بسم الله الرحمن الرحيم

العربية بين النصرانية والإسلام


إذا كان لنا أن نقول: إن العربية قد تأثرت بالإسلام، فكان من ذلك عربية تحمل طابعاً إسلامياً، فإن العربية قبل الإسلام ، ليس فيها شيء من الوثنية الجاهلية كان سمة لها، على نحو ما كان للإسلام من سمات في هذه اللغة العريقة.

وقد نقول: وهل كان للنصرانية شيء من سمات في العربية الجاهلية؟ والجواب عن هذا: أننا لم نقف على شيء من ذلك، بل إن الصفة الغالبة على الأدب القديم في أحقاب ما قبل الإسلام هي (البداوة). وإن مادة هذا النمط من الحياة، قد طبع الأدب الجاهلي، بحيث غلب هذا على الالتماعات التي تستوقفنا، مما هو مندرج في أشتات الحضارة، من مواد تتصل بالعطور والحلي واللباس ونحو ذلك من أصناف ما يطعمون وما يشربون.

ومع قولنا: إن الإسلام قد أبقى أثره في اللغة، فإن من العلم أن نقول: إن صفات العربية الجاهلية، قد بقيت في العربية الإسلامية، بحيث يصعب عليك أن تميز بين العربية على لسان شاعر نصراني كالأخطل، وعربية إسلامية على لسان الفرزدق.

ولو لا تمسك جرير بالإسلام، ما أحسست شيئاً يميزه عن شعر الفرزدق أو الأخطل. . ولما كان جرير أشد لصوقاً بالإسلام من صاحبه الفرزدق، كان من ذلك شيء من أدب إسلامي، يتمثل فيما أخذه من آية كريمة، أو عبارة إسلامية وردت في الأثر الشريف.

وما أظن أن الدارس ليكتشف من شعر الأخطل أنه نصراني، وأن أدبه يُلمح إلى ذلك، لو لا هذه الأبيات التي كنا قد حفظناها أيام الطلب:

ولست بصائمٍ رمضانَ طوعاً ولست بآكل لحم الأضاحي

ولست بقائمٍ كالعيْرِ أدعــو قُبيل الصبح حيّ على الفلاح

ولكني سأشربها شـمـولاً وأسجدُ عند مُنبلج الصّـباح

ولقد تعسف الأب لويس شيخو اليسوعي، حين جعل جمهرةً من شعراء الجاهلية، من (شعراء النصرانية). وليس في شعرهم شيء، يتسم بهذه النصرانية المدعاة.

وقد نجد شيئاً من الكلم النصراني، في أدب الديارات، وفي شعر أبي نواس خاصة، كالفصح والباعوث، والراهب، والقس، والمزامير، والصليب، والمذبح، والزنار ونحو هذا من الكلم الخاص. ودلالة هذا معروفة فهي أشتات اقتضاها في مذهب أبي نواس، أدب اللهو والشراب، والخمر، وليس من شيء آخر.

غير أننا نقف على عربية خاصة، كتبها نصارى في مادة نصرانية، فجاءت عربية خاصة.

وإنك لتجد هذه العربية النصرانية، في النص العربي، للعهدين القديم والجديد، وما تجده منها في سائر أعمال الرسل والقديسين من رجال النصرانية. وهذه العربية حافلة بالكلمات النصرانية، ذات الأصول الدينية التاريخية.

وقد نجد شيئاً من هذا، في ترسّل الكتاب اللبنانيين النصارى، فيما كتب "الشدياق" قبل أن يُسلم ، وبعد إسلامه، وما نجده في أدب جبران خليل جبران، ومارون عبّود، ولا تعدم أن تجد شيئا من هذا في أدب مي زيادة.

ولو شئنا أن نقف على شيء من غير العربية في المعروف المأثور من أدباء اليهود وشعرائهم في الجاهلية والإسلام، لما وقفنا على أي شيء من ذلك لأننا نجد عربية قديمة لا تختلف في شيء عن العربية الجاهلية في موادها البدوية وغيرها.

غير أننا نقف في أدب الشيخ ناصيف اليازجي في كتابه في (المقامات) التي وسمها بـ"مجمع البحرين" على عربية هي في الذروة من الفصاحة. لقد حفلت بأوابد الكلم في القديم، جاهلية وإسلامية، كما حفلت بجمهرة من نوادر الأمثال، وإشارات كثيرة إلى (نوابغ الكلم) من مشهور مجازات العربية واستعاراتها. وإنك لتجد في كل "مقامة" من هذه المقامات أدباً جماً ولغة عالية سليمة، عربية النجاد. تغرس أصولها بعيدة في بيئة ضاربة في مجتمع بدوي قديم، ولو لا أنك تقرأ أن قائلها (يازجي) عاش في جبل لبنان لما شككت أن صاحبها أعرابي لم "تعجبه الحضارة"، ولا عرف لينها، ولا نعم بخيرها، وملاذها.

ولم يقتصر الأمر على هذا، فإنك لتجد فيها إلى جانب هذه الأشتات البدوية، إسلاما ناصعاً يتمثل في شيء من كرائم الآيات، وتعابير لا نجدها إلا في لغة التنزيل العزيز، ولو لا أنك تقرأ في فاتحة هذه المقامات أن "اليازجي" هذا الذي تزيّ بزيّ البدوي الصميم هو من "الأمة العيسوية" لما خامرك شك في أنه مسلم شرح الله قلبه للإسلام.

فكيف لنا أن نفسر هذه الظاهرة؟

ألنا أن نقول : إن "المقامات" موضوع إسلامي يفرض على صاحبه أن يتزود بمواد الإسلام من الآي الكريم والأثر الشريف!!

لا، ليس لنا أن نقول ذلك، فالمقامات في الذي كانت ترمي إليه، علم لغوي يختزن الأوابد والفرائد والشعر والرجز، مما يشتمل على قول مأثور، ومثل سائر، ومواد أخرى من أعلاق العربية الغالية.

فكيف نقول إذن؟

ليس لنا أن نقول إلا أن يكون اليازجي قد آمن قلبه بالإسلام، وانتهى إلى أن أدب العربية لا بد له أن ينعش بهذا الفيض العلوي الإسلامي، ولو لا أن الانقلاب من النصرانية إلى الإسلام من شأنه أن يثير أمامه المشكلات والصعاب في عصر ما زال فيه للسلطان الديني النصراني قوة، لكان له أن يستجيب لهذا الداعي في دخيلته، وما أظن أن رجال العلم من النصارى في عصره لم يبتئسوا مما فرط فيه اليازجي في حق دينهم حين كتب هذه "المقامات" التي عمرت بالطابع الإسلامي.

وقد يكون مفيداً جدًّا أن نستقري هذه الآثار الإسلامية في "مجمع البحرين" ليكون القارئ على ثقة مما حملته إليه من دعوى، قد يظنها عريضة مدّعاة لا تخلو من إغراق. وإني لواثق أن القارئ لن يحملني على التعصب للإسلام وأنا أفجؤه بهذا الذي ذكرت، ودونك هذه الآثار:

1 - جاء في المقامة الأولى لمعروفة بـ "البدوية" في الصفحة 5:

. . . . . . حتى إذا أشرفنا على فريق يناوح الطريق، عرض لنا لصوص قد أطلقوا الأعنة، وأشرعوا الأسنة، فأخذ الشيخ القلق، وقال: أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق.

أقول: وفي هذا اقتباس من سورة الفلق وهو قوله تعالى: (قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق )(الفلق:1-2).

2 - وجاء فيها أيضاً قول المؤلف:

. . . .ولما التقت العين بالعين، على أدنى من قاب قوسين، قال : يا قوم هل أدلُّكُمْ على تجارة. . . .

أقول: وفي هذا اقتباس من قوله - تعالى- : (فكان قاب قوسين أو أدنى )(النجم:9)

وفي اقتباس آخر من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تُنجيكم من عذاب... )(الصف:10)

3 - وجاء فيها أيضاً قوله : . . . . . حتى إذا أثخنوهم، شدّوا الوثاق، وقد كادت أرواحهم تبلغ التراق. . . ثم أدخلونا إلى بيت طويل الدعائم في صدره شيخ. . . . . فقال: أحسنت أيها النذير فسنوفي لك الكيل.. أقول : وفي هذا اقتباس أو إيماء لقوله تعالى : (حتى إذا أثخنتُموهم فشُدّوا الوثاق )(محمد:4). وكذلك لقوله تعالى: (كلاّ إذا بلغت التراقي )(القيامة:26) .

وليس بعيداً أن يكون المؤلف قد نظر إلى قوله تعالى: (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط )(الأنعام: 152).

4- وجاء فيها في الصفحة 6 قول المؤلف: . . . . وقال: (يا قوم اتّبعوا من لا يسألكم أجرا ً).

أقول: وفي هذا إيماء لقوله تعالى: (يا قوم لا أسألكم عليه أجرا ً)(هود:51) أو إنه إيماء لقوله تعالى: (يا قوم اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجرا ً)(يس:20-21).

5- وجاء في الصفحة 7 من هذه المقامة:

. . . . .وأخذ يتخطى ويتمطى ذات اليمين وذات الشّمال. . . .

أقول: لعلّ في هذا شيئاً نظره المؤلف في قوله تعالى: (. . . ونُقلبهم ذات اليمين وذات الشمال )(الكهف:18).

6 - وجاء فيها أيضاً قول المؤلف:

. . . . . . وقلت : لا حول ولا قوة إلا بالله. . . . .

أقول: وهذه من العبارات التي يرددها المسلمون في اتكالهم على الله ذي الحول والطول.

7 - وجاء في المقامة الثالثة المعروفة "العقيقية" في الصفحة 13:

ولما فرغ من "أبياته" زفر زفرة الضرام وقال: ":كُلُّ من عليها فان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام".

أقول: وهذا الذي ذكره المؤلف هو الآية السادسة والعشرون من سورة الرحمن، غير أن المؤلف أدرج الآية في كلامه ولم يُشر ولم يومئ إلى أنها آية كريمة.

8 - وجاء في الصفحة 14 منها قوله:

. . . . وقال: اركبي باسم الله مجراها. . . .

أقول: وليس من شكّ أن المؤلف نظر إلى قوله تعالى: (وقال اركبوا فيها باسم الله مجريها ومرساها )(هود:41)

9 - وجاء فيها قوله أيضاً:

. . . . . فقلت : إن الشيخ قد أتى بقلب سليم: والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. . . . .

أقول: إن الشق الأول من قول المؤلف مأخوذ من قوله تعالى: (يوم لا ينفع مالُ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم )(الشعراء:89). وأما الشق الثاني فهو من الآية 213 من سورة البقرة، وكلاهما مندرج في كلامه، وليس من إشارة إلى أنه شيء من لغة التنزيل العزيز.

10 - وجاء في المقامة الرابعة المعروفة بـ "الشامية" في الصفحة 18 قوله:

. . . . وسأستغفر الله لي ولهم إذا وقفنا على الصراط . . . .

أقول: والاستغفار للنفس، للمتكلم، وللمخاطبين أو المتحدث عنهم، من دعاء المسلمين، وهو شيء من بعض الدعاء الذي يتوجه به خطيب الجمعة في خطبته. وأما الصراط فهو أدب سلامي، وقد عمرت اللغة الشريفة بذكر "الصراط" وفيه للمسلمين عظة وعبرة وذكرى.

11 - ثم نقف على قول المؤلف في هذه "المقامة" في الصفحة 19:

. . . . لو رمى الله بك أصحاب الفيل، أغنيت عن الطير الأبابيل. . . .

أقول: وليس من شك أن في "أصحاب الفيل" إشارة أو لمحةً لما ورد من "أصحاب الفيل" في قوله تعالى: (ألم تر كيف فعل ربُّك بأصحاب الفيل )(الفيل:1). وليس قوله: "عن الطير الأبابيل" إلا شيئاً من قوله 0 تعالى: (وأرسل عليهم طيراً أبابيل )(الفيل:3).

12 - وجاء في "المقامة" الخامسة المعروفة قوله:

. . . . وما أدراك ما هيه، قال: هي فرية وسوس بها إليها الشيطان، ومرية ما أنزل الله بها من سلطان. قال: فادفع عن نفسك بالتي هي أحسن، ولا تجادل في أشياء إن تبد لك تسؤك فتحزن. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. . . .

أقول : وجملة هذا الذي دبّجه اليازجيّ في "مقامته"، اقتباس من آيات محكمات يقرؤها المسلم فيقف على مكانها من لغة التنزيل العزيز.

وقوله: "وما أدراك ما هيَهْ" هو الآية العاشرة من سورة القارعة. وقولة "هي فرية وسْوسَ بها إليها الشيطان"، فشيء غير بعيد من قوله تعالى: (فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وُوري عنهما )(الأعراف:20)

وقوله: (ومرية ما أنزل الله بها من سلطان) هو بعض من الآية الأربعين من سورة يوسف: (ما تعبدون من دون الله إلا أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان)، وقوله: "فادفع عن نفسك بالتي هي أحسن) مأخوذ من قوله تعالى: (ادفعْ بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم )-(فصلت:34). وقوله: "ولا تجادلي أشياء. . . . ." مأخوذ من قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسُؤْكم )(المائدة:101). ثم ختم قوله بقوله: (لا حول ولا قوة. . . .) وقد كنا أشرنا إلى ذلك.

13 - وجاء في الصفحة 22 قوله:

. . . . .وقالوا لها: "أنفقي مما رزقكِ الله حتى يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده. .

أقول: وقوله: "أنفقي ممّا………" يشعر بآيات عدة ورد فيها الأمر بالإنفاق ومنها: (وأنفقوا مما رزقناكم. .)(البقرة:254)

وقوله: "حتى يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده" يومئ إلى قول تعالى: (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده )(المائدة:52).

14 - وجاء فيها أيضاً قوله:

. . . .. قال: قد رأيتم في الكتاب رأي العين، أن للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن أحسنتم فإليكم، وإلا فكتاب الله عليكم. قالوا: قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان، فقد أحسنت وما جزاء الإحسان إلا الإحسان. . . .

أقول: وفي جملة هذا إشارات وإيماءات إلى آيات عدة، غير أن المؤلف قد أوتي من البراعة في أنه أدرج ما اقتبس من غير إيذان مما قد يغفل عنه القارئ الذي لم يتمثل كلام الله جل وعلا.

فقوله: "أن للذكر مثل حظ الأنثيين" فآية معروفة هي الحادية عشرة من سورة النساء، وهي من قواعد الميراث المهمة في الفقه الإسلامي.

وقوله: "فإن أحسنتم فإليكم" غير بعيد من الآية الكريمة (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم )(الإسراء:7).

وقوله : "وإلا فكتاب الله عليكم" يومئ إلى أن المؤلف قد نظر إلى قوله تعالى: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم )(النساء:24).

وقوله: "قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان" فهو الآية 41 من سورة يوسف.

وقوله: "ما جزاء الإحسان إلا الإحسان" فهو من الآية 60 من سورة يوسف وهي: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ).

15 - وجاء فيها في الصفحة 23 قوله:

. . . . قلت: ليس معي إلا دينار واحد فاقتسماه، وإلا فنظرةُ إلى ميسًرة من رزق الله.

أقول : وهل يخفى ونحن نقرأ هذا أن نتذكر في الحال قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميْسرة )(البقرة 280)

16 - وجاء في "المقامة" السادسة المعروفة بـ "الخزرجية" قوله في الصفحة 27: . . . . ولكن خُلق الإنسان من عَجَل. . . .

أقول: وهذا من قوله تعالى: (خُلقَ الإنسان من عجل )(الأنبياء:37).

17 - وجاء في الصفحة نفسها قوله:

. . . . قد علمتم يا قوم أن الخير معقود بنواصي الخيل. . . .

أقول: وهذا من الحديث الشريف: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والغنيمة". ولكن المؤلف قد غيَّر من رواية الحديث فقدم وأخّر، والحديث هو هو.

18 - وجاء فيها أيضاً قوله:

. . . فإن تمسّكتم بالعروة الوثقى، وإلا فالله خير وأبقى. . .

أقول : قوله: "فإن تمسّكتم بالعروة الوُثقى" يومئ إلى قوله جل وعلا: (فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها... ) (البقرة:256).

وقوله: (وإلا فالله خير...) هو من قوله تعالى: (والله خيرُ وأبقى )(طه:73).

19 - وجاء في الصفحة 28 من هذه "المقام" أيضاً: وقال ربِّ ثبِّتْ قدمي واشدُد عصاي التي أتوكأ عليها وأهشّ بها على غَنمي. . .

أقول: وهذا كله يومئ إلى قوله تعالى: (قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي )(طه:18).

20 - وجاء في الصفحة نفسها قوله:

. . . وقلتُ له: هنيًّا مرياًّ ، لقد جئت شيئاً فرياً...

أقول: قوله: "لقد جئت. . ." يومئ إلى قوله تعالى: (فأتت به قومها تحمله، قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريا ً)(مريم:27).

21 - وجاء في "المقامة" السابعة المعروفة بـ "اليمنية" في الصفحة 32 قوله: . . . فخذه وسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً. . .

أقول: وهذا من قوله تعالى: (فسبّح بحمد ربِّك. . . )(النصر:3).

22 - وجاء فيها أيضاً قوله:

فقال القاضي: إنني بحكمك راضً فاقض ما أنت قاض . . .

والقاضي يقول: إن الله لا يضيع أجر المصلحين. . .

أقول: وقوله: "فاقض ما أنت قاض" هو الآية الثانية والسبعين من سورة طه. وقوله: (إن الله لا يُضيع أجر المصلحين يومئ إلى الآية: (إن الله لا يُضيع أجر المحسنين )(التوبة:120).

23 - وجاء في "المقامة" الثامنة المعروفة بـ "البغدادية" قوله في الصفحة 34: . . . أو لم تيأسوا أن الكتاب قد أقام له وزناً. . .

أقول: والفعل "تيأسوا" هنا بمعنى "تعلموا" وهو من قوله تعالى: (أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ) (الرعد:31).

و (ييأس) بمعنى يعلم، وهذا مما استشهد عليه النحاة واللغويون.

يقول الشاعر القديم:

أقول لهم بالشِّعب إذ يأسروني ألم تيأسوا إني ابن فارس زهدم

24- وجاء في الصفحة 35 منها قول: . . . سبحان من علم آدم الأسماء. . . وهذا يومئ إلى الآية (وعلَّمَ آدم الأسماء كلها... )(البقرة:31).

25- وجاء فيها أيضاً:

وقال: يا أولي الألباب، إن الله يرزُق من يشاء بغير حساب...

أقول: وقوله: (إن الله يرزُق...) هو الآية السابعة والثلاثين من سورة آل عمران.

26 - وجاء في (المقامة) الستين المعروفة بـ "القُدسية" في الصفحة 266 قوله: . . . الحمد لله الذي جعل حرمه أمناً للعباد، ومُقاماً للعبّاد، وهو الذي خَلق فسوّى، وقدّر فهدى، وأضحك وأبكى، وأمات وأحيى، والذي جعل الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً، وبنى فوقكم سبعاً شداداً، والذي مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان، وهو كل يوم في شأن، لا إله إلا هو الفرد الصمد الذي لا يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفواً أحد..

أقول: وجملة هذا من الكلم الشريف الذي تضمنته آيات عدة في سور مختلفات لا تخفى على كل مسلم وعى كتاب الله -سبحانه-.

خــاتـمــــة

وبعدُ. . فلا بد لي في هذه "الخاتمة" أن أعود إلى " مجمع البحرين" فأقول: إنه كتاب في "المقامات " اشتمل على ستين "مقامة"، عُرف كلُ منها باسم منسوب إلى بلد من البلدان العربية في الغالب، وقد يكون فيها ما نُسب إلى غير ذلك.

و "المقامة" كما هو معروف، ضرب من الكتابة العربية القديمة ابتدعها أصحابها في العصر العباسي، وألبسوها لوناً من الحكاية، وقد اختار كلُّ واحد من أصحاب المقامات راوياً متحدثاً يحدث عن نفسه وعن غيره. وكان الغرض من "المقامات" أن يعرض صاحبها في كل منها "لمجموع لفيف" من اللغة وأوابدها، وفرائدها، وطائفة من أمثالها، وما جاء في أسرار ألفاظها، وكيف كان من أصولها، ولا تعدم أن تجد إشارات نحوية، وصرفية، وبلاغية، وعروضية، ونحو ذلك من المعارف اللغوية والتاريخية وغيرها.

وصاحب المقامة يحكم العرض لهذه المسائل، وإنك لتقرؤها فلا تراه متعسفاً محمولاً على ما يريد بقسوة وشدة، وهذا يعني أن المواد اللغوية وما يتصل بالمعارف الأخرى تأتي وكأنها غير مقصودة لذواتها. والقارئ يقبل عليها ولا يمل مما حفلت به من أسجاع وفواصل، هي خصيصة من خصائص هذا الفن القديم.

ولنرجع إلى "مجمع البحرين" الذي أراد له صاحبه اليازجي أن يكون وعاءً لجملة هذه المعارف اللغوية القديمة، وكان في طوقه أن يكتب مقاماته على نحو ما كتب المتقدمون من أصحاب المقامات.

غير أن اليازجي ربما آمن أن "المقامة" محتاجة إلى نمط من الكلام البليغ، مع التزامه بالتقسيم القائم على الفواصل المنظومة، في تناسبها وأسجاعها. وهذا النمط من بليغ الكلام، لا يؤديه المثل القديم، والعبارة المأثورة المسجوعة، والرجز المحبب ذو النغم الراقص، ولكنه محتاج، بل مفتقر، إلى هذا العذب النمير الذي ينساب من الكلم الشريف، مما يعمر به كتاب الله وسنة نبيه الكريم. ومن أجل ذلك سعى اليازجي إلى الإفادة من لغة التنزيل العزيز، عارفاً وجه الإفادة، مهتدياً إلى الطريق إليها، فكان له ما أراد.

وقد التزم بهذا، وقد كان له أن يأتي بمقاماته من غير أن يكون منه هذا الالتزام بالكلم الشريف، ولعل هذا يدعوني إلى أن أفترض افتراضاً مفتقراً إلى أن يكون شيئاً مقرّراً مؤيداً، وهو أن اليازجي قد أحب هذا الأدب السماوي، بل آمن به، ولولا (عيسوية) وصف بها نفسه في "فاتحة مجمع البحرين"، لكان غير اليازجي اللبناني، ولقلت أسلم قلباً ، وتنصر ظاهراً، بسبب ما كان من ظروف قاهرات.

قد يكون شيء من هذا!!

وأنا أخلص من هذا العرض إلى أن العربية مقترنة بالإسلام، وليس لعربية أخرى من وجود أدبي تاريخي فني، إذا انسلخت من هذا الذي طُبعت عليه، فكان منها قلباً وقالباً.