الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا‏*‏ (الملك 2)
هــذه الآية الكريمة جاءت في بدايات سورة الملك‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها ثلاثون‏(30)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بالشهادة لله تعالي بأنه هو الذي بيده الملك‏,‏ وهو علي كل شيء قدير‏,‏ ومن أسماء هذه السورة المباركة أيضا‏:(‏ المانعة‏)‏ و‏(‏المنجية‏)‏ لأنها تمنع قارئها من عذاب القبر‏,‏ وتنجيه منه‏,‏ وذلك لقول رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ عنها‏:‏ هي المانعة‏,‏ وهي المنجية‏,‏ تنجي من عذاب القبر‏(‏ أخرجه الإمام الترمذي‏).‏

ويدور المحور الرئيسي لسورة الملك حول قضية العقيدة الإسلامية القائمة علي التوحيد الخالص لله تعالي ـ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد ـ وتبدأ بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

تبارك الذي بيده الملك وهو علي كل شيء قدير‏*‏ الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور‏*(‏ الملك‏:1‏ ـ‏2).‏

وفي هذا الاستهلال من التعظيم للخالق سبحانه وتعالي ماهو جدير به‏,‏ لأن من معاني‏(‏ تبارك‏):‏ تعالي ربنا وتعاظم وكثر خيره‏,‏ ودام إحسانه وفضله‏,‏ وثبت إنعامه وكرمه علي جميع عباده وسائر خلقه ثبوتا لا يزول ولا يحول أبدا‏.‏ ومن معاني هذا التعظيم لله الخالق‏,‏ الواحد الأحد‏,‏ الفرد الصمد‏,‏ الذي‏..‏ لم يلد‏,‏ ولم يولد‏*‏ ولم يكن له كفوا أحد تنزيهه ـ جل وعلا ـ عن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله‏.‏

وفي هذا الاستهلال المبارك أيضا تأكيد علي تفرد الخالق سبحانه وتعالي بالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏,‏ لأن من معاني‏(‏ الملك‏):‏ السلطان‏,‏ والقدرة‏,‏ ونفاذ الأمر‏.‏
وانطلاقا من تقريره أنه تعالي خلق الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملا كانت الشهادة له ـ جل جلاله ـ بأنه هو‏(‏ العزيز الغفور‏),‏ أي الغالب الذي لا يقهر‏,‏ والذي لا يعجزه شيء‏,‏ ومع ذلك فهو العفو عن تقصير عباده‏,‏ الغفور لذنوبهم‏.‏ ومن دواعي تفرده‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بكل ذلك ألا يعبد غيره‏,‏ ولا يقصد سواه بدعاء أو رجاء أو طلب‏,‏ ولا يشرك في عبادته أحد‏,‏ وأن ينزه فوق كل وصف لا يليق بجلاله‏.‏

وكذلك يشهد لله الخالق بالربوبية والألوهية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه أنه تعالي هو الذي خلق سبع سماوات طباقا‏(‏ أي متطابقة حول مركز واحد هو كوكبنا الأرض‏,‏ دون أدني خلل‏,‏ أو نقصان‏,‏ أو اضطراب‏,‏ ولولا هذا البيان الإلهي الذي تكرر في القرآن الكريم عشرات المرات‏,‏ ماكان أمام الإنسان من سبيل لإدراك هذه الحقيقة الكونية‏,‏ وذلك لأن كل مايراه علماء الفلك في زمن العلم والتقنية الذي نعيشه لا يتعدي جزءا يسيرا من السماء الدنيا‏,‏ وبما أن الكون دائم الاتساع فإن هذا الجزء المرئي من السماء الدنيا دائم التباعد عنا بسرعات لا يستطيع التطور العلمي والتقني المعاصر اللحاق به‏,‏ وعلي الرغم من ذلك فإن الانسان يستطيع بحسه المحدود‏,‏ وقدراته المحدودة‏,‏ أن يدرك شيئا من دقة بناء السماء‏,‏ وتكورها علي ذاتها‏,‏ وإحكام خلق كل صغيرة وكبيرة فيها دون أدني خلل‏,‏ ولذلك تطالب الآيات كل ذي بصيرة بتكرار النظر في السماء حتي يتحقق من بديع صنع الله فيها‏,‏ مؤكدة انه مهما نظر فلن يستطيع العثور علي خلل واحد‏.‏
وتستشهد سورة الملك بعدد آخر من آيات الله في الكون علي صدق ماجاء بها من أمور الغيب‏,‏ ومن ركائز العقيدة الاسلامية منها النجوم التي جعلها الله‏(‏ تعالي‏)‏ زينة للسماء الدنيا وسماها بالمصابيح‏,‏ وهي تسمية في غاية الدقة العلمية‏,‏ لأن النجوم هي أفران نووية كونية عملاقة وقودها نوي ذرات الإيدروجين التي تتضاغط في قلب النجم فتتحد مع بعضها البعض منتجة نوي ذرات الهيليوم‏,‏ ثم الليثيوم‏,‏ لتكون نوي ذرات أثقل باستمرار‏,‏ مطلقة كميات هائلة من الطاقة التي يقوم عليها نظام الكون‏,‏ وتستقيم الحياة علي الأرض‏,‏ ولما كانت النجوم في دورة حياتها ينتهي بها المطاف الي أجسام باردة كالكواكب التي تنفجر فينزل بعضها علي الأرض شهبا ونيازك قال ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير‏*.(‏ الملك‏5).‏
ثم انتقلت الآيات بعد ذلك الي وصف جانب من عذاب الكفار في يوم القيامة‏,‏ والي شيء من الحوار الذي سوف يدور بينهم وبين خزنة جهنم وفي ذلك تقول‏:‏ وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير‏*‏ إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور‏*‏ تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير‏*‏ قالوا بلي قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا مانزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير‏*‏ وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ماكنا في أصحاب السعير‏*‏ فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير‏*(‏ الملك‏:6‏ ـ‏11)‏

وهنا قد يتبادر الي الذهن سؤال فحواه أن الآخرة لم تحن بعد‏,‏ وأن أهل الجنة لم يدخلوها بعد‏,‏ وكذلك أهل النار لم يساقوا اليها بعد‏,‏ فكيف أوردت الآيات هذا الوصف الدقيق لأفواج الكفار تلقي في نار جهنم‏,‏ ولحوار خزنة جهنم مع الكفار‏,‏ وردود الكفار عليهم؟ وللإجابة علي ذلك أقول إن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق كل شيء‏,‏ ومن مخلوقاته كل من الزمان والمكان‏,‏ والخالق يملك مخلوقاته‏,‏ ويحدها‏,‏ ويحكمها بعلمه وحكمته وقدرته‏,‏ والمخلوق لا يحكم خالقه أبدا‏,‏ وعلي ذلك فإن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ يحوي بعلمه وحكمته وقدرته كل الأماكن وكل الأزمنة‏,‏ فلا يخرج عن علمه من ذلك شيء أبدا‏,‏ ولا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء فالماضي والحاضر والمستقبل في علم الله‏(‏ تعالي‏)‏ كله حاضر‏,‏ ومن هنا جاء وصف المستقبل في الآخرة كأنه أمر قائم‏,‏ حاضر‏,‏ ظاهر‏.‏

وبالمقابل تصف الآية الثانية عشرة من هذه السورة المباركة جانبا من فضل الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي الذين يخشونه بالغيب فيجتنبون معاصيه‏,‏ ويقبلون علي طاعاته فتقول‏.‏
إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير‏*(‏ الملك‏:12)‏

ثم تخاطب الآيات في سورة الملك الناس جميعا مؤكدة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يعلم السر والجهر‏,‏ ويعلم ماتخفي كل نفس‏,‏ حتي تقيم من الانسان علي نفسه رقيبا حسيبا‏,‏ يراجعها في كل خطأ حتي تتوب‏,‏ ويشجعها علي كل خير فتستزيد‏,‏ ويعبد الله‏(‏ تعالي‏)‏ كأنه يراه‏,‏ ويحيي روح مراقبة الله له في قلبه حتي يستيقظ لهذه الحقيقة التي يغفل عنها الكثيرون‏:‏ إن الله تعالي عليم بذات الصدور‏,‏ وحتي يتجرد لله تعالي وحده في الأعمال والنيات‏,‏ ويتقي هواجس النفس‏,‏ ونفثات الشياطين لإيمانه بأن الله تعالي يسمعه ويراه‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏ وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور‏*‏ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير‏*(‏ الملك‏:13‏ ـ‏14)‏

وبعد ذلك تستمر الآيات في استعراض عدد من نعم الله علي عباده‏,‏ وفي التذكير بحتمية الموت والبعث والرجوع إلي الله تعالي فتقول‏:‏ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور‏*(‏ الملك‏:15)‏
أي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي خلق الأرض وجعلها مهيأة لحياة الانسان عليها في سهولة ويسر‏,‏ ولفظة‏(‏ ذلولا‏)‏ تعني سهلة‏,‏ مسخرة‏,‏ مذللة لكم يابني آدم‏,‏ من‏(‏ الذل‏)‏ وهو اللين وسهولة الانقياد‏,‏ و‏(‏ مناكب‏)‏ الأرض هي جوانبها‏,‏ وفجاجها وأطرافها‏,‏ وهو من قبيل الحض علي الاجتهاد في عمارة الأرض واقامة عدل الله فيها وهي من واجبات الاستخلاف‏,‏ والحث علي كسب الرزق الذي قدره الله‏(‏ تعالي‏)‏ لكل حي في الوجود فقال‏(‏ تعالي‏):‏ وكلوا من رزقه لأن السعي في طلب الرزق واجب علي كل مخلوق‏,‏ وهذا السعي لايتنافي أبدا مع حقيقة أن الرزق مقسوم سلفا‏,‏ ولايتنافي أبدا مع ضرورة التوكل علي الله وهو الرزاق ذو القوة المتين وختمت هذه الآية الكريمة بالإشارة إلي حقيقة البعث‏,‏ وحتمية الرجوع إلي الله‏.‏

وتعاود الآيات التهديد بعذاب الله‏(‏ تعالي‏)‏ للكفار والمشركين والعاصين من عباده في الدنيا قبل الآخرة فتقول‏:‏
أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور‏*‏ أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير‏*.(‏ الملك‏:16‏ ـ‏18).‏

وخسف الأرض من الظواهر المصاحبة لتصدع غلافها الصخري‏,‏ وغور أجزاء منه علي هيئة مايعرف بالأغوار أو الأودية الخسيفة‏,‏ وذلك من مثل حوض البحر الأحمر‏,‏ بخليجيه‏:‏ العقبة والسويس‏,‏ وغور وادي الأردن‏,‏ كما قد يصحب تكون الأغوار هزات أرضية‏(‏ زلزالية‏)‏ أو ثورات بركانية مرعبة‏,‏ وهذه وغيرها من الظواهر الطبيعية‏,‏ هي من جند الله التي يسخرها عقابا للعاصين‏,‏ وابتلاء للصالحين‏,‏ وعبرة للناجين‏,‏ واذا لم تؤخذ بهذا المفهوم فلن يتعلم الانسان أبدا‏.‏

و‏(‏المور‏)‏ الحركة جيئة وذهابا في اضطراب وتموج شديدين و‏(‏ المور‏)‏ و‏(‏ الخسف‏)‏ من أوصاف ما يتعرض له الغلاف الصخري للأرض في أثناء الهزات الأرضية التي تعتبر من أعنف الكوارث التي يبتلي بها الله‏(‏ تعالي‏)‏ عباده الصالحين‏,‏ أو يعاقب الكفار والمشركين والعاصين منهم كما عاقب قارون وقومه من قبل‏.‏

و‏(‏ الحاصب‏)‏ هي الريح الشديدة التي من عنف شدتها فإنها تثير الحصباء‏(‏ الحصي‏),‏ أو هي الحجارة المنزلة من السماء علي وجه من أوجه العقاب الإلهي للكفار والمشركين وللعصاة المذنبين‏,‏ وهو انذار شديد بعذاب من الله‏(‏ تعالي‏)‏ لجماعة من أهل الأرض كما حدث لكل من أصحاب الفيل‏,‏ وقوم لوط‏,‏ وسوف يعلم المنذرون شيئا عن صدق وعيد الله‏(‏ تعالي‏)‏ لهم حين يقع العذاب الذي أنذروا به عليهم‏,‏ ولذلك حذرت الآية الثامنة عشرة من سورة الملك كل الناس مما وقع للأمم السابقة من العذاب فتقول‏:‏ ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير‏*(‏ الملك‏:18).‏

والاشارة هنا إلي الأمم السابقة علي كفار ومشركي جزيرة العرب‏,‏ الذين كذبوا رسل ربهم إليهم‏,‏ وعصوا أوامره‏,‏ فأنكر الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ذلك عليهم‏,‏ وأنزل عقابه الشديد الأليم بهم وترك آثار خرابهم ودمارهم عبرة لكل معتبر‏.‏
ثم تنتقل سورة الملك إلي استعراض آية أخري من الآيات الدالة علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق والتي تتلخص في اعطاء الطيور القدرة علي ارتقاء الهواء‏,‏ والسبح فيه بكفاءة عالية فتقول‏:‏

أو لم يروا إلي الطير فوقهم صافات ويقبضن مايمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير‏*.(‏ الملك‏:19)‏

وفي التأكيد علي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الناصر‏,‏ المعطي‏,‏ الوهاب‏,‏ الرزاق‏,‏ ذو القوة المتين‏,‏ تعتب الآيات علي المشركين الذين عبدوا مع الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ غيره من المخلوقات أو المخلوقين‏,‏ مبتغين منهم النصر أو راجين عندهم الرزق فتقول‏:‏ أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور‏*‏ أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور‏*‏ أفمن يمشي مكبا علي وجهه أهدي أمن يمشي سويا علي صراط مستقيم‏*(‏ الملك‏:20‏ ـ‏22)‏ وتشبه الآية الأخيرة المؤمن بالذي يمشي سويا علي صراط مستقيم أي علي طريق واضح المعالم‏,‏ تبين النهاية في كل من الدنيا والآخرة حتي ينتهي به إلي جنات النعيم‏,‏ بينما الكافر يمشي مكبا علي وجهه‏,‏ تائها ضالا حائرا لايدري أين يسلك‏,‏ ولاكيف يسير‏,‏ ولايعرف لطريقه نهاية حتي يكبه في نار الجحيم‏,‏ وتسأل الآية الكريمة كل مستمع لها أيهما أهدي سبيلا؟

وتأمر الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين ان يخبر الناس جميعا بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يمن عليهم بإنشائهم من العدم‏,‏ ومنحهم من الحواس والملكات مايعينهم علي الاستمتاع بوجودهم‏,‏ ومن قبيل الشكر علي هذه النعم استخدامها في طريق الخير إلي أقصي مدي لها‏,‏ وحمد الله‏(‏ تعالي‏)‏ والثناء عليه في كل مرة تستخدم فيها حاسة من تلك الحواس‏,‏ أو ملكة من تلك الملكات‏,‏ وبأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يمن عليهم كذلك بنشر الجنس البشري في مختلف أرجاء الأرض مما يتبعه اختلاف الألوان والألسنة والعادات‏,‏ ثم يجمعهم من هذا الشتات ليوم لا ريب فيه‏,‏ يتشكك فيه أهل الكفر والضلال‏,‏ ويتساءلون عن موعده‏,‏ وتأمر الآيات خاتم الأنبياء‏,‏ والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أن يجيب بأن علم هذا اليوم عند الله ولايعلمه سواه‏,‏ وأنه‏(‏ عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم‏)‏ بعث ـ كما بعث غيره من أنبياء الله ورسله ـ للانذار بوقوع هذا اليوم علي بينة من رب العالمين‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏

قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون‏*‏ قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون‏*‏ ويقولون متي هذا الوعد إن كنتم صادقين‏*‏ قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين
‏(‏الملك‏:23‏ ـ‏26)‏

ثم تنتقل بنا الآية السابعة والعشرون عبر حجز الغيب‏,‏ وكأن الساعة قد قامت‏,‏ والكافرون يرون مايوعدون به من العذاب رأي العين‏,‏ فسيئت وجوههم وسمعوا من التقريع والتوبيخ مادهاهم‏,‏ وزاد فجيعتهم‏,‏ وفي ذلك تقول الآية الكريمة‏:‏ فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون‏*(‏ الملك‏:27)‏
و‏(‏ زلفة‏)‏ حال من مفعول رأوه‏,‏ وهو اسم مصدر لـ‏(‏ أزلف‏)‏ و‏(‏ إزلافا‏)‏ بمعني قرب قربا‏,‏ وقيل ان استعمال‏(‏ الزلفة‏)‏ في منزلة العذاب كاستعمال البشارة ونحوها من الألفاظ و‏(‏ سيئت‏)‏ بمعني عمها السوء من الغم والحزن‏,‏ و‏(‏ تدعون‏)‏ أي تطلبون في الدنيا وتستعجلون‏,‏ إنكارا واستهزاء‏,‏ من‏(‏ الدعاء‏)‏ بمعني الطلب‏.‏

وتختتم هذه السورة المباركة بخطاب موجه من الله‏(‏ تعالي‏)‏ إلي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ يأمره فيه بما يلي‏:‏
قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم‏*‏ قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ظلال مبين‏*‏ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين‏*.‏
‏(‏ الملك‏:28‏ ـ‏30)‏

وهذه الآيات الثلاث ترد علي كفار ومشركي قريش ـ وعلي كل كافر ومشرك إلي يوم القيامة ـ الذين كانوا يتمنون هلاك رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وهلاك المسلمين الذين آمنوا به وبما أنزل إليه من ربه‏,‏ تماما كما يتمناه كفار ومشركو اليوم‏,‏ والآيات تقول لسيد الأنبياء والمرسلين‏:‏ قل لهؤلاء الكفار والمشركين بالله‏,‏ الجاجدين لنعمه‏,‏ الغامطين للحق الذي أنزله بعلمه‏:‏ إن ما تتمنون لنا من الهلاك لن ينقذكم من عذاب الله ونكاله الواقع بكم لا محالة في الدنيا قبل الآخرة‏,‏ أما نحن فقد آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم‏,‏ وتوكلنا عليه‏,‏ واعتصمنا بجنابه‏,‏ وسوف تعلمون لمن تكون عاقبة الأمور في الدنيا قبل الآخرة‏:‏ للمؤمنين بالله‏,‏ الموحدين لجلاله‏,‏ المنزهين لذاته العلية عن الشريك والشبيه والمنازع والصاحبة والولد أما الذين أشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا فغرقوا في وحل الضلال المبين‏!‏ وتهديدا لهؤلاء الضالين تذكرهم الآية في ختام هذه السورة المباركة بنعمة الماء علي العباد‏,‏ والذي بدونه لا تكون الحياة‏,‏ فتقول‏:‏ يا أيها المشركون الضالون التائهون عن الحق والضالعون في الشرك‏,‏ الغارقون في ظلام الجهل‏,‏ إذا قدر الله‏(‏ تعالي‏)‏ أن يغور الماء في آباركم حتي لا تستطيعوا الوصول إليه‏,‏ فمن غير الله القادر يمكنه أن يأتيكم بماء جار علي سطح الأرض؟‏!‏
وكان ماء مكة المكرمة في هذا الوقت مستمدا من كل من بئر زمزم وبئر ميمون بن الحضرمي‏.‏

من ركائز العقيدة في سورة الملك
‏(1)‏ الإيمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ ربا واحدا أحدا‏,‏ فردا صمدا‏,‏ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة ولا ولد‏.‏ وتنزيهه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله‏,‏ والإيمان بأن هذا الإله الواحد بيده ملك كل شئ من الأجل والرزق‏,‏ والنصر الي كل ما في الوجود‏,‏ وبأنه علي كل شئ قدير‏,‏ وهو عليم بذات الصدور‏,‏ وأن هذا الإله الواحد هو المستحق وحده الخضوع لجلاله بالطاعة والعبادة والخشية والتوكل والإخلاص والتجرد والتقوي‏.‏

‏(2)‏ اليقين بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو المهيمن هيمنة مطلقة علي كل شئ‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه‏)‏ هو الذي خلق الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملا تمهيدا للبعث بعد الموت‏,‏ والحشر‏,‏ والحساب‏,‏ والجزاء بالخلود إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏.‏

‏(3)‏ التسليم بحقيقة الكمال والجمال والاتقان في جميع خلق الله‏.‏

‏(4)‏ التصديق بكل ما وقع من عقاب بالمكذبين من أبناء الأمم السابقة‏,‏ وبأن للذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير‏,‏ وأن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير‏.‏

‏(5)‏ الإيمان برسالة الإنسان في هذه الحياة‏,‏ عبدا لله‏(‏ تعالي‏)‏ مستخلفا في الأرض لفترة محددة من الزمن‏,‏ يعبد الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بما أمر‏,‏ ويقوم بواجبات الاستخلاف ومنها عمارة الأرض وإقامة عدل الله فيها‏,‏ والدعوة الي دين الله الحق‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة الملك
‏(1)‏ الإشارة الي مرجعية عليا للكون في خارجه‏(‏ الله الذي بيده الملك‏)‏ وهو ما تنادي به اليوم أحدث الدراسات الفلكية‏.‏
‏(2)‏ الإشارة الي خلق الموت والحياة‏,‏ والعلوم المكتسبة قد بدأت في الوصول الي حقيقة ان الموت مخلوق‏.‏

‏(3)‏ وصف السماوات بأنها سبع طباق‏,‏ والي احكام بنائها بلا فراغات ولا ادني خلل او اضطراب‏,‏ والعلوم المكتسبة لا تتجاوز وصف ما تراه من السماء الدنيا بأكثر من انه منحن‏,‏ وذلك لعجز العلماء عن رؤية كل أبعاد السماء الدنيا‏,‏ او رؤية شئ مما حولها من سماوات‏.‏
‏(4)‏ إثبات أن النجوم هي زينة السماء الدنيا‏,‏ وأن منها رجوما للشياطين من الشهب والنيازك‏,‏ والعلوم المكتسبة تشير الي وحدة بناء السموات والارض وان اصل كل اجرام السماء هو الدخان الكوني الذي نشأ عن عملية الانفجار العظيم‏(‏ أو فتق الرتق‏).‏

‏(5)‏ وصف تسخير الأرض للإنسان بتذليلها أي جعلها متوافقة مع احتياجاته‏,‏ متناسبة مع طبيعة حياته وهو ما أثبتته كل الدراسات الأرضية‏.‏
‏(6)‏ الإشارة الي العلاقة بين خسف الأرض ومورانها وهي علاقة لم تدرك الا بعد دراسة ميكانيكية حدوث الزلازل‏.‏

‏(7)‏ وصف الرياح بالحاصب‏,‏ وهي رياح ذات سرعات عالية تمكنها من حمل الحصي والرمال معها مما يضاعف من قدراتها التدميرية‏.‏
‏(8)‏ وصف طرائق تحليق الطيور في السماء بدقة فائقة‏:(‏ صافات ويقبضن‏).‏
‏(9)‏ تأكيد حقيقة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق كل شئ‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ قد توج خلقه بالانسان الذي أنشأه من العدم‏,‏ وجعل له السمع والأبصار والأفئدة‏,‏ وتقديم خلق السمع علي الأبصار‏,‏ والأبصار علي الأفئدة في هذه السورة المباركة‏,‏ وفي غيرها من سور القرآن الكريم له من السند العلمي ما يؤكد خلقها في جنين الانسان بهذا الترتيب المعجز‏.‏
‏(10)‏ الاشارة الي امكانية غور الماء في الآبار‏,‏ وهي ملاحظة علمية دقيقة‏.‏ وكل قضية من هذه القضايا تحتاج الي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الثانية من القائمة السابقة والتي جاءت في الآية الثانية من سورة الملك

من الدلالات العلمية للآية الكريمة في قوله تعالي‏:(‏ الذي خلق الموت‏...)‏
جاء الفعل‏(‏ مات‏)‏ بمشتقاته وتصاريفه في القرآن الكريم مائة وخمسا وستين‏(165)‏ مرة‏,‏ ومن هذه المرات جاء ذكر‏(‏ الموت‏)‏ في خمسة وثلاثين‏(35)‏ موضعا‏.‏ ويعرف‏(‏ الموت‏)‏ بأنه مفارقة الحياة‏,‏ وهو مصير محتوم علي كل حي بتقدير من الله تعالي‏,‏ لا يستطيع احد الهروب منه‏,‏ ولا التقدم أو التأخر عنه‏.‏ وقد فرضه ربنا تبارك وتعالي علي جميع خلقه ليفرق بين خلوده وفناء خلقه‏,‏ وديمومته‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ومرحلية جميع المخلوقين في هذه الحياة‏,‏ ليتفرد ـ جل جلاله ـ بالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏,‏ وليجبر المخلوقين علي الخضوع لجلاله بالموت‏,‏ مؤكدا لهم بمحدودية كل منهم بأجله‏,‏ لكي تستمر الحياة حسب مخططه ـ سبحانه وتعالي ـ جيلا بعد جيل حتي يرث الأرض ومن عليها‏.‏

ويعرف‏(‏ الموت‏)‏ بمفارقة الحياة بعد توقفها بالكامل‏,‏ وذلك لأنه ضد الحياة ونقيضها‏.‏ يقال للحي‏:(‏ مات‏)(‏ يموت‏)‏ و‏(‏يمات‏)‏ فهو‏(‏ ميت‏)‏ بتشديد الياء وتسكينها اذا فارقته الحياة‏.‏ ويستوي في ذلك المذكر والمؤنث لقول الله تعالي‏:‏
لنحيي به بلدة ميتا‏..(‏ الفرقان‏:49).‏
هذا‏,‏ وقد يعبر بـ‏(‏ الموتة الصغري‏)‏ عن النوم‏,‏ وذلك لقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ وهو الذي يتوفاكم بالليل‏...(‏ الأنعام‏:60),‏ ولقوله‏(‏ عز من قائل‏):‏ الله يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضي عليها الموت ويرسل الأخري إلي أجل مسمي‏...(‏ الزمر‏:42).‏
وفي قول ربنا‏(‏ وهو أحكم القائلين‏):‏ الذي خلق الموت ذكر أغلب المفسرين أن من معانيها أنه‏(‏ تعالي‏)‏ أوجد الخلائق من العدم‏,‏ واستشهدوا بحديث رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ الذي رواه قتادة‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ فقال‏:‏ كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول‏:‏ إن الله أذل بني آدم بالموت‏,‏ وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت‏,‏ وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء‏.(‏ رواه ابن أبي حاتم‏)‏

وأشار نفر من المفسرين إلي اختلاف المتكلمين في‏(‏ الموت‏)‏ حيث قال بعضهم‏:‏ إنه أمر موجود مخلوق وهو ضد الحياة‏,‏ وقال البعض الآخر‏:‏ إن الموت أمر عدمي فإذا انعدمت الحياة مات المخلوق الحي‏,‏ وبناء علي هذا الفهم اعتبروا‏(‏ خلق الموت‏)‏ الوارد في الآية الثانية من سورة الملك بمعني‏(‏ التقدير‏),‏ أي أن الله تعالي خلق الحياة لأنها أمر وجودي‏,‏ وقدر الموت بنهاية تلك الحياة‏,‏ فإذا جاء أجل النهاية انعدمت الحياة‏,‏ وقال البعض الآخر‏:‏ إن‏(‏ الموت‏)‏ أمر وجودي كالحياة‏,‏ أي أنه عند نهاية الحياة يخلق الله شيئا يسمي‏(‏ الموت‏),‏ ويؤكد ذلك حديث ذبح الموت الذي رواه أبوسعيد الخدري‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ عن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أنه قال‏:‏ يؤتي بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد‏:‏ يا أهل الجنة‏,‏ فيشرئبون وينظرون‏,‏ فيقول لهم‏:‏ هل تعرفون هذا؟ فيقولون‏:‏ نعم‏,‏ هذا الموت‏.‏ وكلهم قد رآه‏.‏ ثم ينادي‏:‏ يا أهل النار‏,‏ فيشرئبون وينظرون‏,‏ فيقول لهم‏:‏ هل تعرفون هذا؟ فيقولون‏:‏ نعم‏,‏ هذا الموت‏.‏ وكلهم قد رآه‏,‏ فيذبح‏,‏ ثم يقول المنادي‏:‏ يا أهل الجنة خلود فلا موت‏,‏ ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قول الحق تبارك وتعالي‏:‏ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لايؤمنون‏[‏ الآية‏39‏ من سورة مريم‏]‏ أخرجه البخاري ومسلم‏.‏

العلوم المكتسبة تثبت خلق الموت‏:‏
في العقود الثلاثة المتأخرة من القرن العشرين أثبتت دراسات الشيفرة الوراثية للإنسان أن تقدير الموت مبرمج فيها‏.‏ وتتكون الشيفرة الوراثية للجنين من التقاء نطفتي الرجل والمرأة فيتكامل عدد الجسيمات الصبغية إلي‏(46)‏ وهو العدد المحدد لنوع الإنسان حيث يحمل كل من النطفتين نصف هذا العدد‏(23‏ صبغيا فقط‏).‏ وبتكامل عدد الصبغيات يتحدد كل من الصفات السائدة التي سوف تظهر علي الجنين ـ إن قدر اللهتعالي له الحياة ـ والصفات المتنحية‏(‏ المستترة‏)‏ في شيفرته الوراثية لتظهر في نسله من بعده‏,‏ ومن هذه الصفات‏(‏ الأجل‏)‏ الذي تؤكد الآية القرآنية الكريمة التي نحن بصددها أنه مخلوق‏.‏ وفي ذلك يروي الإمام مسلم في صحيحه عن عبدالله بن مسعود‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ قال‏:‏ حدثنا رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وهو الصادق المصدوق قال‏:‏ إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك‏,‏ ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك‏,‏ ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات‏:‏ بكتب رزقه‏,‏ وأجله‏,‏ وعمله‏,‏ وشقي أو سعيد‏.‏
وقد أكدت الكشوف العلمية في دراسات الشيفرة الوراثية للإنسان حقيقة أن الموت مخلوق مع خلق الإنسان‏,‏ ومبرمج في داخل كل خلية نووية من خلاياه الحية بدقة بالغة علي النحو التالي‏:‏

‏(1)*‏ في سنة‏(1971‏ م‏)‏ اقترح العالم الروسي أولو فنيكوف‏(Olevnikov)‏ ضرورة وجود آلة محددة تفسر خروج عملية الانقسام في الخلايا السرطانية عن السيطرة‏.‏

‏(2)*‏ في سنة‏(1985‏ م‏)‏ تم اكتشاف هذه الآلة المحددة التي تفسر خروج عملية الانقسام في الخلايا السرطانية عن السيطرة وكانت إنزيما خاصا اكتشفه كل من جرايدر وبلاكبيرن‏(Greider&Blacburn)‏ وقد اكتشف أن هذا الإنزيم يختص ببناء غطاءين طرفيين لكل جسيم صبغي عرف كل منهما بـ الغطاء الطرفي‏(EndCaporTelomere)‏ وانطلاقا من هذا الاسم سمي الإنزيم المتحكم في بنائه باسم إنزيم تيلوميريز‏(Telomerase)‏ أو الأنزيم الباني للأغطية الطرفية للجسيم الصبغي‏.‏

‏(3)*‏ في سنة‏(1986‏ م‏)‏ اكتشف هوارد كوك‏(HowardCooke)‏ أن طول الغطاءين الطرفيين للجسيم الصبغي يتناقص مع كل انقسام تقوم به الخلية الحية‏,‏ وأن هناك علاقة مطردة بين فقد أجزاء من طول هذين الغطاءين الطرفيين وشيخوخة الخلية‏,‏ فإذا وصل طولهما إلي حد معين ماتت الخلية بعد توقفها عن الانقسام‏.‏
وتأكدت هذه النتائج باكتشاف أن طول الأغطية الطرفية في كل من الخلايا الجذعية‏(StemCells)‏ والخلايا المستنبتة من صغار السن أطول منها في خلايا كل من الكهول والشيوخ من كبار السن‏,‏ وأن قدرة هذه الخلايا النشيطة علي الانقسام تفوق قدرة خلايا كبار السن عدة مرات‏,‏ ومن هنا أطلق علي كل واحد من هذه الأغطية الطرفية للجسيمات الصبغية اسم عداد المضاعفات الانقسامية المتكررة‏(Replicometer)‏ أو عداد الأجل‏(LongivityMeter)‏ مما شجع بعض الباحثين مثل بودنار‏(Bodnar)‏ علي إعطاء إنزيم تيلوميريز لكبار السن لتأخير الشيخوخة ولكن اتضح أن هناك علاقة بين زيادة هذا الإنزيم في الخلايا ونشاطها السرطاني‏.‏

‏(4)*‏ في سنة‏(1989‏ م‏)‏ لاحظ مورين‏(Morin)‏ أن هناك علاقة واضحة بين زيادة إفراز إنزيم التيلوميريز‏(TheTelomeraseEnzyme)‏ في الخلية الحية وبين نشاطها في الانقسامات غير العادية المتسارعة والمعروفة باسم النشاط السرطاني‏.‏ وقد مهد ذلك لإمكانية معالجة الأمراض السرطانية بإيقاف نشاط هذا الإنزيم بواسطة عقار مضاد له أو للمورث المتسبب في إفرازه‏,‏ ولكن ذلك لم يتم بعد‏,‏ وإن حاوله شاي‏(Shay)‏ في سنة‏2001‏ م بفتح باب استخدام مثبطات إنزيم تيلوميريز لوقف الأنشطة السرطانية‏.‏
وبإثبات خلق الموت مع خلق الحياة ثبت أن الأجل مقدر في داخل الخلية الحية‏,‏ وأن كلا من الأمراض والأحداث العارضة والشيخوخة وغيرها من الأحداث الحيوية مقدر كذلك ومدون في الشيفرة الوراثية وذلك بواسطة طول الأغطية الطرفية للصبغيات‏,‏ ومايفرز من الإنزيم الباني لها مما يحدد عدد مرات انقسام كل خلية حية وبالتالي يحدد أجلها‏.‏

‏(5)*‏ بمجرد فقد الخلية الحية لقدرتها علي الانقسام فإنها تبدأ في فقد أجزاء من محتواها البروتيني من كل من السائل الخلوي والنواة‏,‏ وقد تتورم الخلية حتي تنفجر ملقية بمحتوياتها في الأنسجة المجاورة‏,‏ وقد تتعرض النواة إلي التفتت أو الانكماش‏.‏ وينتج ذلك عن فقد غشاء الخلية قدرته علي التحكم في مرور السوائل إلي داخل الخلية أو إلي خارجها‏,‏ مما يؤدي إلي انفجارها وتناثر مكوناتها التي تنفجر هي الأخري أو تلتهم بواسطة الخلايا المجاورة‏,‏ أو يؤدي ذلك إلي انكماشها مكونة عددا من الفقاقيع الغازية علي سطحها‏.‏
وهذه العمليات تتم بدقة فائقة مما حدا بالعلماء إلي تسميتها باسم الموت الخلوي المبرمج‏(‏ أو المقدر‏)[ProgrammedCellDeathOrPCD]‏ ويطلق عليه باللاتينية اسم‏(Apoptosis),‏ وهي خاصية داخلية في الخلية الحية توظف لصالح الجسد الذي يحتويها وهو حي‏,‏ وتحدد أجله عند لحظة الوفاة‏,‏ وتتم بواسطة عدد من العوامل الخاصة التي تعرف باسم عوامل الأمر بالموت‏(Apoptosis-InducingFactorsorA.I.F),‏ ومن هذه العوامل أعداد من مواد بروتينية خاصة تختزن في المسافات بين الطيات الغشائية للمتقدرات‏.‏ وهذه العوامل الآمرة بالموت تحدد في الأيام الأولي من الحمل وفق عدد من القوانين التي يأمر الخالق العظيم ببثها في الخلايا الحية لحظة خلقها ومنها جسد الإنسان‏.‏

‏(6)*‏ بذلك يدب الموت بالتدريج في خلايا كل جسد حي بدءا من العضيات الدقيقة في داخل الخلية إلي الخلايا ذاتها‏,‏ ثم الأنسجة فالأعضاء والأجهزة منتهيا بالانهيار الكامل للكائن الحي بالوفاة‏,‏ والتي يعلن عنها طبيا بوقف كل من القلب والرئتين عن العمل والانخفاض الملحوظ في درجة حرارة الجسم وتصلبه أو تخشبه‏,‏ وانتشار الزرقة فيه خاصة في كل من الشفاه والأطراف‏,‏ وظهور عدد من البقع الدموية علي الجلد‏,‏ وتوقف حركة العينين‏.‏ وباستخدام الأجهزة المتطورة في غرف العناية المركزة يمكن استنهاض عمل كل من القلب والرئتين‏,‏ وعلي ذلك فان الموت الحقيقي يتحدد بموت الدماغ‏,‏ والذي من أعراضه الدخول في إغماء كامل لا فواق منه والموت محدد سلفا في لحظة الخلق الأولي للكائن الحي‏.‏
‏(7)*‏ ومن قبل ألف وأربعمائة سنة نزل القرآن الكريم بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور‏(‏ الملك‏:2).‏

ولم يدرك أحد من الخلق حقيقة أن الموت مخلوق كالحياة‏,‏ وفي نفس الوقت الذي تخلق فيه الحياة إلا في العقدين المتأخرين من القرن العشرين‏.‏ وسبق القرآن الكريم بتقرير ذلك مما يثبت لكل ذي بصيرة بأنه لايمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية والذي لم يقطعه لرسالة سابقة أبدا ـ وحفظه في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ وتعهد بذلك الحفظ الكامل حتي قيام الساعة ليبقي القرآن الكريم العظيم حجة علي جميع الخلق ـ عربهم وعجمهم إلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏.‏

فالحمد لله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله علي بعثة سيد الأنام‏,‏ سيدنا محمد بن عبدالله صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏