الله يعلم ما تحمل كل أنثي وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار ‏(‏ الرعد‏:8)‏
هـذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في مطلع الخمس الثاني من سورة الرعد وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها‏(43)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي حقيقة أن الرعد ـ وهو من الظواهر الجوية المصاحبة للسحب الركامية ـ يمثل صورة من صور تسبيح تلك الظواهر لله‏(‏ تعالي‏),‏ إنطلاقا من قوله‏(‏ سبحانه وتعالي‏):‏
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا
‏(‏الإسراء‏:44)‏

ويدور المحور الرئيسي لسورة الرعد حول ركائز العقيدة الإسلامية ومن أولاها الإيمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ ربا واحدا أحدا‏,‏ فردا صمدا‏,‏ وتنزيهه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عن الشريك والشبيه‏,‏ والمنازع‏,‏ والصاحبة والولد‏,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله‏,‏ والخضوع له وحده بالعبودية الكاملة‏,‏ والإيمان بملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبما فيه من بعث‏,‏ وحشر‏,‏ وحساب وجنة ونار‏,‏ كما جاء في كل رسالات السماء‏,‏ وتكامل وحفظ في الرسالة الخاتمة التي بعث بها النبي والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ والمتمثلة في القرآن الكريم وفي سنة هذا الرسول الأمين‏.‏
وقد استهلت سورة الرعد بأربعة من الحروف الهجائية المقطعة هي‏(‏ أ ل م ر‏)‏ والتي جاءت مرة واحدة في القرآن الكريم كله بهذه الصيغة‏,‏ والمقطعات التي استهلت بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم هي من أسرار هذا الكتاب العزيز التي توقف الكثير من علماء المسلمين عن الخوض في تفسيرها‏,‏ موكلين الأمر فيها إلي الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وحاول البعض تفسيرها فقيل فيها إنها قد تكون رموزا إلي كلمات أو معان أو أعداد معينة في السور التي افتتحت بها‏,‏ أو إنها أسماء لتلك السور‏,‏ أو انها جاءت في مقام التحدي للعرب بالقرآن الكريم الذي لم يتجاوز حروف لغتهم‏,‏ وعلي الرغم من ذلك فإنهم لم ولن يستطيعوا الإتيان بشيء من مثله‏.‏

وقيل في هذه المقطعات إنها وسيلة من وسائل قرع الأسماع وتحريك القلوب كي تتنبه لتلقي كلام رب العالمين‏,‏ أو إنها شهادة علي صدق نبوة رسول الله‏(‏ صلي الله عليه و سلم‏)‏ لنطقه فيها بأسماء الحروف ـ وهو الأمي ـ والأمي لا يعرف أسماء الحروف وإن نطق بأصواتها‏,‏ أو هي كل ذلك وغيره مما لا يعلمه إلا الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏
وبعد هذا الاستهلال انتقلت السورة الكريمة مباشرة إلي مخاطبة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ مؤكدة أن القرآن الكريم هو الحق الذي أنزل إليه من ربه وإن كان أكثر الناس لا يؤمنون بذلك فتقول‏:‏
المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون
‏(‏ الرعد‏:1)‏

ثم استشهدت سورة الرعد بعدد من الحقائق الكونية علي وجود الله وعلي طلاقة قدرته في إبداع خلقه‏,‏ وعلي هيمنة سلطانه فوق هذا الخلق‏,‏ وذلك من أجل إقناع الناس بحتمية العودة إلي ربهم ولقائه‏,‏ وطالبتهم بالتفكر في آيات الله المبثوثة في الكون‏,‏ وباستخدام العقل في تدبرها من أجل اليقين بالخالق العظيم وبقدرته وبحتمية الآخرة وضرورتها‏.‏
واستنكرت الآيات موقف الكفار من قضية البعث‏,‏ واستبعادهم لإمكانية تحققه بعد تحلل الأجساد وتحولها إلي تراب‏,‏ و تخاطب خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في ذلك لتقول‏:‏

وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏(‏ الرعد‏:5).‏
وتعرض الآيات لشيء من عقاب هؤلاء المكذبين بالبعث في يوم القيامة‏,‏ والذين كانوا من فرط ضلالهم يستعجلون وقوع عذاب الله بهم بدلا من طلب الهداية والرحمة منه‏,‏ وقد مضت عقوبات أمثالهم من الأمم التي كفرت من قبل بربها فأهلكها الله‏(‏ تعالي‏)‏ بذنوبها‏,‏ ولا يزال الإيمان و الكفر يقسمان البشرية كلها إلي فسطاطين متمايزين إلي يوم الدين‏,‏ والله‏(‏ تعالي‏)‏ غفار للذنوب ولكنه في الوقت نفسه شديد العقاب‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس علي ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب
‏(‏الرعد‏:6)‏

كذلك تنعي سورة الرعد علي الكافرين طلبهم للمعجزات الحسية من رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بدلا من القرآن الكريم‏,‏ جحودا به‏,‏ وإنكارا لفضله‏,‏ و ترد عليهم الآيات بأن رسالة الرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ كانت هي رسالة كل نبي وكل رسول من قبله‏,‏ ألا وهي الدعوة إلي دين الله والإنذار بعذابه فتقول‏:‏
ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد‏(‏ الرعد‏:7)‏

وبعد ذلك تستعرض سورة الرعد جانبا من صفات الله‏(‏ تعالي‏)‏ لتقول‏:‏
الله يعلم ما تحمل كل أنثي وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار‏*‏ عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال
‏(‏ الرعد‏:8‏ و‏9)‏

وتؤكد الآيات أنه لا يغيب شيء عن علم الله مهما حاول صاحبه الاستئثار به لنفسه والاستتار عن المخلوقين به‏,‏ فهو‏(‏ تعالي‏)‏ يعلم جميع أحوال خلقه‏,‏ وكل أقوالهم و أفعالهم‏,‏ ما يسرون به و ما يعلنون‏,‏ وما يحدثونه بالليل أو بالنهار‏,‏ فعلمه محيط بكل شيء‏,‏ وبالاضافة إلي علمه المحيط أوكل ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بكل فرد من الناس ملائكة تحفظه بأمر الله‏(‏ تعالي‏),‏ وتحفظ عنه‏,‏ وتتناوب علي حفظه من أمامه ومن خلفه ولذلك تقول الآيات‏:‏
سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار‏*‏ له معقبات من بين يديه و من خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ومالهم من دونه من وال‏.‏
‏(‏الرعد‏:10‏ و‏11)‏

وتضيف الآيات جانبا آخر من صفات الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ منها أنه خالق البرق‏,‏ يخيف به عباده ويمنيهم به‏,‏ وهو‏(‏ تعالي‏)‏ منشيء السحاب الثقال‏,‏ وهو الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته‏,‏ والذي يرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء‏,‏ وهو صاحب دعوة الحق‏,‏ وكل ما سواه باطل‏,‏ وهو الذي يسجد له من في السماوات ومن في الأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال‏,‏ ومع ذلك يجادل الكافرون في الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وهو القوي الذي لا يرد بأسه‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشيء السحاب الثقال‏*‏ ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال‏*‏ له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلي الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال‏*‏ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال
‏(‏الرعد‏:12‏ ـ‏15)‏

وفي التأكيد علي نفي الشرك طلبت الآيات من رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أن يسأل الكفار والمشركين عن رب السماوات والأرض‏,‏ وأن يؤكد لهم أنه هو الله‏,‏ خالق كل شيء‏,‏ وهو الواحد القهار‏,‏ وساقت الآيات عددا من الأمثال لكل من الحق والباطل فتقول‏:‏
قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمي والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار
‏(‏الرعد‏:16)‏

واستمرت الآيات في سوق الأمثال علي كل من الحق والباطل‏,‏ ووصف مصائر أهل كل منهما فتقول‏:‏
للذين استجابوا لربهم الحسني والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد
‏(‏الرعد‏:18)‏

وفي وصف أهل الحق وذم أهل الكفر والشرك والضلال تقول الآيات‏:‏
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمي إنما يتذكر أولو الألباب‏*‏ الذين يوفون بعهد الله و لا ينقضون الميثاق‏*‏ والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب‏*‏ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرأون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبي الدار‏*‏ جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب‏*‏ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار‏.(‏ الرعد‏:19‏ ـ‏24)‏

وفي وصف أهل الباطل تقول الآيات‏:‏
والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار‏*‏ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع‏*‏ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب‏.(‏ الرعد‏:25‏ ـ‏27)‏

وتعاود الآيات مدح المؤمنين فتقول‏:‏
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب‏*‏ الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبي لهم وحسن مئاب
‏(‏ الرعد‏:28‏ و‏29).‏

وتعاود الآيات توجيه الخطاب إلي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ فتقول‏:‏
كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب‏(‏ الرعد‏:30)‏
وتمتدح الآيات القرآن الكريم فتقول لو ثبت أن كتابا يقرأ فتتحرك به الجبال من أماكنها‏,‏ أو تتصدع به الأرض فتتباعد أجزاؤها عن بعضها البعض‏,‏ أو يخاطب به الموتي لكان ذلك هو القرآن الكريم‏,‏ و لكن الكافرين والمشركين معاندون في الإيمان به‏,‏ ومتشككون في صدق وحيه ولله الأمر ـ الذي لو يشاء لهدي الناس جميعا‏,‏ ولكن لحكمة يعلمها‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ سوف يبقي الكافرون في معاصيهم حتي تصيبهم القوارع أو تحل قريبا من دارهم‏,‏ وهذا هو وعد الله الذي لا يخلف الميعاد‏.‏

وتواسي الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وتطمئن خاطره فتقول‏:‏
ولقد استهزيء برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب‏*‏ أفمن هو قائم علي كل نفس بما كسبت‏,‏ وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لايعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل‏*‏ ومن يضلل الله فما له من هاد‏*‏ لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق‏(‏ الرعد‏:32‏ ـ‏34).‏

وفي إيجاز معجز وصفت الآيات الجنة وجعلتها عقبي الذين اتقوا‏,‏ وجعلت عقبي الكافرين النار‏.‏ وتشير إلي أن من المفروض أن يفرح أهل الكتاب بالقرآن الكريم الذي تكاملت فيه كل الرسالات السماوية السابقة‏,‏ ولكن من متعصبيهم من ينكره أو ينكر بعضه‏,‏ وتوجه خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أن يرد عليهم ـ وقد تعجبوا من كونه نبيا وله أزواج وذرية‏,‏ وطالبوه بمعجزة غير القرآن الكريم فتقول له‏:‏
‏...‏ قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب‏*‏ وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق‏*‏ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب‏*‏ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب‏*‏ وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب‏(‏ الرعد‏:36‏ ـ‏40).‏

أي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يمحو ما يشاء من شرائع ويثبت ما يشاء‏,‏ وأن أصل ذلك كله عنده‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وما علي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ إلا البلاغ وحساب العباد يبقي علي رب العباد‏.‏
وتؤكد الآيات بعد ذلك علي حقيقة إنقاص الأرض من أطرافها‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)...‏ يحكم لامعقب لحكمه وهو سريع الحساب‏(‏ الرعد‏:41)‏

ثم في صيغة من صيغ التهديد الإلهي تشير الأيات إلي مكر الكفار والمشركين من الأمم السابقة علي زمن قريش وكيف كان عقابهم فتقول‏:‏

وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبي الدار‏(‏ الرعد‏:42).‏

وتختتم سورة الرعد بخطاب كريم من رب العالمين إلي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ مؤكدا له أنه إذا كان من مراء كل من الكفار والمشركين‏,‏ وصلفهم‏,‏ وعنادهم‏,‏ إنكار نبوته‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ فإن الله‏(‏ جلت قدرته‏)‏ شاهد علي صدق هذه النبوة الخاتمة‏(‏ وكفي بالله شهيدا‏),‏ وأن كل من عنده بقية علم مما أنزل الله في الكتب السماوية السابقة يجد عنده ما يؤكد ذلك‏,‏ ولكنه الكبر والصلف والعناد الذي يدحضه قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفي بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب‏(‏ الرعد‏:43)‏

من ركائز العقيدة في سورة الرعد
‏(1)‏ الإيمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ ربا و احدا أحدا‏,‏ فردا صمدا‏,‏ لا إله غيره‏,‏ ولا شريك له في ملكه‏,‏ ولا منازع له في سلطانه‏,‏ ولا صاحبة له ولا ولد‏,‏ وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق السماوات والأرض‏,‏ وخالق كل شيء‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه‏)‏ هو الذي رفع السماوت بغير عمد مرئية‏,‏ ثم استوي علي العرش‏(‏ استواء يليق بجلاله‏)‏ وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي‏,‏ و أنه‏(‏ تعالي‏)‏ يدبر أمور الكون‏,‏ وهو ذو مغفرة للناس علي ظلمهم‏,‏ وهو في نفس الوقت شديد العقاب‏,‏ وأنه علي كل شيء قدير‏,‏ وأنه يفصل الآيات للناس لعلهم يوقنون بلقائه‏,‏ وأنه يعلم ما تكسب كل نفس ويعلم ما تحمل كل أنثي‏,‏ وما تغيض الأرحام وما تزداد‏,‏ وكل شيء عنده بمقدار‏,‏ وأنه هو عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال‏.‏
‏(2)‏ اليقين بالقرآن الكريم وحيا خاتما منزلا من رب العالمين علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وأنه كتاب معجز في كل أمر من أموره‏,‏ لأنه كلام رب العالمين‏,‏ وأنه الحق وما سواه الباطل‏.‏
‏(3)‏ التسليم بحتمية البعث بعد الموت‏,‏ وبضرورة التوكل علي الله وحده والتوبة إليه قبل الموت‏.‏
‏(4)‏ الإيمان بأن كل إنسان موكل به عدد من الملائكة الذين يحفظونه بأمر الله‏(‏ تعالي‏),‏ ويحفظون عنه جميع أقواله وأفعاله‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ لايغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ إذا أراد بقوم سوءا فلا مرد له‏,‏ وما للخلق من دونه من وال‏.‏
‏(5)‏ اليقين بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يرينا البرق خوفا وطمعا‏,‏ وينشيء السحاب الثقال‏,‏ وأن كل ما في الوجود من ملائكة‏,‏ وأحياء‏,‏ وجمادات‏,‏ وظواهر كونية كالرعد‏,‏ كل ذلك يسبح بحمد الله ومن خيفته‏(‏ إما تسبيحا فطريا إختياريا لا إرادة فيه‏,‏ أو تسبيحا إختياريا إراديا يؤجر فاعله عليه‏),‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء‏,‏ وأن جميع من في السماوات والأرض يسجد لله طوعا وكرها وظلالهم بالغدو أي بالظهيرة‏,‏ والآصال أي وفي وقت الأصيل‏(‏ عندما تقصر الظلال إلي أقل أطوالها‏,‏ وحين تطول إلي أقصي حدودها‏)‏ خشية لله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وخوفا من حسابه‏.‏
‏(6)‏ التسليم بأن لله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ دعوة الحق‏,‏ وأن دعوة كل من المشركين والكافرين في ضلال‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يضل من يشاء وأن من يضلل الله فما له من هاد‏,‏ ويهدي إليه من أناب‏,‏ مع اليقين بأنه لو يشاء الله لهدي الناس جميعا‏,‏ وأن الشرك بالله‏(‏ سبحانه‏)‏ كفر به‏,‏ وأن للذين استجابوا لربهم الحسني‏,‏ وأن الذين لم يستجيبوا لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد‏,‏ لأنهم ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه‏,‏ ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض‏,‏ بينما للمؤمنين بالله جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم‏.‏
‏(7)‏ الإيمان ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وأن لهذه البعثة الشريفة العديد من البشارات في جميع الكتب السماوية السابقة علي تنزل القرآن الكريم‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة الرعد
جاء في سورة الرعد إشارات إلي عدد من حقائق الكون وآفاقه وظواهره نوجز منها مايلي‏:‏
‏(1)‏ رفع السماوات بغير عمد مرئية‏.‏
‏(2)‏ تسخير الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي‏,‏ والعلوم المكتسبة تثبت اليوم أن الشمس تفقد من كتلتها علي هيئة طاقة مايساوي‏4,6‏ مليون طن من المادة في كل ثانية مما يشير إلي أنها إلي زوال وتثبت العلوم المكتسبة كذلك أن القمر يبتعد عن الأرض بمعدل‏3‏ سم في كل سنة فهو أيضا حتما إلي زوال‏.‏ وكل من الشمس والقمر لن ينتهيا بهاتين السنتين الدنيويتين لأن الآخرة لها من السنن والقوانين مايغاير سنن الدنيا تماما‏,‏ ولكن أبقي الله‏(‏ تعالي‏)‏ هاتين السنتين شاهدتين علي أن لكل من الشمس والقمر أجل مسمي‏.‏

‏(3)‏ الإشارة إلي كل من مد الأرض‏(‏ بمعني تكويرها لأن المد إلي ما لانهاية هو التكوير‏),‏ وخلق الجبال رواسي فيها‏,‏ وعلاقة ذلك بتكوين الأنهار وربطه بتدفقها بالماء الذي أنزله الله بقدر‏,‏ ودفعه في الأودية بقدر كذلك وبمشيئة الله وإرادته‏.‏
‏(4)‏ التنبيه إلي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ خلق الثمرات النباتية‏(‏ كما خلق كل شيء‏)‏ في زوجية واضحة حتي يبقي ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ متفردا بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏.‏

‏(5)‏ الإشارة الضمنية الرقيقة إلي كل من كروية الأرض ودورانها حول محورها أمام الشمس بتعبير إغشاء الليل بالنهار‏.‏
‏(6)‏ الإشارة إلي أن بالأرض قطع متجاورات مما يتضمن تمزيق الغلاف الصخري للأرض‏,‏ بشبكة هائلة من الصدوع إلي عدد من الألواح المتجاورة‏,‏ والتي تتجاور في كل منها صخور متباينة في صفاتها الطبيعية والكيميائية والمعدنية‏,‏ ومن ثم في أنواع التربة الناتجة عن تحلل كل منها‏(‏ بواسطة عوامل التعرية المختلفة ومنها التجوية والتحات‏)‏ وفي تباين كل من ذلك في ظروفه البيئية‏(‏ المناخية والتضاريسية‏)‏ وفي قدرته علي الإنبات‏.‏
‏(7)‏ خلق جنات من أعناب في الأرض‏,‏ وخلق الزرع والنخيل من أصل واحد ومن أصول متفرقة‏,‏ يسقي بماء واحد‏,‏ ويفضل الله‏(‏ تعالي‏)‏ بعضها علي بعض في الأكل‏,‏ وفي ذلك إشارة إلي تنوع المجتمعات النباتية علي التربة الواحدة‏,‏ التي تسقي بماء واحد‏,‏ في الظروف البيئية الواحدة‏,‏ مما يلمح إلي ما أودعه الله‏(‏ تعالي‏)‏ من أسرار في كل نبتة من نباتات الأرض‏(‏ من مثل الشيفرة الوراثية‏)‏ وانعكاسات ذلك علي الاختلاف في الطعوم والألوان والأشكال والأحجام‏.‏

‏(8)‏ الإشارة إلي تحول أجساد أحياء الأرض إلي تراب بعد الموت‏,‏ وإلي حقيقة بعثها من هذا التراب‏.‏
‏(9)‏ التأكيد علي علم الله‏(‏ تعالي‏)‏ بما تحمل كل أنثي‏,‏ وبما تغيض الأرحام وماتزداد وأن كل شيء عنده بمقدار‏.‏

‏(10)‏ الإشارة إلي تكون الرعد‏,‏ وإرسال الصواعق‏,‏ وربطها بإنشاء السحاب الثقال‏.‏
‏(11)‏ ذكر سجود كل من في السماوات والأرض لله‏(‏ تعالي‏)‏ طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال‏.‏

‏(12)‏ المقابلة العلمية الدقيقة بين الظلمات والنور‏.‏
‏(13)‏ تشبيه الحق بما يمكث في الأرض وينفع الناس من الثروات المعدنية التي تحملها السيول‏,‏ وتشبيه الباطل بالزبد الطافي علي وجه السيل‏,‏ أو بالخبث الذي يطفو فوق أسطح الفلزات النفيسة حال صهرها لتنقيتها مما تحمله من شوائب‏.‏

‏(14)‏ الإشارة إلي حقيقة إنقاص الأرض من أطرافها‏.‏
‏(15)‏ التأكيد علي قيمة العقل في حياة الإنسان‏,‏ وعلي حتمية توظيفه في التفكير الجاد وفي دراسة الأنفس والآفاق‏,‏ وفي التحقق من البشارات بمقدم خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ فيما بقي من آثار الكتب السماوية السابقة علي بعثته الشريفة‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة التاسعة من القائمة السابقة والتي تتعلق بعلم الله‏(‏ تعالي‏)‏ بما تحمل كل أنثي‏,‏ وما تغيض الأرحام وماتزداد‏,‏ وبأن كل شيء عنده بمقدار‏.‏

من الدلالات اللغوية للآية الكريمة
‏(‏ ما‏)‏ في قوله تعالي‏(‏ ماتحمل‏),‏ و‏(‏ ماتغيض‏),‏ و‏(‏ماتزداد‏)‏ اسم وصل بمعني‏:(‏ الذي‏),‏ أي علم الذي تحمله كل أنثي علما شموليا قاطعا غير مقصور علي الذكورة أو الأنوثة‏,‏ والصحة أو المرض‏,‏ ولكن يشمل الأجل‏,‏ والرزق‏,‏ والشقاوة أو السعادة‏,‏ ومكان الموت إلي غير ذلك من الأحوال الآنية والمستقبلية فضلا عن حقيقة أنه سيكون أو لايكون‏,‏ وبمعني الذي تنقصه الأرحام بالتحلل أو الإسقاط أو تزيده باكتمال الحمل‏.‏
وقد تكون‏(‏ ما‏)‏ هنا مصدرية بمعني يعلم حمل كل أنثي‏,‏ وغيض الأرحام وازديادها أي نقصها وزيادتها‏.‏

ويقال‏(‏ غاض‏)‏ الماء‏(‏ غيضا‏)‏ و‏(‏ مغاضا‏)‏ و‏(‏مغيضا‏)‏ أي قل ونضب‏,‏ و‏(‏ انغاض‏)‏ مثله‏,‏ و‏(‏غيض‏)‏ الماء فعل به ذلك‏,‏ ويقال‏(‏ غاضه‏)‏ و‏(‏أغاضه‏)‏ بنفس المعني‏,‏ وفي قوله تعالي‏(‏ وما تغيض الأرحام وماتزداد‏)‏ أي ماينقص من الأرحام بسقوط الجنين او بتحلله واذابته في سوائل الجسم وامتصاصه فيجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض ومن هنا كان الإعجاز في استعمال الفعل‏(‏ تغيض‏),‏ أو ماتزداد من اكتمال نمو الجنين إلي مرحلة الحميل الكامل‏.‏
فـ‏(‏ الغيضة‏)‏ و‏(‏ المغيض‏)‏ هي المكان الذي يجتمع فيه الماء ويقف حتي تبتلعه الأرض والجمع‏(‏ غياض‏)‏ و‏(‏ غياض‏).‏ وليلة‏(‏ غائضة‏)‏ أي مظلمة‏,‏ وذلك لأن‏(‏ الغين‏)‏ و‏(‏ الياء‏)‏ و‏(‏ الضاد‏)‏ أصل يدل علي النقصان والغموض والقلة كما جاء في قوله‏(‏ تعالي‏):..‏ وغيض الماء‏....(‏ هود‏:44),‏ وجاء في الآية التي نحن بصددها‏:....‏ وماتغيض الأرحام وماتزداد‏...(‏ الرعد‏:8).‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة
يقدر متوسط طول نطفة الرجل بحوالي‏(0,005)‏ من الملليمتر أو‏(5‏ ميكرون‏)‏ ويقدر مايخرج مع كل دفقة من المني أكثر من مائتي مليون نطفة‏(‏ حيمن أو حيوان منوي‏),‏ لايصل منها إلي البييضة إلا بضع مئات قليلة‏(‏ لاتتعدي الخمسمائة في المتوسط‏),‏ ويهلك أغلب هذه النطف الذكرية في طريقها إلي البييضة التي لاتسمح إلا لواحد منها فقط بالولوج إلي داخلها‏,‏ وقد يوفق في إخصابها أو لايوفق‏.‏ والمعروف طبيا أن أقل كثافة للنطف الذكرية الصالحة للإخصاب هي عشرين مليون نطفة في كل ملليلتر من المني‏.‏ ولذلك يروي عن المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قوله‏:‏ مامن كل الماء يكون الولد‏,‏ وإذا أراد الله خلق شئ لم يمنعه شئ‏(‏ أخرجه الإمام مسلم‏).‏
أما نطفة المرأة البييضة فيبلغ قطرها‏(20‏ و‏0)‏ من الملليمتر‏(‏ أي مائتي ميكرون أو أربعين ضعف طول نطفة الرجل‏).‏ وعدد البييضات في جنين الأنثي يتراوح بين أربعمائة ألف وستة ملايين‏,‏ وهذا العدد الهائل لايبقي منه إلي سن البلوغ سوي بضعة آلاف قليلة‏,‏ تنمو منها واحدة في كل شهر طوال الفترة التناسلية للأنثي‏(‏ من سن البلوغ إلي سن اليأس‏)‏ بمجموع لايتعدي الأربعمائة بييضة علي طول هذا العمر‏.‏ ومن الثابت طبيا أنه بالتقاء النطفتين‏:‏ نطفة الزوج ونطفة الزوجة تتكون النطفة الأمشاج‏(‏ المختلطة‏)‏ التي تمثل مرحلة الإخصاب بإذن الله‏(‏ تعالي‏),‏ وفي ذلك أخرج الإمام أحمد في مسنده أن يهوديا مر برسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وهو يحدث أصحابه‏,‏ فقالت قريش‏:‏ يايهودي إن هذا يزعم أنه نبي‏.‏ فقال لأسألنه عن شيء لايعلمه إلا نبي‏,‏ فقال‏:‏ يامحمد‏!‏ مم يخلق الإنسان؟ فقال رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ يايهودي‏:‏ من كل يخلق‏:‏ من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة‏.‏

وتبدأ النطفة الأمشاج في الانقسام السريع حتي تشبه التويته‏(Morula)0‏ ثم تتحول إلي كيسة أرومية‏(Blastocyst),‏ ثم تبدأ في الانغراس في بطانة جدار الرحم في اليوم السادس من تاريخ الإخصاب إلي اليوم الرابع عشر‏,‏ وتستطيل هذه الكيسة الأرومية لتأخذ شكل دودة العلق هيئة ووظيفة‏(‏ طور العلقة‏),‏ الذي يستمر إلي حوالي اليوم الخامس والعشرين من عمر الجنين‏,‏ ثم يبدأ في‏(‏ طور المضغة‏)‏ الذي يستمر إلي نهاية الأسبوع السادس من عمر الجنين‏(‏ اليوم الثاني والأربعون تقريبا‏),‏ ثم يبدأ‏(‏ طور تخلق العظام‏)‏ الذي يستمر إلي حوالي اليوم التاسع والأربعين‏,‏ ثم يبدأ‏(‏ طور كسوة العظام لحما‏)‏ أي بالعضلات والجلد الذي يستمر إلي نهاية الأسبوع الثامن من عمر الجنين‏(‏ اليوم السادس والخمسون تقريبا‏)‏ ثم ينشئه الله تعالي خلقا آخر‏(‏ طور النشأة‏)‏ الذي يستمر إلي نهاية فترة الحمل‏(‏ نهاية الأسبوع الثامن والثلاثين أو اليوم السادس والستين بعد المائتين‏)‏ إذا قدر الله‏(‏ تعالي‏)‏ له ذلك‏.‏
وتقسم هذه الفترة إلي مرحلة الجنين التي تنتهي بنهاية الأسبوع السادس من تاريخ الاخصاب وهي فترة التعضي أي تخلق الأعضاء المختلفة‏,‏ والتي لايزيد طول الجنين في نهايتها عن‏(15‏ مم‏),‏ ويصفها المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقوله الشريف‏:‏

إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكا فصورها‏,‏ وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها‏,‏ ثم قال يارب‏:‏ ذكر أو أنثي؟ فيقضي ربك مايشاء‏(‏ أخرجه الإمام مسلم في صحيحه‏).‏
أما الفترة التالية فتعرف باسم فترة الحميل ويزداد كل من حجمه ووزنه خلالها بالتدريج حتي يصل طوله إلي حوالي‏500‏ مم‏,‏ ويصل وزنه إلي ثلاثة كيلوجرامات ونصف في المتوسط‏.‏

و مرحلة الجنين هي أخطر المراحل في حياة الأم‏,‏ فعلي الرغم من هذا الاصطفاء الإلهي لكل من الزوجين‏,‏ والاصطفاء للنطفتين اللتين تنجحان في إتمام عملية الإخصاب من بين ملايين النطف حتي يتم تكوين النطفة الأمشاج‏,‏ فإن الدراسات الطبية تشير إلي أن حوالي‏78%‏ من كل حمل يجهض ويتم إسقاطه‏,‏ أو يتم تحلله وامتصاصه في داخل الرحم‏,‏ وأن قرابة‏50%‏ من هذه الحالات تفشل قبل أن تعلم الأم أنها قد حملت بالفعل‏,‏ وفي ذلك يقول المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏
إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكا فقال‏:‏ يارب مخلقة أو غير مخلقة‏.‏ فإن قال‏:‏ غير مخلقة مجتها الأرحام دما وإن قال مخلقة قال أي رب شقي أم سعيد؟ ما الأجل؟ ما الأثر؟ وبأي أرض تموت؟‏(‏ أخرجه الإمام ابن أبي حاتم وغيره عن عبدالله بن مسعود‏).‏

ومن هنا كان الإعجاز في قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
الله يعلم ماتحمل كل أنثي وماتغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار
‏(‏الرعد‏:8)‏

وإن استطاع الطب معرفة جنس الجنين‏,‏ ومعرفة بعض الأمراض الوراثية التي قد تصيبه منذ الشهر الرابع للحمل في زمن تفجر المعرفة الذي نعيشه فإن علم الله‏(‏ تعالي‏)‏ أكثر إحاطة وشمولا من ذلك‏,‏ فالله يعلم كل صفات الجنين الآنية كما يعلم كل الغيب الذي يتعلق بهذا الجنين إلي لحظة مماته‏,‏ والطب يقرأ شيئا من الصفات الآنية للجنين أو لعدد من الأجنة إن استطاع ذلك‏,‏ والله‏(‏ تعالي‏)‏ يعلم ماتحمل‏(‏ كل‏)‏ أنثي علي وجه الأرض من الإنسان والحيوان والنبات ولايستطيع كل اطباء وعلماء الأرض أن يعلموا ذلك ولو اجتمعوا له‏.‏
والتعبير بجملة‏(‏ ماتغيض الأرحام‏)‏ تعبير معجز‏,‏ دقيق وشامل عن ظاهرة التحلل أو الإسقاط التلقائي للأجنة خلال أطوارها المبكرة‏,‏ ففي عدد من الإحصائيات الطبية ثبت أن‏15%‏ إلي‏50%‏ فقط من الأجنة تثبت في عملية انغراسها بجدار الرحم‏,‏ وأن كثيرا من عمليات الإجهاض قد يصاحبها تحلل الجنين في داخل الرحم وامتصاصه‏,‏ تماما كما يغيض الماء في التربة عالية المسامية وعالية النفاذية‏,‏ وبذلك فلا يعلم إلا الله‏(‏ تعالي‏)‏ ماتغيضه بلايين الأرحام في اللحظة الواحدة‏,‏ ولايستطيع كل أطباء وعلماء الأرض إحصاء ذلك لاستحالة إدراك سقوط أو تحلل الأجنة في مراحلها الأولي للضآلة المتناهية لأحجامها‏,‏ وكثرة كميات الدم التي يمجها الرحم في حالات الإسقاط‏.‏

وفي التعبير القرآني‏(‏ وماتزداد‏)‏ إعجاز آخر لأن وزن الجنين في نهاية الشهر الثاني من عمره لايتعدي خمسة جرامات‏,‏ ولايزيد طوله علي‏3‏ ـ‏5‏ سم‏,‏ بينما يصل وزنه في نهاية الشهر التاسع إلي حوالي ثلاثة كيلوجرامات ونصف في المتوسط‏,‏ ويصل طوله إلي قرابة نصف المتر‏.‏
وفي قوله‏(‏ تعالي‏):‏ وكل شيء عنده بمقدار إشارة إلي تقدير كل شيء بدقة بالغة بما في ذلك عدد وصفات المخلوقين‏,‏ ونسب الإناث إلي الذكور‏,‏ ونسب المرضي بأمراض خلقية موروثة إلي الأصحاء‏,‏ ونسب المعاقين إلي المعافين من هؤلاء‏,‏ وأنواع الإعاقات المختلفة‏,‏ ونسب الشفاء منها إلي عدم الشفاء‏,‏ وغير ذلك من أسرار ما تغيض به الأرحام أو تزداد‏,‏ لأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هو الذي يقر في الأرحام مايشاء‏.‏

فسبحان الذي أنزل القرآن بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏),‏ وحفظه حفظا كاملا‏:‏ كلمة كلمة‏,‏ وحرفا حرفا علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية‏,‏ وتعهد بذلك إلي أن يرث الأرض ومن عليها‏.‏ ومن هنا فإن علي كل مسلم ومسلمة أن يحمد الله‏(‏ تعالي‏)‏ حمدا كثيرا علي نعمة الإسلام‏,‏ وعلي نعمة القرآن الكريم‏,‏ وعلي بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏,‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏