" أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ " (الرعد ‏16‏).

هـذا النص القرآني الكريم جاء في بداية الثلث الثاني من سورة الرعد‏ ,‏ وهي سورة مكية‏/‏مدنية‏ ,‏ وآياتها ثلاث وأربعون ‏(43)‏ بعد البسملة‏ ,‏ وبها‏ (سجدة تلاوة‏)‏ واحدة‏ ,‏ وقد سميت بهذا الاسم لإشارتها إلى أن‏ (الرعد‏)‏ كغيره من الظواهر الكونية ـ يسبح لله الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ الذي أنزل في محكم كتابه قوله الحق‏:‏ " تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً" (الإسراء‏:44) .
ويدور المحور الرئيسي لسورة الرعد حول قضية العقيدة الإسلامية‏ .‏
وتبدأ سورة الرعد بقول ربنا تبارك وتعالى ‏:‏ " المر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ وَالَّذِي أُنـزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ " (الرعد‏:1)‏ .

و‏(‏المر‏)‏ من الحروف المقطعة التي جاءت في مطلع عدد من سور القرآن الكريم‏ ,‏ وتعتبر من الأسرار التي حاول عدد من المفسرين تأويلها وأوكلتها الغالبية إلى علم الله‏ ,‏ وتؤكد هذه الآية الكريمة أن القرآن الكريم الذي أنزل إليه من ربه هو الحق‏ ,‏ وإن كانت غالبية الناس لا يؤمنون به‏ .‏
ثم تعرض الآيات التالية لعدد من حقائق الكون الدالة على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق‏ ,‏ وعلى أن مبدع ذلك كله قادر على إفنائه ثم بعثه‏ ,‏ وكانت قضية البعث ـ عبر التاريخ ـ هي حجة الكافرين والمتشككين والضالين لعجزهم عن تصور إمكانية البعث بعد تحلل الأجساد وتحولها إلى تراب‏ ,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏ :‏ " اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ*. وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ . وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " ‏(‏الرعد‏:2‏-‏5)‏ .
وتذكر الآيات هؤلاء الكافرين أن الكفر بالبعث كفر بالله ـ تعالى ـ وتكذيب بكتبه ورسله‏ ,‏ وإنكار لمعلوم من الدين بالضرورة ومنكره كافر جاحد مطرود من رحمة الله‏ .‏
وتعجب الآية التالية من استعجال الكافرين لعذاب الله‏ ,‏ وكأنهم لم يعتبروا بما حدث للكفار والمشركين من قبلهم فتقول مخاطبة خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم‏ :‏ " وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ ‏ " (الرعد‏:6) .‏
وتؤكد الآية اللاحقة أن الكافرين كانوا يستعجلون رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في نزول المعجزات الحسية‏ ,‏ وكأن القرآن الكريم ـ مع عظم قدره ـ لم يكن كافيا لإقناعهم بصدق نبوته فتقول ‏:‏ " وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ‏ " (الرعد‏7)‏ .
وتعاود السورة الكريمة إلى التأكيد على شمول علم الله ـ تعالى ـ وعلى إحاطته بكل شيء وعلى أن كل شيء عنده بمقدار‏ ,‏ وأنه ـ تعالى ـ هو الذي يحفظ خلقه بملائكته إلى أن يأتي أمر الله فتقول‏ : ‏" اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَار . عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ .‏ سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ القَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ . لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ " (الرعد‏:8‏-‏11) .

وبعد ذلك تستعرض السورة الكريمة عدداً من آيات الله في الكون مؤكدة أن جميع ما في الوجود يسجد لله طوعا وكرها وحتى ظلالهم ـ في تحركها بالغدو والآصال تمثل صورة من صور الخضوع لله بالطاعة وفي ذلك تقول ‏:‏ " هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنشيء السَّحَابَ الثِّقَالَ .وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ‏ . لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ .‏ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ "‏ (الرعد‏:12‏-‏15) .

‏ثم توجه الآيات الخطاب إلى رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ ليسأل هذا السؤال مستنكرا شرك المشركين وضاربا عددا من الأمثال وذلك بقوله تعالى ‏: "‏ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ .‏ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ ‏ " (الرعد‏:17,16)‏ .
والآيتان الكريمتان تعيبان شرك المشركين واتخاذهم أولياء من دون الله‏ ,‏ وهؤلاء الأولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا‏ ,‏ ولم يخلقوا شيئا "‏ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ " (الرعد‏:16)‏ , وتتساءل الآيات ‏:‏ هل يستوي الأعمى والبصير؟ أم هل تستوي الظلمات والنور؟ وتشبه باطل الكافرين بالزبد الطافي على وجه السيل‏ ,‏ أو على وجه ما يصهر من خامات المعادن الفلزية النفيسة والنافعة‏ ,‏ وتشبه الحق الذي أنزله الله ـ تعالى ـ بما يمكث في مجاري السيل وتحت خبث الفلزات المصهورة من نفيس المعادن ونافعها‏ .‏
وبعد ذلك تتحدث الآيات عن مصائر كل من المؤمنين والكافرين في الآخرة واصفة بالعمى كل من لا يؤمن برسالة النبي الخاتم‏ ,‏ وتعرض لشيء من صفات كل من المؤمنين والكافرين مؤكدة أن الله ـ تعالى ـ يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب‏ ,‏ولا يعطي الآخر إلا لمن أحب‏ ,‏ فلا يتخيل كافر أو مشرك أعطي في الدنيا حظا من مادياتها أن في ذلك شهادة له‏ ,‏ لأن فرحة في الدنيا هو من قبيل الاغترار بها فهو حتما سوف يتركها وراءه بالموت‏ ,‏ فالدنيا ـ مهما دامت ـ متاع مؤقت جدا إذا قورنت بأبدية الآخرة والخلود فيها بلا موت‏ ,‏ وفي ذلك تقول الآيات ‏:‏ " لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَادُ . أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ . الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ المِيثَاقَ . وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ . وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ . جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ . سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ " (الرعد‏:18‏-‏24) .‏
وفي المقابل تعاود الآيات إلى وصف الكفار والمشركين‏ ,‏ والملاحدة المفسدين في الأرض والذي اشتهروا عبر التاريخ بنقض العهود والمواثيق فتقول‏ :‏ " وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ . اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ . وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ‏" (الرعد‏:25‏-‏27) .‏
وهنا يتكرر تساؤل الكافرين عن المعجزات الحسية لرسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ وترد عليهم السورة الكريمة بأن الله ـ تعالى ـ يضل من يشاء ممن أراد الضلالة‏ ,‏ ويهدي من يشاء ممن طلب الهداية‏ ,‏ وتعاود سورة الرعد إلى الحديث عن أهل الإيمان وصفاتهم فتقول ‏: ‏" الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ ‏. الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ " (الرعد‏:29,28) .‏
ثم توجه الخطاب إلى رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في مواساة كريمة من الله ـ تعالى ـ لخاتم رسله‏ ,‏ مؤكدة نبوته‏ ,‏ ورسالته وعبوديته لرب العالمين وجميل توكله عليه‏ ,‏ ومعظمة شأن القرآن الكريم لتقول‏ : "‏ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ .‏ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى بَل لِّلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ المِيعَادَ . وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏" (الرعد‏:30‏-‏32) .‏

وهنا تثبت الآيات رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أمام كفر الكافرين وشرك المشركين وتطاول الأقزام من المتطاولين بأن الرسل من قبله قد استهزئ بهم‏ ,‏وأن الله تعالى قد أخذ الذين استهزئوا برسله أخذا وبيلا‏ ,‏ وأن عذابهم في الآخرة أشد وأبقي‏ ,‏ وأن ليس لهم من واق من عذاب الله‏ .‏
ومرة أخرى تسخر السورة من شرك المشركين على الرغم من مراقبة الله ـ تعالى ـ لهم وتؤكد عذابهم في الدنيا والآخرة‏ ,‏ وفي المقابل تمتدح المتقين وتصف جانبا من نعيمهم في الآخرة فتقول ‏: ‏" أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوَهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّـذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ . لَهُمْ عَذَابٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ . مَّثَلُ الجَنَّةِ الَتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الكَافِرِينَ النَّارُ " ‏.‏ ‏(‏الرعد‏:33‏-‏35)‏ .
والآيات تؤكد أن الله ـ تعالى ـ قائم على كل نفس بما كسبت‏ ,‏ ويجازي كل نفس بعملها‏ ,‏ وتنعي على المشركين بالله شركهم‏ ,‏ ولضلال الكافرين ومكرهم وفساد المشركين وسفههم أضلهم الله وعذبهم في الدنيا وأعدلهم من العذاب‏ ,‏ في الآخرة‏ ,‏ ما هو أشق ولن يجدوا لهم واقيا من عذاب الله‏ .‏
وتقارن الآيات عذاب الكفار والمشركين في النار بالنعيم الذي أعده الله تعالى للمتقين في الجنة‏ , ‏وتشير إلى أن الذين أوتوا علما من الكتب المنزلة من قبل بعثة النبي الخاتم عليهم أن يفرحوا بما أنزل إليه من القرآن العربي وهو الصورة النهائية من وحي السماء التي تكاملت فيها كل الرسالات السابقة‏ ,‏ وإن كفر بذلك أعداد من الأحزاب الضالة والجاحدة للحق الذي أنزله ربنا بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله الذي أمر بعبادة الله تعالى وحده‏ ,‏ وألا يشرك به شيئا وأن يدعو إليه موقنا بحتمية الرجوع إليه وحذره من إتباع أهواء الكافرين‏ ,‏ وفي ذلك يقول ربنا تبارك اسمه " وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلُ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَئَابِ . وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ " (الرعد‏:37,36) .‏
وتستمر الآيات في توجيه الخطاب إلى رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قائلة له‏ :‏ وإذا كان المشركون يثيرون العجب من أن لك أزواجا وذرية‏ ,‏ ويطلبون من المعجزات الحسية ما هو غير القرآن الكريم‏ ,‏ فلقد أرسلنا من قبلك رسلا لهم أزواج وذرية‏ ,‏ وليس لنبي أن يأتي بمعجزة على هواه أو على هوي قومه‏ ,‏ لأن الذي يحدث المعجزات هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأن لكل مدة مضروبة كتابا مكتوبا‏ ,‏ أو لكل كتاب أجل محدود وأن الحساب على الله ـ تعالى ـ وأنه ما على الرسول إلا البلاغ‏ ,‏ وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ‏: ‏" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ .‏ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ .‏ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ وَعَلَيْنَا الحِسَابُ " ‏(الرعد‏:38‏-‏40)‏ .
وتشير الآية التالية إلى إنقاص الأرض من أطرافها كإحدى حقائق الكون الشاهدة على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة فيه‏ ,‏ والمهيمنة عليه‏ ,‏والمؤكدة على أن الله ـ تعالى ـ هو رب هذا الكون ومليكه وأنه ـ تعالى ـ سريع الحساب‏ ,‏ وفي ذلك تقول الآية ‏: ‏" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ " (الرعد‏:41) .‏
وتختتم سورة الرعد بالإشارة إلى مكر الكافرين والمشركين من أبناء الأمم السابقة‏ ,‏ مؤكدة أن لله المكر جميعا‏ ,‏ ومستنكرة فعل من جاءوا بعدهم من إنكار لبعثة خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ فالله ـ تعالى ـ يشهد بصدق بعثته ونبوته ورسالته‏ ,‏ كما يشهد بها كل من له علم من الكتاب‏ ,‏ وهذا يكفيه عن كل شاهد‏ ,‏وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ‏: ‏‏"‏ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ المَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ . وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكِتَابِ " (الرعد‏:42‏،‏43) .‏
من ركائز العقيدة في سورة الرعد ‏:‏
‏(1)‏ التسليم بصدق الوحي بالقرآن الكريم‏ ,‏ وأنه الحق المطلق الذي أنزله رب العالمين بعلمه على خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ وهو الحق الوحيد الموجود بين أيدي الناس اليوم وعلى ذلك فالباطل لا يأتيه أبدا على الرغم من جهل أكثر الناس به‏ ,‏ وإنكارهم لصدقه‏ .‏
‏(2)‏ الإيمان بالله ـ تعالى ـ رب السماوات والأرض‏ ,‏ ورب كل شيء‏ ,‏ ربا واحدا أحدا‏ ,‏ لا شريك له في ملكه‏ ,‏ ولا منازع له في سلطانه‏ ,‏ ولا شبيه له من خلقه ولا حاجة له إلى الصاحبة أو الولد‏ ,‏ لأن هذه كلها من صفات المخلوقين‏ ,‏ والخالق منزه عن جميع صفات خلقه‏ ,‏ وهو تعالى خالق كل شيء ومدبر كل أمر‏ ,‏ الواحد القهار‏ ,‏ الذي يفصل الآيات لعل الناس بلقاء ربهم يوقنون أي يؤمنون بالبعث والحساب والجزاء والجنة والنار‏ ,‏ وهذا الإله الخالق‏ ,‏ البارئ‏ ,‏ المصور يعلم ما تكسب كل نفس‏ ,‏وهو تعالى ـ غفار الذنوب للتائبين‏ ,‏ وهو في نفس الوقت سريع الحساب‏ ,‏ شديد العقاب‏ ,‏ وهو سبحانه وتعالى عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال‏ ,‏ وكل شيء عنده بمقدار‏ ,‏ وليس للخلق من دونه من وال‏ ,‏ وله دعوة الحق‏ ,‏ وهو شديد المحال‏ (أي عظيم القدرة على التدبير بقوة وعلى الكيد والمكر‏ ,‏ والإهلاك وإنزال العذاب‏) .‏
‏(3)‏ اليقين بأن العقل من أعظم النعم التي من بها الله تعالى على الإنسان‏ ,‏ وإن من قبيل الشكر على هذه النعمة العظيمة استخدامها إلى أقصي حد ممكن لها في التفكر والتدبر والتعقل في كل شيء وفي كل أمر من الأنفس إلى الآفاق للتعرف على شيء من صفات الخالق العظيم‏ .‏
‏(4)‏ التصديق بحقيقة البعث وضرورته‏ ,‏ وبحتمية الحساب والجزاء‏ ,‏ وبكل من الجنة ونعيمها‏ ,‏ والنار وجحيمها والاستعاذة بالله من شرورها وأخطارها‏ ,‏ وبأن الحياة الدنيا ليست إلا متاعا مؤقتا يعقبه الموت‏ ,‏ إذا ما قورنت بديمومة الآخرة وخلودها بلا موت‏ .‏
‏(5)‏ الإيمان بحقيقة النبوة والرسالة‏ ,‏ وبالأخوة بين الأنبياء‏ ,‏ وبوحدة رسالة السماء التي هي بيان من الله ـ تعالى ـ للإنسان في كل عصر وفي كل مكان بيانا ربانيا خالصا بتفاصيل ركائز الدين‏ (التي هي إما من صميم الغيب المطلق الذي لا سبيل للإنسان في الوصول إليه‏ ,‏ أو من ضوابط السلوك‏ ,‏ والتاريخ يؤكد لنا عجز الإنسان دوما عن وضع الضوابط الصحيحة لسلوكه‏) ,‏ والتأكيد على أن دور الأنبياء والمرسلين هو الإنذار والبلاغ‏ .‏
‏(6)‏ اليقين بأن الله تعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏ ,‏ وأنه قد أوكل بكل عبد من عباده ملائكة يحفظونه حتى يأتي أمر الله‏ ,‏ والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم‏ .‏
‏(7)‏ التصديق بأن كل ما في الوجود يسجد لله سبحانه وتعالى ويسبح بحمده عبادة فطرية تسخيرية لغير المكلفين أو اختيارية إرادية للمكلفين‏ ,‏ فإن أبوا سجدت ذرات أجسادهم وسبحت في عبادة قهرية إجبارية‏ ,‏ حتى ظلالهم تسجد بالغدو والآصال‏ ,‏ وقلوب المؤمنين المكلفين لا تطمئن إلا بذكر الله‏ .‏
‏(8)‏ التسليم بأن دعاء كل من الكفار والمشركين في ضلال‏ ,‏ لأن الشرك بالله تعالى هو كفر به‏ .‏
‏(9)‏ حتمية الإيمان ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم وبجميع ما بعث به من الكتاب والسنة النبوية المطهرة‏ .‏


من ركائز العبادة في سورة الرعد :
‏(1)‏ إقامة الصلاة‏ .‏
‏(2)‏ إيتاء الزكاة‏ ,‏ والإنفاق في سبيل الله سرا وعلانية‏ .‏
‏(3)‏ الوفاء بعهد الله وعدم نقض المواثيق‏ ,‏ ودرء السيئة بالحسنة‏ .‏
‏(4)‏ وصل ما أمر الله تعالى به أن يوصل‏ .‏
‏(5)‏ تقوي الله سبحانه وتعالى وخشيته‏ ,‏ والخوف من سوء الحساب‏ ,‏ والصبر على ذلك ابتغاء وجه الله‏ .‏
وكل قضية منها تحتاج إلى معالجة خاصة بها ولذلك سوف أقصر حديثي هنا على النقطة المتعلقة بمحاولة شياطين الإنس تقليد خلق الله ـ تعالى ـ بعبثيات الاستنساخ دون جدوى حقيقية للإنسان أو للعلم‏ .‏


من الدلالات العلمية للنص الكريم :
هذا النص القرآني الكريم هو من صور الإعجاز الإنبائي في كتاب الله الذي أخبر من قبل ألف وأربعمائة سنة بمحاولات الإنسان لتقليد خلق الله‏ ,‏ وتتمثل هذه المحاولات في الجهود التي بذلت من أجل إيجاد الخلية الحية وباءت كلها بالفشل الذريع‏ ,‏ لأن الخلية الحية في جسم الإنسان مثلا‏ ,‏ والتي لا يتعدي متوسط طول قطرها ‏0 .03‏ مم تبلغ من تعقيد البناء ما لم تبلغه أكبر المصانع التي أنشأها الإنسان‏ ,‏ بل التي رسمها في خياله ولم يتمكن من إنشائها بعد‏ ,‏ وتكفي في ذلك الإشارة إلى أن هذه الخلية الحية المتناهية الضآلة في الحجم قد أعطاها الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ القدرة على إنتاج أكثر من عشرين ألف نوع من أنواع البروتينات التي تعجز أضخم المنشآت التي أقامها الإنسان عن إنتاجها‏ ,‏ وتتم الخلية الحية ذلك في زمن قياسي يكاد ألا يقاس‏ ,‏ كذلك تكفي الإشارة إلى الشيفرة الوراثية في داخل نواة الخلية الحية والتي تتكدس على ذاتها لتشغل حيزا أقل من جزء من المليون من المليمتر المكعب‏ ,‏ ولكنها إذا فردت يقارب طولها المترين‏ ,‏ وعلى هذا الطول تتوزع ‏18 .6‏ بليون جزئ كيميائي من جزيئات القواعد النيتروجينية والسكر والفوسفور في ترتيب محكم دقيق يعطي لكل فرد منا ـ بل لكل فرد من أفراد الحياة ـ بصمة وراثية تميزه عن غيره‏ ,‏ ولو اختل وضع جزئ واحد أو ذرة واحدة في هذا البناء المعجز فإنه إما أن يشوه أو ألا يكون‏ .‏ وبعد فشل كل محاولات العلماء من أجل تحضير الخلية الحية مختبريا لجأوا إلى اللعب بالشيفرة الوراثية فيما تبلور اليوم في تجارب الاستنساخ‏ .‏
‏(‏الاستنساخ‏)‏ لغة ‏:‏
الاستنساخ في اللغة هو التقدم بنسخ شيء قائم من مثل نقش الخاتم في الشمع‏ ,‏ وهو كذلك الأمر بالنسخ والإثبات أو بالمحو والإزالة‏ .‏
يقال‏: (نسخت‏)‏ الشمس الظل و‏(‏انتسخته‏)‏ أي أزالته‏ ,‏ و‏(‏نسخت‏)‏ الريح آثار الديار‏ ,‏ أي غيرتها‏ .‏ ويقال‏: (نسخ‏)‏ الكتاب و‏(‏انتسخه‏)‏ و‏(‏استنسخه‏) ,‏ أي‏:‏ عمل منه نسخة مطابقة للأصل‏ .‏ و‏(‏النسخة‏)‏ اسم لكل من‏ (المنتسخ‏)‏ منه و‏(‏المنتسخ‏) ,‏ و‏(‏نسخ‏)‏ الآية بالآية إزالة حكمها بحكم يتعقبها‏ ,‏ و‏(‏المناسخة‏)‏ في الميراث هي أن يموت ورثة بعد ورثة‏ ,‏ والميراث قائم لم يقسم‏ .‏
و‏(‏تناسخ‏)‏ الأزمنة والقرون هو مضي قوم بعد قوم‏ .‏ والقائلون بـ‏ (التناسخ‏)‏ قوم ينكرون البعث على ما أثبتته الشريعة‏ ,‏ ويزعمون أن الأرواح تنتقل إلى الأجسام على التأبيد‏ ,‏ وهو زعم باطل لا أساس له من الصحة‏ .‏
الاستنساخ العلمي ‏(Cloning):
تعرف عملية الاستنساخ العلمي بمحاولة إيجاد نسخ متشابهة من الخلايا أو الأنسجة أو الكائنات الحية الكاملة من خلية حية سابقة أو من عدد من الخلايا‏ ,‏ أو من كائن حي‏ .‏ والاستنساخ هو نوع من التكاثر الذي تقوم به معظم النباتات‏ ,‏ كما تقوم به الصور البسيطة من الحيوانات ويعرف باسم التكاثر‏ (الخضري‏)‏ أو‏ (الجسدي‏)‏ أو‏ (غير الجنسي‏) ,‏ وذلك لأن عملية الإخصاب تتم فيه ذاتيا‏ .‏ وفي بعض الحالات قد تتبادل عملية التكاثر الجنسي وغير الجنسي بطريقة دورية أو شبه دورية‏ ,‏ وتعرف هذه الظاهرة باسم ظاهرة تبادل الأجيال‏ . فالنباتات على سبيل المثال منها ما هو‏ (وحيد المسكن‏)‏ أي ينتج أزهارا تحمل الأعضاء الذكرية والأنثوية معا‏ ,‏ ومنها ما هو‏ (ثنائي المسكن‏)‏ بمعني أن بعض أفراده يحمل أزهارا مذكرة‏ ,‏ ويحمل البعض الآخر أزهارا مؤنثة‏ .‏ كذلك تستطيع بعض النباتات والحيوانات إتمام عملية التكاثر بالانشطار أو التبرعم أو الانقسام أو بغيرها من الوسائل غير الجنسية‏ ,‏ وعلى الرغم من ذلك فقد تمر معظم هذه الكائنات بدورة تكاثر جنسي أيضا‏ .‏ أما الكائنات العليا من عالم الحيوان باستثناء أنواع قليلة من الأسماك والبرمائيات والزواحف فإن الخالق سبحانه وتعالى قد فطرها على التكاثر الجنسي وهيأها للتزاوج بين ذكر وأنثي‏ ,‏ وكذلك الإنسان‏ .‏

الحكمة من التزاوج ‏:‏
قدر الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ أن تحمل خلايا التكاثر‏ (النطف‏)‏ نصف عدد الصبغيات التي تحملها الخلايا الجسدية‏ ,‏ ليكمل عدد تلك الصبغيات إلى العدد المحدد للنوع بالإخصاب الذي ينتج عن عملية التزاوج بين ذكر وأنثي‏ .‏ ففي الإنسان مثلا إذا التقى الحي من ‏نطفة الرجل (‏Sperm)‏ وبه ‏23‏ صبغيا مع البييضة‏‏ نطفة المرأة ‏(ovum)‏ وبها‏23‏ صبغيا‏ ,‏ وأخصبها ـ بإذن الله ـ نتج عن ذلك النطفة الأمشاج أي المختلطة أو ما يعرف علميا باسم البييضة المخصبة اللقيحة‏(Fertilized ovum or zygote)‏ والتي يكتمل عدد الصبغيات فيها إلى‏ (46)‏ وهو العدد المحدد لنوع الإنسان‏ .‏ وبعملية الإخصاب تلك يجتمع للقيحة في شيفرتها الوراثية مورثان لكل خاصية من الخصائص‏ ,‏ احدهما مستمد من مخزون الشيفرة الوراثية للأب وأسلافه إلى أبينا آدم ـ عليه السلام ـ والآخر يستمد من شيفرة الأم الوراثية وأسلافها إلى نفس المصدر‏ ,‏ وبذلك يأتي الأبناء على قدر من التشابه مع الوالدين والاختلاف عنهما‏ ,‏ وتعرف هذه الظاهرة في علم الوراثة باسم التنوع في الوحدة‏(Diversity in Unity) ,‏ ولولا هذا التنوع لأصبح الخلق كلهم نمطا واحدا في الشكل والصفات‏ ,‏ ولأصبحت الحياة مملة كئيبة‏ ,‏ كذلك فإن المورثين اللذين يتحكمان في الصفة الواحدة إذا لم يختلفا أضر ذلك بالجنين ضررا بالغا‏ ,‏ وإذا اختلفا فإن الصفة الأقوى تسود وتظهر بينما الصفة الأضعف تختفي وتستتر لتظهر في الأجيال التالية أو لا تظهر‏ ,‏ وبذلك يصح الجنين‏ ,‏ ويتمايز الأفراد‏ ,‏ وتتنوع الخليقة‏ ,‏ ويصبح لكل فرد من بلايين الأفراد التابعة لكل نوع من أكثر من مليون ونصف المليون من الأنواع التي يعرفها الإنسان اليوم والتي يتوقع أن يزداد عددها إلى خمسة ملايين نوع حسب معدلات الكشوف الحالية‏ ,‏ يصبح لكل فرد من بلايين البلايين من هذه الأفراد شيفرته الوراثية المميزة له لتنطق بإحاطة علم الله وشموله على كل صغيرة وكبيرة في هذا الوجود‏ .‏

صرعة الاستنساخ ‏:‏
على الرغم من وضوح الحكم الإلهية العديدة من فرض التكاثر الجنسي على الإنسان وعلى العديد من غيره من المخلوقات إلا أن الشيطان ظل يوسوس للإنسان ليغويه بمحاولة تطبيق التكاثر غير الجنسي على نفسه وعلى غيره من مخلوقات الله ليخدعه بأنه قادر على الخلق كخلق الله ـ تعالى ـ علما بأن الاستنساخ ليس إيجاداً من العدم ولكنه عبث بخلق قائم فعلا‏ ,‏ وعبث قد ينتهي بالحياة إلى الدمار‏ .‏
وبالفعل نجح عدد من العلماء في استنساخ ضفدعة في سنة‏ 1952‏م‏ ,‏ واستعصت الحيوانات اللبونة‏ (ذات الأثداء‏)‏ على الاستنساخ حتى أعلن فريق علمي اسكتلندي بقيادة الأستاذ إيان ولموت‏ (Ian Wilmut)‏ من معهد روزلين‏ (Roslin Institute)‏ بمدينة إدنبرة تحقيق ميلاد أول نعجة بعملية استنساخ من خلية عادية نامية‏ ,‏ وهي النعجة المسماة باسم دوللي ‏(The Sheep Dolly)‏ وكان ذلك في سنة ‏1996‏م‏ ,‏ ومن سفه الإنسان وجهله‏ ,‏ ومن عبث الشيطان بعقله أن تخرج مجلة نيوزويك‏ (Newsweek)‏ الأمريكية وعلى غلافها جملة شيطانية ترجمتها وليمت الخالق‏ (Wilmut , The creator)‏ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا‏ .‏
وبعد هذه التجربة تم استنساخ مئات من الثدييات من مثل الخراف‏ ,‏ الماعز‏ ,‏ البقر‏ ,‏ الأرانب‏ ,‏ القطط‏ ,‏ الفئران‏ ,‏ والخنازير‏ ,‏ إلا أن محاولات الاستنساخ قد فشلت تماما في حالات الخيل‏ ,‏ القردة‏ ,‏ الكلاب‏ ,‏ والدجاج‏ .‏ كذلك لوحظ أن نسبة سقوط الأجنة في حالات الاستنساخ تفوق نظائرها في حالات الحمل بالتزاوج عشرات المرات‏ ,‏ كما أن الأجنة المستنسخة ولدت في أغلب الأحوال مشوهة تشويها خلقيا مفزعا‏ ,‏ وحتى الذي نجا من تلك التشوهات أصيب بالعديد من الأمراض‏ ,‏ فالنعجة دوللي ذاتها تم إعدامها بعد ست سنوات من ميلادها لاكتشاف إصابتها بعدد من الأمراض منها سرطان الرئة‏ ,‏ وروماتيزم المفاصل الذي أصابها بالشلل الكامل مما عجل بقرار إعدامها بعد أن أنجبت ستة من الحملان‏ ,‏ وتم ذلك في ‏14‏ من فبراير سنة ‏2003‏م‏ .‏ وعلى الرغم من هذه المخاطر العديدة‏ ,‏ وغيرها كثير‏ ,‏ فإن الشيطان لا يزال ينفث إغراءاته المسمومة في أذهان العديد من بني آدم من أجل تنفيذ محاولات الاستنساخ البشري على الرغم من النداءات العديدة من كل من علماء الدين‏ ,‏ والاجتماع‏ ,‏ والقانون‏ ,‏ والطب‏ ,‏ والوراثة بضرورة تحريم تلك التجارب‏ ,‏ ومن أضرارها ما تم تلخيصه في مقال سابق جاء تحت عنوان النص القرآني الكريم على لسان الشيطان الرجيم حيث قال : " وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّه "‏ ‏(‏النساء‏:119) .‏
ومن هنا فإن النص القرآني الكريم الذي نحن بصدده والذي جاء في بداية الثلث الثاني من سورة الرعد بقول ربنا تبارك وتعالى : ‏‏"‏ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ " ‏(الرعد‏:16)‏ .
يأتي هذا النص ومضة من ومضات الإعجاز الإنبائي في كتاب الله تنبئ عن حدث لم يقع إلا بعد أكثر من أربعة عشر قرنا‏ ,‏ ولو أن النص الكريم فهم في القديم على أنه يتحدث عن الأصنام والأوثان التي أشركوها في عبادتهم لله‏ ,‏ إلا أن الأحداث قد جاءت في ختام القرن العشرين لتؤكد محاولات الإنسان لتقليد خلق الله بالاستنساخ‏ ,‏ ولا يمكن لعاقل أن يتخيل مصدرا لهذا العلم غير الله العليم الحكيم‏ .‏
فالحمد لله على نعمة الإسلام‏ ,‏ والحمد لله على نعمة القرآن‏ ,‏ والحمد لله على بعثة سيد الأنام‏ ,‏ سيد الأولين والآخرين‏ ,‏ وسيد الخلق أجمعين سيدنا محمد بن عبد الله الذي ختم الله ببعثته النبوات‏ ,‏ وأكمل برسالته الرسالات‏ ,‏ وأتم النعم والرحمات فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه‏ ,‏ ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين‏ ,‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏ .‏