من أسرار الإعجاز اللغوي والبياني في سورة القيامة


﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴿1﴾ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴿2﴾ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴿3﴾ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴿4﴾ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴿5﴾ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ﴿6﴾ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ﴿7﴾ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ﴿8﴾ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴿9﴾ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ﴿10﴾ كَلَّا لَا وَزَرَ ﴿11﴾ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ﴿12﴾ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴿13﴾ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴿14﴾ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴿15﴾ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴿16﴾ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ﴿17﴾ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ﴿18﴾ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴿19﴾ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ﴿20﴾ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ﴿21﴾ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ﴿22﴾ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴿23﴾ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ﴿24﴾ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ﴿25﴾ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ﴿26﴾ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ﴿27﴾ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ﴿28﴾ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ﴿29﴾ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴿30﴾ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ﴿31﴾ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴿32﴾ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ﴿33﴾ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴿34﴾ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴿35﴾ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴿36﴾ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ﴿37﴾ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ﴿38﴾ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴿39﴾ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴿40﴾

أولاً- سورة القيامة مكية بلا خلاف، وآياتها أربعون، وهي تعالج موضوع البعث والجزاء، الذي هو أحد أركان الإيمان، وتركِّز بوجه خاص على القيامة وأهوالها، والساعة وشدائدها، وعلى حالة الإنسان عند الاحتضار، وما يلقاه الكافر في الآخرة من المصاعب والمتاعب؛ ولذلك سمِّيت:{سورة القيامة }.

تبدأ السورة الكريمة بالتلويح بالقسم بيوم القيامة، وبالنفس اللوَّامة على أن البعث حقٌّ، لا ريب فيه. ثم تذكر طرفًا من ذلك اليوم المهول، الذي يتحيَّر فيه البصر، ويُخْسَف فيه القمر، ويُجمَع الخلائق والبشر للحساب والجزاء.
وتتحدَّث السورة الكريمة عن اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بضبط القرآن الكريم، عند تلاوة جبريل- عليه السلام- فقد كان عليه الصلاة والسلام يجهد نفسه في متابعة جبريل عليه السلام، ويحرِّك لسانه معه؛ ليسرع في حفظ ما يتلوه، فأمره الله تعالى أن يستمع للتلاوة، ولا يحرِّك لسانه به.
وتذكر السورة الكريمة انقسام الناس إلى فريقين: سعداء، وأشقياء. فالسعداء وجوههم مضيئة، تتلألأ بالأنوار، ينظرون إلى الرب جل وعلا.. والأشقياء وجوههم مظلمة قاتمة، يعلوها ذلٌّ وقَتَرَة.

ثم تتحدَّث السورة عن حال المرء عند الاحتضار، حيث تكون الأهوال والشدائد، ويلقى الإنسان من الكرب والضِّيق ما لم يكن في الحسبان. وتختتم بإثبات الحشر والمعاد بالأدلة والبراهين العقلية.

ثانيًا- هذه السورة الكريمة- كغيرها من سور القرآن الكريم- حافلة بأسرار البيان المعجز، الذي أعجز أرباب الفصاحة والبيان. وأول ما يطالعنا من هذه الأسرار البديعة المعجزة:
1-سر دخول ﴿ لَا﴾النافية على الفعل ﴿ أُقْسِمُ﴾ في الآية الأولى والثانية:
﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾(القيامة: 1- 2)
ويكاد يجمع العلماء- قديمًا وحديثًا- على القول بأن ﴿ لَا﴾هذه زائدة لتوكيد القسم، في حين ذهب بعضهم إلى أنها نافية للقسم، وذهب آخرون إلى أنها نافية لكلام تقدم ذكره، ثم ابتدىء بالقسم، إلى غير ذلك من الأقوال. ومن العلماء المعاصرين، الذين تحدثوا عن الخلاف في ﴿ لَا﴾هذه الدكتور فاضل السامرَّائي، وهو أشهر من أن يعرَّف به، ففي كتابه الغنيِّ عن التعريف { لمسات بيانية في نصوص من التنزيل } تحدث الدكتور فاضل عن لمسات بيانية في سورة { البلد }، وقد سأل السؤال الآتي: ما دلالة ( لا ) في القسم ؟ ثم أجاب بقوله:” أولاً- لم يرد في القرآن كلّه ( أقسم بـ ) أبدًا. كل القسم في القرآن ورد باستخدام ( لا )؛ كقوله تعالى:( لا أقسم بمواقع النجوم ) ، ( ولا أقسم بالخنّس )، ( فلا وربّك لا يؤمنون ).. وهكذا في القرآن كله..
فما هي ( لا ) ؟ اختلف النحاة في دلالة ( لا ): كلام عام من ( لا أقسم ) عمومًا، يقولون:( لا ) زائدة لتوكيد القسم بمعنى:( أقسم )، مثال قولنا: والله لا أفعل، معناها: لا أفعل. ولو قلنا: لا والله لا أفعل، معناها: لا أفعل. لا يختلف المعنى، والقسم دلالة واحدة.. وقسم يقولون: هي للنفي. أي: نفي القسم. والغرض منه أن الأمر لا يحتاج للقسم لوضوحه، فلا داعي للقسم.. وقسم قال: إنها تنفي لغرض الاهتمام؛ كأن تقول: لا أوصيك بفلان، بمعنى: لا أحتاج لأن أوصيك.
وفي السورة { لا أقسم بهذا البلد } تدور ( لا ) في كل هذه الأمور، على أنها توكيد للقسم، بمعنى:{ أقسم بهذا البلد }. إذن الغرض للتوكيد؛ لأن الأمر فيه عناية واهتمام “.
هذا ما قاله فضيلته بنصِّه، وهو مدوَّن في كتاب، وليس جوابًا ارتجاليًّا مباشرًا على الهواء، وهو كلام يحتاج من القارىء إلى كثير من التدبر والتأمل، حتى يستطيع فهمه؛ لأنه أشبه بالألغاز؛ وإلا فكيف يمكن أن يفهم قولهم:( والله لا أفعل، معناها: لا أفعل. ولو قلنا: لا والله لا أفعل، معناها: لا أفعل. لا يختلف المعنى والقسم دلالة واحدة).
أو كيف يمكن أن يفهم قوله:( وفي السورة { لا أقسم بهذا البلد } تدور ( لا ) في كل هذه الأمور، على أنها توكيد للقسم، بمعنى:{ أقسم بهذا البلد }. إذن الغرض للتوكيد؛ لأن الأمر فيه عناية واهتمام ).
هذا إلى ما فيه من خلط واضح بين نفي القسم، ونفي الحاجة إلى القسم. وبين قوله تعالى:{ لا أقسم }، وقوله تعالى:{ فلا وربك لا يؤمنون }..
وكأن الدكتور فاضل أحس بما في كلامه من اضطراب وخلط، فرجع عنه في حديثه عن { لمسات بيانية في سورة القيامة } إلى القول:” وباختصار كبير نرجح أن هذا التعبير إنما هو لون من ألوان الأساليب في العربية، تخبر صاحبك عن أمر يجهله أو ينكره، وقد يحتاج إلى قسم لتوكيده، لكنك تقول له: لا داعي أن أحلف لك على هذا. أو لا أريد أن أحلف؛ لأن الأمر على هذه الحال، ونحوه مستعمل في الدارجة عندنا نقول: ما أحلف لك أن الأمر كيت وكيت. أو ما أحلف لك بالله- لأن الحلف بالله عظيم- إن الأمر على غير ما تظن، فأنت تخبره بالأمر، وتقول له: لا داعي للحلف بالمعظمات على هذا الأمر.. أو كما ذهبت إليه الدكتورة بنت الشاطئ، وهو أن القصد من ذلك هو التأكيد... “
ومثل هذا الخلط نجده عند الطاهر ابن عاشور، يدل على ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى:﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾(الواقعة: 75):” و{ لا أقسم } بمعنى: أقسم، و( لا ) مزيدة للتوكيد. وأصلها: نافية، تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم.وبمعنى أنه غير محتاج إلى القسم؛ لأن الأمر واضح الثبوت. ثم كثر هذا الاستعمال، فصار مرادًا تأكيد الخبر، فساوى القسم، بدليل قوله عقبه:{ وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } “.
ثم قوله في سورة البلد:”و{ لا أقسم } صيغة تحقيققِ قَسَم، وأصلها: أنها امتناع من القسَم امتناع تحرُّج من أن يحلف بالمُقْسممِ به خشية الحنث، فشاع استعمال ذلك في كل قسم يراد تحقيقه، واعتبر حرف( لا ) كالمزيد كما تقدم عند قوله تعالى:{ فلا أقسم بمواقع النجوم }(الواقعة: 75) “.
لاحظوا قوله:”و{ لا أقسم } بمعنى: أقسم، و( لا ) مزيدة للتوكيد “.
ثم تأملوا قوله:”وأصلها: نافية، تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم“، وقوله:” وأصلها: أنها امتناع من القسَم امتناع تحرُّج من أن يحلف بالمُقْسممِ به خشية الحنث“،وتذكروا أن المقسم- هنا- هو الله عز وجل !
والله جل شأنه عندما يقول:﴿ لَا أُقْسِمُ بِكَذَا ﴾ فهذا لا يعني إلا شيئًا واحدًا فقط، وهو أنه تعالى ليس بحاجة إلى أن يقسم بشيء من مخلوقاته- مهما عظم ذلك الشيء- على أن المقسَم عليه حقٌّ، لا ريب فيه ! لأن كونه حقًّا لا يحتاج إلى يمين يؤكد حقِّيَّتَه وثبوته؛ كالبعث والنشور في هذه السورة الكريمة. والفرق واضح كل الوضوح بين أن نقول:{أقسمُ بيوم القيامة على أن البعث حق }، وبين أن نقول:{ لا أقسمُ بيوم القيامة على أن البعث حق }. فالأول يجعل من البعث أمرًا مشكوكًا في حقِّيَّته وثبوته عند المخاطب، بخلاف الثاني.
وإذا علمنا الفرق بين الجملتين أدركنا سرَّ دخول ﴿ لَا﴾النافية على فعلالقسم في هذه السورة، وفي غيرها من السور، التي يكون فيها ضمير الفعل عائدًا على الله جل وعلا، ويكون المقسَم عليه من الأمور اليقينيَّة الثابتة.
ومن هنا يمكننا القول بأن ﴿ لَا أُقْسِمُ﴾في القرآن، ليس بقسم مباشر، ولا هو نفي للقسم أو نفي لغيره؛ بل هو تلويح بالقسم، وعدول عنه لعدم الحاجة إليه. وهذا التلويح بالقسم مع العدول عنه- كما قال سيد قطب رحمه الله- أوقع في الحس والنفس من القسم المباشر، وهو أسلوب، ذو تأثير في تقرير الحقيقة، التي لا تحتاج إلى القسم؛ لأنها ثابتة واضحة.. وهذا هو سر البيان في هذا التركيب القرآني، الذي ما زال الناس في تفسيره يتخبطون !
وأما الفرق بين ﴿ لَا﴾في قوله تعالى:﴿ لَا أُقْسِمُبِكَذَا ﴾، وبينها في قوله تعالى:﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(النساء: 65) فيبينه أن الأولى موصولة بالقسم، وأن الثانية منفصلة عنه، والدليل على ذلك دخول الواو بينهما.
وأما الفرق بين نفي القسم، ونفي الحاجة إلى القسم، فقد أجابت عنه الدكتورة بنت الشاطىء بقولها:”وفرق بعيد أقصى البعد بين أن تكون﴿لَا ﴾لنفي القسم- كما قال بعضهم- وبين أن تكون لنفي الحاجة إلى القسم؛ كما يهدي إليه البيان القرآني..ومن نفي الحاجة إلى القسم يأتي التأكيد، والتقرير؛لأنه يجعل المقام في غنًى بالثقة واليقين عن الإقسام. والسر البياني لهذا الأسلوب يعتمد في قوة اللفت- على ما يبدو- بين النفي، والقسم من مفارقة مثيرة لأقصى الانتباه، وما زلنا بسليقتنا اللغوية نؤكد الثقة بنفي الحاجة معها إلى القسم، فنقول لمن نثق فيه: لا تقسم. أو: من غير يمين، مقررين بذلك أنه موضع ثقتنا، فليس بحاجةإلى أن يقسم لنا “.
وأما القول بأن{ لا أقسم } بمعنى:{ أقسم }،بدليل قوله تعالى:﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾(الواقعة: 76 )فقد أجاب عنه الأستاذ محمد إسماعيل عتوك في مقاله{ دخول{ لا } النافية على فعل القسم}، والموجود على هذا الرابط:
http://www.55a.net/firas/arabic/?pag...&select_page=9
وفيه من البيان والتوضيح في تفسير هذا التركيب القرآني ما يكفي.
2- والسر الثاني من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ نفي الفعل﴿نَجْمَع ﴾بـ﴿ لََنْ﴾، وتخيصه بـ{ العظام }، في قوله تعالى:
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 3)
ولمَّا عُدِلَ عن القسم المباشر بيوم القيامة والنفس اللوَّامة اكتفاء بالتلويح به، عُدِلَ عن ذكر المقسَم عليه، وكان ظاهر الكلام يقتضي أن يقال:
﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾، ﴿ لَتُبْعَثُنَّ ﴾
ولكن عُدِلَ عن هذا للعلة السابقة، وجيء به في صورة أخرى؛ كأنها ابتداء لحديث، بعد التنبيه إليه، بهذا المطلع، الذي يوقظ الحس والمشاعر:
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 3)
وقد كانت المشكلة الشعورية عند المشركين هي صعوبة تصورهم لجمع العظام البالية، الذاهبة في التراب، المتفرقة في الثرى، لإعادة بعث الإنسان حيًّا! وهي مشكلة لا تزال كذلك عالقة في بعض النفوس الضعيفة والمريضة إلى يومنا هذا ! وقد تردد ذكرها في القرآن كثيرًا على ألسنة المشركين، ومن ذلك قوله تعالى حكاية عنهم:
﴿ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ *﴿أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ﴾(الواقعة: 47- 48)
والقرآن الكريم يردُّ عليهم، فيقول سبحانه:
﴿ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ ﴾ *﴿ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴾(الواقعة: 49- 50)
ونحو ذلك قوله تعالى:
﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾(يس:78)
ويأتي الرد من الله تعالى:
﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾(يس: 79)
ومثل ذلك قوله تعالى هنا:
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 3)
فجاءت الآية على جهة التوبيخ لهم، في اعتقادهم أن الله تعالى لا يجمع عظامهم، فردَّ عليهم تعالى بقوله مؤكدًّا وقوعه:
﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾(القيامة: 4)
والمعنى: أيحسب الإنسان بعد أن خلقناه من عدم أن لن نجمع ما بلى وتفرق من عظامه ؟ بلى ! إننا لقادرون على أن نسوِّيَ أطراف أصابعه الصغيرة، ونجعلها كما كانت قبل الموت، فكيف بالعظام الكبار.
وقد أعاد الله تعالى هذا الاعتراض مع الجواب عليه بصورة أخرى، في آخر السورة، فقال سبحانه:
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى *ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى *فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى *أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾(القيامة: 36- 40)
والاستفهام في قوله تعالى:﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ ﴾لإنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه. والتعريف في﴿ الْإِنْسَانُ ﴾تعريف الجنس، والمراد به هنا جنس الكافر، المنكر للبعث.
وأما سرُّ تخصيص فعل الجمع بالعظام فلأن العظام هي قالب النفس، لا يستوي الخَلْقُ إلا باستوائها، وأنها أبعد شيء عن الحياة بعد البلى. وجمعها بعد البلى لا قدرة لأحد عليه سوى الله، الذي خلقها أول مرة، سبحانه وتعالى! قال ابن قيِّم الجوزيَّة:”الذي أحصاه المشرحون من العظام في البدن مائتان وثماني وأربعون عظمًا، سوى الصغار السَّمسَميَّات، التي أحكمت بها مفاصل الأصابع، والتي في الحنجرة.. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان خلق من ثلاثمائة وستين مفصلاً. فإن كانت المفاصل هي العظام، فقد اعترف جالينوس وغيره بأن في البدن عظامًا صغارًا، لم تدخل تحت ضبطهم وإحصائهم. وإن كان المراد بالمفاصل المواضع، التي تنفصل بها الأعضاء بعضها عن بعض- كما قال الجوهري وغيره- فتلك أعم من العظام.. فتأمله !“.
3- والسر الثالث من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ اختيار لفظ البنان وتخصيصه بالتسوية في قوله تعالى:
﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾(القيامة: 4)
و﴿ بَلَى﴾حرف جواب، ولها موضعان:
الموضع الأول:أن تكون ردًّا لنفي يقع قبلها؛ كقوله تعالى:
﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(النحل: 28)
أي: بلى ! قد عملتم السوء.
والموضع الثاني:أن تقع جوابًا لاستفهام، دخل عليه نفي حقيقة، فيصير معناها التصديق لما قبلها؛ كقولك: ألم أكن صديقك ؟ ألم أحسن إليك ؟ فتقول: بلى ! أي: كنت صديقي. ومنه قوله تعالى:
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾؟﴿قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا﴾(الملك: 8- 9)
فهي في هذا الموضع تصديق لما قبلها، وفي الأول ردُّ لما قبلها، وتكذيب.
ويجوز أن يقرن النفي بالاستفهام مطلقًا؛ حقيقيًّا كان، أو مجازيًّا.
فالمجازي كقوله تعالى:
﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾؟﴿ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا﴾(الأعراف: 172)
أي: بلى! أنت ربنا ! فان الاستفهام هنا ليس على حقيقته؛ بل هو للتقرير. لكنهم اجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده بـ﴿ بَلَى﴾. وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما:”لو قالوا: نعم، لكفروا“. ووجهه أن لفظة { نعم }تصديق لما بعد الهمزة؛ نفيًا كان، أو إثباتًا.
والحقيقي كقوله تعالى:
﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ﴾ ؟﴿ بَلَى ﴾(الزخرف: 80)
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾ ؟ ﴿ بَلَى قَادِرِينَ ﴾(القيامة: 3- 4)
ومن ثمَّ قال الجمهور: التقدير: بلى! نجمعها قادرين؛ لأن الحسبان؛ إنما يقع من الإنسان على نفي جمع العظام، و﴿ بَلَى﴾إثبات فعل النفي، فينبغي أن يكون فعل الجمع بعدها مذكورًا على سبيل الإيجاب.
وقوله تعالى:﴿ قَادِرِينَ ﴾حال مقيِّد لفعل الجمع المقدَّر، وفيه بعد الدلالة على التقييد، تأكيد لمعنى الجمع؛ لأن الجمع من الأفعال، التي لا بدَّ فيها من القدرة، فإذا قُيِّد بالقدرة البالغة، فقد أُكِّدَ .
والبنان في قوله تعالى:﴿ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾يطلق في اللغة، ويراد به: الأصابع، وأطرافها. وقيل: سمِّيت الأصابع بذلك؛ لأن بها صلاح الأحوال، التى يمكن للإنسان أن يَبْني بها. وقال تعالى:
﴿ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾(الأنفال: 12)
أي: الأصابع، أو أطرافها؛ لأجل أنهم بها يقاتلون؛ فإنه لا ظهور على العدوِّ إلا بضرب بنانه. والمراد بها في قوله تعالى:
﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾(القيامة: 4)
أطراف الأصابع.وهذه الآية الكريمة من أقوى الأدلة على جمع أجزاء الإنسان المتفرقة، وأبلغ دليل في تصوير القدرة الإلهية على ذلك؛ إذ تؤكد عملية جمع العظام، بما هو أرقى من مجرد جمعها، وهو تسوية البنان، وتركيبه في موضعه كما كان، وهي كناية عن إعادة التكوين الإنساني بأدق ما فيه، وإكماله بحيث لا تضيع منه بنان، ولا تختل عن مكانها؛ بل تُسوَّى تسويةً كاملة، مهما صغُرت ودقَّت! وبهذا يُعلَم سرُّ تخصيص لفظ { البنان} بالذكر- هنا- دون غيره.
وقد كشفت العلوم الحديثة عن هذا السر؛ إذ تبين أن البشرية بأسرها، قد ميَّز الله العليم القادر بين جميع أفرادها بميزة، لا يمكن أن يشترك فيها اثنان منهم، حتى الأب مع ابنه، تلك الميزة هي اختلاف البنان، تلك الخطوط الدقيقة في أنامل كل إنسان. فثبت بذلك أن أصابع الإنسان هي التي تحدد شخصيته، وأن بصمات الأصابع هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذه الشخصية، ونشأ عن ذلك علم، سمِّي:{علم تحقيق الشخصيَّة }.
فإذا كان الأمر كذلك، وقد أخبر تعالى أنه قادر على جمع عظام الإنسان وإعادة بنان كل فرد بهيئته وشكله وصورته، فكيف يستبعد الجاحد على من هذه قدرته، إعادته إلى الحياة مرة أخرى ؟
وبالتالي فالآية نصٌّ صريحٌ في جمع الأجزاء المتفرقة، حتى أصغر وأدق جزء منها، ودليلٌ على أن بدن الإنسان يتفرق، ولا ينعدم.
وهكذا نرى أن قوله تعالى:﴿ أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾يدل على معنى، لم يكشف العلم سره، إلا بعد نزول القرآن بأكثر من ألف وأربعمائة سنة، حينما عرف أن لكل بنان بصمة خاصة، تختلف فيها اتجاهات خطوطها اختلافًا واضحًا بين فرد وآخر. وصدق رب العزة حين قال:
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(فصلت: 53)
4- والسر الرابع من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ التكرار:
ومن ذلك ما جاء فيها من تكرار في الآيتين: الأولى والثانية. وفي الآيتين: الثامنة والتاسعة. وفي الآيتين: الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين.
أ-أما التكرار في الآيتين: الأولى والثانية:
﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾*﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾(القيامة: 1- 2)
ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الله تعالى أقسم بيوم القيامة، وبالنفس اللوَّامة.
والثاني: أنه أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوَّامة.
والثالث: أنه لم يقسم بهما.
وقد سبق أن ذكرت أن قوله تعالى:﴿ لَا أُقْسِمُ﴾ ليس بقسم مباشر؛ بل هو تلويحبالقسم وعدول عنه، لعدم الحاجة إليه. وأن﴿ لَا ﴾ جيء بها قبل الفعل ﴿ أُقْسِمُ﴾، لنفي الحاجة إلى القسم، ولم يؤتَ بها لغرض آخر. وهذا هو سرُّ البيان فيها. وأما تكرارها مع الفعل﴿ أُقْسِمُ﴾ففيه سرٌّ آخرُ من أسرار البيان، وبيان ذلك أنه لو قيل:
﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَبِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾، احتمل ذلك معنيين:
أحدهما: نفي الحاجة إلى القسم بهما مجتمعين.
والثاني: نفي الحاجة إلى القسم بأحدهما، دون الآخر.
وأما قوله تعالى:
﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾
فيدل على نفي الحاجة إلى القسم بهما مجتمعين ومنفردين. وهذا يعني أن التكرار هنا مقصود، ويدلك على ذلك أن السورة الكريمة تقوم من مطلعها إلى ختامها على المزاوجة بين إيقاع يوم القيامة، وإيقاع النفس اللوَّامة؛وكأن هذا المطلع إشارة إلى موضوع السورة. أو كأنه اللازمة الإيقاعية، التي ترتد إليها كل إيقاعات السورة بطريقة دقيقة جميلة.

أما يوم القيامة فقد ورد وصفه في هذه السورة وفي غيرها بما لم يوصف به غيره، وسيمر بنا شيء من هذا الوصف.. وأما النفس اللوَّامة فقد روي في تفسيرها أقوال متنوعة، كلها متقاربة المعنى، ولعل أقربها إلى المراد ما روي عن الحسن البصري من قوله: إن المؤمن، والله ! ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي ؟ ما أردت بأكلتي ؟ ما أردت بحديث نفسي ؟ وإن الفاجر يمضي قدمًا، ما يعاتب نفسه. وعنه أيضًا: ليس أحد من أهل السماوات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة.
يقول سيد قطب رحمه الله:” فهذه النفس اللوَّامة، المتيقظة التقية، الخائفة المتوجِّسة، التي تحاسب نفسها، وتتلفت حولها، وتتبين حقيقة هواها، وتحذر خداع ذاتها، هي النفس الكريمة على الله؛ حتى ليذكرها مع يوم القيامة. ثم هي الصورة المقابلة للنفس الفاجرة، نفس الإنسان، الذي يريد أن يفجر أمام خالقه، فيسأل سؤال المتهكم عن يوم القيامة، مستبعًدا وقوعه، ويمضي قدمًا في فجوره وغيِّه دون حساب لنفسه، ودون تلوُّم، ولا تحرُّج، ولا مبالاة ! “.
﴿ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ *يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾(القيامة: 5- 6)
والسؤال بـ﴿ أَيَّانَ ﴾هذا اللفظ المديد الجرس، يوحي باستبعاد ذلك السائل لهذا اليوم الواقع لا محالة؛ وذلك تمشيًا مع رغبته في أن يفجر، ويمضي في فجوره، لا يصدُّه شبح البعث، وشبح الآخرة. والآخرة لجام للنفس الراغبة في الشر، ومَصَدٌّ للقلب المحب للفجور؛ فهو يحاول إزالة هذا المَصَدِّ، وإزاحة هذا اللجام؛ لينطلق في الشر والفجور، بلا حساب ليوم الحساب.
ومن ثمَّ كان الجواب على تهكمه بيوم القيامة، واستبعاده لموعده سريعًا خاطفًا حاسمًا، ليس فيه تريث، ولا إبطاء، حتى في إيقاع النظم، وجرس الألفاظ..
﴿ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ *وَخَسَفَ الْقَمَرُ *وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ *يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ *كَلَّا لَا وَزَرَ *إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ *يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ *بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ *وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾(القيامة: 7- 15)
ب- وأما التكرار في الآيتين: الثامنة والتاسعة:
﴿ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ﴾ *﴿ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾(القيامة: 8- 9)
فالمراد به تكرار لفظ { القمر }. والسر في هذا التكرار أن الله تعالى أخبر عنه في الآية الثانية بغير الخبر في الأولى. فخسْف القمر غير جمعه مع الشمس. وخسفه معناه: ذهاب ضوئه وإظلامه. قال أبو حاتم محمد بن إدريس:”إذا ذهب بعضه فهو كسوف، وإذا ذهب كله فهو الخسوف“.
وغلِّب المذكر على المؤنث في الآية الثانية، لاجتماع الشمس والقمر. ولو قيل: طلع الشمس والقمر، بدلاً من جمع الشمس والقمر، لقبح؛ كما يقبح أن يقال: قام هند وزيد، إلا أن يراد بالواو: الواو الجامعة، لا العاطفة. وأما في الآية الكريمة فلا بد أن تكون الواو جامعة، وهي التي تسمَّى واو المعيَّة، ولفظ الجمع قبلها يقتضي ذلك، وهي في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه:
﴿ وَجُمِعَ بين الشَّمْس وَالْقَمَر﴾.
وقيل في المراد من جمعهما: أن الله تعالى يجمع بينهما يوم القيامة، ويلقيهما في النار؛ ليكونا عذابًا على الكفار. وفي تنوير المقباس من تفسير ابن عباس رضي الله عنهما:” يجمع بينهما كالثورين المقرونين العقيرين الأسودين فيرمَي بهما في حجاب النور “.
وجمعُ الشمس والقمر هو عبارة عن فناء الكون. أي: يحدث وقت التحام الشمس والقمر. في ذلك الوقت يحدث اضطراب بين النجوم والكواكب، وتوابعها، فتصطدم ببعضها، وتتحطم، ثم تتناثر.
ويؤكِّد العلماء أن جمع الشمس والقمر سوف يكون بفعل فقدان تعادل القوى الجاذبة والطاردة، وسينجذب القمر الى مركزه الأصلي، وهو الشمس.
ذكر الأستاذ عبد الدايم كحيل في مقال له، نشر في هذه الموسوعة تحت عنوان{ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ }، أن علماء الفلك يخبرون بنتيجة حساباتهم أن الشمس ستتحول إلى عملاق أحمر بعد خمسة آلاف مليون عام، وفي تلك اللحظة سيكبر حجم الشمس، حتى يصل غلافها إلى حدود القمر، وسيتم اجتماع الشمس والقمر!“.
ثم قال:”منذ عام/ 1695 لاحظ العالم هالي Edmund Halley أن دوران الأرض يتباطأ مع الزمن، وبعد ذلك وعندما تطورت القياسات الفلكية تمكن العلماء من اكتشاف أن القمر يبتعد عن الأرض تدريجياً وبمعدل/ 4 سم كل عام.
وفي ذلك الوقت سيكون القمر أبعد عن الأرض بمعدل/ 40 بالمائة أكبر من بعده الحالي. أي: أنه سيكون أقرب إلى الشمس، عند هذه المرحلة سوف يتحطم القمر، وينخسف كما تنخسف الأرض أثناء الزلزال.. وبالتالي سيكون القمر أول من يجتمع مع الشمس، ويتأثر بحرارتها.. في ذلك الوقت سيكون طول اليوم على الأرض/ 47 ضعف اليوم الحالي، وسيصبح طول الشهر/ 47 يومًا.
ويؤكد العلماء أن القمر ما هو إلا جزء من الأرض نتج عن اصطدامات، تعرضت لها الأرض قبل{ 4.5 } بليون سنة، فتناثرت أجزاء من الأرض، وبدأت تدور حولها، ثم تجمعت وشكلت القمر. والقمر يبعد عن الأرض{ 385 } ألف كيلو متر وسطياً، هذه المسافة قطعها القمر بعد رحلة شاقة، استمرت آلاف الملايين من السنوات، ولا يزال القمر يبتعد عن الأرض حتى يدخل في نطاق جاذبية الشمس، ويكون الاجتماع بينهما.. ويؤكد العلماء أن اقتراب الشمس من القمر واقتراب القمر من الشمس واجتماعهما حقيقة مؤكدة بناء على القوانين التي تحكم الكون “.
فالله القادر على جمع الشمس والقمر في هذا اليوم هو على جمع عظام الإنسان بعدما فرَّقها البلى ومزَّقها أقدر وأقدر، وإن كان الكل أمام القدرة الإلهية سواء !
ج- وأما التكرار في الآيتين: الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين:
﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴾*﴿ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴾(القيامة: 34- 35)
فقد جاء فيهما لفظ﴿أَوْلَى﴾مكررًا أربع مرات. والغرض من هذا التكرار المبالغة في التهديد والوعيد. والخطاب لأبي جهل، عمرو بن هشام، الذي تقدم وصفه في الآيات، التي سبقت هاتين الآيتين، وهي قوله تعالى:
﴿ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى﴾ *﴿وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ * ﴿ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ﴾(القيامة: 31- 33)
وكان يجيء أحيانًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسمع منه القرآن، ثم يذهب عنه، فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدب ولا يخشى، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول، ويصد عن سبيل الله، ثم يذهب مختالاً بما فعل، فخورًا بما ارتكب من الشر؛ كأنما فعل شيئًا يذكر.
والتعبير القرآني يتهكم به، ويسخر منه، ويثير السخرية كذلك، وهو يصور حركة اختياله بأنه﴿يَتَمَطَّى ﴾، وهو ذاهب إلى أهله. أي: يمطُّ في ظهره، ويتعاجب تعاجبًا ثقيلاً كريهًا !
والله تعالى يواجه هذه الخيلاء الشريرة بالتهديد والوعيد، فيقول سبحانه:
﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى *ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴾
وهو تعبير اصطلاحي، يتضمن التهديد والوعيد. ومعناها: قاربك ما تكره، فاحذره. وهو مأخوذٌ من الوَلِيِّ، وهو القرب.
وفي ( زاد المسير ) لابن الجوزيِّ:”قال ابن قتيبة: هو تهديد ووعيد. وقال الزجاج: العرب تقول: أولى لفلان، إذا دعت عليه بالمكروه، ومعناه: وَلِيَكَ المكروه، يا أبا جهل ! “.
وقال الكرماني في ( أسرار التكرار ):”فإن قوله:﴿ أَوْلَى﴾تامٌّ في الذمِّ، بدليل قوله:﴿ فَأَوْلَى لَهُمْ ﴾(محمد: 20)، فإن جمهور المفسرين ذهبوا إلى أنه للتهديد؛ وإنما كرَّرها؛ لأن المعنى: أولى لك الموت، فأولى لك العذاب في القبر، ثم أولى لك أهوال يوم القيامة، وأولى لك عذاب النار، نعوذ بالله من شرها “.
وفي المستدرك على الصحيحين: عن سعيد بن جبير، قال:”قلت لابن عباس رضي الله عنهما:﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴾، أشيءٌ قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو شيءٌ أنزله الله ؟ قال: قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنزله الله “.
وفي لباب النقول في أسباب النزوللجلال الدين السيوطي:” أخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة، قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل، فقال: إن الله أمرني أن أقول لك:
﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴾
قال: فنزع ثوبه من يده، فقال: ما تستطيع لي أنت، ولا صاحبك من شئ، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاءَ، وأنا العزيز الكريم. فقتله الله يوم بدر وأذله، وعيَّره بكلمته، ونزل فيه:
﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾(الدخان: 49) “.
5- والسر الخامس من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّالتقديم والتأخير:
ومن ذلك سر تقديم الخبر على المبتدأ، أو على ما أصله المبتدأ. وتقديم شبه الجملة على ما يسمَّى: عاملها.
أ- أما تقديم الخبر على المبتدأ، أو على ما أصله المبتدأ فنلاحظه في الآيات الآتية:
﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾(القيامة: 12)
﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾(القيامة: 30)
﴿ إِِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ﴾(القيامة: 17)
﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾(القيامة: 19)
ففي الآية الأولى قُدِّم الخبر﴿إِلَى رَبِّكَ﴾على المبتدأ﴿الْمُسْتَقَرُّ﴾، والسر في هذا التقديم هو إفادة معنى التخصيص، مع تحسين اللفظ. والمعنى: أن مستقر العباد يوم القيامة إلى ربهم خاصة، لا إلى غيره، فلا مفرَّ لهم منه سبحانه إلا إليه.
قال الزمخشري:”أي: استقرارهم. يعني: أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره، وينصِبوا إليه. أو: إلى حكمه ترجع أمور العباد، لا يحكم فيها غيره؛ كقوله:
﴿لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ﴾(غافر: 16).
أو: إلى ربك مستقرُّهم. أي: موضع قرارهم، من جنة، أو نار “.
وما قيل في تقديم الخبر على المبتدأ يقال مثله في تقديمه على ما أصله المبتدأ في قوله تعالى:
﴿ إِِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ﴾ ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾(القيامة: 17- 19)
أي: إن على الله تعالى وحده جمع القرآن في صدر محمد صلى الله عليه وسلم، وإثبات قراءته في لسانه، ثم إن عليه وحده سبحانه بيانه. فالله سبحانه تكفل بجمعه، وقرآنه، وبيانه. وبيانه يكون على ألسنة العلماء المتدبرين على مر الدهور والعصور، الغائصين في مكنوناته، المتحيرين في أسرار إعجازه. وهذا يعني: أن بيان القرآن الكريم لم ينفرد به شخص دون آخر، ولم يقتصر على زمن دون زمن.
أما لفظ { قرآن }هنا فهو مصدر:{ قرأ }، جيء به بدلاً من { قراءة }؛ ليدل على المبالغة في القراءة. هذا أصله، ثم أطلق على الكتاب المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم، فصار علمًا عليه. ومثله في دلالته على المبالغة:{ فرقان}، و{غفران }، و{شكران }، و{كفران }.
ب- وأما تقديم شبه الجملة على ما يسمَّى: عاملها، فنلاحظه في الآيات الآتية:
﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾(القيامة: 12)
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾(القيامة: 14)
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ﴾(القيامة: 22)
﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾(القيامة: 23)
﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ﴾(القيامة: 24)
﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾(القيامة: 30)
ففي هذه الآيات تقدم الظرف، والجارُّ والمجرور على ما يطلق عليه في النحو العربي مصطلح{ العامل }. والغرض من هذا التقديم هو الاختصاص، وهو الغرض نفسه من تقديم الخبر على المبتدأ في الآيات، التي تقدَّم ذكرها قبل هذه الآيات. وفي قوله تعالى:
﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾(القيامة: 23)
قال الزمخشري:”تنظر إلى ربها خاصَّة، لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول “.
واستطرد الزمخشري قائلاً:”ألا ترى إلى قوله:
﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾(القيامة: 12)
﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾(القيامة: 30)
﴿ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ﴾(الشورى: 53)
َ﴿ إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ ﴾(آل عمران: 28)
﴿َ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾(البقرة: 28)
﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾(هود: 88)
كيف دلَّ فيها التقديم على الاختصاص ! “.
ومصطلح{ المفعول }يطلق- عند النحاة- ويراد به: شبه الجملة؛ كما يراد به: المفعول به.
وذكر الهاشمي في{ جواهر البلاغة } من فوائد التقديم: ما يفيد زيادة في المعنى، مع تحسين في اللفظ، ثم قال:”وذلك هو الغاية القصوى، وإليه المرجع في فنون البلاغة، والكتاب الكريم هو العمدة في هذا.. انظر إلى قوله تعالى:
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾(القيامة: 22- 23)
تجد أن تقديم الجارِّ في هذا قد أفاد التخصيص، وأن النظر لا يكون إلا لله، مع جَوْدَة الصياغة، وتناسق السجَع “.
6- والسر السادس من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ دخول{ الواو }على { لو } الشرطية، في قوله تعالى:
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ *وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾(القيامة: 14- 15)
و﴿ بَلِ﴾للإضراب الانتقالي، وهو للترقي من مضمون الجملة السابقة:
﴿ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾(القيامة: 13)
إلى الإخبار بأن الإنسان يعلم ما فعله. فالمعنى: بل الإنسان حجَّة بيِّنة على نفسه يوم القيامة، وشاهد عليها وحده بما جنت، وارتكبت من الموبقات، ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عنها؛ وذلك لأن جوارحه تنطق يومئذ بذلك..
﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(النور: 24)
ولهذا لا يحتاج إلى غيره؛ لينبئه بأعماله. ألا ترى إلى قوله:
﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ ﴾ *﴿ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ﴾(الحاقة: 25)
وهو كقوله تعالى:
﴿اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾(الإسراء: 14)
فالبصيرة على هذا هي الحجة البينة الظاهرة؛ مثلها في قوله تعالى:
﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾(يوسف: 108)
والتاء فيها للمبالغة؛ كما في{ راوية }، و{ علاَّمة }، و{ونسَّابة }.
وقيل: البصيرة اسم للإدراك التام الحاصل في القلب؛ كما أن البصر اسم للإدراك التام الكامل الحاصل بالعين. وقيل: البصيرة: العقل، الذي تظهر به المعاني والحقائق؛ كما أنّ البصر إدراك العين، الذي تتجلى به الأجسام. وتجمع على بصائر. قال تعالى:
﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾(104)
والمعنى المراد من الآية أن الإنسان بصير على نفسه، رغم المعاذير، التي يأتي بها. وهذا ما أفادته { الواو }الداخلة على ﴿لَوْ ﴾في العبارة الشرطية، التي جاءت قيدًا على الجملة قبلها. ولولا هذه الواو، لكان إلقاء المعاذير شرطًا في كون الإنسان بصير على نفسه، فجاءت الواو لتحصن المعنى..
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ *وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾
ومثل ذلك قوله تعالى:
﴿وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾(البقرة: 221)
﴿وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾(يوسف: 17)
7- والسر السابع من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ دخول { الباء }على خبر المنفي بـ{ ليس }، في قوله تعالى:
﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾(القيامة: 40)
لما ذكر الله تعالى في أول السورة الكريمة إمكان البعث والنشور في صورة تقريرية حاسمة ردًّا على منكريه، ذكر سبحانه في آخرها الأدلة على النشأة الآخرة بالنشأة الأولى، ثم ختم سبحانه السورة الكريمة بقوله:
﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾(القيامة: 40)
وهذه الحقيقة، حقيقة النشأة الأولى، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى، وعلى أن هناك تدبيرًا في خلق هذا الإنسان وتقديرًا، هي إحدى الحقائق الكبيرة، التي عرضتها السورة الكريمة، إلى جانب مشهد يوم القيامة، وما يجري فيه من انقلابات كونية، ومن اضطرابات نفسية، ومن حيرة وقلق في مواجهة الأحداث الغالبة، حيث يتجلى الهول في صميم الكون، وفي أغوار النفس، وهي تروغ من هنا ومن هناك؛ كالفأر في المصيدة ! وذلك ردًّا على تساؤل الإنسان الكافر عن يوم القيامة، في شك واستبعاد ليومها المغيَّب، واستهانة بها، ولجاج في الفجور.
وهي- كما قال سيد قطب رحمه الله- حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها، وتتابعها في صنعة مبدعة، لا يقدر عليها إلا الله، ولا يدعها أحد ممن يكذبون بالآخرة، ويتمارون فيها. فهي قاطعة في أن هناك إلهًا واحدًا، يدبر هذا الأمر ويقدره؛ كما أنها بيِّنة، لا ترد على يسر النشأة الآخرة، وإيحاء قوي بضرورة النشأة الآخرة، تمشيًّا مع التقدير والتدبير، الذي لا يترك هذا الإنسان سدى، ولا يدع حياته وعمله بلا وزن ولا حساب.. وهذا هو الإيقاع، الذي تمسُّ السورة به القلوب، وهي تقول في أولها:
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 3)
ثم تقول في آخرها:
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى *ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى *فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾(القيامة:36- 40)
وهذا المقطع الأخير العميق الإيقاع، يشتمل على لفتات عميقة إلى حقائق كبيرة، ما كان المخاطبون بهذا القرآن يخطرونها على بالهم في ذلك الزمان. وأولى هذه اللفتات تلك اللفتة إلى التقدير والتدبير في حياة الإنسان:
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾
فلقد كانت الحياة في نظر القوم حركة، لا علة لها، ولا هدف، ولا غاية.. أرحام تدفع، وقبور تبلع.. وبين هاتين لهو ولعب، وزينة وتفاخر، ومتاع قريب زائل من متاع الحيوان.
فأما أن يكون هناك ناموس، وراءه هدف، ووراء الهدف حكمة، وأن يكون قدوم الإنسان إلى هذه الحياة وفق قدر يجري إلى غاية مقدرة، وأن ينتهي إلى حساب وجزاء، وأن تكون رحلته على هذه الأرض ابتلاء، ينتهي إلى الحساب والجزاء.. أما هذا التصور الدقيق المتناسق، والشعور بما وراءه من ألوهية قادرة مدبرة حكيمة، تفعل كل شيء بقدر، وتنهي كل شيء إلى نهاية.. أما هذا فكان أبعد شيء عن تصور الناس ومداركهم، في ذلك الزمان.
وهذه اللمسة: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾هي إحدى لمسات القرآن التوجيهية للقلب البشري؛ كي يتلفت ويستحضر الروابط والصلات، والأهداف والغايات، والعلل والأسباب، التي تربط وجوده بالوجود كله، وبالإرادة المدبرة للوجود كله.
وفي غير تعقيد ولا غموض، يأتي سبحانه وتعالى بالدلائل الواقعة البسيطة، التي تشهد بأن الإنسان لن يترك سدى.. إنها دلائل نشأته الأولى، التي يدركها الإنسان بفطرته السليمة:
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى *ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى *فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴾(القيامة:36- 39)
وأمام هذه الحقيقة، التي تفرض نفسها فرضًا على الحس البشري، يجيء الإيقاع الشامل لجملة من الحقائق، التي تعالجها السورة:
﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾ ؟
وجمهور العلماء على القول بأن همزة الاستفهام، إذا دخلت على النفي؛ كما في هذه الآية:﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ ﴾،أفادت معنى التحقيق والتقرير، وأن الباءالداخلة على الخبر ﴿ بِقَادِرٍ ﴾ زائدة للتوكيد، وعليه يكون قوله تعالى:
﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ ﴾، وقولهم في تقديره:
{ أليس ذلك قادرًا} ، سواء في المعنى.
وفي الحقيقة أن الهمزة الداخلة على النفي لا تفيد معنى التقرير في الجمل المنفية، إلا بدخول { الباء }على خبر المنفي، أو ما يقوم مقامه. وبعبارة أخرى: التقرير لا يستفاد من دخول الهمزة على النفي؛ وإنما يستفاد من دخول الباء على الخبر الواقع في سياق هذا المنفي. ونحو ذلك قوله تعالى:
﴿ أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾(الأنعام: 53)
﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾(الزمر: 36)
﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ﴾(الزمر: 37)
﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾(التين: 8)
فالنفي في هذه الآيات جميعًا، ونحوها قد انتقض، وخرج إلى إثبات حاسم، مرادًا به التقرير. أما الإثبات فمستفاد من دخول { الهمزة }على ﴿ لَيْسَ﴾. وأما التقرير فمستفاد من دخول الباء على الخبر. وهذا هو سرُّ الإعجاز البياني في هذه الباء، التي حكموا عليها ظلمًا وعدوانًا بالزيادة !
ثالثًا- وبعدُ.. فإنه ينفد القول، وما تنفد كلمات ربي، وما تنطوي عليه من أسرار البيان. وإن كنت قد اكتفيت بهذا القدر مما ذكرت من هذه الأسرار المبهرة في هذه السورة الكريمة، فأرجو ألا يظن أحد أنني قد أتيت على كل ما فيها من أسرار؛ فإنه لا يزال فيها الكثير مما أجهله، إذا ما قيس بالقليل، الذي أزعم أنني أعلمه، فما يعلم أسرار كلمات ربك إلا هو، سبحانه وتعالى أن يحيط بهذه الأسرار مخلوق من مخلوقاته. فتبارك من أودع كلامه هذه الأسرار، التي هي أجل وأعظم من أن تدركها العقول، فإن ما ظهر لنا منها بالنسبة إلى ما خفي يسيرٌ يسير.. والحمد لله رب العالمين !
الأستاذة: رفاه محمد علي زيتوني
مدرسة لغة عربية- حلــــب