[SIZE="4"]المسخ في بني إسرائيل عبرة لأمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ

إعداد الشيخ هشام بن فهمي العارف



معنى المسخ

قال الأزهري (ت : 370) في "معجم تهذيب اللغة" : قال الليث : المسخُ : تحويل خلقٍ إلى صورة أخرى ، وكذلك المشوَّهُ الخلْقِ . وقال الراغب الأصفهاني (ت : 425) في "مفردات ألفاظ القرآن" : المسخُ : تشويهُ الخلْقِ والخُلُقِ وتحويلُهما من صورةٍ إلى صورةٍ . وقال ابن منظــور (ت : 711) : المسخُ : تحويـل صورةٍ إلى صـورةٍ أقبحَ منها . وقــال محمـد رضــا (ت : 1372) : ومسخه الله قرداً : جعله على هيئته وفي صورته . وقال القرطبي في "الجامع" عند تفسيره الآية من سورة يس : (وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ(67) قال : المسخ : تبديل الخلقة وقلبها حجراً أو جماداً أو بهيمة . وقال : وقد يكون المسخ تبديل صورة الإنسان بهيمة ، ثم تلك البهيمة لا تعقل موضعاً تقصده فتتحير ، فلا تقبل ولا تدبر .

ويخطيء من يقول : المسيخ الدجال ، إنما هو المسيح الدجال ، والمسيح : يطلق على الدجال وعلى عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ لكن إذا أريد الدجال قيّد .






الحذر من استحلال محارم الله بأنواع المكر والحيلة

قال ـ تعالى ـ في سورة الأعراف (39/نزول) : (وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(163).

فقوله ـ تعالى ـ (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) قال ابن كثير : أي : يعتدون فيه ، ويخالفون أمر الله فيه لهم بالوصاة به إذ ذاك . وقوله ـ تعالى ـ : (كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ) قال ابن كثير : "أي نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده ، وإخفائها عنهم في اليوم الحلال لهم صيده".

لذلك جاء التحذير من التبديل ، والتحايل ، والأحكام الباطلة ، وهي حالات يلجأ إليها المبتدعة في أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ طـمعاً في الدنيا ، فعليهم أن يعتبروا مما حل ببني إسرائيل .

ثم الله ـ عز وجل ـ تتميماً للفائدة واعتباراً من قصة موسى مع قومه ـ بيّن حال قوم موسى فيما وقعوا فيه من المخالفات العجيبة ، ومعاينة موسى لمخالفات قومه وما ذهبوا إليه ـ فيما بعد وقوع هذه المخالفات ـ من الدعاء والتوبة ، كل هذا العرض يدفع به الله ـ عز وجل ـ أهل الكتاب من اليهود والنصارى للإيمان بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل . ومن رحمة الله ـ تعالى ـ أنه بعثه ليأمر بالتوحيد ، والأخلاق الحسنة ، والعبادة الصحيحة ، والعمل بالعـدل والإحسان ، كما أنه أحل الطيبات ، وحرم الخبائث ، فقال في السورة : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(157) . ومن جميل بعثته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه وضع عن أهل الكتاب ما عانوه من الإصر : والإصر : الثقل الذي يأصر صاحبه ، أي يحبسه عن الحركة الثقيلة ، ويطلق على العهد .

قال القرطبي : "وقد جمعت هذه الآية المعنيين ، فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال ، فوضع عنهم بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك العهد وثقل تلك الأعمال ، كغسل البول ، وتحليل الغنائم ، ومجالسة الحائض ومؤاكلتها ومضاجعتها ، فإنهم كانوا إذا أصاب ثوب أحدهم بول قرضه ، وإذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء فأكلتها ، وإذا حاضت المرأة لم يقربوها ، إلى غير ذلك مما ثبت في الصحيح وغيره".

ومن التبديل الذي صنعته بني إسرائيل ظلمهم لأنفسهم ، ومن هذا الظلم ما قص الله ـ تعالى ـ علينا من خبرهم حين أتم عليهم نعمة فتح بيت المقدس قال الله ـ تعالى ـ في السورة : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ(161) .

وحكى القرآن لنا في الآية التالية ما وقع منهم من جحود وبطر فقال : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ..(162) .

قال الإمام ابن كثير : "وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق : أنهم بدَّلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل . فقد أمروا أن يدخلوا الباب سجداً فدخلوا يزحفون على إستاهم رافعي رؤوسهم . وأمروا أن يقولوا حطة ـ أي أحطط عنا ذنوبنا ـ وهو أول قارع للسمع مما أمروا به من العبادة مشعراً بعظيم ما تحملوه من الآثام ، فاستهزؤا وقـالوا : حنطة في شعيرة . وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة ، ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه لفسقهم وخروجهم عن طاعته".

ثم احتالوا في الدين ففضح الله ـ تعالى ـ رذيلة أخرى من رذائلهم الكثيرة ، وهي تحايلهم على استحلال محارم الله بسبب جهلهم وجشعهم وضعف إرادتهم فقال في السورة : (وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(163) .

إلى أن قال : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ(166). وجمهور المفسرين على أن معنى ذلك أنهم مسخوا فكانوا قردة حقيقية .

قلت : والعقاب الذي حلَّ بالعصاة من أهل هذه القرية "وهم الذين اعتدوا في السبت" أنهم مسخوا قردة فحسب ، وغيرهم من أمة بني إسرائيل في حادثة أخرى أو مماثلة مسخوا خنازير .

والدليل على الترجيح : الذي أخرجه ابن حبان ، والطحاوي في "شرح المعاني" و "مشكل الآثار" ، والبيهقي ، وابن أبي شيبة في "المصنف" وأحمد ، وأبو يعلى ، وهو في "الصحيحة" (2970) عن عبد الرحمن بن حسنة قال : كنت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سفر ، فأصبنا ضِباباً ، فكانت القدور تغلي ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن أمة من بني إسرائيل مسخت ، وأنا أخشى أن تكون هذه . يعني الضِّباب ". وزاد النسائي وغيره : قلت : يا رسول الله ! إن الناس قد أكلوا منها ؟ قال : فما أمر بأكلها ، ولا نهى". قال الحافظ في "الفتح" (9/663) بعد أن عزاه للنسائي وأبو داود : هذا إسناد صحيح ، ووافقه الألباني .

ورواية أبي داود : كنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جيش فأصبنا ضبابا ، قال : فشويت منها ضباً ، فأتيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوضعته بين يديه قال فأخذ عوداً فعد به أصابعه ، ثم قال : "إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض وإني لا أدري أي الدواب هي ؟ قال فلم يأكل ولم ينه".

ومن أقدم التأويلات المأثورة عن السلف ما روي عن التابعي مجاهد بن جبر (ت : 104) ـ رحمه الله ـ في قوله ـ تعالى ـ : (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) أنه قال في معنى الآية : "مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة وخنازير !! ، وإنما هو مثل ضربه الله لهم ، كما ضرب المثل بقوله : (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا). أخرجه ابن أبي حاتم ، وابن جرير الطبري . وقال ابن جرير : "وهذا القول الذي قاله مجاهد قول لظاهرِ ما دلَّ عليه كتاب الله مخالف". وعلَّق ابن الجوزي في "زاد المسير" (1/95) على قول مجاهد : "وهو قول بعيد". وقال ابن كثير : "وهذا سند جيد عن مجاهد ، وقول غريب خلاف الظاهر من السِّياق في هذا المقام وغيره".

وقال شيخنا في "الصحيحة" (1/146) : "وقد ذهب بعض المفسرين في العصر الحاضر إلى أن مسخ بعض اليهود قردة وخنازير لم يكن مسخاً حقيقياً بدنياً ، وإنما كان مسخاً خلُقياً ! وهذا خلاف ظاهر الآيات والأحاديث الواردة فيهم ، فلا تلتفت إلى قولهم فإنهم لا حجة لهم فيه إلا الاستبعاد العقلي ، المشعر بضعف الإيمان بالغيب . نسأل الله السلامة".

ويبدو أن المسخ وهو عذاب من السماء ؛ هذا العقاب الربَّـاني بـاقٍ إلى ما بين يدي الساعة ، وقد تظاهرت الأخبار بوقوع المسخ في هذه الأمة ، وهو مقيَّد في أكثر الأحاديث بأصحاب الغناء ، وشرّاب الخمر ، وفي بعضها مطلق ، وسوف نأتي ـ إن شاء الله ـ على بيانها في ذيل هذه الرسالة .

فقد أخرج الحاكم في "المستدرك" ، والبزار ، والثعلبي في "تفسيره" ، وهو في الصحيحة" (2258) عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً : "ما أهلك الله قوماً ولا قرناً ولا أمةً ولا أهل قريةٍ منذ أنزل التوراة على وجه الأرض بعذاب من السماء ، غير أهـل القرية التي مسخت قردة ، ألم تر إلى قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(43) سورة القصص .

ولقد ذكَّر الله ـ تعالى ـ بني إسرائيل بعد بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سورة البقرة بالحدث الذي تضمنه هذا النص فقال ـ عز وجل ـ : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ(65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(66) . قال ابن جرير : في قوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) يقول : ولقد عرفتم وهذا تحذير لهم من المعصية ، وقال في قوله ـ تعالى ـ : (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) أي : صيروا كذلك ، والخاسيء : المبعد المطرود ، وقال أيضاً : أي : مبعدين من الخير أذلاء صغراء .

وقال البخاري : خسأت الكلب : بعدته ، خاسئين : مبعدين . قال الحافظ : "...ثبت هذا في رواية المستملي وحده ، وهو قول أبي عبيدة ، قال في قوله ـ تعالى ـ : (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) أي قاصرين مبعدين".

أخرج ابن أبي حاتم ، عن شيبان النحوي عن قتادة في قوله ـ تعالى ـ : (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) قال : فصار القوم قروداً تعاوى ، لها أذناب ، بعدما كانوا رجالاً ونساء .

قال ابن القيم (ت : 751) ـ رحمه الله ـ في كتابه "إعلام الموقعين ـ تحقيق الشيخ مشهور" (5/72) : "قال شيخنا ـ يعني ابن تيمية (ت : 728) ـ رضي الله عنه ـ : "وهؤلاء لم يكفروا بالتوراة وبموسى ، وإنما فعلوا ذلك تأويلاً واحتيالاً ظاهره ظاهر الاتقاء ، وحقيقته حقيقة الاعتداء ، ولهذا ـ والله أعلم ـ مسخوا قردة لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان ، وفي بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه ، وهو مخالف له في الحد والحقيقة ، فلما مسخَ أولئك المعتدون دين الله بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته مسخهم الله قردة تشبه الإنسان في بعض ظاهره دون الحقيقة ، جزاءً وفاقاً".

ومثل قول ابن القيم قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في "تفسيره" : "يقول ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ) يا معشر اليهود ما حلَّ من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره إذ كان مشروعاً لهم ، فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل فلم تخلص منها يومها ذلك ، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت ، فلما فعلوا ذلك مسخهم الله إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليس بإنسان حقيقة ، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن كان جزاؤهم من جنس عملهم".