موقف الإسلام من عيسى ـ عليه الصلاة السلام – تقتضي من
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد : فإن المقرر عند جميع الأمم أن الله وحده هو خالق هذا الكون بسماواته وأرضه وما بينهما وما فيهما من ملائكة وجن وإنس .
وإنه هو المدبر لهذا الكون ومنظمه ، وكل شيء في هذا الكون خاضع لإرادته وقهره ، ومع ذلك يرعاه بلطفه ورحمته وحكمته .
وكلف العقلاء بعبادته وطاعة أمره ولأجل ذلك خلقهم ؛ كما قال تعالى :  وما خلقت الجن والإنس إلا لعبدون  ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون  إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ( ).
وزودهم بما يساعدهم على القيام بـهذا التكليف ( العبادة ) من الفطر السليمة والعقول المدركة الواعية ، وسخر لهم ما في السماوات والأرض .
وبعث إليهم الرسل الكرام كلما ما حرفهم الشيطان وأعوانه عن الغاية التي خلقوا لها إلى الشرك وعبادته والخروج عن صراط الله المستقيم .
وعلى رأس هؤلاء الرسل الكرام أولوا العزم من الرسل محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح - عليهم الصلاة وأكرم التسليم - .
قال تعالى :  شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ( ).
فالرسل جميعاً وعلى رأسهم من ذكر دينهم الإسلام وحده لا دين لهم سواه، قال تعالى : إن الدين عند الله الإسلام ( )، وقال تعالى :  ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ( )، وقال :  يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ( ).
وقال تعالى :  إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ( ).
والمراد بالأمة هنا الملة والدين ، فدينهم واحد وهو الإسلام المتضمن إخلاص الدين لله الواحد الأحد المعبود وحده بحق .
والخلق جميعاً عباده ، ومنهم الرسل الكرام ، ومنهم أولوا العزم محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح ، فهم عباده خلقهم لعبادته ودعوة الناس إلى ذلك ، وهو الرب الخالق المعبود لا يشركه أحد من جميع خلقه في ذرة من هذا الكون لا في الخلق ولا في الرزق ولا في الإحياء والإماتة ولا في شيء مما انفرد واختص به من صفات الربوبية والألوهية وصفات كماله ونعوت جلاله .
 قل هو الله أحد  الله الصمد  لم يلد ولم يولد  ولم يكن له كفواً أحد  .
والمقصود بعد هذه المقدمة بيان حال رسول الله الكريم عيسى بن مريم
– عليه الصلاة والسلام – ومكانته في الإسلام .
إن هذا النبي الكريم له منـزلة عظيمة في الإسلام جهلها وتجاهلها اليهود والنصارى في واقعهم وعقائدهم وكتاباتـهم .
وقام بـها الإسلام وقررها أفضل تقرير وأكمله وأنصفه في كثير من آياته البينة الكريمة ، وذلك الذي قرره الإسلام لا يقبل العقل السليم الصريح سواه ، ويرفض ما عداه مما قررته اليهودية من قذف له ولأمه ، وما قررته النصرانية من غلو فيه وتأليه له تارة باعتباره ابن الله وتارة هو الله أو ثالث ثلاثة ، وتارة بتحقيره وتشويهه مما يدل على التيه والضلال في الدين والعقل .
لقد قص الله علينا أحسن القصص وأروعه عن عيسى وأمه من بداية أمرهما وتابع ذلك في مراحل حياتـهما في غاية البيان مع غاية الإكرام ، فآمن بذلك المؤمنون من اتباع محمد  ، وقدروا عيسى وأمه حق التقدير ، واحتفوا بـهما غاية الإحتفاء .
كما احتفوا بسائر الأنبياء والرسل وآمنوا بـهم ، بل قرر الإسلام الإيمان بـهم ركناً عظيماً من أركان الإيمان ، بل من انتقص أي أحد منهم أي انتقاص فقد كفر عندهم وخرج من ملة الإسلام ، فكيف بمن يكذبـهم أو أحداً منهم ، لقد أشاد الله بعيسى وأمه مريم الطهور في كثير من سور القرآن نذكر بعضها منها قال تعالى في سورة آل عمران :
 -1 إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين 
ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم  إذ قالت امرأة عمران رب أني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم  فلما وضعتها قالت: رب أني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم  فتقبلها ربـها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا  كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال : يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب  هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ( ).
فمهد لقصة مريم بـهذا الربط العظيم بمن اصطفاهم الله على العالمين ومنهم آل عمران آباء مريم ليبين بـهذا الربط أن مريم من أسرة كريمة ، وأنـها من ذرية الأنبياء المصطفين ، وأن أمها امرأة صالحة ومن صلاحها أنـها نذرت ما في بطنها محرراً لله ، وكانت تأمل أن يكون ذكراً فإذا بالمولود أنثى ، فأرجعت أمرها إلى الله معتذرة إليه معوذة بنتها وذريتها من الشيطان الرجيم ، فاستجاب دعاءها فتقبلها ربـها قبولاً حسناً وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها نبياً كريماً رحيماً هو زكريا – عليه السلام - ، فهذه رعاية عظيمة وذكر كريم لأم عيسى .
ويزيدها الله من فضله وإكرامه فيخبرنا بذلك بقوله جل وعلا :
2-  وإذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين  يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين  ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ( ).
فما كان محمد النبي الأمي ولا قومه يعلمون مثل هذه الأخبار العظيمة الصادقة عن جميع الرسل ، ولا عن مريم وأمها وزكريا ومن خاصمه في كفالة مريم ، ولا بظفر زكريا بكفالتها بعد القرعة بالأقلام ، ولا بحفاوة زكريا بـها ، ولا بما كان يأتيها من رزق من عند الله تكريماً لها مما دفع زكريا على كبر سنه وعقم زوجته إلى طلب الذرية الطيبة من الله : ما كان محمد  يعلم هذا ولا قومه ، ولا يمكن أن تجد مثل هذا الكلام العالي في جلالته وبلاغته وحسن تركيبه وروعة عرضه في الأناجيل ولا في غيرها ، مما يدل على صدق محمد  ، وأنه رسول الله حقاً ، وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى إليه من رب العالمين .
ثم تابع الله قصة مريم الطهور وابنها عيسى عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى نبينا وسائر الأنبياء وسلم تسليماً كثيراً ، فقال :
3-  إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين  ويكلم الناس في المهد ومن الصالحين  قالت : رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ، قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون  ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل  ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله وأنبؤكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين  ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم

فاتقوا الله وأطيعون  إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ( ).
هذا حديث عن بدء أمر عيسى – عليه السلام – والطريقة التي خلقه الله بـها، وعن رسالته إلى بني إسرائيل ، وما أكرمه الله به من الآيات العظيمة الدالة على صدق رسالته ، وعلى براءته وبراءة أمه مما قذفها به اليهود ، فإذا كان من سنة الله الجارية في الخلق من البشر والدواب أن يتم الإنجاب والتوالد عن طريق أبوين ذكر وأنثى فإنه قد سبق ذلك أن خلق آدم أبا البشر من طين أي من غير أبوين ، وخلق أم البشر حواء من ذكر دون أنثى من ضلع آدم ، وكل ذلك من آيات الله العظيمة الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، كذلك في هذه الحقبة من الزمن من عمر البشرية أراد الله أن يري الناس آية جديدة من آياته الدالة على عظيم قدرته ألا وهي خلق عيسى – عليه السلام – من أنثى بدون ذكر ، ولقد استغربت مريم – عليها السلام – هذا الأمر العجيب والنبأ الغريب فقال لها الملك وهو جبريل :  كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون  ، فكل المخلوقات كبيرها وصغيرها من العرش إلى الكرسي إلى السماوات والأرض والجبال والبحار بما فيها ، والأفلاك وما فيها من شمس وقمر وكواكب يحدث بإرادة الله ومشيئته وبقوله كن ، فسبحانه وتعالى من رب عظيم قادر قاهر لا يعجزه ولا يستعصى على قدرته شيء ولا يند عن إرادته شيء فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .
إن إكرام الله عيسى – عليه السلام – بالعلم والحكمة والرسالة والآيات العظيمة هو من باب إكرام الأنبياء والرسل جميعاً ، وكونه خلق بكلمة الله "كن" من أنثى فقط هو من باب آياته الدالة على قدرته قد أسبقها بما هو أعظم منها وهو خلق آدم – عليه السلام - من غير ذكر وأنثى ، وخلق حواء من ضلع آدم من دون أنثى ، كل ذلك يدل على عظمة الله وعظيم قدرته لدى المؤمنين العقلاء فيدفعهم إلى شكره وحبه وتعظيمه وتقديسه وإجلاله وإخلاص العبادة والدين له وحده .
وأعظم الناس إدراكاً لهذا وقياماً به ودعوة إليه هم الأنبياء الكرام وعلى رأسهم أولوا العزم ومنهم عيسى - عليهم جميعاً أفضل الصلوات وأتم التسليم - كما صرح بذلك القرآن وقبله الوحي المحفوظ قبل التبديل من نصوص الإنجيل ؛ فلقد صرح عيسى بأنه عبد الله مخلوق مربوب ، وأن الله ربه وسيده وخالقه ورب المخلوقين وسيدهم ومالكهم ، فأثبت هذا أولاً ثم دعاهم إلى عبادة هذا الرب العظيم السيد الخالق لكل شيء المالك لكل شيء فقال – عليه السلام -:
 إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم  ، وقال قبل:  فاتقوا الله وأطيعون  ، فالله وحده هو الذي يخشى ويرهب ويتقى ، والأنبياء ومنهم عيسى يدعون إلى هذا ويمدهم الله بالآيات المعجزة الباهرة ، براهين على صدقهم فما على الناس بعد كل هذا إلا أن يستجيبوا لدعوة الرسل ويطيعوهم فيما بلغوهم به عن الله من الوحي المتضمن للأمر بتوحيد الله وإخلاص العبادة له وحده .
والشاهد من هذه النصوص أنـها تضمنت أن لعيسى – عليه السلام – وغيره من الأنبياء منـزلة عظيمة في الإسلام ، وتضمنت خلقه وخلق أمه على غاية من الطهر ومن أرسخ الأسر في الإسلام والطهر ، وتضمنت ذكر رسالته وآياته ودعوته إلى الإيمان بربوبية الله وعبادته وخشيته واتقائه ، مثل حديثه عن آدم وعن سائر الرسل وسيرهم وأخلاقهم ودعواتـهم – عليهم السلام – أحاديث صدق ليس فيها خرافات ولا غلو ، وآمن بذلك محمد  وأتباعه ، وأحبوا الأنبياء من أعماق قلوبـهم وأجلوهم وأكرموهم ومنهم عيسى – عليه السلام – واعتبروا ذلك من أصول دينهم :  آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ( ).
وقال تعالى :
4-  واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقيا فاتخذت من دونـهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً
سويا  قالت : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا  قال : إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيا  قالت : أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا  قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً  فحملته فانتبذت به مكاناً قصيا  فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيَّا  فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا  وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا  فكلي واشربي وقري عينا فإما ترينَّ من البشر أحد فقولي : إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا  فأتت قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئًا فريا  يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغيًّا  فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيَّا  قال إني
عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًّا  وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًّا  وبرًا بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيًّا  والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًّا  ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون  ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون  وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم  فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد
يوم عظيم  اسمع بـهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال
مبين  ( ).
وفي هذا القصص الحق بيان لحال مريم بعد أن أنبتها الله نباتاً حسناً في كفالة ذلكم النبي الكريم ، وبعد اشتهارها بالعبادة والطهر والشرف ، لقد حان الوقت الذي حدده الله لإنفاذ إرادته بخلق عيسى – عليه السلام – بالطريقة التي أخبرنا بـها  فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا  وهو جبريل – عليه السلام – لقد انقطعت هذه الطاهرة لعبادة الله واتخذت لذلك حجاباً حفاظاً على شرفها وعفتها ولتقوم بعبادة الله ، وإذا بـها تفاجأ بـهذا البشر السوي بكماله وجماله فبرهنت في هذا الموقف على حصانتها وعفتها بقولها :  إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا  ، إن هذا لا يصدر إلا من قلب مؤمن استعاذة بالله ولجوء إليه في حال الكرب والشدة ، وتذكير وتخويف بتقوى الله لتدفع بكل ذلك ما تبدى لها من هذا الأمر المخوف الخطير .
فأخبرها هذا الرسول الكريم بما يبدد مخاوفها وليطمئن قلبها  إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيا  ، فأبدت استغرابـها  قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا  ، وهذه هي الطريقة المعهودة لإنجاب الولد ، فأخبرها الرسول :  كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية
للناس  الخ .

فخلْق الكون كله بما فيه عليه هين ؛ كما قال تعالى :  ما خلقكم ولا
بعثكم إلا كنفس واحدة ( )، فنفخ فيها هذا الروح جبريل الذي أرسله الله لهذه المهمة العظيمة منفذاً أمر الله ، فحملته فانتبذت به مكان قصيًّا ، ثم وضعته وواجهت المشكلة التي تحس بـها مثلها من ذوات الشرف والعفاف فتمنت الموت ، وجاء ما يبدد مخاوفها وقلقها :  فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا  آيات ومعجزات تزيدها ثقة واطمئناناً وإيماناً بأن الله قد تولى الدفاع عنها وإظهار براءتـها وإظهار شرفها وكرامتها ؛ فليس عليها إلا أن تشير إلى هذا المولود الذي أرجف عليها به المرجفون  قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا  ، وفاجأهم هذا الذي استبعدوا كلامه وهو في المهد بتلك المعجزة الباهرة فـ  قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًّا  وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًّا  وبرًا بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيًّا  والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًّا .
إنه لآية عظيمة من آيات الله في طريق حمله وولادته وتبرءة ساحة أمه البتول، ثم بيان لمهمته ورسالته التي أرهصت لها هذه الآيات العظيمة ومن هذه الرسالة العظيمة بيان أنه عبد الله ، ومن العجب أن يكون ذلك أول نطقه ، ثم ثنى برسالته :  آتاني الكتاب وجعلني نبيا  ، ثم ثلث بآثار دعوته :
 وجعلني مباركاً أينما كنت  ، ثم ربع ببيان شريعته وشريعة من قبله من الرسل :  وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا  ، ثم تحدث عن صفاته الجميلة من البر وتنـزيه الله إياه من صفات الجبارين الأشقياء :  وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيا  ، ثم قال تعالى معقباً على كل ما يتعلق بعيسى وأمه مما سلف ذِكْرُهُ :  ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون  ،
إنه القول الحق الحاسم الذي قاله الرب خالق عيسى وغيره ، العليم الخبير بكل دقيقة وجليلة من أحوال هذا الكون وأحوال البشر ومنهم عيسى ، لقد قال الله فيه الحق الذي لايشوبه ذرة من شوائب الباطل الكبير الذي قاله فيه المبطلون من هؤلاء الممترين المختلفين ، قال فيه الحق الذي تقبله العقول السديدة الرشيدة والفطر السليمة ، ونطقت به الشرائع ، ودان به المؤمنون .
فتلك الأحوال التي مرت به من نفخ جبريل في جيب أمه ثم حملها به ثم ولادته وما واجه أمه من أهوال ومصاعب ثم تخليصها من تلك الأهوال بأن أنطق الله ابنها في المهد بما يدل على براءتـها من جهة ، وبما يدل على أنه عبد من عباد الله اصطفاه بالنبوة والرسالة والكتاب ، وكلفه بالشرائع العظيمة التي كلف بـها الأنبياء والرسل قبله من الصلاة والزكاة والبر ، كل ذلك هو الحق الثابت وما خالفه من الدعاوى فأباطيل ، فالطعون والاتـهامات التي افتراها اليهود على عيسى وأمه أباطيل ، ودعاوى خصومهم من النصارى في حق عيسى بأنه هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة أباطيل وضلالات كبرى ترفضها العقول والشرائع والفطر .
والقول الحق هو الذي قاله الله الذي خلقه وخلق الأولين والآخرين والجن والإنس لعبادته واصطفاه عبداً ورسولاً ، كما اصطفى غيره لحمل رسالته وتبليغها إلى البشر ليحققوا الغاية التي خلقهم من أجلها وهي عبادته وحده وإخلاص الدين له .
ولقد بلَّغ عيسى رسالته على أحسن الوجوه ، وكان في طليعة العابدين الخاشعين لله رب العالمين من أمته ، صادعًا بالحق من مهده وفي كهولته إلى أن رفعه الله إليه .
هذه هي منـزلة نبي الله ورسوله عيسى – عليه السلام – في الإسلام ولدى أمة الإسلام ، وذلك هو الحق وما سواه هو الإفك والضلال الذي يشهد ببطلانه الشرائع والعقول والفطر .
فما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه ، ونسبة الولد إليه من أعظم أنواع الكفر والضلال إذ ذلك غاية السب والتنقص لجلاله وعظمته وربوبيته ، فلا يكون غيره إلا مخلوقا له خاضعاً لجلاله وعظمته مكلفا بعبادته ، والله سبحانه مقدس منـزه عن اتخاذ الولد ؛ ولهذا قال وقوله الحق لمن نسب إليه الولد :  لقد جئتم شيئًا إدًّا  تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً  أن دعوا للرحمن ولداً  وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً  إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً  لقد أحصاهم وعدّهم عداً  وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً ( ).
وقال تعالى :  قل هو الله أحد  الله الصمد  لم يلد ولم يولد  ولم يكن له كفواً أحد  .
وقال تعالى في شأن محمد  :  وينذر الذين قالوا اتخذا الله ولداً 
ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً ( ).
فكل من ادعى لله ولداً لا يقول إلا الكذب ؛ سواء العرب الذين قالوا إن الملائكة بنات الله ، أو البوذيين أو البراهمة الذين يدعون ذلك لبوذا أو ابراهما ، أو النصارى الذين يدعون أن عيسى هو ابن الله أو الله أو ثالث ثلاثة ، كل ذلك كذب وافتراء على الله ، وهم جميعاً يكذب بعضهم بعضاً لا يسلِّم أي فريق لخصمه فتساقطت الأكاذيب والإفتراءات بتكذيب الفرق بعضها لبعض ، وبتكذيب القرآن والإسلام والمسلمون لهم ، وبتكذيب العقول والفطر لدعاوهم الباطلة .
ويبقى الحق الواضح الذي أخبر الله به في كتابه المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ذلكم الكتاب العظيم الذي تحدى الله الجن والإنس أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله ، فعجزوا عن كل ذلك منذ أربعة عشر قرناً ونيف ولن يأتوا بذلك إلى يوم القيامة .
فأي برهان أصدق وأقوى من عجز الجن والإنس عن أن يأتوا بشيء من ذلك الذي أتى به رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب ، وإذن فما قاله في شأن عيسى هو الحق الذي ليس وراءه إلا الباطل .
والشاهد من هذا أن القرآن أعطى عيسى حقه كاملاً وأنـزله منـزلته الكريمة اللائقة به ، وخلد ذكره بالحق قرآناً يتلى يردده المسلمون في بيوتـهم ومساجدهم ويتلونه في صلواتـهم كما هو الحال مع سائر النبيين والمرسلين .
أليس في كل هذا الذي قام به الإسلام والمسلمون ما يستدعي النصارى وعلى رأسهم الحكام والبابوات والقسس والرهبان والمثقفون إلى التفكر والتدبر وإعادة النظر في موقفهم من محمد  ، والكتاب العظيم المعجز الذي جاء به ، وموقفهم من أتباعه الذين آمنوا بعيسى نبياً رسولاً وبما أنـزل عليه من كتاب وبجلوه وكرموه وأنصفوه وأحلوه المنـزلة اللائقة بالأنبياء والمرسلين ؛ فأين رد الجميل ؟.
هل من رد الجميل أن يضعوا أيديهم في أيدي اليهود الذين كفروا بعيسى وكذبوه وقذفوه وأمه بأخبث القذائف والتهم ، وعادوه أشد العداوة من ولادته إلى يومنا هذا ، وفعلوا بأتباعه ظلماً وعدواناً ما تقشعر له الجلود .
وأفسدوا عقيدته ودينه امعاناً منهم في المكر والكيد ، وجعلوا عيسى
– نـزهه الله – أسطورة من الأساطير هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة إفساداً لرسالته وإبطالاً لها ، وجعلوا دينه وأتباعه هزؤاً وضحكة للعقلاء وحتى لأسفه السفهاء ، لقد حولها الكائدون إلى ديانة أسطورية وثنية يخجل العقلاء وغيرهم منها .
يزيد هذا الأمر ايضاحاً قول الله تعالى :
5-  إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون  الحق من ربك فلا تكونن من الممترين  فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين  إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهوا العزيز الحكيم ( ).
فهذا المثل العظيم حجة قاطعة لدابر دعاوى النصارى .
فإذا كان آدم الذي خلقه الله من تراب بيده ونفخ فيه من روحه لا يجوز ولا يصح في العقول والشرائع والفطر أن يدعى فيه إنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة .
فعيسى أولى ألا يدعى له ذلك إذ أن خلق آدم أعجب وأغرب فهو مخلوق من تراب وليس التراب من جنس البشر .
وعيسى خلق من امرأة من جنس البشر حملت به كما تحمل النساء وولدته كما تلد النساء ، فهذا من أعظم الحجج الدامغة للدعاوى الباطلة والشبه المتهافتة، بل خلق الملائكة من نور من غير آباء وأمهات ، وخلق إبليس من نار من غير أبوين أعجب وأدل على قدرة الله الخالق الباري بديع السماوات والأرض، بل خلق حواء من ضلع آدم من غير أم أعجب من خلق عيسى الذي حملته امرأة في بطنها وولدته كما تلد النساء ، فلم يبق للنصارى أي متعلق عند كل ذي عقل ودين وإنصاف ، ومع كل هذا فعيسى في الإسلام وعند المسلمين أفضل من آدم ومن كثير من الأنبياء والرسل اتباعاً للقرآن والسنة الكريمة النبوية ، فعيسى في الإسلام من أولي العزم من الرسل .
فما الذي يحول بعد هذا كله بين النصارى وبين الإسلام دين الله الحق ودين عيسى والأنبياء جميعاً ، ألا فليدركوا أن أعظم الضلال والكفر أن يدعى لله الصاحبة والولد ؛ لأنه أعظم السب والانتقاص لله رب العالمين ، وأن أعظم الكفر بعيسى تكذيبه في رسالته بالقول فيه أنه ابن الله الخ بعد تصريحه من أول يوم بأنه عبد الله آتاه الكتاب وجعله نبياً وجعله مباركاً أينما كان ، وأوصاه بالصلاة والزكاة ، وهذه صفات مخلوق مربوب مفتقر إلى ربه خاضع لجلاله مطيع لأمره.
وهل يريدون من المسلمين أن يلغوا عقولهم فيكفروا بالله وبما جاء به المرسلون جمعياً ، وأن يختاروا غضب الله وشديد عقابه بالنار التي أعدها للكافرين على رضاه وجزائه للمتقين الموحدين جنة عرضها السماوات والأرض .
أيها العقلاء المنصفون من النصارى إننا ندعوكم أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا في موقفكم من الإسلام الذي هو دين الله الحق ، ودين عيسى وجميع الأنبياء والمرسلين ، الإسلام الذي كرم عيسى وأنصفه وأنـزله المنـزلة الكريمة اللائقة به ، إنكم إن فعلتم ذلك متجردين من الأهواء واستعنتم بالله ثم بما بقي بعد التحريف من أناجيلكم فستصلون إن فعلتم ذلك إلى الحق والحقيقة وهو: أنَ محمدًا رسول الله ، وأن كتابه الذي جاء به لا يكون إلا حقاً من عند الله ، وأن ما قاله في شأن عيسى هو الحق وأنه عبد الله ورسوله خلقه الله كما خلق سائر البشر ومنهم الرسل الكرام خلقهم لعبادته والخضوع لجلاله والقنوت لعظمته وكبريائه .
وإليكم ما يصدق ما جاء به محمد  في القرآن والسنة من بعض أناجيلكم في الآية السابعة من الفصل الرابع من إنجيل متى :
1- ( لا تمتحن الرب إلهك )( ) .
2- وفي هذا الفصل نفسه قصة جرت لعيسى – عيسى – عليه السلام – مع الشيطان ، وأن الشيطان أمر عيسى – عليه السلام - أن يسجد له فأجابه عيسى المسيح بقوله : قد جاء في الكتب السابقة : ( لا تسجد إلا للرب إلهك وهو وحده تعبده ) .
وهذا ما جاء به الرسل جميعاً قد احتج به عيسى على الشيطان ، فهذا دليل واضح أن الأنبياء جميعاً ومنهم عيسى ومحمد  جاؤا بالتوحيد بأن الله هو الرب والإله المعبود وحده .
فعيسى هنا احتج بما جاءت به الكتب السابقة بأن الله هو الرب وحده ، وهو الإله المعبود وحده ، وأنه لا يسجد إلا له وحده .
ولقد أوحى الله إلى محمد  قوله :  ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه

الضلالة ( ) .
وأوحى إليه قوله عز وجل :  وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ( ).
فهذا الذي جاء به محمد  يتفق تمام الاتفاق مع ما صرح به عيسى في مجابـهة الشيطان .
ويتفق مع قالة عيسى – عليه السلام - في دعوته لبني إسرائيل :  وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ( ).
ومع قوله يوم القيامة حينما يخاطبه ربه بقوله :  يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ، قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب  ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ( ).
3- وفي الفصل الحادي عشر رقم [25] من إنجيل متى : ( أحمدك أيها الرب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه الأشياء عن الحكماء والفهماء وألهمتها الأطفال ) .
فعيسى – عليه السلام – عبد من عباد الله ورسله ، عرف حق ربه الذي خلقه وأسبغ عليه نعمه فتوجه إليه بالحمد والإقرار بأنه رب السماء والأرض وحده ؛ لأنه الذي خلقها وما فيهما وما بينهما وما تحت الثرى ، وليس لأحد فيهما من شرك لا عيسى ولا غيره ، وما له منهم من ظهير .
4- وفي الفصل الربع عشر من إنجيل متى رقم [23] : ( وبعد ما صرف الجموع صعد إلى الجبل منفرداً ليصلي ) .
والصلاة أعظم العبادات ، ولا تكون إلا من العبد الفقير المحتاج إلى رحمة ربه وخالقه ومعبوده ؛ كما قال تعالى :  يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ( ) .
وقال تعالى :  لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً ( ).
فعيسى عبد من عباد الله لا يستنكف عن عبادة الله ولن يستنكف أبداً .
وهذا شأنه وشأن الأنبياء والملائكة جميعاً .
5- وفي الفصل السادس والعشرون رقم [ 93] : أن المسيح ( خر ساجداً لله وقال: يا أبت إن أمكن أن تصرف عني هذا البأس ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت ) .
ففي هذا النص أن عيسى عبد الله لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ، وأنه يلجأ إلى الله في الشدائد يستغيث به ويضرع إليه ليدفع عنه الضر والبأس فيسجد له متقرباً إليه خاضعاً له مفتقراً إليه معتقداً أنه لا يكشف الضر إلا هو سبحانه ، وهذا حال الرسل جميعاً بل سائر البشر .
6- وفي الفصل الحادي والعشرون رقم [45] : ( لما أرادوا أن يقبضوا عليه خافوا من الجموع ؛ لأنه كان عندهم نبياً ) .
ففي هذا دليل على أن الجموع من المؤمنين بالله وبعيسى أهل توحيد وإيمان خالص ، وأنـهم يؤمنون بأن عيسى رسول ونبي ، وأن نبيهم عيسى قد علمهم ذلك ورباهم عليه ، ولم يكونوا يعتقدون فيه أنه إله أو ابن الله ، وحتى الناس يعلمون ذلك عنه .
7- وفي الفصل 23 رقم [8] : ( أما أنتم فلا تدعوا أحداً سيدكم فإن سيدكم حتى المسيح واحد ) .
وهذا النص يماثل النص القرآني وهو قول الله مخبراً عن رسوله عيسى أنه قال لبني إسرائيل :  وإن الله ربي وربكم  .
فالله هو رب عيسى وسيده ومربيه ومالكه ، ورب الناس جميعاً وسيدهم ومالكهم جميعاً عز شأنه وجل جلاله .
وقد نبه الشيخ تقي الدين الهلالي في رسالته البراهين : أن بعض المترجمين قد حرف هذا النص ، وأن الترجمة الإنكليزية قد سلمت من هذا الفساد .
8- وفي الفصل السابع عشر رقم [3] : ( وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ) .
وفي هذا النص إثبات ما جاء به جميع الرسل لا إله إلا الله وإن عيسى
رسول الله ، وهذا في زمانه ولكل أمة زمان ورسول ؛ كما قال تعالى :
 وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا
فاعبدون  ( )، ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ( ) .
9- وفي إنجيل مرقس فصل 12 رقم [28 إلى 30] وما بعده ما نصه : ( فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون فلما رأى أنه أجابـهم حسناً سأله أية وصية هي أول الكل فأجابه يسوع : إنَّ أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل الرَّب إلهنا واحد ، وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك ) هذه هي الوصية الأولى ، وفي رقم [32] ما نصه : ( فقال له الكاتب جيد يا معلم قلت وقد نطقت بالحق ؛ لأن الله واحد ولا إله غيره ) ، وفي رقم [34] : ( قال يسوع لست بعيداً عن ملكوت الله ) .
وهذه الوصية الأولى هي وصية الله إلى كل رسله ومنهم عيسى – عليهم السلام جميعاً – ووصية الرسل إلى أممهم .
قال تعالى :  شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه  ( ).
والدين الذي شرعه لهم هو التوحيد وهو معنى لا إله إلا الله وأمروا جميعاً بالدعوة إليه ، وهو الذي يعظم على المشركين ويحاربون الرسل من أجله .
وهي وصية إبراهيم ويعقوب وهو إسرائيل ، قال تعالى :
 وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم  ربنا وجعلنا مسلمَين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا أنك أنت التواب الرحيم  ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم  ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين  إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين  ووصى بـها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون  أم كنتم شهدآء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد وإلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحدًا ونحن له مسلمون ( ).
إنـها ملة عظيمة إسلام لله رب العالمين ، وتوبة إليه ولجوء إلى الله أن يجعل من ذريتهم ذرية مسلمة ، وأن يبعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ، تبعدانـهم هذه التزكية والحكمة عن الشرك والسفه والضلال، والحكم من الله على من يرغب عن ملة إبراهيم وهي التوحيد إلا من سفه نفسه .
والشاهد من هذا إلتقاء دعوات الأنبياء جميعاً في التوحيد والإسلام ، وأنه لا إله إلا الله يدعون إلى ذلك أممهم ويوصون بـها من بعدهم من ذرياتـهم وأممهم، والشاهد هذا الآخر هي وصية إسرائيل وهو يعقوب التي يطابق فيها نص الإنجيل النص القرآني ، وما في نص الإنجيل من المحبة داخل في الدين ، بل الدين يشتمل أموراً كثيرة أو أعمالاً عظيمة سوى المحبة .
هذا مع جلالة وروعة النص القرآني المؤثرة في الوجدان ، والباعثة على التعظيم والإكبار والإيمان بأن هذا الكلام لا يرقى إلى مثله البشر ، وأنه تنـزيل من حكيم حميد على النبي الأمي الذي ما قرأ كتاباً ولا خطه بيمينه .
انظر إلى قول عيسى - عليه السلام - ووصيته العظيمة ، وإلى إيمان الكاتب السائل المستفيد وقوله نطقت بالحق لأن الله واحد لا إله غيره .
وإجابة المسيح له : لست بعيداً عن ملكوت الله ، وهذا والله أعلم وعد له بالجنة ، وفيه الدليل أن غير الموحد لا يدخل الجنة ؛ كما قال تعالى مخبراً عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل :  اعبد الله ربي وربكم إنه من يشرك الله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ( ).
ملاحظة : في لغة التوراة والأناجيل كل تقي بر يسمى ابن الله ولم يختص عيسى بلفظ ابن .
10- وفي الفصل الخامس من إنجيل متى : ( طوبى لصانعي السلام ؛ لأنـهم أبناء الله يدعون ) .
11- وفي الفصل نفسه رقم [45] : ( لتكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء ) .
12- وفي رقم [48] : ( فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماء كامل ) .
13- وفي الفصل السادس رقم [1] : ( وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماء ) .
14- وفي الفصل 23 رقم [9] : ( ولا تدعوا لكم أباً على الأرض ؛ لأن أباكم واحد وهو الذي في السماء ) .
ومن ذلك تعرف أن الأبوة والبنوة بمعنى العلاقة بين الرب والعبد ثابتة في الإنجيل لجميع الناس ، ولا خصوصية للمسيح في ذلك( ) .
وقد يكون كل هذا من تصرف بعض اليهود والنصارى . والله أعلم .
ولقد قال تعالى :  وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير ( ).
والعاقل المتصف يدرك مما سقناه من نصوص القرآن ما حوته في طياتـها من إكرام وتبجيل وحفاوة وإشادة بعيسى وإثبات نبوته ورسالته ، وأنه من كبار الرسل العظام الذين حملوا لواء التوحيد ودعوا البشر إلى هذا التوحيد توحيد الله وإخلاص الدين له ، وأنـهم حاربوا الشرك بالله وتوعدوا أهله بالخلود في النار وبئس القرار .
وأن الله قد برأ عيسى وأمه مما قذفهما به اليهود ، ورفع من شأنـهما ، واعتبر قول اليهود فيه وفي أمه كفراً وبـهتاناً عظيماً .
وقد تطابقت نصوص القرآن والإنجيل على أن عيسى عبد الله ورسوله ، وهذا هو الكمال الذي لا يناله إلا الرسل العظام ومنهم عيسى – عليه السلام – وقد جاءت السنة النبوية بمثل ذلك ، والمسلمون يؤمنون بـهذا كله ، فأي حيف في الإسلام والمسلمين ؟ لا شيء أبداً لدى العقلاء والمنصفين ، بل حيف على الله والأمر الإد الذي تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً هو خلاف ما دل عليه القرآن والسنة وما عليه المسلمون ، بل وما دلت عليه نصوص التوحيد المحفوظة في الإنجيل .
أما آن للنصارى بعد كل هذا أن يهرعوا ويبادروا إلى الإسلام ولا سيما عقلاؤهم ومثقفوهم وأحرار الفكر منهم .
إننا ندعوهم مرة أخرى أن يقوموا لله مثنى وفرادى ثم يتفكروا في هذا الأمر العظيم الذي لا أعظم منه بجد وإنصاف وطلب مُلِحِّ لإدراك الحق والحقيقة لأنـها مسألة مصيرية ، إما إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، وإما إلى نار وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين خالدين فيها أبداً ، وهذا أمر اتفق عليه الرسل جميعاً وتضمنته كتبهم ومنهم عيسى عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى نبينا وسائر النبيين والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً .
ويجدر هنا أن نقول لكم صادقين :
 يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ( ).
إنـها دعوة جادة تتطلب منكم الجد ، فلا يصدنكم عدو الله الشيطان إن الشيطان لكم عدو مبين ، وانه إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، والله الرؤف الرحيم يدعوكم إلى الجنة والمغفرة ، والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
ووالله إن السعادة كل السعادة في الدنيا والآخرة في الإسلام العظيم الذي شرعه رب العالمين ، أرحم الراحمين ، ووالله إن فيه الحلول الكاملة لكل مشاكل البشر العقائدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية ، وفيه القضاء على العداوات والأحقاد والضغائن التي تحصد حياة البشر حصدًا بل تحولها إلى جحيم .
فلا دين اليوم ولا منهج على وجه الأرض يتضمن ويضمن ما قلناه آنفاً بحق إلا هذا الدين العظيم بقرآنه المعجز وسنته العظيمة وقواعده المحكمة الحكيمة وأصوله المتينة .
فهلموا هلموا إلى الأسباب الحقيقية للنجاة من شقاء الدنيا والآخر ، وإلى النجاة من الحروب المدمرة والكروب الخانقة .
اللهم اهد هذه الأمم إلى دينك القويم وصراطك المستقيم إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير .
وللبحث صلة إن شاء الله نبين فيه عظمة الإسلام ، وصدق رسول الإسلام، وبعده ورسالته عن الإفراط والتفريط ، وموافقته للعقول الرصينة والفطر السليمة.