ارتشفت قليلا من قهوتها ونظرت إلي نظرة طويلة وهي صامتة. كنت أراقبها من تحت رموش عيني ثم أردفت قائلة: وماذا الآن. ما الذي تنوين فعله.
قلت مبتسمة: فيما معناه؟؟
قالت: حياتك. ومستقبلك. وأحلامك كل هذا ماذا تريدين أن تفعلي به؟؟؟
قلت محافظة على ابتسامتي: حياتي الآن أصبح لها معنى جميل. وأصبحت أزيل الغشاوة عن عيني يوما بعد يوم. مستقبلي لا أعلمه ولكني أحاول جاهدة أن أصحح فيه وأوجه دفة سفينته في الإتجاه الصحيح. وأحلامي أحتاج لمجلدات لأكتبها. وربما أختصرها لك في جملة هو رضى الله والدعوة إليه.
وضعت كأسها في عصبية على الطاولة وقالت: إسمعي لا أحب هذا النوع من الأجوبة، لست أدعوك لتهجري دينك موضوع الدين لا نتحدث فيه الآن. أنا أحدثك عن العمل. ألا ترين أنك تستحقين أن تكوني في منصب مهم داخل شركة مرموقة وتديرين مشاريع.
هل نسيتي أنك كنت تجارين الرياح لتحصيل العلم. أتتجاهلين تلك الليالي التي كنت فيها تبيتين مستيقظة والناس نائمة. كم مرة حرمت نفسك من الإستمتاع بالرحلات واللهو مع قريناتك. كنت ابنة الدراسة.
لا ,يبدو أنه حصل لك فقدان ذاكرة. يا عزيزتي لقد أفنيت أكثر من 20 سنة من حياتك من أجل الوصول إلى تلك المهمة التي كنت دائما تغنين بها.
وبعد هذا وأكثر منه تأتين بكل بساطة لتقولي لي أريد أن أكون داعية؟؟ ومن منعك كوني ولكن لا تبيعي من أجله أحلام حياتك كلها.
لا, يجب أن تفكري. يجب أن تعيدي حساباتك. آسفة هذا الذي تفكرين فيه ليس من الصواب في شيء.
تركت لها المجال لتقول ما تريد. وكان كلامها يعيد إلى ذاكرتي سنوات مضت عزيزة على قلبي.
ثم صمتت فجأة وقالت لي فيما تفكرين الآن
رفعت عيني إليها وقلت لها والعبرة تخنقني: لقد جعلت مسلسل الماضي القريب يمر من أمام عيني بسرعة، وأعدت علي سنوات كنت فيها نصف مدركة لواقعي إن لم أقل لك غير مدركة تماما.
لست أخفيك سرا ان قلت لك إن تلك السنوات المتعبة التي مرت لازال وقعها في قلبي ولا زال صداها مترددا في داخلي.
وابتسمت وأنا أتذكر وقلت لها. لقد كنت أحب العلم بكل جوارحي. كانت دعواتي كلها في الصلاة أن أنجح بامتياز في الدراسة.
وضحكت وأنا أقول لها: تصوري لا أدعوا لا بجنة ولا بشيء. كل همي اللهم إني أسألك التفوق في هذه السنة. وفي عطلة الصيف يكون الدعاء للسنة القادمة وأقول يا رب إجعل السنة القادمة خيرا من السنة التي مضت واجعلني متفوقة.
وضحكت بدورها دون أن تقاطعني فهي كانت تتقن فن جعل الآخرين يتحدثون عن أنفسهم.
وأكملت الحديث: واستمر الجهاد إلى حين تخرجي، واصطدمت بالواقع. حين ولجت العمل لأول مرة في حياتي.
وارتسمت على وجهي علامات الأسى وجفت الإبتسامة من شفتي ولكني كنت أريد أن أوضح لها الصورة حتى لا تنخدع بما قيل لها عني.
وأكملت: اعلمي يا عزيزتي أنني لا أحب هذه المحطة من حياتي وإن كنت أسردها فلأوضح لك فقط. أجل وولجت عالم الشغل. وياليته ظل مغيبا عني إلى أن أموت.
اجتماعات. مشاكل. وإصطدامات مع الناس وعن أي ناس. عليك أن تعد هذا وتحاول إرضاء هذا وتسمع لهذا. وما لم أكن أستطيع تقبله هو حين كنا نجلس إلى مائدة الغداء المختلطة. فيبدأ هذا برشق الكلام وتلك تضحك وتنساق وأنت تحاولين رسم الحدود ولا أحد يراها. قد تبدأ النقاشات عن موضوع سياسي ثم فجأة تجدينه انقلب إلى حوار حول الظواهر الشاذة التي بدأت تملأ الشوارع وهذه تروي قصة إنسان خائن ولك أن تعدي في ذلك كل المواضيع وهذا ونحن في جلسة مختلطة. لا أنسى كم مرة أصبت بالغثيان من المواضيع و تركت المائدة.
وهذا وبعد أن تنسحب إحداهن أو أحدهم ينقلب الموضوع إلى نميمة ولا فرق فالرجال في ذلك سواء.
لم أكن أعرف أنك في عالم الشغل يجب أن تكون لا قيم ولا أخلاق.
تعلمت فيه أن أكون سيدة المصالح الخاصة. لا تتصوري أنني كنت شريرة لا يا حبيبتي فبرغم بغضي لتفكيري أنذاك إلا أنني كنت أطيب الناس في ذلك العمل.
المهم هذه فقط نفحة من تجربتي في العمل أحببت أن أطلعك عليها.
كنت لا أحدث نفسي أبدا وكانت لي التواء ات من ضميري أختبأ منه بالإنهماك في العمل إلى حد التعب.
وبدأت تهتز التوابث التابتة في دماغي وأصبحت أتابع الموضة.
حسنا لا أريد الشرح أكثر ولكن حجابي كان أضحوكة فعلا آنذاك، رغم أنه لم يصل إلى درجة ما أراه في الشارع اليوم.
كانت تلك الإنسانة الطيبة داخلي تبعث لي كل يوم ذبذبات لتحاول دفعي إلي التفكير.
وفعلا فكرت، سألت نفسي هل هذا هو التميز الذي كنت أبحث عنه؟؟؟
حسنا أنا مهمة في نظر غيري ولكن لست راضية عن نفسي ؟؟؟
لا تتصوري أنني أدركت عنقود العنب فاكتشفت أنه ليس كما كنت متخيلة. لا لم يكن الوضع كذلك.
بل بدأت التناقضات تدور في رأسي.
بدأت أرى أنني أجري في حدود ضيقة. وأصنع مجدا لغيري
قدمت استقالتي من العمل وبدأت رحلة البحث عن رضى نفسي وربما البحث عن منبع سعادتي.
قاطعتني بشدة: في نظرك كان حل ممتاز وإلى ماذا توصلت يا سيدة السعادة؟؟
فابتسمت وقلت لها: على مهلك فلقصتي نهاية جميلة لا تقلقي؛
أدارت وجهها وهزت كتفيها وتمتمت : ايه نهاية جميلة لا يراها غيرك؛
وأتممت الحديث متفادية أن أعلق على كلامها: أتعلمين عما بحتث ؟؟ عمن يدرك مواطن سعادتي. كنت أريد عارفا وعالما بهذا القلب وهذا الضمير.
كان البحث مضنيا لكن أتى أكله


حاولت أن أشرح لها عن منهجي في الحياة عن نظرتي للدنيا الفانية. وكم كنت أحس ببعد تفكيرها عن تفكيري. وتنهدت ثم تحكرت في مقعدي قليلا لأكون كلي مستديرة إليها.
وبدأت حديثي وأنا متأكدة أنها لن تهضمه فقلت لها: أتمنى أن لا تقاطعيني ولو أنها ليست عادتك
قالت لي: أتمنى أن لا أحس أنني في مسجد
ابتسمت لها وقلت لها: لسانك الطويل يزيدك رونقا وجمالا حافظي عليه
ونظرت إلي مبتسمة وقالت :متى ستبدأ يا سيدنا خطبتك.
فقلت لها: لا ياعزيزتي ولكني أريد أن أنقل لك الصورة كما في عقلي لكن علمي بمدى سمك غشاوة عينيك يحبطني.
حسنا عزيزتي، هل ترين المرأة خلقت لتكون في الشارع ؟؟ لتعمل وتجاهد خارج وداخل البيت؟؟؟
تعرفين عمن أتحدث، عن كائن حساس جدا. عن حنان ومشاعر. عن بؤرة متقضة من الأحاسيس. إنها ألين من أن تواجه صعاب الدنيا.
أجل هي تتقن فن المواجة ولكن لا تملك سوى سلاح الأحاسيس.
فأنا أراها خلقت لتسكن الأرواح إليها، لتكون سيدة عالمها، خلقت لتصنع عالما هي تديره لأنها ملكته الوحيدة، فتضم القادمين إليها ضمة المحبة المخلصة، ومهما حمل إليها القادم من أعصاب وحالات نفسية يختزنها في معاملاته فبمجرد ولوجه لمملكتها يفرغ الشحن الذي لديه لأنه وجد سكونا وحضنا لا ينغصه ضنك الحياة .
هكذا رأيت تلك الملكة أنا. فاشتقت أن أكون هي فبدأت المقارنة بينها و بيني وكان الفرق مهولا.
دعيني أصف لك النساء العاملات وإن كان واقعهن لا يخفى عنك.
نبدأ بالبنات قبل المتزوجات.
تلج سوق العمل، تعامل هذا وهذا، تعتاد الضحك والكلام في شتى المواضيع، أجل ربما أبالغ لكن اسقطي ماشئتي منها واتركي الباقي فهناك بطلة لكل وصف، وهكذا يبدأ الحياء الذي هو تاج تلك الملكة في الذبول. وتعتاد العمل والجري وراء لاشيء ولكن ودون أن تحس تكون حياتها تجف ببطيء ودون أن تشعر.
قد تجد رفيقا لدربها وذلك إما زميل عمل أو أو. المهم هنا تقف أمام مفترق الطرق وقد تكون مجبرة على الإختيار بحكم ظروف زوجها أو مخيرة. ولكنها في هذا الأخيرتجد نفسها اعتادت صخب الشارع وألفت أذناها سماع الضجيج، فتبدأ بعد شهور عديدة ترى ذلك العش الجميل ككابوس مظلم. لقد أصبحت وحدها، ولكنها اعتادت الحديث والضحك والصخب فتبدأ الإهتزازات. ولست هنا بمعرض الحديث عن هذه ولكن أؤكد لك أنها ستكون سيدة النكد الأولى.
والحلوة التي تضل في عملها رغم الزواج. تكون سيدة النكد الثانية.
وضحكت أنا بينما ظلت محافظة على صمتها وجمود تقاسيم وجهها.
فعدت للحديث: التي تعمل و هي متزوجة هل تربح بمرتبها حياتها أم تخسر جوهرمملكتها المتزحزح من جذوره.
تمضي حياتها في جري وراء الماديات تحاول الموازنة بين عمل البيت و بين عملها فتكون النتيجة أن تستنجد في غالب الأحيان بمبدأ الشغالة وبمصروفها وإذا أتى الأبناء تكون الطامة العظمى وتعيش حياتها تتمرغ في وساوس وشكوك في معاملة الخادمة لزوجها و أبنائها في غيابها. حياة لا طعم لها وإن رشوها بماء الزهر.
حبيبتي لن تستطيع سيدة العمل أن تكون ملكة حتى لو كان عملها لا يأخذ منها سوى ساعة خارج البيت. سأقول لك لم. ودعها نظرة شخصية إن أردت. المرأة في نظري لا تستطيع أن تكون مبدعة إلا إن أحبت بصدق عندها تصل إلى ذلك الجوهر الصافي داخلها تمسح الغبار عنه و تبدأ في نسج الدرر من لمعانه.أما أن يكون لها مجال تشتت فيه أفكارها فهذا قد يجعلها مبدعة ولكن متعبة. وهل نرتجي الإبداع ممن أنهكها العالم الخارجي.
فصمت قليلا لآخذ نفسا وأستشعر المدى الذي وصلت إليه كلماتي في قلبها وأقرأه في تقاسيم وجهها.
لكنها ظلت صامتة.
فارتشفت قهوتي طلبا لمزيد من الوقت وكلي أمل أن أكون زحزحت قليلا من أفكارها لأستطيع تبليغ ما بقي من كلام.
وفعلا كانت مطيعة ولم تقاطعني. فقلت في نفسي ربما تنتظر مني إشارة النهاية.
وابتسمت في داخلي وأتممت الحديث.
فقلت لها: حاولت أن أختصر لك وأضع لك المفارقة. فهكذا بدت لي يا عزيزتي ولكني حين وصل بي التفكير إلى هذا الفرق لم أستطع تجاهله كما كل مرة. فأنا طموحة وتعلمين حبي للتميز.
فقررت البدأ. ولكن كان هناك جبل يقف سدا منيعا في وجهي و هو علمي الذي تعلمت وسنوات دراستي.
فضحكت وقلت لها: لقد وصلت لمربط الفرس الآن وسنبدأ رحلة جديدة هذه المرة الرقي في مدارك التميز

وكان علي أن أرتب أفكاري وأفهمها أنني لم أغامر بعلمي من أجل هدف عادي. لذلك كنت أحاول ترتيب المصطلحات في فكري.
فكرت في جعلها تقتنع بما سأقول ولكن كان جمود فكرها يمنعني من خوض هذه المغامرة.
فاضطررت لإتمام كلامي، وأنا أتوجس خيفة من هذا الهدوء الغريب الذي طرأ عليها فجأة. وقررت أن أنعش الجو قليلا
فقلت لها: هل هذا الهدوء الذي يسبق العاصفة؟
فقالت محافظة على كامل هدوئها: بل هو سكون الساذج الذي يتفرج على فيلم هندي.
فضحكت و قلت لها: سأحتاج منك درسا في طول اللسان.
فضحكت و قالت: من، أنا أعلمك أنت، لا فنحن تلاميذ مدرستكم الموقرة يا سيدتي.
فأحسست أن تلبد الجو زال.
فقلت لها: نعود لموضوعنا.
فقالت: سيكون أحسن، ونصيحة دعي عنك خفة الدم فهي لا تناسبك.
بقدر ما كانت سليطة اللسان بالقدر الذي كنت أحبها لعلمي أنها لا تسلطه إلا على من تحب
فقلت لها: كنت في خلال كل ذلك أفكر مالذي علي فعله بعلمي؟؟
ثم قلت لنفسي. هل جاء اختياري لهذا التوجه نتيجة قناعة شخصية. أم كان اختيار عفوي.
وجدت أن الجامعات التقنية لا تفتح التخصصات إلا لمتطلبات سوق العمل.فوجدت أن هذا الإختيار كنت في جزء منه مسيرة نحو أهداف غيري هذا الغير الذي لا أعرف كنه أهدافه في الغالب و لا حدوده في التفكير
فقررت ان أدرس بطريقتي هذه المرة هذا السوق كان من بين دراستي له اكتشافي أن معظم النساء بدون لي حمقاوات خاصة حين كنت أتعمد الإستيقاظ في ساعة السادسة صباحا لأطل من الشباك على نساء مسرعات وأخريات لازال النعاس يداعب عيونهن وهن ذاهبات في مسيرة لم أرها لهن البتة. بل بدون لي و كأنهن أشحن بوشاح الحياء عنهن والتصقن في صفوف سطرت في قانون الله بكلمة "خاص بالرجال"
هكذا كن يبدين حشرن أنوفهن في مالايتقنه .
وسألت نفسي من الذي قال لهن اعملن؟؟ من الذي قال لي أن النتيجة الحتمية لحصولي على شهادة هو العمل؟؟ خطر هذا السؤال على بالي حينها كالصاعقة، فاكتشفت أننا منقادات لتفكير لا نفقهه غالبا ولا ندرك كنهه.
غضبت لأجلهن و لأجلي.
وجدت نفسي أول مرة وكأنني أبني مستقبلا بمخطط وضعه أحدهم ولست أنا واضعته.
فقلت أجل هذا العلم لم أحصله ليكون نقمة علي.
لم أتعلم لأعمل.
لم أسهر ليالي ألتهم الكتب التهاما لأقف في يوم متجردة من الحياء ومزاحمة الرجال فيما هم مهيؤون له و أنا مدفوعة إليه.
فعلمت أن علمي كان نعمة من الله علي لأنه شرح صدري له؛ إلا أن استغلالي له حوله إلى نقمة.
فقررت أن أرى حال أمتي الحبية التي لا أنتمي لسواها ولا عزة لي من دونها . فوقفت أمام هالة عظيمة و خطب جلل.
وجدت متشدقة حملت القلم من كل صوب وحدب لتزحزح هذا الدين. فأغرقت الأمة في أمراض لا حصر لها وفي الساحة لم يقف سوى جنود قلال يقاتلون سيلا عظيما.
يحاولون انتشال الأمراض
يردون الكائدين بحجج وبراهين
ويتحملون من العامة والخاصة كل ضغط ورد مهين
ويقفون بتباث وشموخ وإن لم يعجب العابثين
فوجدت داعي التميز يجرني إليهم، ويحثني لأنضم إليهم، فقد وجدتهم حملوا هما قليل من اهتموا له.
وكان كل ذلك انقياد مني لخطط الرحمان هذه المرة وسير وراء شرع الله
فأحسست أن دفة السفينة بدأت تعتدل. وقررت البدأ حيث انطلق المحبون لشرع الله.
دون أن أنقم على ما تعلمت بل جعلته سندا لي في بحثي.
وكان في كل ذلك من يرشدني هو ذلك العالم بحالي الذي كنت أبحث عنه والذي لا تخفى عنه مني مواطن سعادتي. وفعلا سعدت بقربي إليه وطرقي بابه راجية أن أكون
داعية بفضله إليه

والسلام عليكم و رحمة الله تعالى وبركاته
أختكم زينب من المغرب