعاء الباطل بعشوائية التدرج في تتابع الحياة ‏:‏
يدعي أنصار نظرية التطور العضوي أن عمليات الانقسام المتسلسل للخلية الحية الأولى أعطت هذا العدد الهائل من مختلف صور الحياة نتيجة لتفاعلها مع البيئة بشيء من العشوائية والصدفة‏،‏ ولكن الكشوف العلمية الحديثة تؤكد أن عملية انقسام الخلية الحية تتم حسب برامج محددة تحملها الشيفرة الوراثية في نواة الخلية الحية‏,‏ وهذه الشيفرة على قدر من التعقيد في البناء والإحكام في الأداء ينفي الصدفة نفياً قاطعاً،‏ ويضاف إلى ذلك أن كل نوع من أنواع الحياة له شيفرته الوراثية الخاصة به‏,‏ والتي تحملها أعداد محددة من الصبغيات ‏ـ‏ حاملات المورثات‏ ـ مما ينفي أي إمكانية للعشوائية أو الصدفة‏،‏ وينفيها كذلك وجود العديد من حالات الاندثار المفاجئ والظهور المفاجئ لمجموعات من أنواع الحياة الأرضية‏,‏ وينفيها أيضا الأدوار المحددة لكل نوع من أنواع الحياة في كل مرحلة من مراحل تاريخ الأرض الطويل ، مثل تهيئة الظروف البيئية لاستقبال المجموعات اللاحقة في تكامل عجيب ‏.‏

(3)‏ الادعاء الباطل بأن الإنسان منبثق عن الحياة الحيوانية السابقة لوجوده ‏:‏
تفترض نظرية التطور العضوي‏ وجود الحياة بعملية ذاتية‏ عشوائية بمحض الصدفة‏,‏ كما تفترض تطورها بنفس العشوائية لتعطي ملايين الأنواع وأعداداً لا تحصى من الأفراد لكل نوع‏,‏ وأن الإنسان هو النهاية الخاتمة لهذه العملية التطورية ‏.‏
ولما أثبتت العلوم المكتسبة إفلاس الفرضين الأولين، أثبتت كذلك إفلاس الاستنتاجات القائمة عليهما‏,‏ وتؤكد ذلك أن الصفات التشريحية والوراثية الخاصة بجسم الإنسان وحدها تميزه عن جميع المخلوقات السابقة على وجوده‏,‏ فإذا أضفنا إلى ذلك ذكاء الإنسان‏,‏ وقدرته على الإدراك والشعور والانفعال والتعبير والنطق بالكلام المنطقي المرتب‏,‏ وعلى اكتساب المعارف وتعلمها‏,‏ واكتساب المهارات وتوريثها‏,‏ وغير ذلك من القدرات التي اختص بها الإنسان دون غيره من المخلوقات المدركة، ومن أبرزها التسلسل الوراثي للإنسان والذي ينتهي بنسبه إلى أب واحد وأم واحدة هما أبوانا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ واللذان يصفهما ربنا ـ تبارك وتعالى ـ بقوله العزيز ‏:‏
" ياأيها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ‏..." (‏ النساء‏:1)‏ .
وبذلك تنهار محاولة ربط الإنسان بالخلق الحيواني من قبله، وإذا انهار هذا الادعاء انهارت كل الافتراضات المرتبطة به ، مثل الافتراض الخاطئ بأن الإنسان اكتسب اللغة عن طريق تقليده لأصوات الحيوان‏,‏ وهو وهم زائف تدفعه آيات القرآن الكريم وأحاديث خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما تدمغه دراسات اللغات ذاتها لارتباطها ببعضها البعض ارتباطاً يردها إلى أصل واحد ‏.‏
ثالثا‏ًً :‏ من الأخطاء الرئيسة في نظرية نشأة اللغة‏ :‏
انطلاقاً من الإيمان بفرية ظهور الحياة الأرضية بشيء من العشوائية والصدفة، والتي أشاعتها الحضارة المادية المعاصرة التي تنكرت لله ولدينه ولأنبيائه ورسله بنية فرية أخرى، وهي الإدعاء الباطل بأن الإنسان الأول لم تكن له قدرة على الكلام‏,‏ ولم تكن له لغة يتكلم بها مع غيره سوى الإشارات، وفي ذلك كتب مايكل كورباليس في كتابه المُعَنْوَن في نشأة اللغة‏ :‏ من إشارة اليد إلى نطق الفم
‏Michael C.Corballis (2002):
From Hand to Mouth : the origins of language
Princeton University Press .‏
ما ترجمته‏ :‏ وأنا أزعم أن اللغة في معظم هذه الفترة كانت إشارية في الدرجة الأولى‏,‏ على الرغم من أن الأصوات أخذت تتخللها بصورة متزايدة‏ .‏ إن الكلام المبين تطلب تغييرات واسعة في الجهاز الصوتي وفي السيطرة اللهائية على كلٍ من إنتاج الصوت والتنفس،‏ وتدل الشواهد على أن ذلك لم يكتمل حتى مرحلة متأخرة نسبياً في تطور جنس الهومو Homo.
وفي الحقيقة أن هذه التغييرات قد لا تكون اكتملت حتى في النياندرشال Neanderthal Man
منذ ‏35‏ ألف سنة مضت، على الرغم من أن هذا الإدعاء يبقى موضع جدل ونقاش‏،‏ وقد لا تكون التكيفات الضرورية لإنتاج الأصوات بشكل مبين قد أنتخبت للحلول محل الإشارات، وإنما لتكون تتويجاً لها‏،‏ فبعض الإشارات كان بلا شك إشارات بواسطة الوجه‏ (‏ وجهياً‏)‏ مثل لغة اليوم الإشارية ‏.‏
وقد يكون إصدار الأصوات قد خدم جزئياً‏ ـ‏ في نشأة اللغة‏ ـ‏ لكونه إضافة إلى إشارات الوجه والفم‏ (‏ واليدين‏)‏، وجعل الإشارات غير المنظورة لكلٍ من اللسان والتجويف الفمي مسموعة‏.‏ واللغة بالطبع ـ حتى لغة اليوم ـ‏ نادراً ما تكون صوتية خالصة ‏...‏
ويضيف ما ترجمته‏ : ...‏ إلا أننا نستطيع أن ننقل معظم الرسائل بالصوت وحده‏،‏ والتكيفات الضرورية لذلك كانت قائمة قبل أن يكتشف أجدادنا أنها ممكنة‏,‏ تماماً مثل التكيفات التي كانت لازمة للكتابة‏,‏ إذ كانت قائمة قبل أن يخط الكتَّاب الأوائل مخطوطاتهم أو رسائلهم‏ .‏ واختراع الكلام قد يعود إلى‏(50)‏ ألف سنة مضت ‏.‏
وهذا التضارب في تحقيق قضية غيبية غيبة كاملة كقضية نشأة اللغة سببه الانخداع بفكرة التطور العضوي التي دحضتها الكشوف العلمية مؤخراً في كلٍ من علم الوراثة وعلم الخلية الحية وعلم الحياة الجزيئي‏ .‏
ويدحض هذه الفرية الجديدة عن نشأة اللغة التقارب بين اللغات المختلفة في العديد من الألفاظ ، خاصة بين اللغات القديمة ، وقد ثبت أن أكثر من خمسين في المائة من ألفاظ كلٍ من اللغة العبرية واللغة السريانية عربية الأصل، مما ينتهي بلغات الأرض جميعها ـ والتي يقدر عددها بأكثر من خمسة آلاف لغة ولهجة‏ ـ‏ إلى أصل واحد متمثل في اللغة العربية‏,‏ وهذا الاستنتاج يؤيده مع قول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ في محكم كتابه‏ :‏ " الرَّحْمَنُ . ‏ عَلَّمَ القُرْآنَ ‏ . خَلَقَ الإِنسَانَ ‏ . ‏ عَلَّمَهُ البَيَانَ‏ " (‏ الرحمن‏:1‏ ـ‏4)‏
وهذا يبرز كذلك جانب الإعجاز في قول ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ ‏:‏

" وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا .. " (‏ البقرة‏:31) .‏
وإن تعقيد كلٍ من الجهاز العصبي وأجهزة السمع والنطق في الإنسان ينفي أية إمكانية لتعلم الإنسان النطق باللغة بعشوائية أو صدفة‏,‏ بل هو التقدير الإلهي الدقيق‏,‏ والهبة الربانية العظمى بتعليم أبينا آدم ـ عليه السلام ـ أم اللغات كلها ، وهي اللغة العربية‏ .
ولذلك سمي‏ (‏ الإعراب‏) (‏ إعرابا‏)‏ لتبينه وإيضاحه‏,‏ وكان من معاني ‏(‏ العربية‏)‏ الإبانة والإيضاح، ومنه حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي قال فيه‏:‏
ومنه أيضا قوله‏ :‏ كانوا يستحبون أن يلقنوا الصبي حين يعرب‏ ـ أي حين ينطق ويتكلم ـ‏ أن يقول ‏:‏ لا إله إلا الله سبع مرات‏ .‏
ومنه باب خاص من أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مناقب فضل العرب جاء فيه ما يلي‏:‏
‏ عن سلمان ـ رضي الله عنه أنه قال‏:‏ قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏ :‏ يا سلمان‏!‏ لا تبغضني فتفارق ديني‏,‏ قلت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ كيف أبغضك وبك هدانا الله‏,‏ قال‏:‏ تبغض العرب فتبغضني‏ (‏ الترمذي‏) .‏
عن عثمان بن عفان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي " (قال الترمذى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حصين بن عمر الأحمسي عن مخارق وليس حصين عند أهل الحديث بذاك القوي) .

من ذلك يتضح فضل العربية على جميع لغات الأرض‏,‏ وأنها كانت لغة أبينا آدم ـ عليه السلام ـ التي ألهمه الله ـ سبحانه وتعالى ـ النطق بها‏,‏ وعلمه أسماء كل شيء بمسمياتها‏,‏ وأن بقية لغات الأرض انبثقت منها، ولذلك أنزل ربنا ـ تبارك وتعالى ـ هدايته الخاتمة للبشرية كلها بها في القرآن الكريم وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين .
فالحمد لله على نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله على نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله على بعثة النبي العربي العدنان، والصلاة والسلام عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ‏.‏