* الثليث في عهد آباء الكنيسة الأوائل ( حتى القرن الرابع )
لقد سرنا مع عقيدة التثليث منذ العهد البدائي , منذ عبادة الأبطال حتى مدرسة الإسكندرية التي قامت عقب إنشاء مدينة الإسكندرية سنة 331 ق.م , وورثت حضارات مختلفة وقام بها علماء مصريون وساميون ويونان ورومان , وعرفت اليهودية طريقها إليها , كما انسابت إليها أفكار وثنية كثيرة , وقد استمرت المدرسة تباشر مكانتها الثقافية حتى ميلاد المسيح وبعد ميلاده عليه السلام .
ثم جاء بولس والذي كان عارفًا بالفلسفة الإغريقية التي تمثلها مدرسة الإسكندرية , فمزج الفلسفات الإغريقية مع الديانات الوثنية فوضع أول أساس لعقيدة التثليث , وحين بدأت الأمم الأخرى غير الإغريق تعتنق الدين المسيحي بعد أن قام بولس بمزج العقائد الوثنية مع المسيحية , أخذت تقاليدها الوثنية وعاداتها المذهبية هى الأخرى تتسرب إلى المسيحية .
ولم يقفل الباب عند هذا الحد , بل تجاوز الحد , واستطاع بعض أتباع بولس أن يصيروا من آباء الكنيسة وذوي الرأي فيها , وكانت أول بذرة لعقيدة التثليث تجدها عند المفكرين المسيحيين من القرنين الثاني والثالث أمثال : أوريجانوس وترتليان .
( Herbert Muller : Uses Of The Past,p.169,footnote ).
لقد كانت الأفكار البوليسية مختلفة تمامًا عن المسيحية الأصلية , ولذلك واجهت معارضة في حياة بولس وبعده أيضًا . يقول البروفيسور جون زيسلر :
( واجهت المسيحية البوليسية معارضة من قبل الكنيسة القديمة , واستمرت هذه المعارضة بين الحين والآخر على مر العصور ) .
( John Zeisler : Pauline Christianity,p140 ).
ورغم ذلك نجح بولس بفضل رجلاته التبشيرية ورسائله , في نشر نظرياته في الأقطار البعيدة , والسبب في ذلك أن الديانة المسيحية وصلت إلى كثير من الناس عن طريقه , فاعتنقوها باعتبارها حقيقة , يقول الكاتب المذكور آنفًا في بداية كتابه ص 2 :
" الكنائس التي وصلت إليها رسائله لم تكن لديها نصوص مسيحية غيرها , ثم إنها كانت بعيدة عن فلسطين وتلاميذ المسيح , ولذلك لم تطلع على أفعال المسيح وأقواله " .
وبالإضافة إلى ذلك لعب أناس ( علماء وحكامًا ) دورًا في القرون المتأخرة , قوى النزعة البوليسية , ووقعت حوادث أدت إلى السيطرة الكاملة والتغلب الأبدي للأفكار البوليسية على المسيحية .
ومن الفرق التي ظلت تعارض الأفكار البوليسية بعد وفاة صاحبها فرقة عُرفت في تاريخ المسيحية بالإبيونية , رفضت أن تتخذ رسائل بولس أساسًا للدين , ودعت إلى ضرورة الإلتزام بالناموس الموسوي , ولم تعتبر هذه الفرقية المسيح إلهًا ولا ابن الله , بل اعتبرته إنسانًا ورسولاً عظيمًا , كما أنكرت صلبه عليه السلام .
كان المسيحيون يُدعون نصرانيين أو ناصريين ( أعمال الرسل 24 : 5 ) في العصور الأولى بعد وفاة المسيح , وكانت نظريات الإبيونيين وأفكارهم تشبه إلى حد كبير عقائد النصرانية المبكرة . ( معجم أوكسفورد للكنيسة ص 941 , لندن 1950 ) .
وثمة فرقة أخرى قاومت العقائد البوليسية مقاومة شديدة في العصور الأولى , وهى التي تعرف بالفرقة الدوسيتية أو المتحيلة . أنكر أصحابها صلب المسيح , وقالوا : إن الله سلمه من الصلب , والذي صلب مكانه هو ذلك الحواري الخائن يهوذا الإسخريوطي , أو حامل الصليب شمعون كريني . ( المصدر السابق ص 409 ) .
وفي هذا العصر – بعد بولس – اتشرت وثيقة " تعليم الرسل " , إذ كانت تعتبر كتاباً مقدسًا , ولم تكن أدعية هذه الوثيقة تحتوي على كفارة المسيح أو على موته المخلص.********* الأولى - لهنري تشادويك ص 46-47 ) .
وكذلك الكتاب الذي ألفه أحد الرهبان – وهو هرمس – في القرن الأول باسم "الراعي" كان يركز على تعليم التوحيد أكثر من تركيزه على ألوهية المسيح . وكان هذا الكتاب من الكتب التي ظلت تعد نصوصًا مقدسة زمنًا طويلاً ) ( مقدمة العهد الجديد للترجمة العربية الكاثوليكة للرهبنة اليسوعية ص 9 ) .
كادت أن تتغلب هذه الفرق وتلك الحركات على العقائد البوليسية , أو تقلل من آثارها, إلا أن الحركة البوليسية حظيت في القرن الثاني بأفراد وأتباع متحمسين لعبوا دورًا هامًا في نشرها . والغريب أن الأفراد والفرق الدينية – التي تبرأت منها الكنيسة نفسها واعتبرتها مبتدعة – أسهمت في تقوية الأفكار البوليسية على نحو غير مباشر , ومن بينها مثلاً معتقدات الفرقة الغنوصية .
ومن الأفراد البارزين الذين أيدوا الأفكار البوليسية يوستين ( ت/165م ) , وكان معجبًا مثل أصحاب الغنوصية , بالفلسفة الأفلاطونية التي أسسها ( أفلاطين 205-270م ) والذي على يده كان تجديد أفلاطون بالأفلاطونية الحديثة , وخلاصة مذهب أفلوطين أن في قمة الوجود يوجد " الواحد " أو " الأول " وهو جوهر كامل فياض , وفيضه يُحدث شيئًا غيره هو " العقل " وهو شبيه به وهو كذلك مبدأ الوجود , وهو يفيض بدوره فيحدث صورة منه هى " النفس " وتفيض النفس فتصدر عنها الكواكب والبشر , أو بعبارة سهلة موجزة ثلاثة ثلاثة في واحد وواحد في ثلاثة ( الواحد – العقل – النفس )! (تاريخ الفلسفة ص 65 ) .
وكان مرقيون ( ت/160م ) من أشد مؤيدي بولس تحمسًا , وإن كانت الكنيسة أخرجته من دائرة المسيحية نتيجة لبعض نظرياته المتطرفة , مثل اعتماده على إنجيل لوقا فقط من بين جميع الأناجيل مع رفضهم التام للعهد القديم , ورغم ذلك ظل يلقى الإحترام بين عامة الناس لحبه الشديد لبولس , وكان يقول : " إن الحواريين والنايس الآخرين لم يفهموا المسيحية , ولكن أدركها بولس وأدرك كنهها الحقيقة , فالذي علمه بولس هو الدين الحق " ( قاموس أكسفورد للكنيسة ص 854 ) .
ويمكن أن نلاحظ تأثيره في الشعب , رغم اختلافه الشديد مع بعض كبار الكنيسة , وتأثيره يتمثل في وجود كنائس مرقيونية لمدة مائة وخمسين سنة ظلت تنشر نظرياته .
وفي نهاية القرن الثاني , تحت كل التأثيرات على المسيحية , وضع إيريناوس (ت/ 200م) وترتليان ( ت/220م ) " قاعدة الإيمان " التي عُدت مفتاحًا للتثليث , وكان فيها تأكيد شديد على أن المسيح ابن الله , وأنه هو المخلص , وعلى عظمة روح القدس .( الكنيسة الأولى - لهنري تشادويك ص 44-45 ) .
أسهمت عوامل عديدة في تطور الحركة البوليسية , ومنها أنها اتسمت – إلى جانب تأثير المفكرين , أمثال يوستين ومرقيون , وتأثير النظريات الفلسفية – بسمات شعبية , فأخذ حماس عامة الناس يزداد تجاهها رويدًا رويدًا , وبدأوا يُعجبون بكل من يُبالغ في شخصية المسيح , مهما تعارضت تلك المبالغات مع تعاليم المسيح نفسه , وأصبحت مقاومة الغلو بالعقلانية أو بالنصوص الموثقة صعبة جدًا , واعتبرت معارضة عقيدة التثليث محاولة للتقليل من شأن المسيح وعظمته .
( Adolf.K.Hitti : Syria-A Short History,New York,1961,p88).
وكل ما هنالك أن رجال الدين كانوا يحاولون الإتيان بعقيدة أخرى تخفف من شدة الغلو في الجوانب الأخرى . فعندما نادت الفرقة السابلية في القرن الثالث بعقيدة الحلول الإلهي وتجسده في عيسى , ونزوله على الأرض ليخلص الإنسان وصلبه لأجل ذلك , وبأن الأب والإبن وروح القدس أسماء ثلاثة لشيء واحد في الوجود , فعندما نادوا بتلك العقيدة لم يستطع فلاسفة مدرسة الإسكندرية ردها إلا في حزئية واحدة , وهى اعتبار عيسى والإله شيئًا واحدًا في الوجود والذات , فهم كانوا يؤمنون بعقيدة اللوجوس الإلهي القائلة بأن المسيح مظهر متجسم لحكمة الله وكلمته .
( HansLeitzmann: From Costantine to Julian,london1955,p95).
وظهرت الفرقة الملكية لمقاومة هذه النظرية , أي النظرية التي تعتبر عيسى مظهرًا لحكمة الله وإلهًا ثانيًا وسيطًا لخلق الخليقة كلها , ولكنهم أيضًا ما استطاعوا أن يقولوا أكثر من أن الأب والإبن وروح القدس ليسوا أقانيم ثلاثة , بل إنهم أشكال ثلاثة لجوهر واحد , وإن كان البعض منهم اجترأ على القول بأن المسيح كان إنسانًا مقدسًا .********* الأولى - لهنري تشادويك ص 87 , 113 ) .
ولكن أوريجانوس ( ت /154م ) وتلاميذه خالفوا الحركة المالكية مخالفة شديدة قائلين : "إن الأب والإبن , رغم كونهما موحَّدين في القوة والمشيئة , إلا أنهما حقيقتان مستقلتان" (المصدر السابق ) .
ليس لنا , على أية حال , أن نستنتج مما سبق أن المفكرين المسيحيين البارزين في القرنين الثاني والثالث أمثال إيرنياوس وترتليان ويوستين لم يجدوا أي صعوبة في نشر أفكارهم البوليسية المتأثرة بالفلسفة الإغريقية , فالحقيقة أن الناس كانوا متحفظين في قبولها , ولا سيما اعتبار المسيح أقنومًا من الأقانيم الثلاثة , أو اعتباره مجسمًا لكلمة الله وحكمته , ولذلك يقول البروفيسور ولستن واكر في كتابه " تاريخ الكنيسة المسيحية " : ( لم يكن عامة المؤمنين – المسيحيين – متعاطفين مع عقيدة اللوجوس الإلهي عن المسيح , وقد سجل ترتليان ( 213-218م ) حقيقة مهمة في عصره , وهى أن معظم المؤمنين – بالمسيحية – يدهش عند سماعهم لنظرية الثلاثة في واحد , وذلك لأن إيمانهم يخرجهم من تعدد الإلهة إلى التوحيد وتصور الإله الحقيقي ) ( تاريخ الكنيسة المسيحية ص 71 ) .
ومن الذين خالفوا نظرية اللوجوس الإلهي في المسيح في القرن الثالث مخالفة شديدة هو بولس سميساطي الذي عُين أسقفًا لأنطاكية سنة 260م , وقد رويت أفكاره بطرق مختلفة, حيث كان ينكر أن عيسى مظهر لحكمة الله وكلمته , وكان متحفظًا في قبول نظرية التثليث أيضًا , وكان يعتبر عيسى بشرًا ملهمًا فريدًا . فكانت النتيجة أن أخرج من الكنيسة واعتبر ملحدًا .
( HansLeitzmann:From Costantine to Julian,pp.101-102 ) .
لكن الكنيسة قد اكتسبت في ذلك الوقت قوة ونفوذ , ولم يكن زعماؤها يقبلون أي فكر يخالف نظريات بولس ويوستين وإيريناوس وترتليان , مهما كان هذا الفكر مستمدًا من نصوص الأناجيل مباشرة . ولذلك نرى أنهم حرفوا أنظارهم عن تعاليم واضحة للأناجيل, واطمانوا إلى معتقدات المفكرين المذكورين آنفًا متحمسين لنشرها , وكانت هذه المعتقدات مؤسسة على الفلسفة الإغريقية وفكرها الرمزي , ولا سيما عقيدة تجسد اللوجوس الإلهي , وفكرة الوساطة , أي كون المسيح وسيطًا بين الله وخلق الكون وما فيه . فهذه الأفكار مستمدة من أفكار فلاسفة اليونان أمثال بطليموس , فيثاغورث , وأفلاطون وغيرهم . ( قصة الحضارة لـ"وول ديورنت" 11/274-276 ) .
وكان أوريجنس أو أوريجانوس– أبو اللاهوت - , الذي له جهود مع تلاميذه في إدخال الأفكار اليونانية إلى المسيحية , ينتمي فكريًا , إلى الرواقيين والفيثاغورسيين , والأفلاطونيين الجدد والغنوصيين في الوقت نفسه .( المصدر السابق 11 / 311 ) .
يتبع .....
المفضلات