اللغة العربية والعالمية ـــ د. مسعود بوبو
مدخل:‏

في قلب الجزيرة العربية وجنوبيّها كان مهد اللغة العربية القُدمى، ومع الموجات البشرية التي خرجت من هناك تناقلت الجماعات وتوزّعت الأماكن هذه اللغةَ في لهجات أو لغات أطلق عليها بغير حق أو سند علمي اسم اللغات الساميّة، نسبة إلى سام بن نوح، وأول من أطلق هذه التسمية عالم اللاهوت الألماني النمسوي الأصل: لو دفيج شلويتسر a.l. shloester سنة 1781م، اعتماداً على ما جاء في الإصحاح العاشر من سفر التكوين، من التوراة، فكانت التسمية وليدة اجتهاد فردي لا هوتي مبنّيٍ على المأثورات، وجاءت منسوبة إلى فرد، على خلاف الشائع المألوف في نسبة اللغات واللهجات إلى أقوامٍ وأماكن ومناطق أو ممالك..‏

إن الهجرات العربية المغرقة في القدم قبل الميلاد تشير إلى توالي نزوح قبائل من بقعة في هذا العالم تعرف في أقدم تسمياتها بشبه جزيرة العرب، أو بجزيرة العرب، ومَنْ مثّلوا هذا التّحرك البشري يُعرفون في أقدم تسمياتهم بالعرب، ولا يستقيم للعقل ولروح البحث العلمي الجادّ أن تسمّى لغتهم بغير العربية القدمى. (1)‏

ولعلّ أهم ما يستوقف المتأمل هنا أن العربية- منذ فجر تاريخها المبكر- قد عرفت اللغات الأخرى المجاورة واحتكت بها: في التعامل الإنساني، وفي المتاجرة، والحروب، والتفاعل اللغوي الذي تمليه طبيعة الجوار أحياناً، ومن هنا يمكن أن نقرن العربية بصفة العالمية، ولو في حدود ضيّقة، ويمكن أن ننفي عنها صفة الانغلاق، وأن نبرّئها من التعصّب، إلا ما كان من حرص أصحابها على صيانتها من عبث العابثين حين يمس الأمر جوهر العقيدة، أو القومية اللذين كانت رمزاً لهما.‏

العربية خارج حدودها:‏

يتفق معظم علماء اللغة على أن الأكدية والبابلية والآشورية والكلدانية والآرامية في شرقي جزيرة العرب وشماليّها، والكنعانية والفينيقية والأوغاريتية والبونية في شماله الغربي، وأن اللهجات المتفرّعة من الآرامية كالسريانية والنبطية والعبرية والمندئية ( أو المندعية) والسامرية والمؤابية والتدمرية.. كل هذه لهجات امتدت حتى حدود بلاد فارس وبيزنطة والأناضول وجزر البحر المتوسط حتى تونس، في " قرطاجة "، وحتى جزيرة " فيلة " بأسوان من بلاد مصر. ومن الجنوب امتد الفرع الحبشي إلى افريقية، فكان هذا الانتشار سبيلاً إلى صلة الغرب بالأمم الأخرى، ومعبراًً للعربية القدمى إلى الآفاق، وإلى بسط ما أنجز العرب من حضارة أمام عيون الآخرين وعقولهم.وكان أعْظمَ ما أعطته للإنسانية الأبجديةُ الكنعانيةُ الأوغاريتية التي أخذها اليونان وطوّعوها لتوافق طابع لغتهم وعاداتهم الصوتية، فصارت حروف الكنعانية: آلِف، بِت، جُومَل، دالِت بالنطق اليوناني: ألفا، فيتا، غاما، ذيلتا.. ثم عمموها إلى العالم باسم: " الألفبائية ".‏
وإذا شئنا الوقوف عند هذه القضية من التواصل اللغوي الحضاري فإنه يتعين علينا استقراؤها واستقصاؤها في المرحلة التالية من تاريخ العربية، أي منذ فجر الإسلام، وغداةِ الشروع بنشر الدعوة إليه، فقد بدأت هذه الدعوة معتمدة اللغة العربية في حمل مبادئه السامية، وكانت رسائل النبي العربي صلى الله عليه وسلم إلى من جاوره ودعاه للإسلام باللغة العربية، وبها انتشر الإسلام تباعاً في الأمصار، وفي قلوب الناس وأسماعهم.‏
وإن أبرز تحوّل في تاريخ العربية يرتبط بظهور الإسلام، فبه سادت العربية وتفوّقت على اللهجات المحلية واللغات المجاورة، وكان الإسلام الحافز على جمعها ودراستها، كذلك كان السببَ الحاسم لانتشارها في الآفاق مع موجات الفتوح، ومن هنا قيل: إنّ اغرب ما وقع في تاريخ البشرية وصعب حلُّ سرّ انتشاره اللغة العربية. ويقول المستشرق كارل بروكلمان:‏ " انتشرت اللغة العربية عن طريق القرآن الكريم انتشاراً واسعاً كما لم تنتشر أيّة لغة أخرى من لغات العالم... وقد أصبحت هي اللغة الأدبية المشتركة التي لها المكانة وحدها في معظم الأحوال".(‌2)‏

ويمكن أن نلخّص المراحل الأولى من حركة العربية خارج حدودها في هذه الفترة على النحو التالي:‏
1- انتشارها مع الجيوش التي عبّأها الخليفة أبو بكر الصدَّيق سنة إحدى عشرة للهجرة إلى الشام بقيادة أبي عبيدة بن الجراح (إلى حمص)، وشُرَحْبيل بن حسنة إلى وادي الأردن، ويزيد ابن أبي سفيان إلى دمشق، وعمرو بن العاص إلى فلسطين. وتمّ فتح هذه البلدان قبل نهاية سنة 17 للهجرة، كما تمّ فتح مدن الساحل الشامي كلها نحو سنة 19 للهجرة على يد معاوية ابن أبي سفيان، وبعدها فَتَحَ جزر البحر المتوسط بين سني 28-33 للهجرة.‏
2- وعلى يد خالد بن الوليد كانت إشارة البدء بفتح العراق، ثم تابع مهمة الفتح بعده المثنىّ بن حارثة الشيباني وكان الفتح النهائي على يد سعد بن أبي وقاص سنة 16 للهجرة. وفي سنة 19 للهجرة تم فتح نهاوند من بلاد فارس " فتح الفتوح "، وقُتل يزدجرد آخر أكاسرة الفرس سنة 31 هـ في عهد عثمان بن عفان، فصارت فارس جزءاً من الدولة الإسلامية.‏
3- أما مصر فقد تولى فتحها عمرو بن العاص حين اجتاز الجيش العربي الحدود المصرية في سيناء سنة 18 هـ، وسقط معظمها في يده سنه 20هـ .‏
4- وبدئ بفتح بلاد ما وراء النهر والهند وشرق آسيا على يد قتيبة بن مسلم الباهلي سنة‏ 87 هـ، في ولاية الحجاج شؤون العراق، وأنهى أعماله الحربية بفتح " كاشغر" في التركستان الصينية سنة 95 للهجرة، كما تم فتح شمال الهند ( باكستان وبنغلادش اليوم ) على يد محمد بن القاسم الثقفي ما بين 89-95 للهجرة، ومنذ ذلك الحين بدأت العربية تشق طريقها في تلك البقاع حاملة ألوان الثقافة العربية الإسلامية‏ .
5- 5- فتح افريقية والمغرب بدأ في خلافة معاوية سنة 50 هـ بقيادة عقبة بن نافع الِفهْريّ، ودخلت طلائع الفتوح مرحلتها النهائية هناك سنة 89 هـ حين جاء موسى بن نُصير. وأما الأندلس فكانت طلائع جيوش الفتح فيه سنة 91 هـ بقيادة طريف بن مالك، ثم بحملة طارق بن زياد سنة 92 هـ. وقد وصلت جيوش الفتح إلى حدود فرنسة في " بواتييه " أو بلاط الشهداء بقيادة عبدالرحمن الغافقي سنة114 هـ. وبذا قامت دولة مترامية الأطراف، وصار الإسلام والعربية أقوى الروابط في هذه الدولة العربية الإسلامية الممتدة من حدود الصين وأواسط الهند شرقاً، إلى المحيط الأطلسي في فرنسة غرباً، ومن المحيط الهندي والسودان جنوباً إلى بلاد الترك والخزر والروم " البيزنطيين " شمالاً، فكان هذا المضطرَب الفسيح من الأرض مسرحاً حيوياً للعربية تغلغلت فيه إلى أقصى ما وصلت إليه في تاريخها، ومع هذا الانتشار ظلت تحتفظ بسماتها المميَّزَة، وتؤسس نَوى الحواضر العلمية من المدارس والمساجد التي أصبحت فيما بعد مراكز علم وإشعاع، وتترك آثارها الباقية إلى اليوم شاهداً حيّاً على عظمة دورها في تاريخ الحضارة البشرية.‏

وتحسن الإشارة هنا إلى أن العربية لم تواكب الفتوحات أو تُرافقها زمنيّاً في دخول تلك الأصقاع، لأن انتصار اللغة وشيوعها واستقرارها قضايا تحتاج إلى وقت أطول، وإلى توافر شروط مرحلية ومحلّية وبشرية لا معدى عن وضعها في الحسبان. وأخذاً بذلك يمكن القول إن انتشار العربية خارج حدودها كان مرتبطاً بوصول العلماء إلى الأمصار المفتوحة، لا بوصول طلائع جيوش الفتح، وكان مرتبطاً أيضاً بدخول الأسلام عملياً إليها، وبدخول أبنائها في الإسلام، أو بمشاركتهم في إدارة أمور الحكم والبلاد من قريب أو بعيد.‏

وفي المقابل لم يكن خروج العربية من تلك الأمصار مرافقاً لخروج العرب منها، إذ لا تطابق بين التاريخ الإسلامي وتاريخ العربية في مثل هذه الحال، وخير دليل على ذلك بقاء العربية أو آثارها اللغوية في كثير من المناطق التي فتحها العرب إلى اليوم، مع أن قروناً طويلة مضت على خروج العرب منها كما لا يَخْفى. وتجاوزاً يمكن القول إن حركة الفتوحات العربية الإسلامية تمثّل صورة مصغّرة لأطلس جغرافي عسكري، أما الأطلس اللغوي الذي رسم استقرارُ العربية خطوطَه فيما بعد فمختلف في شكله وفي مضمونه , والذي يعنينا من ذلك هنا بداية تجربة العربية مع ما نسميه اليوم بالعالمية، فتلك التجربة لم تكن صراعاً مباشراً ذا طرفين، وإنما كان تأثراً و تأثيراً، وفي بعض الأحيان والوجوه كان امتحاناً للعربية أمام تسرّب الدخيل إليها من اللغات التي اختلط متكلّموها بالعرب. ويمكن تلخيص هذه الصورة في نقاط أبرزها:‏
حركة التعريب، فقد بُدئ بتعريب الدواوين منذ زمن الخليفة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه حين قال له الوليد بن هشام بن المغيرة: " قد جئتُ الشام فرأيت ملوكها قد دوّنوا ديواناً، وجنّدوا جنداً، فدوَّن ديواناً وجنَّدْ جنّداًً " (3) فنال الرأي القبول من عمر. وأخذت فكرة تعريب الدواوين طريقها إلى التنفيذ عمليّاً على يد الخليفة عبد الملك بن مروان الذي تابَعَه في ذلك ابنه الوليد، وتمّ إنجاز هذا الموضوع بين سِني 81-114 للهجرة، ورافق ذلك سكُّ الدنانير الإسلامية التي كتبت عليها آيات من القرآن الكريم، وصارت بديلاً من الدنانير الرومية والدراهم الفارسية.(4)‏
2- وعزّز حركة التعريب دخول المسلمين بلاداً غير عربية اللغة بانتهاج مبدأ نقل القبائل العربية إليها واصطحاب الأُسَر والعلماء وبناء المساجد لتعليم الناس مبادئ الإسلام بالعربية، من ذلك مثلاً أنّ عثمان بن أبي العاص قطع البحر إلى فارس سنة 19هـ فنزل" توج" وفتحها وبنى بها المسجد، وأنّ الأشعث بن قيس أنزل " أردبيل " جماعة من أهل العطاء والديوان من العرب ومصّرهم وبنى مسجدها، وأن محمد بن القاسم اختط، زمن الحجاج، للمسلمين بالديبُل (بالسند) وبنى مسجداً وأنزلها أربعة آلاف، وبنى مسجداً بمدينة الرور من السند. ويذكر البلاذري أنّ عُقبة ابن نافع سنة 42 أو 43 هـ غزا افريقية فافتتحها واختط قيروانّها، وبنى المسجد الجامع بها.‏
وعندما غادر بلاد لمطة في الصحراء كان بعاصمة غانا اثنا عشر مسجداً. وعزّز موسى بن نصير مولاه طارق بن زياد بحامية من البربر تبلغ الاثني عشر ألفاً يقوم سبعة وعشرون عربيّاً بتلقينهم مبادئ الإسلام وتعليمهم القرآن والفقه. وترك عقبة بن نافع في البربر بعض أصحابه يعلمونهم القرآن والإسلام، كانوا ثمانية عشر رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان مجاهد بن جبير مقيماً بجزيرة رودس يُقرئ الناس القرآن سنة52هـ. وبنى شريك بن الأعور الحارثي مسجد اصطخر سنة 31هـ (5).‏
كان هذا كله ديدن القادة المسلمين في سائر الأمصار المفتوحة، وكانت هذه الإجراءات رسالة جليلة يعلي من شأنها إيمان عميق بضرورة نشر اللغة العربية، على الصعيد الرسمي لسلطة الدولة، والصعيد الشعبي عند جمهور علماء المسلمين وعامة الناس.‏
3-ومما وطّد دعائم العربية ومكانتها في الأمصار دخول الأعاجم في الإسلام، وحركة السبي التي أدّت إلى الولاء ونشأةِ طبقة الموالي، والتبنّي، وزواج المسلمين بالكِتابيات، والتعامل الاجتماعي، والرقيق الذي كانت له تجارة واسعة، وكان أمراً مألوفاً بين مصر وبلاد النَّوبة وبرقة وغيرها، ولم يستطع الإسلام أن يجد غير ذلك ليصالح عليه. وكان السبي والرقيق يتفرّق في البيوتات الإسلامية، في مصر وفي الحجاز، وكان يكون منه الجواري والإماء، والغِلمان والعبيد، وكان يصطبغ كله بصِبْغة الحياة العربية واللسان العربي، ويكون له فيما بعد أثره في الجيل التالي.. (6) كل هذه العناصر البشرية المتنوّعة الطامح بعضها إلى الاشتغال بوظائف، أو احتلال مناصب في الدولة- أثرت تاثيراً فعالاً في نشر العربية وزيادة عدد المتكلمين بها والساعين إلى تعلّمها. وقوّى هذا انتهاج العرب مبدأ العدالة في التعامل مع الشعوب المغلوبة بعقد عقود الصلح، وكَتْبِ كتُب الأمان والإبقاء على حريّة المعتقد، والإنصاف في فرض الجزية وجبايتها.. وما من شك في أن هذه المعاملات السمحة ستجعل الأعاجم يَطمئنَّون إلى الإسلام، ويميلون إلى العربية، ومن هنا لم يجد المسلمون كبير مشقّة في تمكين لغتهم من الشيوع والسيادة في سرعة لا تكاد تُصدّق.‏
وتلك الحركة الحيوية للبشر: عرباً حاملين العربية إلى خارج مهدها، أو عجماً ساعين إلى اخذها من أصحابها.. هذه الحركة المتداخلة المتعاكسة بدت في تاريخ العرب المبكّر كحركة جماعات النمل غادية رائحة، فكان من جناها وثمارها هذا الانتشار في العالم، كما كان في المقابل اختباراً لها في مقدرتها على التأثير في الناس، واستيعاب حركة الحياة والحضارة أو الصلاحِ لها بسائر أشكالها وعلى اختلاف الظروف والأقوام والأحوال والملابسات.‏
وكان حظ العربية أقوى لأنها لغة الأمة الواحدة الغالبة، على حين كان المغلوبون أمماً شتى وعروقاً ولغاتٍ أواصرها أقلُّ إحكاماً وتماسكاً وتجانساً، فكان اختيار العربية عند جُلّهم هو الأنسب والأسلم، وكذا كان الدين الإسلامي، وكلُّ منهما يكّمّل الآخر، مما يجعل الاتجاه إليها طريق الخلاص السياسي والروحي..‏

العربيّة واللغات الأخرى:‏
يمكن القول إنه بعد فجر الإسلام، وفي ظل المجتمع الأموي كانت بعض اللغات ما تزال حية مستعملة بألسنة متكلّميها الأصليين، وتحت راية الحكم العربي. كانت القبطية منتشرة في مصر، وبقايا الآرامية في بلاد الشام وبعض العراق، ولهجات إيرانية مختلفة كانت تسود بلاد فارس، وكان للبربرية وجود مماثل في المغرب العربي، كما كان لِلاتينية في إسبانية.. ولكنّ هذه اللغات كانت تنحسر شيئاً فشيئاً أمام عربية القرآن، أو عربية الحكم " الرسمي "، وإن لم تَحُلْ دون نشوء لغة للتفاهم بين العرب وغيرهم من الأعاجم، وهي التي فتحت الباب لتسرّب الدخيل اللغوي إلى الجهتين، كما أدّت إلى ما سماه علماء العربية باللحن وبفساد الألسنة.. وربما كان هذا من أقوى الأسباب التي عجّلت بنشوء علم النحو عند العرب.‏
ولم يكن انتشار العربية خارج حدودها حدثاً تقليدياً عابراً، أو امتداداً لونياً سكونياً وقف عند حدود مرسومة، وإنما كان انتشاراً يحمل رسالة ويؤسس لحضارة عريقة تستوعب كلّ مناحي الحياة. تقول زيغريد هونكه في ذلك:‏ " وهكذا تحوّلت لغةٌ قبليةٌٌ في خلال مئة عام إلى لغة عالمية. ليست اللغة ثوباً نرتديه اليوم لنخلعه غداً. لقد وَجَدتْ اللغة العربية تجاوباً من الجماعات وامتزحت بهم، وطبعتهم بطابعها، فكوّنت تفكيرهم ومدارِكهم، وشكلّت قَيَمهم وثقافتَهم، وطبعت حياتهم المادية والعقلية فأعطت للأجناس المختلفة في القارّات الثلاث وجهاً واحداً مميّزاً ". (7)‏
ولقد كان من مظاهر عالمية اللغة العربية وآثارها الحضارية إتقانُ كثير من غير العرب لها وإن لم يدخلوا الإسلام، أو يكونوا ذوي وظائف في ظل الحكم العربي، إنما كان تعلّمهم العربيّة لأغراض علمية خالصة، وكان إعجاباً صريحاً بالشخصية العربية وبما تحمله من القيم والمناقب والنُّبل والفروسية.. بعض هؤلاء راح يقلّد العرب في طرائق حياتهم، وبعضهم راح يُسمّي أبناءه بأسماءٍ عربية، وبعضهم راح ينظم الشعر بالعربية، بل عكف بعضهم على تعلم العربية وأهمل لغته الأصلية، لغةَ دينه وقوميته، ويُذكَر هنا أن أسقف قرطبة كتب مرّة يقول:‏ "كثيرون من أبناء ديني يقرؤون أشعار العرب وأساطيرهم، ويدرسون ما كتبه علماء الدين وفلاسفة المسلمين، لا ليخرجوا عن دينهم، وإنما ليتعلموا كيف يكتبون اللغة العربية مستخدمين الأساليب البلاغة. أين نجد اليوم مسيحّياً عادياً يقرأ النصوص المقدسة باللغة اللاتينية؟ إن كلّ الشباب النابه منصرف الآن إلى تعلم اللغة والأدب العربيين، فهم يقرؤون ويدرسون بحماسة بالغة الكتّب العربية، ويدفعون أموالهم في اقتناء المكتبات ويتحدّثون في كل مكان بأن الأدب العربي جدير بالدراسة والاهتمام. وإذا حدَّثهم أحد عن الكتب المسيحية أجابوه بلا اكتراث: ( بأنّ هذه الكتب تافهة لا تستحق اهتمامهم ). يا للهول! لقد نسي المسيحيون حتى لغتهم، ولن تجد بين الألف منهم واحداً يستطيع كتابة خطاب باللغة اللاتينية، بينما تجد بينهم عدداً كبيراً لا يحصى يتكلّم العربية بطلاقة ويقرض الشعر أحسن من العرب أنفسهم ". (8)‏

هكذا إذن استهوت العربية أولئك الشباب بجمالها الذي يتجلّى في الشعر، ولا سيما في الموشحات الأندلسية وشعر " التروبادور "، ويبدو أن اللغة اللاتينية لم تكن تتحلّى بمثل هذه الفنيّة والعذوبة.. يقول مونتغمري واط:‏ " ففي الجزء الأعظم من إسبانية العربية تشكلّت تدريجيّاً حضارة إسبانية عربية متجانسة، انتشرت بمرور الزمن في المناطق الشمالية الغربية وطغت على الحضارة المحلية. ويبدو أنّ المسيحيين في المناطق الإسلامية كانوا على حدّ سواء يعرفون اللغة العربية، رغم استعمالهم في الحياة اليومية للّهجة الرومانسية ( الأعجمية ) التي تتضمّن مفردات عربية. وفي فترة الحكم الإسلامي استوعب المسيحيون استيعاباً تاماً حضارة الأمة الحاكمة ( في كل جوانبها عدا الدين ) حتى سمّوا MOZARABS أي " المستعربين "، وحتى بعد استرداد المسيحيين ثانية للأندلس فقد رأت الكنيسة نفسها مجبرة على أن تترجم الإنجيل لهؤلاء المسيحيين، بعد تحررهم، إلى اللغة العربية ". (9)‏

في الشرق كان صوت العربية أبعد أثراً في القلوب والعقول التي اعتنقت الإسلام، وكان للعربية منزلة الصدارة لغةً للدين وللعلم وللحكم، وأمامها بدأت اللغات المحلية تنحسر، ولعل أبرز مثال على ذلك اللغة الفارسية التي قلّ شأنها في المحافل الدينية والعلمية، وتحوّلت إلى أداة للحوار، أو إلى لغة للحياة اليومية في منأى عن الموضوعات العلمية أو الأدبية أو الفكرية الجادة. وامتد تأثير العربية إلى اللغة الأوردية والتركية، وإلى لغات البلقان المختلفة، منذ زمن الخلفاء الراشدين. وفي مرحلة ثانية حمل الأتراك مزيداً من أثر العربية إلى البلقان، في ما يشبه دور الوسيط.‏

وبقيت تركيا تكتب بالحروف العربية حتى العشرينات من هذا القرن حين أحلّ " أتاتورك " الحروف اللاتينية محلها. ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا ما أخذته لغات ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي التي اعتنقت الإسلام من ألفاظ عربية تتصل بشؤؤون العبادة والعقيدة والمصطلحات الإسلامية الشرعية والفقهية والاجتماعية.‏

ولأن العربية عملت على استيعاب حضارات الأمم القديمة المجاورة لها فقد كان تفاعلها مع اللغات والثقافات الأخرى يتجلّى واضحاً بالترجمة في المقام الأول، وفي تسرّب الدخيل اللغوي إلى العربية في المقام الثاني. ففي ميدان الترجمة عرفت العربية مراكز متعددة، في بغداد وجند يسابور وحرّان والرّها ونصيبين، فضلاً عن الجهود الخاصة التي بذلها أفراد توزعتْهم الأقاليم واللغات والاهتمامات. ولقي ذلك كله تشجيعاً ومؤازرة ورعاية من الخلفاء وذوي السلطان وأهل العلم. وكانت بواكير الترجمة في زمن الأمويين، فقد ذكر ابن النديم في "الفهرست" جملة من النقلة من اللغات إلى اللسان العربي كان منهم اسم اصطفن القديم ( اصطفن بن بَسيل أو باسيل )، قال: " ونقل لخالد بن يزيد ( ت.9 هـ ) بن معاوية كتب الصنعة وغيرها " . (10)‏

ومن المعروف أن الترجمة اتجهت منذ ذلك الزمن إلى الاهتمام بكتب الطب والكيمياء والفلك، ثم اتّسعت لتشمل الرياضيات والطبيعة والمنطق والحساب والهندسة والفلسفة والحكمة، وبعضاً من الكتب الأدبية وكتب اللاهوت.. وامتدّ هذا النشاط في الترجمة من خلافة أبي جعفر المنصور ( ت 158 هـ ) حتى خلافة المعتمد ( ت 279 هـ )، وبلغ ذروة ازدهاره زمن الرشيد (ت193 هـ ) والمأمون (ت218 هـ ) حين أنشأ هذا بيت الحكمة في بغداد وجعل منه مقرّاً حقيقياً للترجمة والبحث بإشراف يوحنّا بن ما سويه (ت243 هـ) الذي كان أول رئيس لهذا المركز العلمي (11) وقد نقل عن الخليفة المأمون أنه كان يعطي المترجم زنة الكتاب الذي ترجمه ذهباً تشجيعاً منه للتراجمة وللحركة العلمية في مجملها. وهكذا نشط عارفو اللغات المجاورة: الفارسية والسريانية واليونانية والهندية لالتماس الكتب واستحضارها ونقلها إلى العربية. وكان بعض المترجمين من السريان يترجمون الكتب عن اليونانية إلى السريانية ثم إلى العربية، كما كان بعضهم يترجم عن لغة ما ثم يعرض ما ترجمه على من يصححه له، أو يعيد صياغته بلغة سليمة. وكان يتوزّع العمل في " بيت الحكمة " فريق من المختصين بالترجمة والمراجعة والتصحيح والنسخ والتجليد.. ولعل المترجم المشهور حنين بن إسحاق العِبَادي (ت264 هـ) خير من يمثل هذه " المدرسة " التي بلغت قدراً حسناً من الإجادة والتنظيم.‏

وتستغرق قائمة المترجمين عدداً من المبرزين في هذا الميدان، يتصدرهم عبدالله بن المقفع (ت 142 هـ) الذي كان " أول من اعتنى في الملّة الإسلامية بترجمة الكتب المنطقية لأبي جعفر المنصور، فقد ترجم له كتب أرسطوطا ليس المنطقية الثلاثة وهي: كتاب قاطيغوراس ( المقولات )، وكتاب باري أرميناس (العبارة)، وكتاب أنا لوطيقا (البرهان ). كما ترجم عن الفارسية الكتاب الهندي المشهور " كليلة ودمنة " وكتباً أخرى (12)‏

ومن المترجمين أسرة بختيشوع: جورجيس بن بختيشوع الجنديسابوري، وابنه بختيشوع، وابن هذا جبريل أو جبرائيل، وكانوا زمن المنصور والمهدي (ت 169هـ) والرشيد. وبعد هؤلاء اشتهر من التراجمة يوحنا بن البطريق الترجمان (ت بين 180 و 191 هـ ). وأبو سهل الفضل بن نوبخت الذي ولاه الرشيد القيام بخزانة كتب الحكمة (13) ويوحنا بن ماسويه (ت260هـ)، وابنه إسحاق، وابن أخته حبيش بن الحسن الأعسم. والفيلسوف الكندي ( أبو يوسف يعقوب بن إسحاق ) المشتهر في الملة الإسلامية بالتبحر في فنون الحكمة اليونانية والفارسية والهندية (ت 255 هـ). ومنهم ثابت بن قرّة الحرّاني (ت288 هـ)، ومتّى بن يونس القُنّائي ( ت بعد 320 هـ) الذي ترجم كتاب فن الشعر لأرسطو، وابنه سنان بن ثابت بن قرّة (ت 331 هـ)، وابن ناعمة الحمصي ( ت نحو 320هـ)، وأبو عثمان الدمشقي ( كان على الأرجح في زمن المعتمد ويقدر تاريخ وفاته بحدود 250 هـ). (14) ومن المترجمين يحيى بن عدي بن حميد ابن زكريا المنطقي (ت 364 هـ)، وعيسى بن إسحاق بن زُرْعة (ت398 هـ) (15 )، وغير هؤلاء كثير (16).‏

في مرحلة لاحقة، وفي الجانب الغربي من حدود الدولة العربية الإسلامية قامت حركة ترجمة واسعة أخرى، كانت اللغة العربية فيها هي المعطية هذه المرة. وترجع بدايات هذه الحركة إلى القرن التاسع الميلادي، وتستمر حتى القرن السابع عشر. وفي هذه القرون الثمانية كانت أوروبة تنهل مختلف العلوم والمعارف من مشاربها وينابيعها عند العرب.‏

في البداية كان هذا اللون من النشاط مقتصراً على النقل من العربية إلى اللاتينية، ولم يكن ذا شأن يذكر. أما المنطلق الفعلي للترجمة إلى اللغات الأوروبية فيرتبط باسم جربرت أوبلانك الذي أصبح فيما بعد البابا سلفستر الثاني ( 999-1003 م ) (17). وتذكر المصادر أن الترجمة ازدهرت ازدهاراً ملحوظاً في صقلية وطليطلة وسرقسطة وبعض مدن إيطالية. ففي صقلية ترجم كتاب المجسطي لبطليموس نحو 1160 م، كما ترجمت كتب في الفلك والجبر والحساب والطب (18) وكان ملك صقلية فردريك هوهنشتاوفن محباً للفلسفة على ما يبدو. فكلّف اسكتلندياً يدعى ما يكل سكوت (ت1235 م ) ترجمة بعض الكتب في هذا المجال عن العربية كان منها كتب لأرسطو مع شروح عليها لابن رشد (ت595 هـ)، وكتاب لابن سينا (ت 428 ه ) في التاريخ الطبيعي. وترجم القرآن الكريم إلى اللاتينيه.‏

وفي صقلية تُرجم كتاب " الحاوي " في الطب للرازي، وترجمت أعمال لابن رشد والفارابي (ت339 هـ) (19 ).‏

وفي طليطلة التي خرجت من حوزة العرب عام 1085 م شجع ريموندو أسقف طليطلة (1125-1251 م ) الحركة العلمية فازدهرت الترجمة في إطارها، وقام بعملية الترجمة كثير من العرب المسلمين واليهود الذين ظلوا هناك. وهناك أيضاً ترجمت مؤلفات للفارابي وابن سينا والغزالي والخوارزمي.(2) وكان من أبرز المترجمين جيرارد الكريموني الإيطالي (ت 1187 م) الذي قدم طليطلة وترجم فيها، إباّن سنوات، نحو مئة ترجمة مستعيناً بفريق منَ المترجمين في ما يشابه المدرسة أو المؤسسة العلمية (21).‏

وفي طليطلة كان للملك الفونسو العاشر الملقب بالحكيم (حكم من 1252- 1284 م) دور بارز في الترجمة من العربية إلى اللاتينية والقشتالية الاسبانية(22).‏

وترجمت كتب في الفلك والأنواء واللاهوت في سرقسطة وطرسونة، ترجمها هربرت الدلماسي وروبرت أوف كينتون ( ويسمى أيضاً روبرت من تشيستر، أو روبرت من ريدنغ ). وقد استقرّ روبرت هذا في برشلونة عام 1136م، وقام بترجمة القرآن الكريم والحديث الشريف، وكتاب نسب الرسول لسعيد بن عمر، وكتاب الكيمياء لخالد بن يزيد بن معاوية، وكتاب محمد بن موسى الخوارزمي في الجبر عام 1145م بالإضافة إلى ترجمته أعمال الكندي في الفلك، مثل رسالة في الاسطرلاب عام 1147م، وكتاب التركيب لابن حيان.(23)‏

وفي ساليرنو بجنوبي إيطالية ازدهر الطب في القرن الحادي عشر على يد شخص يدعى قسطنطين الافريقي كان يترجم عن العربية أعمالاً في الطب من تأليف علماء عرب ومسلمين. وكان هذا في البداية ينسب إلى نفسه ما اقتبسه ونقله عن العرب (24).كما ترجم كتباً يونانية الأصل كشروح أبقراط وجالينوس وغيرها عن العربية.‏

صفوة القول: إن أوروبة ترجمت كتاب "الحاوي" الشبيه بموسوعة في الطب للرازي، وكتاب "القانون" في الطب لابن سينا، ذلك الكتاب الذي طبع ست عشرة طبعة، وظلّ يدرَّس حتى عام 1950م، وقيل إنه كان أكثر ما دُرَّس من الكتب الطبية في التاريخ كله (25). وترجمت كتاب "المنصوري" للرازي، وكتاب "التصريف لمن عجز عن التأليف" ، وكتاب"الجراحة" لأبي القاسم الزهراوي، وكتاب " زاد المسافر" لابن الجزار، وكتاب "الجدري والحصبة" للرازي، تُرجم إلى اللاتينية واليونانية والفرنسية والألمانية.. وكتاب "تقويم الصحة" لابن بطلان. يقول الدكتور توفيق الطويل: "ونشأت في أوروبا مدارس طبية تقيم دراستها على الكتب العربية المترجمة إلى اللاتينية. ويبدو هذا في مدارس: مونبلييه، ونابُلي، وبولونيا، وبادوا، واكسفورد، وكمبردج وغيرها. وقد أسس أُولاها- مونبلييه- أطباء العرب المطرودون من اسبانيا".(26)‏

وترجمت من العربية إلى اللاتينية كتب في الفلك والرياضيات مثل: " المدخل إلى أحكام النجوم لأبي معشر البلخي، "وجوامع علم النجوم" للفرغاني، وكتابي "في الزيج" و"العمل بالاسطرلاب" للخوارزمي،و "كتاب الهيئة" لأبي إسحاق البطروجي و"كتاب المخروط المكافئ" لثابت بن قرّة.. كما ترجمت كتب في علوم ما فوق الطبيعة وفي الفلسفة.‏

هذه التجربة العريقة في الترجمة من اللغات الأجنبية وإليها أغنت العربية وأنضجت خبرتها، وكانت في الوقت نفسه سبيلاً لها إلى الاهتمام باللغات الأخرى، مما أسس لنواة للمقارنات اللغوية ولعلم اللغة التقابلي contrastive linguistics‏

مع الترجمات، وعبر الحدود، وعلى ألسنة الدارسين الأوروبيين في حواضر الأندلس كان قدر كبير من الكلم العربي يرشح إلى اللاتينية والاسبانية والبرتغالية والفرنسية والانكليزية.. ثم يستقر في معاجم تلك اللغات، ولهذا لا نستغرب أن نسمع أو نقرأ بين الحين والحين أن باحثاً انكليزياً يقرّ بوجود آلاف الكلمات العربية في الانكليزية، و أن باحثاً آخر يضع كتاباً يضمنه ما رشح من العربية الى الاسبانية أو البرتغالية أو الهندية (27).‏

ويلحظ المتأمل في طبيعة تلك الكلمات العربية التي دخلت إلى اللغات الأوروبية أنها كانت ألفاظاً علمية، أو مصطلحات ومسميات حضارية تتصل بالسلوك والسلع والطيوب والعطور والمنسوجات والثياب. فضلاً عن بعض ألفاظ الحياة الدينية والاجتماعية للعرب.‏

أما العربية فقد أخذت من اللغات التي احتكت بها ما كانت في حاجة إليه، أو ما كان جديداً في حياة أصحابها. لقد أخذت من الفارسية بعض ألفاظ الحكم وآلة الحياة والعمران وأسماء بعض الأشجار المثمرة والرياحين والأزهار والمآكل والجواهر والحليّ.‏

وأخذت من اليوناية واللاتينية مصطلحات علمية و أدبية، وكلمات تتصل بالحياة الدينية وألقاب أصحابها، أو تتصل بالحياة البحرية والإدارية وبالفلسفة والنقود والخمر، أو لها علاقة بالقانون كالقبان والقنطار والقسطاس والمِيْل و الاسطرلاب وما شابه ذلك (28).‏

وأخذت من الهندية ألفاظاً تنصرف إلى العقاقير والأبازير والأفاويه، وصناعة السيوف وبعض مصطلحات التجارة والملاحة وأسماء الأشجار والحيوانات والطيوب.. وأخذت من الحبشية كلمات دينية قريبة الصلة بالإسلام جاء معظمها في القرآن الكريم كما نسبه اللغويون الأوائل الثقات (29) من غير أن يدققوا في تأصيله أو يشيروا إلى مكان التقائه مع الكلِم العربي في جذوره القديمة. ومثل ذلك أخذت العربية بعض الكلمات الآرامية أو السريانية والنبطية مما يتصل بالزراعة وآلاتها وبعض المصطلحات والمسميات الدينية المسيحية وأسماء الشهور الشمسية.. ولكنّ العربية، في ذلك كله، لم تأخذ الصفات ولا الجمل، لأنها تمتلك من الثراء اللغوي ما يغنيها عن ذلك، بجملها وتعابيرها وأساليبها ورصيد مفرداتها. أخذت غالباً المسميات المادية المحلية، وتمّ هذا الأخذ من اللغات التي كان احتكاكها بالعربية أو مجاورتُها لها في إطار إنساني غير عدواني، فالقرب والتجاور ليسا كافيين دائماً للتأثير والتأثر بين اللغات، وهذا ما يفسر ندرة سماع الكلمات العبرية في لغة الحياة اليومية لأبناء الدول العربية المحيطة بمن يتكلمون العبرية اليوم في فلسطين. وبعد:‏

هل العربية لغة عالمية؟ ولماذا؟‏
لا جدال في أن العربية لغة عالمية إذا شئنا الأخذ بمنطق الوقائع والأحداث والإحصائيات. والأحداث التاريخية تشير إلى أن العربية انتشرت برموزها الكتابية، أو حروفها الهجائية إلى أقصى الشمال، فوصلت إلى سيبيريا على أيدي مسلمي روسيا، وأخذها مسلمو تركستان وجيرانهم من الدول التي تتكلم بالتركية وتدين بالإسلام كبلوخستان وأذربيجان وداغستان وتركمانستان وقفقاسيا (القرن السابع الهجري)، وانتشرت بين التتر والترك حول بحر قزوين، شمالي البحر الأسود وجنوبي جبال أورال، كما انتشرت في فارس وافغانستان وكشمير ومنشوريا والملايو (ملقة) والفلبين. ونشر الأتراك الخط العربي (بعد اعتماده في الكتابة) في بلغارية وألبانية وبعض مناطق البلقان. وعرفه السواحليون في شرقي افريقية، وسكان مدغشقر في نهاية القرن الأول الهجري. وكذلك انتشرت الكتابة العربية في الحبشة، وهرر، والصومال، وتسرّبت مع جاليات عربية إلى جنوبي القارة الافريقية. ومن نافلة القول إنها انتشرت في اسبانية وفرنسة "منطقة اللوار" (30). وبقيت الحروف العربية تستعمل لدى الألبانيين في يوغسلافية حتى الحرب العالمية الثانية.‏

أجل، إن العربية كانت عالمية، واستمّرت لغة عالمية، لأنها تغلغلت في اللغات التي لها صفة العالمية، ولأنها بقيت في معاجم تلك اللغات فصارت جزءاً لا يتجزأ من تراث الإنسانية الخالد، ودليلاً لا يدفع على إسهامها في إنجاز حضارة الفكر البشري الذي حملت مشاعله قبل كثير من الأمم والحضارات (31). وهي عالمية لأنها امتدّت على رقعة كبيرة تستغرق ثلاث قارات من هذا العالم. وهي عالمية لأنها لغة الدين الإسلامي والعقيدة الإسلامية، ولا يجهل أحد ما للإسلام من عالمية، سواء من حيث عدد السكان، أو من حيث عدد الدول والشعوب التي تعتنقه وتؤدي شعائرها الدينية بهذه اللغة. وهي عالمية لأنها لغة الأمة العربية والقومية العربية بما لها من عدد السكان أو الأهمية البشرية والاقتصادية والاستراتيجية. وهي عالمية لأن العرب المنتشرين في العالم بجالياتهم واتحاداتهم ومساجدهم وكنائسهم ومراكزهم العلمية والسياسية والاقتصادية يتمّمون هذا الإطار ويكملون هذه العالمية. وستبقى لغة عالمية مادام لها هذا الإطار الديني والقومي والبشري، ومادام أصحابها يتمسكون بها، أو يريدون أن تبقى عالمية.‏

ولا يخفى أن كثيراً من الدول تسعى إلى نشر لغتها في العالم بافتتاح مراكز لتعليمها، أو مراكز ثقافية يكون في جملة نشاطاتها تعليم اللغة القومية، على حين تبدو إنجازات أصحاب العربية في هذا الميدان زهيدة متواضعة. صحيح أنه كان من نتائج سعيهم اعتماد اللغة العربية لغة رسمية في بعض المحافل الدولية، كهيئة اليونيسيف، والأمم المتحدة، وإدخال اللغة العربية في الاتحاد البريدي العالمي، وأن معظم الدول الكبرى في هذا العالم قد خصصت أقساماً ومراكز لتدريس العربية، وساعات تذيع فيها باللغة العربية، وكل هذا دليل لا يردّ على عالميتها، وعلى ما لها من أهمية في هذا العالم. ولكنّ هذا وحده لا يكفي، ولا يحسن بطموحنا إلى خدمتها وصيانتها أن يقف كالمراقب المحايد على ما يجري وينجز لخدمة هذا الاتجاه، إنما علينا أن نبذل المزيد من العناية بالعربية، ودعم نشرها، وتعزيز وجودها تعزيزاً لوجودنا القومي، ولحضارتنا العريقة الخالدة.‏