" أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ .‏ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ "‏‏ (الواقعة:59،58).





هاتان الآيتان الكريمتان جاءتا في مطلع الثلث الأخير من سورة الواقعة‏ ,‏ وهي سورة مكية‏ ,‏ وعدد آياتها ست وتسعون‏ (96)‏ بعد البسملة‏ ,‏ وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بذكر القيامة و‏ (الواقعة‏)‏ من أسمائها‏ ,‏ ومن دلالاته ‏:‏ حتمية وقوعها ووجوبها بنزول صيحة القيامة وذلك حين ينفخ النفخة الثانية في الصور‏ .‏
ويدور المحور الرئيسي لسورة الواقعة حول قضية البعث‏ ,‏ والتأكيد على حتمية وقوعه‏ ,‏ والرد على منكريه‏ ,‏ ولذلك تبدأ السورة الكريمة بقول ربنا ـ تبارك وتعالى‏: ‏" إِذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ .‏ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ . خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ " (الواقعة‏:1‏-‏3) .‏
ومن معاني خافضة رافعة أنها تخفض أقواما كانوا في الدنيا من أصحاب الجاه والسلطان‏ ,‏ وذلك لكفرهم بالله ـ تعالى ـ أو شركهم به‏ ,‏ أو ظلمهم لعباد الله وتجبرهم على خلقه‏ ,‏ أو تكبرهم على عبادة الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ وتطاولهم على أوامره‏ ;‏ وترفع أقواما آخرين كانوا في الدنيا من البسطاء المغمورين‏ ,‏ ولكنهم كانوا من المؤمنين بالله ورسوله‏ ,‏ الواقفين عند حدوده‏ ,‏ القائمين على عبادة الله ـ تعالى ـ بما أمر‏ ,‏ والمجاهدين من أجل عمارة الأرض وحسن القيام بواجبات الاستخلاف فيها وإقامة عدل الله عليها‏ .‏
ثم تتابع سورة الواقعة بوصف عدد من الأحداث الكبرى المصاحبة للقيامة فتقول‏ :‏" إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجاًّ . وَبُسَّتِ الجِبَالُ بَساًّ . فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثاًّ ‏" (الواقعة‏:4‏-‏6) .‏
أي إذا زلزلت الأرض زلزلة الساعة التي تفوق أقوى الهزات الأرضية المعروفة بمعدلات مهولة‏ ,‏ وأصبحت الجبال هباء منبثا كرهج الغبار الذي ذرته الريح فصار متفرقا‏ ,‏ أو نسفت نسفا فأصبحت كالعهن المنفوش‏ ,‏ أو فتتت تفتيتا فصارت كالدقيق المبسوس أي المبلول ‏.

وتصنف الآيات الناس في هذا اليوم العصيب إلى مجموعات ثلاث كما يلي‏:‏
‏(1)‏ السابقون السابقون ‏:‏ وهم ثلة من الأولين‏ ;‏ أي ‏:‏ فرقة أو جماعة منهم‏ ,‏ وقليل من الآخرين‏ ,‏ وثوابهم من الله عظيم ‏.
‏‏(2)‏ وأصحاب اليمين ‏:‏ وهم الأبرار من المسلمين‏ ,‏ ومنهم جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين‏ ,‏ وهم عند الله ـ تعالى من المكرمين‏ ,‏ الناجين بإذنه من النار ‏.‏
‏(3)‏ وأصحاب الشمال ‏:‏ وهم أهل النار الذين سوف يستذلون في الآخرة‏ ,‏ ويعذبون ويهانون بسبب كفرهم أو شركهم بالله ـ تعالى ـ أو تجاوزهم لحدوده دون توبة‏ ,‏ أو بسبب إنكارهم لبعثة الرسول الخاتم‏ ,‏ أو للبعث والحساب والجنة والنار‏ ,‏ أو بسبب ظلمهم للعباد وتجبرهم على الخلق‏ ,‏ وإفسادهم في الأرض وإشاعتهم للفواحش بين الناس‏ ,‏ أو غير ذلك من مستوجبات غضب الله وسخطه ‏.‏
وهذا الاستعراض القرآني يؤكد حتمية مصائر الموصوفين كما وصفهم رب العالمين‏ ,‏ بأسلوب منطقي رصين‏ ,‏ يجعل الآخرة هي الواقع القائم الخالد‏ ,‏ ويجعل الدنيا كأنها الماضي الفائت الزائل‏ ,‏ احتقارا لشأنها‏ ,‏ وتهوينا من أمرها‏.‏ وذلك مما يؤكد أيضا أن الزمن من خلق الله‏ ,‏ والمخلوق لا يحد الخالق أبدا‏ ,‏ فالماضي والحاضر والمستقبل كله عند الله - سبحانه وتعالى - حاضر‏ ,‏ فلا يغيب شيء عن علمه‏ (سبحانه‏) .‏
وتفصل الآيات جزاء كل مجموعة من هذه المجموعات الثلاث‏ ,‏ مؤكدة حقيقة أن الله ـ تعالى ـ هو خالق الإنسان‏ ,‏ ومدبر الأكوان‏ ,‏ وصاحب الأمر في كل شيء‏ ,‏ ومستعرضة عددا من الآيات الكونية الدالة على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الوجود للتأكيد على كل ذلك‏ ,‏ ومن هذه الآيات ‏:‏ خلق الإنسان من منيٍ يُمْنَى‏ ,‏ ثم تقدير الموت عليه‏ ,‏ ثم إعادة بعثه‏ ,‏ وفي ذلك تقول الآيات ‏: ‏" نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ .‏ أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ .‏‏ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ . نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ . عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ . وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ " (الواقعة‏:57‏-‏62) .‏
وتشير هذه الآيات إلى حقيقة خلق الإنسان‏ ,‏ وإلى حتمية موته وبعثه‏ ,‏ مما يشهد لله الخالق‏ ,‏ بالألوهية‏ ,‏ والربوبية‏ ,‏ والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏ ,‏ وبعبودية خلقه له‏ ,‏ وخضوعهم لقدره‏.‏

ومن الآيات التي استشهدت بها سورة الواقعة في هذا المضمار إنبات الزروع وفي ذلك تقول ‏:" أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ .‏ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ .‏ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ .‏‏ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ .‏‏ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ " (الواقعة‏:63‏-‏67) .‏
ومن هذه الآيات إنزال الماء من السحاب عذبا زلالا ـ من رحمة الله وفضله ـ ولم يجعله ملحا أجاجا ـ بذنوب الناس ومعاصيهم ـ‏ ,‏ ولو شاء الله ـ تعالى ـ لجعله مرا زعافا‏ ,‏ لولا شكر بعض الصالحين‏ ,‏ وفي ذلك يقول ربنا تبارك وتعالى ‏: ‏" أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ . أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنزِلُونَ .‏ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ‏" (الواقعة‏:68‏-‏70) .‏
ومن آيات الله الدالة على إبداعه في خلقه إعطاؤه للشجر الأخضر القدرة على تخزين قدر من طاقة الشمس على هيئة عدد من الروابط الكيميائية التي تربط بها ذرات الكربون المستخلصة من ثاني أكسيد الكربون الموجود في الجو‏ ,‏ بذرات الإيدروجين المستخلصة من ماء الأرض في عدد من الكربوهيدرات التي تتحول بعد جفاف النبات أو تفحمه أو تفحيمه إلى مصدر من مصادر النار‏ (أي الطاقة‏)‏ من مثل القش والحطب‏ ,‏ والفحم النباتي‏ ,‏ والفحم الحجري‏ ,‏ والغازات المصاحبة له‏ ,‏ وعندما يأكل الحيوان هذه الكربوهيدرات تتحول في جسده إلى دهون وزيوت تتحول عند الدفن بمعزل عن الهواء إلى النفط وما تصاحبه من غازات‏ ,‏ وكلها من مصادر الطاقة‏ ,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏ :‏
" أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَتِي تُورُونَ .‏ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ .‏‏ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ . فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ " (الواقعة‏:71‏-‏74) .‏
ثم يقسم ربنا ـ تبارك وتعالى وهو الغني عن القسم ـ بمواقع النجوم مؤكدا عظمة هذا القسم ـ لو يعلم الناس قدره ـ على أن القرآن كتاب كريم‏ ,‏ محفوظ بحفظ الله‏ ,‏ ومن سمات تكريمه أن الله تعالى قد تعهد بحفظه‏ ,‏ وأمر بألا يمسه إلا المطهرون‏ ,‏ وأنه تنزيل من رب العالمين الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله‏ ,‏ وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية ـ ولم يقطعه لرسالة سابقة أبدا وفي ذلك يقول وهو أحكم الحاكمين ‏:‏
" فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ . وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ .‏ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ . لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ .‏‏ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ ‏ " (الواقعة‏:75‏-‏80) .‏
وبعد ذلك مباشرة تتوجه الآيات بالخطاب إلى الكفار والمشركين الذين كفروا بالقرآن الكريم‏ ,‏ وببعثة النبي والرسول الخاتم ـ صلي الله عليه وسلم ـ وكذبوا كلا منهما‏ ,‏ وتتهددهم بلحظة الاحتضار‏ ,‏ وحشرجة الصدر‏ ,‏ وانتزاع الروح من البدن‏ ,‏ والمحتضر ـ في هذه اللحظة الحرجة ـ عاجز كل العجز عن دفع قدر الله‏ ,‏ ومن حول المحتضر الأهل والأبناء‏ ,‏ والإخوان والأصدقاء عاجزون كل العجز عن ذلك‏ ,‏ وهم مشدوهون‏ ,‏ مذهولون‏ ,‏ حائرون‏ ,‏ خائفون‏ ,‏ وجلون‏ ,‏ ويخلص الأمر كله لله تعالى الذي يسترد أمانته في وقتها الذي حدده لها‏ ,‏ وتعجز الدنيا كلها عن وقف ذلك القرار الإلهي الحازم الجازم‏ ,‏ وفي ذلك يقول ربنا ـ وهو أصدق القائلين ‏:
‏"فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ . وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ .‏ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ . فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ .‏‏ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ‏ "‏ ‏(‏الواقعة‏:83‏-‏87) .‏
وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ لمنكري البعث والحساب والجنة والنار‏:‏ فلولا إن كنتم غير محاسبين على أعمالكم‏ ,‏ وغير مجزيين عليها كما تزعمون فحاولوا أن تردوا روح هذا المحتضر إلى جسده بعد ما بلغت الحلقوم‏ ,‏ وإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر كله بيد الله – تعالى - الذي لا راد لقضائه .‏

وكما بدأت سورة الواقعة بتقسيم الناس في يوم القيامة إلى السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال وأوضحت جزاء كل فريق منهم‏ ,‏ فإنها كذلك قسمتهم في لحظة الاحتضار إلى المقربين وأصحاب اليمين ثم المكذبين الضالين‏ ,‏ وأوضحت جزاء كل منهم‏ ,‏ ذلك الجزاء الذي يدركه ساعة احتضاره‏ ,‏ وفي ذلك تقول ‏:‏ " فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ . فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ . وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمِينِ . فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمِينِ . وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ الضَّإلينَ . فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ .‏‏ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ . إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليقِينِ . فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ ‏"‏ (‏الواقعة‏:88‏-‏96)‏ , وهكذا تختتم سورة الواقعة بتأكيد أن ما جاء بها من أنباء الآخرة وما فيها من البعث والحساب والجزاء‏ ,‏ ومصائر مختلف مجموعات الناس والأفراد هو حق مطلق‏ ,‏ وأن ما جاء بها من الإخبار عن هول الاحتضار وصعوبة سكرات الموت‏ ,‏ وعجز العالمين عن رد قضاء الله به‏ ,‏ كل ذلك حق مطلق كذلك‏ ,‏ كما أن معرفة المحتضر بمصيره في الآخرة الباقية وهو يغادر هذه الدنيا الفانية‏ ,‏ ويفرح لهذا المصير أو يفزع منه‏ ,‏ هذا كله من حق اليقين الذي أنذر الله ـ تعالى ـ به كل حي حتى لا يدعي أحد أنه كان جاهلا به أو غير مدرك له‏.‏ ولذلك تختتم سورة الواقعة بأمر من الله ـ تعالى إلى خاتم أنبيائه ورسله صلي الله عليه وسلم وهو أمر إلى كل مؤمن به ومؤمنة أن يسبح باسم ربه العظيم تسبيحا يليق بجلاله‏ ,‏ وتنزيها له عن كل وصف لا يليق بهذا الجلال من مثل ادعاء الشريك أو الشبيه أو المنازع أو الصاحبة والولد‏ ,‏ وكلها من صفات المخلوقين‏ ,‏ والله سبحانه وتعالى منزه عن جميع صفات خلقه‏ ,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله‏ .‏

من ركائز العقيدة في سورة الواقعة :
‏(1)‏ الإيمان بحقيقة الآخرة‏ ,‏ بل بحتميتها‏ ,‏ وأهوالها‏ ,‏ وبما أكدته السورة الكريمة من تمايز الناس فيها إلى السابقين‏ ,‏ وأهل اليمين‏ ,‏ وأهل الشمال‏ ,‏ ولكل منهم جزاؤه المحدد ‏.‏ والبعث يؤكده الخلق الأول‏ ,‏ وإن كان الناس سوف يبعثون فيما لا يعلمون من هيئة‏ .‏
‏(2)‏ اليقين بأن الله ـ تعالى ـ هو خالق كل شيء‏ ,‏ ومدبر كل أمر من أمور الكون وفي مقدمة ذلك تقدير الآجال‏ ,‏ وفرض الموت على جميع الخلائق ـ كل عند أجله‏ ,‏ والله ـ سبحانه وتعالى ـ وحده هو الحي الباقي‏ ,‏ المحيي المميت‏ ,‏ المستحق للتسبيح‏ ,‏ والتمجيد‏ ,‏ والتقديس بتنزيهه ـ تعالى ـ عن جميع صفات خلقه‏ ,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله‏ ,‏ والمستحق للذكر الدائم بكل اسم ووصف أثبته لذاته العلية‏ ,‏ وذلك من قبيل الشكر له على فيوض نعمه‏ .‏
‏(3)‏ التصديق بالوحي الذي نزل بالقرآن الكريم‏ ,‏ وبأن هذا الكتاب المجيد هو كلام رب العالمين‏ ,‏ الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله‏ ,‏ وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية ـ ولم يقطعه لرسالة من قبل ـ وحفظه في نفس لغة وحيه‏ (اللغة العربية‏)‏ وحفظه كلمة كلمة‏ ,‏ وحرفا حرفا‏ ,‏ على مدي الأربعة عشر قرنا الماضية وإلى قيام الساعة ليبقي شاهدا على جميع الخلق إلى أن يرث الله ـ تعالى ـ الأرض ومن عليها ‏.‏
‏(4)‏ التسليم بأن كل ما جاء بالقرآن الكريم حق مطلق‏ ,‏ لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ‏.‏
‏(5)‏ اليقين بأن الموت حق على جميع المخلوقين‏ ,‏ وهو قرار إلهي لا يستطيع أحد من الخلق إيقافه أو تأجيله‏ ,‏ وبأن المحتضر يري مكانه عند ربه في لحظة احتضاره رغم تشكك الكثيرين في إمكانية البعث وهم في هذه الحياة الدنيا‏ .‏

من الإشارات الكونية في سورة الواقعة :
‏(1)‏ الإشارة إلى خلق الإنسان من منيٍ يُمنَى‏ ,‏ ثم في مراحل متتابعة حتى ميلاده ونموه‏ ,‏ ثم احتضاره ووفاته ‏.‏
‏(2)‏ تأكيد حتمية الموت على جميع الخلائق‏ ,‏ وتسلسل الحياة والموت‏ ,‏ إلى يوم الدين‏ ,‏ وأن الخلق دليل على إمكانية البعث‏ ,‏ بل على حتميته
وضرورته ‏.‏
‏(3)‏ التنويه بأن إنبات الأرض بمختلف الزروع هو صورة من صور إبداع الخلق بيد القدرة الإلهية الفاعلة‏ ,‏ والتي لولاها ما أنبتت الأرض‏ ,‏ ولا أثمرت النباتات‏ ,‏ وذلك لأن الله ـ تعالى ـ لو شاء إفناء النبات بعد نموه وإثماره لفعل ذلك قبل أن تطاله يد الإنسان ـ وما ذلك على الله بعزيز‏ .‏
‏(4)‏ الإشارة إلى إنزال الماء من السحاب المشبع ببخار الماء‏ (المزن‏) ,‏ وإلى إنزاله عذبا‏ ,‏ زلالا‏ ,‏ طيبا من رحمة الله ـ تعالى ـ ولو شاء لأنزله مالحا‏ ,‏ مرا‏ ,‏ أجاجا‏ ,‏ لا يصلح للحياة‏ ,‏ ولا تصلح به الحياة ‏.‏
‏(5)‏ تأكيد حقيقة ما وهب الله ـ تعالى ـ النبات الأخضر من قدرة على تثبيت الكربون بواسطة طاقة الشمس التي تحلل بواسطتها كل من ثاني أكسيد الكربون الذي تأخذه من الجو‏ ,‏ والماء الذي تمتصه من الأرض إلى مكوناتهما الأساسية‏ ,‏ ثم ربط ذرات الكربون والإيدروجين في سلاسل من الكربوهيدرات التي عند تيبسها‏ ,‏ أو تفحمها بمعزل عن الهواء أو تناولها بواسطة الحيوانات فإنها تتحول إلى مختلف مصادر الطاقة المعروفة ومن أشكالها النار‏ .‏
‏(6)‏ إثبات أن الإنسان لا يمكنه رؤية النجوم من مكانه على الأرض أبدا‏ ,‏ ولكنه يري مواقع مرت بها النجوم ثم غادرتها‏ ,‏ وهو ما أثبتته العلوم المكتسبة مؤخرا‏ .‏
‏(7)‏ التأكيد على عجز الخلق مجتمعين عن إنقاذ محتضر يعاني سكرات الموت‏.‏ وذلك برد روحه إليه أو تأخير أجله لحظة أو تقديمه لحظة‏ .‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها‏ ,‏ ولذلك فسوف أقصر الحديث هنا على النقطة الأولي من القائمة السابقة والتي يقول فيها ربنا تبارك وتعالى ‏:‏ " أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ .‏ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ ‏ " . (الواقعة‏:59,58) .‏

من الدلالات اللغوية للآيتين الكريمتين :
(المني‏)‏ في اللغة هو التقدير‏ ,‏ يقال ‏: (مني لك الماني‏)‏ أي‏:‏ قدر لك المقدر‏;‏ و‏ (المني‏)‏ هو السائل أو السوائل الحاملة للنطف‏ (خلايا التناسل‏)‏ التي قدرت بها الحياة‏ ,‏ وجاءت هذه اللفظة بتصريفاتها المختلفة في كتاب الله المجيد أربع مرات كما يلي ‏:‏
(1)" وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى . مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ‏ " (النجم‏46,45)‏ أي ‏:‏ من نطفة إذا تقدرها العزة الالهية أو تخصب بنظيرها من نطفة مقابلة .
(2)" أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ .‏ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ " (الواقعة‏:59,58)‏ أي‏ :‏ ما تنتجون من النطف‏ ,‏ أو ما تخصبون منها‏ .‏
(3)" أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى .‏ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى .‏ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى" (القيامة‏:37‏-‏39) .‏
‏‏ ومن‏ (المني‏)‏ جاءت لفظة‏ (المنية‏)‏ وهي الأجل المقدر للكائن الحي بالموت‏ ,‏ وجمعها‏ (المنايا‏) ,‏ و‏(‏المنون‏);‏ يقال‏ (مني‏)‏ له‏;‏ أي ‏:‏ قدر له‏ ,‏ لأن الموت مقدر على كل حي ‏.‏
‏(‏المنية‏)‏ واحدة‏ (المني‏) ,‏ و‏ (الأمنية‏)‏ واحدة‏ (الأماني‏)‏ وجمعها‏ (أمان‏)‏ و‏(‏أماني‏)‏ بالتخفيف والتشديد‏..‏ و‏(‏تمنيت‏)‏ الشيء أي‏:‏ قدرته وأحببت أن يصير إلى‏.‏ يقال ‏: (تمني‏)‏ الشيء أي طلبه في نفسه وصوره فيها من قبيل التخمين والظن أو عن روية وبناء على أصل وإن كان أغلب التمني تصور ما لا حقيقة له‏ ,‏ و‏ (الأمنية‏)‏ هي الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء‏.‏ يقال‏: (منيتني‏)‏ كذا‏;‏ أي‏:‏ جعلت لي أمنية في كذا بما شبهت لي‏ ,‏ قال تعإلى‏ مخبرا عن الشيطان الرجيم في محاولته إغواء بني الإنسان ‏:
‏" وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِيَنَّهُمْ وَلآمُرَنُّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ "‏(النساء‏:119)‏ ويقال‏ : (مني‏)‏ غيره‏ (تمنية‏)‏ أي وعده بما يطلبه في نفسه ويرجوه ‏.‏ ويقال‏ (تمني‏)‏ الكتاب أي قرأه‏ ,‏ و‏ (يتمني‏)‏ الأحاديث أي يفتعلها وهو مقلوب من‏ (المين‏)‏ وهو الكذب ‏.‏
(خلق‏) :‏ أصل‏ (الخلق‏)‏ التقدير المستقيم‏ ,‏ ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء‏ ,‏ كما يستعمل في إيجاد شيء من شيء آخر‏ ,‏ وليس الخلق الذي هو الإبداع إلا لله ـ تعالى ـ وحده‏ ,‏ أما الخلق الذي يكون بالاستحالة فقد جعله الله ـ تعالى ـ لغيره في بعض الأحوال‏.‏ و‏ (الخلق‏)‏ لا يستعمل في الناس إلا على وجهين‏:‏ أحدهما في معني التقدير‏ ,‏ والثاني في معني الكذب أو‏ (الاختلاق والافتراء‏) .‏
و‏ (الخلق‏)‏ و‏ (الخلق‏)‏ في الأصل واحد‏ ,‏ ولكن خص‏ (الخلق‏)‏ بالهيئات والأشكال‏ ,‏ والصور المدركة بالبصر‏ ,‏ وخص‏ (الخلق‏)‏ بالقوي والسجايا المدركة بالبصيرة‏ ,‏ وعلى ذلك فإن‏ (الخلاق‏)‏ هو ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة بخلقه‏.‏ يقال‏:‏ فلان‏ (خليق‏)‏ بكذا‏ ,‏ أي‏:‏ جدير به‏ ,‏ كأنه مخلوق فيه ذلك‏ ,‏ فـ‏ (الخلقة‏)‏و‏(‏الخليقة‏)‏ هي الفطرة والجمع‏ (الخلائق‏) .‏

من الدلالات العلمية للآيتين الكريمتين :
تشير هاتان الآيتان الكريمتان إلى طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في خلق الإنسان الذي خلقه الله ـ تعالى ـ بيديه‏ ,‏ ونفخ فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها‏ ,‏ وأسجد له الملائكة‏ ,‏ وكرمه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا‏.‏وكان من هذا التكريم أن خلق له من نفسه زوجا‏ ,‏ وجعل بقاء نوعه إلى أن يشاء الله ـ تعالى ـ قائما على التكاثر بالتناسل‏ ,‏ وهي عملية معجزة تشهد لهذا الإله الخالق بالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏ .
‏فمن خليتين ضئيلتين لا تريان بالعين المجردة حيث لا يزيد طول الواحدة منها في الرجل على‏(005.‏ ـ مم‏)‏ وفي‏ (المرأة عن‏ (2.‏ ـمم‏)‏ يخلق ربنا ـ تبارك وتعالى ـ الإنسان اليافع الذي يتكون جسده من ألف تريليون خلية في المتوسط تنتظمها أنسجة متخصصة في أعضاء متخصصة في أنظمة متخصصة تعمل في تناسق عجيب لخدمة هذا المخلوق المكرم‏.‏
وإذا علمنا أن جسم الإنسان يتكون أساسا من الماء بنسبة تصل إلى‏70%‏ في المتوسط‏ ,‏ بالإضافة إلى مواد صلبة تشكل حوالي‏30%‏ من كتلة جسم الإنسان‏ ,‏ وأن أغلب تلك المواد الصلبة يكونه عنصرا الكالسيوم والفوسفور يليهما في الكثرة عناصر البوتاسيوم‏ ,‏ الصوديوم‏ ,‏ الكبريت‏ ,‏ المغنسيوم‏ ,‏ الكلور‏ ,‏ الفلور‏ ,‏ البروم‏ ,‏ اليود‏ ,‏ والحديد‏ ,‏ مع آثار ضئيلة من عناصر النحاس‏ ,‏ المنجنيز‏ ,‏ الزنك‏ ,‏ الموليبدينوم‏ ,‏ والألومنيوم‏ ,‏ وهي في مجموعها لا تكاد تختلف عن التركيب الكيميائي لتربة الأرض ‏.‏
والتركيب الكيمائي للخلية الحية لا يكاد يختلف عن ذلك‏ ,‏ وهو معروف مائة بالمائة‏ ,‏ وقد عجزت البشرية كلها عن إيجاد خلية حية واحدة‏ ,‏ وإذا علمنا ذلك أدركنا أن سر الحياة موجود في النطف المتناهية الضآلة والتي يفرزها الإنسان مع منيه‏ ,‏ ذكرا كان أو أنثي‏ ,‏ ومن هنا كان السؤال الاستنكاري التوبيخي‏ ,‏ التقريري الموجه للكفار والمشركين في كل زمان ومكان والذي يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ فيه‏ :‏" أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ . أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ .‏‏ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ .‏ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ . وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ "(الواقعة‏:58‏-‏62)‏.
ويتكون جسم الفرد البالغ من البشر من ألف تريليون خلية في المتوسط كما سبق وأن أشرنا‏ ,‏ وبعض هذه الخلايا يمكن رؤيته بالعين المجردة‏ ,‏ ولكن أغلبها على قدر من الضآلة بحيث لا يتعدي قطر الخلية ‏03.‏ ـ من المليمتر‏ ,‏ وتتنوع الخلايا بتنوع وظيفة كل منها فهناك خلايا العظام‏ ,‏ وخلايا اللحم من مثل خلايا كل من العضلات والأنسجة الضامة‏ ,‏ والجلد‏ ,‏ وخلايا المخ والأعصاب‏ ,‏ وخلايا كل من الدم والليمف‏ ,‏ وخلايا الأنسجة فائقة التخصص من مثل خلايا كل من القلب‏ ,‏ الرئتين‏ ,‏ الكبد‏ ,‏ الكلي‏ ,‏ وخلايا كل من الجهاز الهضمي‏ ,‏ والجهاز التناسلي‏ ,‏ وغيرها‏ ,‏ وكل ذلك مختزن في الشيفرة الوراثية للخلايا الناسلة ‏.‏

التزاوج سنة الله في الخلق :
يبدأ تخلق الإنسان من اندماج نطفتي الزوج والزوجة اندماجا ناجحا ينتج عنه الإخصاب الذي يتمثل في النطفة الأمشاج‏ (أي المختلطة‏) ,‏ والتي اختلطت فيها الشيفرة الوراثية في نطفة الزوج مع الشيفرة الوراثية لنطفة الزوجة فيأتي الجنين على قدر من التشابه والاختلاف مع الوالدين وأسلافهما إلى أبوينا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ‏ ,‏ ولذلك جاء في الحديث الذي أخرجه كل من الإمامين ابن جرير وابن أبي حاتم أن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال " إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله ـ تعالى ـ كل نسب بينها وبين آدم "‏ .‏
والحكمة الظاهرة لنا من ذلك هي التنوع البديع في الخلق الذي يعطي لكل فرد من بني آدم شيفرة وراثية خاصة به ترسم ملامحه الشخصية وتحدد صفاته وملكاته واستعداداته التي تميزه عن غيره‏ ,‏ ولولا هذا التنوع البديع في الخلق لكان الناس كلهم جميعا على هيئة واحدة متكررة يملها الجميع‏ ,‏ وتضيع معها بهجة الحياة‏.‏
وهذا التنوع الذي أودعه الله ـ تعالى ـ في الشيفرة الوراثية لكل إنسان وترابطها مع شيفرة زوجه بالاقتران من أعظم الأدلة على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق ولذلك قال ربنا ـ وهو أصدق القائلين‏ : ‏" وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ‏" (الروم‏:22)‏ , ولتحقيق ذلك شاءت إرادة الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ أن تنقسم الخلايا الناسلة انقساما انتصافيا ‏(Meiosis)‏ يعطي لكل واحدة منها نصف عدد الصبغيات المحدد للنوع حتى يتكامل العدد بالتزاوج‏ .‏

الشيفرة الوراثية للإنسان ‏:‏
في 26/ 6 / 2000‏م تم الإعلان عن إتمام قراءة المسودة الأولية للشيفرة الوراثية للإنسان بعد مجاهدة استمرت لأكثر من عشر سنوات‏ ,‏ وبمشاركة عشرات المئات من العلماء‏ ,‏ وبكلفة فاقت الثلاثة بلايين من الدولارات الأمريكية ‏.‏ وبتاريخ ‏14 /4 /2003‏م أعلنت منظمة الشراكة الدولية لدراسة ترتيب بناء الشيفرة الوراثية للإنسان إكمال المشروع بنجاح‏.‏ وقد اعتبرت عملية قراءة ثلاثة بلايين ومائة مليون حرف من حروف الحمض النووي الريبي غير المؤكسد ‏DNA)‏) والذي تكتب به هذه الشيفرة إنجازا علميا لا يقل عن النجاح في تحقيق شطر الذرة أو وصول الإنسان إلى القمر‏.‏
وقد تمت هذه القراءة بخطأ تجريبي لا يتعدي واحدا من كل عشرة آلاف حرف من حروف ذلك الحمض النووي‏ ,‏ وبذلك تمت تغطية حوالي ‏99%‏ من المناطق الحاوية على المورثات في الجينوم البشري ‏.‏

ولكل خلية حية ـ ماعدا بعض الأنواع القليلة مثل خلايا الدم الحمراء ـ جسم مركزي يسمي نواة الخلية‏ ,‏ يمثل العقل المفكر لها الذي ينظم جميع أنشطتها من مثل عمليات النمو‏ ,‏ والانقسام‏ ,‏ وغيرها‏.‏ وإذا ماتت نواة الخلية ماتت الخلية ‏.‏
وتحتوي نواة الخلية على شيفرتها الوراثية المحمولة على عدد محدد من الصبغيات‏ ,‏ وهي جسيمات غاية في تناهي الدقة مكونة من تجمعات للأحماض النووية‏ ,‏ ومن لفائف مزدوجة الجانب من الحمض النووي الريبي منزوع الأكسجين‏ ,‏ وهذه لافة حول محور وهمي على هيئة حلزونية متناهية الدقة‏ ,‏ يقدر سمك جدارها بجزء من خمسين مليون جزء من المليمتر ‏.‏
ويتكون الجسيم الصبغي من شريط من هذه اللفائف المرتبطة بعدد من البروتينات‏ ,‏ ويبلغ قطر لفيفة الحمض النووي الريبي منزوع الأكسجين جزأين من مليون جزء من المليمتر‏ ,‏ ويبلغ طوله إذا فرد قرابة المترين‏ .‏
والجسيم الصبغي يحوي ـ بالإضافة إلى المعلومات اللازمة لبقاء الخلية حية ـ عددا من الهرمونات‏ ,‏ وجزيئات الاستقبال ‏.‏ والبروتين الناقل‏ ,‏ والمضادات الحيوية وغيرها‏ .‏
ويقسم كل جسيم صبغي على طوله بعدد من العلامات المميزة إلى وحدات طولية تعرف باسم المورثات‏ (حاملات الصفات الوراثية‏) ,‏ ويتحكم كل مورث في عدد من الصفات الطبيعية والكيميائية والحيوية‏ .‏

وينقسم كل مورث إلى عدد من العقد المتناهية في الصغر تعرف باسم النويدات‏ ,‏ يتكون كل منها من زوج من القواعد النيتروجينية تستند كل قاعدة منهما إلى زوجين من جزيئات السكر والفوسفور‏ ,‏ وتكون تلك الجزيئات جداري جزيء الحمض النووي ‏DNA)‏) ,‏ وتنتشر القواعد النيتروجينية بينهما بهيئة مماثلة لدرجات السلم الخشبي المتوازي الساقين‏ ,‏ في ترتيب دقيق محكم‏ ,‏ وتتابعات محددة‏ ,‏ وعلاقات تبادلية منضبطة بالنسبة لبعضها البعض على طول جزيء الحمض النووي‏.

‏ ومن الغريب أن هذه القواعد النيتروجينية هي أربع قواعد فقط تعطي علاقاتها التبادلية لكل فرد من البشر ـ الذين عاشوا وماتوا والذين يملأون جنبات الأرض اليوم والذين سوف يأتون من بعدنا إلى قيام الساعة ـ تعطي لكل واحد منهم شيفرة وراثية خاصة به تميزه عن غيره من البشر‏.‏
وتكون كل ثلاث من القواعد النيتروجينية شيفرة مصغرة‏ (شفيرة‏) ,‏ وكل واحدة من هذه الشفيرات مسئولة عن إصدار التعليمات لتحضير حمض أميني معين في داخل الخلية‏.‏
وهذه الأحماض الأمينية والتي تقع في عشرين نوعا هي لبنات لبناء الجزيئات البروتينية التي تنبني منها أجساد كل الأحياء‏.‏
وقد وهب الله ـ تعإلى ـ كل خلية من خلايا جسم الإنسان الحاملة للشيفرة الوراثية القدرة على إنتاج أكثر من مائتي ألف نوع مختلف من البروتينات‏.‏
والقواعد النيتروجينية في جزيء الحمض النووي مرتبة في أزواج يبلغ عددها أكثر من ثلاثة بلايين زوج‏ (3.1‏ بليون زوج‏)‏ تتوزع في أكثر من بليون شفيرة‏ ,‏ تحمل ما بين‏ (35.000 ,30.000)‏ مورث ‏.‏
ويتكون الحرف المتوسط من حروف جزيء الحمض النووي من طول يغطي أكثر من‏27‏ مليونا من القواعد النيتروجينية في غاية الدقة من الترتيب والتنسيق وترابط العلاقات ولا يمكن لعاقل أن يتصور عشوائية ذلك أبدا‏.‏والأحماض النووية عبارة عن مركبات فوسفورية معقدة قابلة للتكسر كيميائيا إلى حمض الفوسفوريك والسكريات‏.‏وتتم التفاعلات الكيميائية في جسم الإنسان ـ وفي أجسام غيره من المخلوقات بمساعدة الإنزيمات التي تعين على تحويل المواد الأولية الواصلة للخلية إلى البروتينات وغيرها من المركبات المعقدة التي يحتاجها جسم الإنسان‏ ,‏ وذلك في جزء من ألف جزء من الثانية إلى أقل من جزء من مليون جزء من الثانية‏.‏وكل تتابع للنويدات في المورث هو الذي يحدد تتابع الأحماض الأمينية المكونة للجزيء البروتيني وترابطها مع بعضها البعض‏.‏ وبذلك تنتج البروتينات التي يحتاجها الجسم بتوجيه من المورثات ‏.‏

ومن العجيب حقا أن تكون لبنات بناء أجساد الكائنات الحية كلها واحدة وهي عشرون نوعا من الأحماض الأمينية تتركب بتوجيه من المورثات في أكثر من مائتي ألف نوع مختلف من البروتينات‏ ,‏ وأن تترتب ذرات الأحماض الأمينية ترتيبا يساريا في جميع أجساد الكائنات الحية‏ ,‏ وتترتب ترتيبا يساريا كذلك في الجزيئات البروتينية وأن ترتبط فيها برباط كيميائي واحد محدد هو الرباط البيبتيدي والسؤال الذي يفرض نفسه هو‏:‏ من غير الله الخالق وضع كل هذه الأسرار في نطفة الزوج التي لا يتعدي طولها‏ (005.‏ ـمم‏)‏ ونطفة الزوجة التي لا يتعدي قطرها‏(2. ‏- مم‏)‏؟ ومن الذي هدي النطفة الأمشاج إلى الانقسام الدقيق المبرمج لإنتاج هذا القدر الهائل من الخلايا؟ ومن الذي هدي الخلايا المتشابهة في التعرف على بعضها البعض لتكوين الأنسجة المتخصصة؟ ومن الذي جمع تلك الأجهزة في أعضاء‏ ,‏ ونظم‏ ,‏ تعمل بتوافق عجيب مع بعضها البعض‏ ,‏ وبسرعات واستجابات فائقة من أجل صالح الجسد الحي؟ ويعجب العلماء من كيفيات عمل جهاز المناعة في جسم الإنسان‏ ,‏ ومن كيفية إدراك هذا الجسد لأي جسم غريب يدخل إليه‏ ,‏ ومن كيفيات تفاعله معه بالرفض أو القبول‏ ,‏ ومن كيفية تحول الطاقة الكيميائية إلى طاقة حركية‏ ,‏ ومن كيفية تحكم الهرمونات في تنشيط عمليات النمو أو تثبيطها‏ ,‏ ومن غير ذلك من الأنشطة الحيوية العديدة والتي أودع الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ قدرات التحكم فيها في الشيفرات الوراثية التي تحملها نطف الزوج التي تندفع بمئات الملايين في الدفقة الواحدة‏ ,‏ ونطف الزوجة التي تخلق فيها بالملايين وهي في رحم أمها‏ ,‏ ثم يتناقص هذا العدد إلى مابين ثلاثمائة ألف وأربعمائة ألف عند البلوغ‏ ,‏ تنتج منها ما بين ‏500 ,300‏ بييضة لا يصل منها إلى مرحلة الإخصاب إلا بضع بييضات‏ ,‏ وإلى مرحلة الإنجاب إلا آحاد منها‏ ,‏ ولذلك جاء هذا السؤال التقريري‏ ,‏ التوبيخي الاستنكاري لمواقف الكفار والمشركين الذي يقول فيه ربنا ـ تبارك وتعالى ‏: ‏" أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ . أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ ‏" (الواقعة‏:59,58)‏ .
ولما كانت علوم الوراثة من أحدث المعارف الإنسانية‏ ,‏ وكانت النطف لم تكتشف إلا في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين بعد اختراع المجاهر كانت هذه الإشارة القرآنية إليها سبقا يشهد للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق‏ ,‏ ويشهد للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة‏ ,‏ فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين‏ ,‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏ .‏