هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم
هـذه الآية الكريمة جاءت في مطلع سورة آل عمران‏,‏ وهي سورة مدنية‏,‏ ومن طوال سور القرآن الكريم إذ تحوي مائتي آية بعد البسملة‏,‏ وبذلك تأتي في المقام الثالث بعد سورتي البقرة والأعراف من حيث عدد الآيات‏.‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي قصة امرأة عمران وابنتها السيدة مريم أم عبدالله ورسوله عيسي‏(‏ عليه السلام‏),‏ كما تروي معجزة ميلاده بغير أب‏,‏ وتذكر عددا من المعجزات التي أجراها الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي يديه لتشهد له بالنبوة وبالرسالة‏.‏ ويدور جزء كبير من هذه السورة المباركة حول حوار أهل الكتاب‏,‏ ويدور باقي السورة حول تحديد ركائز العقيدة الاسلامية وعدد من تشريعاتها‏.‏
وتستفتح السورة بالحروف المقطعة الثلاثة‏(‏ ألم‏)‏ التي جاءت في مطلع ست من سور القرآن الكريم‏.‏ وقد أوردنا التعليق علي هذه المقطعات في عدد من المقالات السابقة‏,‏ ولا أري ضرورة لتكرار ذلك هنا‏.‏ وبالاضافة إلي توكيد وحدانية الله‏,‏ وحقيقة انزال القرآن الكريم من لدن رب العالمين الذي أنزل التوراة والانجيل من قبل‏,‏ تتضمن سورة آل عمران إشارة الي اليهود‏,‏ وإلي خبث نواياهم‏,‏ وتآمرهم علي غيرهم من الأمم‏,‏ وإلي مكرهم‏,‏ وخداعهم‏,‏ وكراهيتهم للحق وأهله‏,‏ كما تتضمن تحذيرا للمسلمين منهم وممن يلتف حولهم من أهل الشرك والكفر والضلال‏.‏

وقد جاء الخطاب إلي أهل الكتاب في قرابة السبعين آية‏(‏ من الآية‏18‏ إلي الآية‏85)‏ نختار منها هنا قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
قل ياأهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولايتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
‏(‏آل عمران‏:64)‏

وتؤكد سورة آل عمران ضرورة الايمان بجميع الرسالات السماوية‏,‏ وبجميع أنبياء الله ورسله دون أدني تفريق لأن رسالتهم جميعا واحدة وهي الإسلام العظيم الذي بعث به كل نبي وكل رسول وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ماجاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب‏(‏ آل عمران‏:19)‏

ويقول‏(‏ عز من قائل‏)‏ في نفس السورة‏:‏
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين‏(‏ آل عمران‏:85)‏
ثم تحدثت الآيات عن عقاب المرتدين‏,‏ وحكم الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيهم‏,‏ ودعت إلي الإنفاق في سبيل الله‏,‏ وحذرت من تحريف الكتب السماوية‏,‏ وأمرت باتباع ملة ابراهيم حنيفا وماكان من المشركين‏.‏

وأشارت إلي الكعبة المشرفة بصفتها أول بيت وضع للناس‏,‏ وأكدت فريضة الحج علي المستطيع من المسلمين‏,‏ كما عتبت علي كفار قريش ضلالهم بينما آيات الله تتلي عليهم وفيهم خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وأوصت بتقوي الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ في السر والعلن‏,‏ وبضرورة الاعتصام بحبله جميعا دون اختلاف‏,‏ وذكرت العباد بنعم الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليهم‏,‏ ودعت إلي نفرة أمة الإسلام للدعوة إلي الخير‏,‏ وإلي الأمر بالمعروف‏,‏ والنهي عن المنكر‏,‏ ووصفت الذين يستجيبون لهذا النداء الإلهي بأنهم هم المفلحون
وتحدثت سورة آل عمران عن جزاء كل من المؤمنين والكافرين وأكدت أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أنزله علي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وأنه هدي وموعظة للمتقين‏.‏ وخاطبت أمة الإسلام بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله‏...‏
‏(‏آل عمران‏:110)‏

وبعد ذلك انتقلت هذه السورة المباركة إلي الحديث عن غزوة أحد‏,‏ وما أصاب المسلمين فيها من انكسار بسبب مخالفتهم لأوامر رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في ساحة المعركة‏,‏ وذكرت بانتصارات بدر‏,‏ وبمبررات ذلك الانتصار‏,‏ وصاغت تلك الأحداث صياغة معجزة لا تتوقف عند حدود وصف المعركتين وصفا مجردا‏,‏ ولكن تتجاوز ذلك إلي توجيهات ربانية دائمة في بناء الجماعة الاسلامية‏,‏ وتوضيح سنن الله في النصر والهزيمة إلي يوم الدين‏,‏ مؤكدة أن لله مافي السماوات ومافي الأرض‏,‏ وأن الله تعالي يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وأنه غفور رحيم‏.‏
وتنهي هذه السورة الكريمة عن أكل الربا‏,‏ وتحذر من عذاب النار‏,‏ وتأمر بطاعة الله ورسوله‏,‏ وبالمسارعة إلي طلب المغفرة من الله‏,‏ وسؤاله الجنة التي أعدت للمتقين الذين أوردت شيئا من صفاتهم‏,‏ وتوصي بالسير في الأرض من أجل الاعتبار بعواقب المكذبين الذين كذبوا رسل الله وحاربوا دينه وأولياءه‏.‏

ثم عاودت سورة آل عمران إلي التذكير بغزوة أحد في مواساة رقيقة للمسلمين‏,‏ مؤكدة أنهم هم الأعلون ماداموا علي إيمانهم بالله‏,‏ وإن تعرضوا لشئ من النكسات في بعض الأوقات لأن النصر والهزيمة من سنن الله في الحياة‏,‏ لكل منها قوانينه‏,‏ وأن الأيام دول يداولها الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بين الناس لحكمة يعلمها‏,‏ منها أن يتخذ من المؤمنين شهداء‏,‏ وأن يطهرهم بشئ من الابتلاء والتمحيص مما قد يقعون فيه من الذنوب‏,‏ ويهلك كلا من الكافرين والمشركين‏,‏ والطغاة المتجبرين بذنوبهم‏,‏ والله‏(‏ تعالي‏)‏ لايحب الظالمين‏,‏ كما لايحب المتخاذلين في الدفاع عن دمائهم‏,‏ وأعراضهم‏,‏ ومقدساتهم‏,‏ وممتلكاتهم‏,‏ وأراضيهم‏,‏ وعن الحق وأهله‏.‏ وهذا الخطاب كما كان لرسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ولأصحابه وأهل زمانه‏,‏ هو خطاب لكل من آمن به من بعده إلي يوم الدين‏.‏
وتؤكد هذه السورة الكريمة علي بشرية سيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وأنه رسول قد خلت من قبله الرسل لايجوز لأي ممن آمن به واتبعه أن يرتد عن ذلك بعد موته‏,‏ فرسالته خالدة‏,‏ باقية إلي يوم الدين لأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد تعهد بحفظها فحفظت‏.‏ وتؤكد كذلك أن من يرتد عن دينه فلن يضر الله شيئا‏,‏ ولكنه يهلك نفسه بتعريضها لسخط الله وعذابه‏.‏

وتنتقل الآيات إلي الحديث عن قضية الأجل مؤكدة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد جعل لكل نفس أجلا محددا لا تموت إلا عنده‏...,‏ وجعل الأجل غيبا لا يعلمه إلا الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ حتي لا تتوقف عجلة الحياة‏,‏ وحتي يتجاوز المسلم حاجز الخوف من الموت فيتقدم إلي مواكب الشهادة في سبيل الله دون وجل أو مهابة‏.‏
وتؤكد الآيات أيضا أن من قصد بعمله أجر الدنيا أعطاه الله إياه‏,‏ وليس له في الآخرة من نصيب‏,‏ وأن من قصد بعمله أجر الآخرة أعطاه الله تعالي أجري الدنيا والآخرة‏.‏ وأن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ يجزي عباده بحسب شكرهم لنعمه‏,‏ واعترافهم بعظيم فضله‏,‏ وإن كانت هذه أحكاما عامة إلا أن فيها تعريضا واضحا بمن رغبوا في غنائم الحرب أثناء شدة القتال في غزوة أحد فتسببوا في عدم إتمام النصر الذي بدا في أول الأمر محققا للمسلمين‏.‏

ثم تنتقل الآيات إلي الحديث عن العلماء الربانيين‏,‏ والمجاهدين الصادقين الذين قاتلوا مع أنبياء الله ورسله من أجل إعلاء دين الله وإقامة عدله في الأرض‏,‏ فقتل منهم من قتل شهيدا‏,‏ وأصيب من أصيب‏,‏ ولكنهم لم يذلوا لعدوهم أبدا‏,‏ واحتسبوا وصبروا في كل ما مر بهم من الشدائد والمحن ولذلك امتدحهم القرآن الكريم بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين‏*‏ وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا علي القوم الكافرين‏*‏ فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين
‏(‏آل عمران‏:146‏ ـ‏148).‏

وتعاود السورة المباركة إلي التحذير من موالاة كل من الكافرين والمشركين‏,‏ مؤكدة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو مولي المؤمنين‏,‏ وهو خير الناصرين الذي يعدهم النصر بقوله الحق‏:‏
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوي الظالمين‏(‏ آل عمران‏:151).‏

ثم تعاود الآيات استعراض أحداث معركة أحد بهدف تربية المسلمين‏,‏ وتحذيرهم من شرور أنفسهم‏,‏ وتنبيههم إلي ما يمكن أن يحيط بهم من كيد الكفار والمشركين كالذي أحاط بهم في القديم والذي يحيط بهم اليوم‏.‏
وتطلب الآيات من رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ألا يحزن علي الذين يسارعون في الكفر لأنهم لن يضروا الله شيئا‏,‏ في الوقت الذي يضرون أنفسهم ضررا بليغا‏,‏ ويريد الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ألا يجعل لهم حظا في الآخرة‏,‏ ولهم عذاب عظيم‏.‏ وإمهالهم في الدنيا‏,‏ والتمكين لهم فيها ليس من صالحهم لازديادهم في المعاصي والآثام مما يجعلهم أهلا لمضاعفة العذاب في الآخرة‏.‏ وعلي النقيض من ذلك فإن ابتلاء الله‏(‏ تعالي‏)‏ لصفوف المؤمنين كي يميز الخبيث من الطيب‏(‏ وهو أعلم بهم‏),‏ كما فعل في معركة أحد ولذلك قال‏(‏ عز من قائل‏):‏

ما كان الله ليذر المؤمنين علي ما أنتم عليه حتي يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم علي الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم‏(‏ آل عمران‏:179).‏
وتدعو الآيات إلي الإيمان بالله وتقواه‏,‏ وببذل المال في سبيل الله‏,‏ وتتوعد الذين يبخلون بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير
‏(‏آل عمران‏:180).‏

وتؤيد الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في وجه المكذبين لدعوته ولبعثته الشريفة فتقول‏:‏
فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير
‏(‏آل عمران‏:184).‏

وتؤكد السور الكريمة أن الفناء هو مصير الخلائق‏,‏ وأن الموت مكتوب علي كل نفس‏,‏ وأن جزاء الأعمال سوف يوفي كاملا يوم القيامة‏,‏ وأن الابتلاء من سنن الحياة‏,‏ ولا يملك الإنسان في مواجهته أفضل من الصبر والاحتساب‏,‏ وتقوي الله‏(‏ تعالي‏).‏
وتختتم سورة آل عمران بتوجيه الناس جميعا إلي التأمل في خلق السماوات والأرض‏,‏ واستخلاص شيء من صفات الخالق العظيم بالتعرف علي بديع صنعه في خلقه‏,‏ وتدعوهم إلي تكثيف الدعاء والرجاء من الله‏(‏ تعالي‏),‏ وإلي سؤاله النجاة من النار‏,‏ والاستعاذة به من خزي يوم القيامة‏,‏ ورجاء المغفرة من الذنوب‏,‏ وتكفير السيئات‏,‏ ورفع الدرجات‏.‏ وتخاطب الآيات رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ـ وجميع المسلمين من بعده ـ ألا يغتروا بتقلب الذين كفروا في البلاد في شيء من النعم المادية والجاه والسلطان‏,‏ وذلك لأن متاع الدنيا قليل‏,‏ ومن ثم لابد وأن ينتهي بهم الأجل إلي جهنم وبئس المصير‏,‏ بينما الصالحون المتقون قد يعيشون في الدنيا عيشة الفقراء‏,‏ وحياة الابتلاء ثم تنتهي بهم هذه الحياة إلي نعيم الآخرة الأبدي‏.‏

وتعاود السورة الكريمة في ختامها إلي التذكير بأن الذين اهتدوا إلي دين الله‏,‏ وآمنوا بخاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وبالقرآن الكريم الذي أنزل إليه‏,‏ فمن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عليهم بالخشوع لجلاله‏,‏ والخضوع لأوامره‏,‏ واجتناب نواهيه‏,‏ وأكرمهم بأن لهم أجرهم عند ربهم‏,‏ وتقفل سورة آل عمران بوصية من الله‏(‏ تعالي‏)‏ إلي عباده المؤمنين يقول لهم فيها‏:‏
يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون
‏(‏آل عمران‏:200).‏

وهي عدة المؤمنين في مواجهة أهل الباطل في كل عصر وفي كل حين‏.‏

من ركائز التشريع في سورة آل عمران
أولا‏:‏ تحريم مايلي‏:‏
‏(1)‏ اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين وهو محرم تحريما قاطعا‏.‏
‏(2)‏ افتراء الكذب علي الله‏(‏ تعالي‏)‏ او الاستهانة بعهوده وأيمانه وهو محرم كذلك‏.‏
‏(3)‏ الردة عن الاسلام لأنها كفر بالله ورسوله‏,‏ وللمرتد أن يستتاب فإن تاب بصدق قبل الله توبته‏,‏ وإن لم يتب فإنه يموت علي الكفر‏,‏ ويخلد في النار أبدا‏,‏ وماله من ناصرين‏.‏

(4)‏ أكل الربا لأنه من السبع الموبقات المهلكات المعروفات بالكبائر‏.‏
‏(5)‏ التولي يوم الزحف لأنه من الكبائر كذلك‏.‏
‏(6)‏ الأخذ من الغنيمة خلسة‏(‏ الغلول‏)‏ لأن‏...‏ من يغلل يأت بما غل يوم القيامة‏..‏
‏(7)‏ النفاق لأن‏...‏ المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا

ثانيا‏:‏ ايجاب مايلي‏:‏
‏(1)‏ الدعوة الي الانفاق في سبيل الله قدر الاستطاعة‏.‏
‏(2)‏ الأمر بحج بيت الله لمن استطاع اليه سبلا دون تراخ أو تأخير‏.‏

(3)‏ تحكيم الشوري كقاعدة إسلامية للحكم في كل أمر من أمور المسلمين‏.‏
(4)‏ مداومة الحث علي الجهاد في سبيل الله‏(‏ تعالي‏),‏ والترغيب في الاستشهاد من أجل إعلاء شأن الدين‏,‏ وإقامة عدل الله في الأرض‏.‏

من ركائز العقيدة في سورة آل عمران
‏(1)‏ الإيمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ ربا واحدا أحدا‏(‏ بغير شريك‏,‏ ولاشبيه‏,‏ ولامنازع‏,‏ ولاصاحبة ولا ولد‏),‏ وتنزيهه تنزيها كاملا عن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لايليق بجلاله‏,‏ واليقين بأن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هو الحي القيوم‏,‏ الذي لايخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏,‏ وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يصور الخلق في الأرحام كيف يشاء‏,‏ وأنه هو العزيز الحكيم‏,‏ وهو البصير بالعباد‏,‏ ومالك الملك‏,‏ يؤتي الملك من يشاء‏,‏ وينزعه ممن يشاء‏,‏ ويعز من يشاء‏,‏ ويذل من يشاء‏,‏ بيده الخير وهو علي كل شيء قدير‏,‏ وأن النصر منه وحده‏,‏ يؤيد بنصره من يشاء‏,‏ وأن الهدي هداه‏,‏ وأن الفضل العظيم بيده يؤتيه من يشاء‏,‏ وأنه واسع عليم‏,‏ يختص برحمته من يشاء‏,‏ وهو رؤوف بالعباد‏,‏ وهو عزيز ذو انتقام‏,‏ وأنه لايخلف الميعاد‏.‏
‏(2)‏ التصديق بالوحي الذي أنزله ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي فترة من الرسل‏,‏ وأتمه‏,‏ وأكمله‏,‏ وحفظه في رسالته الخاتمة المصدقة لما سبقها من صور الوحي‏,‏ والمهيمنة عليها‏,‏ وعلي ذلك فان الايمان بها وبالرسول الخاتم الذي جاء بها مكمل للايمان بوحي السماء‏.‏

(3)‏ التسليم بأن القرآن الكريم يضم بين آياته المحكم والمتشابه‏.‏
‏(4)‏ اليقين بأن كل نفس ذائقة الموت‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ جامع الناس ليوم لاريب فيه‏,‏ مما يجسد حقيقة الآخرة بل حتميتها‏,‏ وحقيقة ما ذكر القرآن الكريم عنها وعما سوف يصاحبها من مشاهد وأحداث منها البعث‏,‏ والحساب‏,‏ والجنة والنار‏,‏ وأن الجنة مثوي المتقين الذين تبيض وجوههم في الآخرة‏,‏ وأن النار مثوي الكافرين الذين تسود وجوههم في هذا اليوم العصيب‏.‏

(5)‏ الايمان بأن الدين عند الله الاسلام‏,‏ وأن أهل الكتاب لم يختلفوا في أمر الدين إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم‏,‏ وأنه من يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب‏,‏ ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو الآخرة من الخاسرين‏.‏
‏(6)‏ التسليم بضرورة طاعة الله‏(‏ تعالي‏)‏ والاعتصام بحبله المتين‏,‏ وطاعة خاتم أنبياء الله ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ الالتزام بسنته وهديه‏.‏
‏(7)‏ التصديق بأن أمة الاسلام هي خير أمة أخرجت للناس لأنها تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر‏,‏ وتؤمن بالله‏(‏ تعالي‏)‏ فإن لم تلتزم بذلك فقدت هذه الخيرية‏.‏

من الآيات الكونية في سورة آل عمران
‏1‏ ـ الإشارة إلي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يصور الخلق في أرحام الأمهات كيف يشاء‏.‏
‏2‏ ـ التعبير عن دوران الأرض حول محورها امام الشمس بظاهرة ولوج الليل في النهار‏,‏ وولوج النهار في الليل‏.‏

‏3‏ ـ تشبيه دورة الحياة والممات والبعث بإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي في هذه الحياة الدنيا‏.‏
‏4‏ ـ التأكيد علي خلق كل من آدم وعيسي ابن مريم‏(‏ عليهما السلام‏)‏ من تراب‏,‏ ثم قيام كل منهما بالأمر الإلهي‏:‏ كن فيكون‏.‏

‏5‏ ـ ذكر حقيقة أن‏...‏ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعاملين
‏6‏ ـ التأكيد علي أن لله ما في السماوات وما في الأرض وأن اليه ترجع الأمور‏.‏

‏7‏ ـ الاشارة إلي حقيقة أن كل نفس ذائقة الموت‏,‏ وأن الموت كتاب مؤجل لايحل إلا باذن الله الذي لايعلم الاجال أحد سواه‏.‏
‏8‏ ـ التلميح إلي قضية نفسية مهمة لم تعرف إلا مؤخرا وهي معالجة الغم بغم جديد من أجل تخفيفه‏.‏

‏9‏ ـ التأكيد علي أن خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار فيهما آيات لأولي الألباب‏,‏ وأن التفكر في مثل هذه القضايا من وسائل التعرف علي الخالق العظيم‏,‏ وعلي شئ من صفاته العليا وقدراته التي لاتحدها حدود‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة مستقلة‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الأولي من القائمة السابقة والتي تتعلق بالتأكيد علي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يصور الخلق في أرحام الأمهات كيف يشاء‏.‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة
من الثابت علميا أنه لم يخلق فردان من بني الإنسان‏(‏ أو من غيرهم من مختلف صور الأحياء الحيوانية والنباتية‏)‏ وصفاتهما الحيوية متشابهة تشابها كاملا إلا في حالات التوائم الصحيحة ـ وهي حالات نادرة ـ وحتي في هذه الحالات يبقي التوءمي مختلفين في الطبائع الشخصية‏,‏ والصفات الذاتية‏,‏ والنوازع النفسية‏,‏ والميول والرغبات‏,‏ والقدرات العقلية‏,‏ والمهارات اليدوية وإن تشابها من الناحية الشكلية‏.‏
واحتمال التشابه الحيوي بين فردين من بني البشر غير التوائم الصحيحة هو أمر يكاد أن يكون مستحيلا من الناحية الإحصائية‏,‏ وعلي ذلك فإن عملية تخلق كل فرد في مراحله الجنينية هي عملية تصوير خاصة به لا يقدر عليها إلا رب العالمين‏.‏ وذلك لأن المخزون الوراثي للبشر أجمعين كان في صلب أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ لحظة خلقه‏,‏ ثم أعطيت أمنا حواء شطرا من هذا المخزون الوراثي‏,‏ الذي انفرد وتعدد بالتزاوج بين الذكور والإناث مع الزمن بالتدريج ليعطي البلايين من البشر من زمن أبوينا الأولين آدم وحواء‏(‏ عليهما السلام‏)‏ إلي اليوم‏,‏ وسيظل يعطي كل نفس منفوسة أي قدر الله‏(‏ تعالي‏)‏ لها الوجود إلي قيام الساعة‏.‏

فالبلايين السبعة من البشر الذين يملأون جنبات الأرض اليوم‏,‏ والبلايين التي عاشت من قبل وماتت‏,‏ والبلايين التي سوف تأتي من بعدنا إلي قيام الساعة كانت كلها في عالم الذر في صلب أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ لحظة خلقه‏,‏ وقد أشهدهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ جميعا علي حقيقة الربوبية فقال‏(‏ عز من قائل‏):‏
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم علي أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين‏(‏ الأعراف‏:172).‏

وأخرج كل من الإمامين البخاري ومسلم عن أنس بن مالك‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:‏ يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة‏:‏ أرأيت لو كان لك ما علي الأرض من شيء أكنت مفتديا به‏,‏ قال‏:‏ فيقول‏:‏ نعم‏.....‏ فيقول الله تعالي له‏:‏ أردت منك أهون من ذلك‏.‏ قد أخذت عليك في ظهر آدم ألاتشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي‏.‏
فكل إنسان مقدر له أن يحيا علي سطح هذه الأرض ولو للحظة واحدة معروف بصفاته المحددة عند خالقه‏,‏ و كان موجودا في عالم الذر في صلب أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ لحظة خلقه‏,‏ ثم تقاسمت أمنا حواء معه هذا المخزون الوراثي‏,‏ وبالتزاوج الذي جعله ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ سنة من سننه لإعمار الأرض بالحياة‏,‏ بدأ هذا المخزون الوراثي الذي وهبه الله‏(‏ تعالي لأبوينا آدم وحواء‏(‏ عليهما السلام‏)‏ في الانفراد مع الزمن ليعطي بلايين البلايين من بني آدم الذين خص الله‏(‏ تعالي شأنه‏)‏ كل فرد منهم بصفات محددة يقررها نصيبه المفروض له من المخزون الوراثي للإنسان‏,‏ والذي قسمه لنا الخالق سبحانه وتعالي منذ الأزل ويعرف هذا التسلسل في عالم الوراثة باسم التنوع من الأصل الواحد ولولا هذا التنوع لكان أفراد الجنس البشري علي نمط واحد من الخلقة‏,‏ و لأدي ذلك إلي التنافر بين الناس‏,‏ ولاستحالت الحياة أو أصبحت ثقيلة كريهة لا تطيقها النفس الإنسانية‏,‏ لذلك خلق الله‏(‏ تعالي‏)‏ لآدم زوجه وقال‏:‏
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء و اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا
‏(‏النساء‏:1).‏

ولذلك أيضا خص الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ كل نوع من أنواع الحياة بعدد محدد من الصبغيات‏,‏ وخص الإنسان بستة وأربعين صبغيا في نواة خلاياه الجسدية‏,‏ وخص خلايا التكاثر بنصف هذا العدد‏(‏ ثلاثة وعشرين صبغيا فقط‏)‏ حتي إذا التقت النطفتان من الزوج والزوجة‏,‏ واتحدتا بمشيئة الله‏(‏ تعالي‏),‏ لتكوين النطفة الأمشاج‏(‏ المختلطة‏)‏ تكامل عدد الصبغيات‏,‏ وجاء نصفها من الأب وأسلافه‏,‏ والنصف الآخر من الأم وأسلافها فيأتي الجنين علي قدر من التشابه والاختلاف مع الوالدين‏,‏ ولذلك يروي عن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قوله الشريف‏:‏ إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله تعالي كل نسب بينها وبين آدم‏(‏ أخرجه كل من الإمامين ابن جرير وابن أبي حاتم‏).‏
فإذا علمنا هذه الحقيقة‏,‏ وأضفنا إليها أن الدفقة الواحدة من مني الرجل تحمل ما بين مائتي مليون‏,‏ وألف مليون نطفة‏(‏ حيمن أو حيوان منوي‏),‏ وأن الحد الأدني للإخصاب يحتاج إلي كثافة لا تقل عن عشرين مليون نطفة في كل ملليلتر من المني الذي يتكون من تلك النطف ومن سائل يشترك في إفرازه كل من الغدتين التناسليتين وعدد من الغدد الأخري‏.‏ وإذا علمنا أن من بين تلك البلايين من نطف الرجل التي تتحرك في اتجاه البييضة من أجل إخصابها لايصل أكثر من خمسمائة نطفة‏,‏ وأن هذه النطف يتحلل أغلبها من أجل المساعدة علي ترقيق جزء من جدار البييضة لتمكن نطفة واحدة منها مختارة بواسطة الإرادة الإلهية من الولوج إلي داخل البييضة من أجل إخصابها وتكوين النطفة الأمشاج‏.‏

وإذا علمنا أن الرجل يمكن أن يبقي نشيطا جنسيا من لحظة بلوغه إلي لحظة مماته‏,‏ وأن هذه الفترة تمتد لأكثر من خمسين سنة في المتوسط فإن عدد النطف المنتجة من رجل واحد طيلة حياته تقدر بملايين الملايين لا ينجح منها في إتمام عملية الإخصاب إلا آحاد قليلة وقد لا يفلح أي منها في ذلك أبدا‏,‏ ولذلك قال‏(‏ تعالي‏):‏
لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور‏*‏ أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير‏(‏ الشوري‏50,49).‏

وبالإضافة إلي هذه القيود العديدة‏,‏ التي هي كلها من صنع الخالق العظيم وبين إصبعين من أصابعه فإن هناك قيودا أشد في الجانب الآخر‏,‏ فبينما للأنثي وهي جنين في بطن أمها مابين أربعمائة ألف وستة ملايين بييضة في مراحل تكوينها الأولي‏,‏ فإنها إذا وصلت إلي مرحلة البلوغ لا يبقي في غدتيها التناسليتين سوي بضعة عشرات الآلاف إلي ثلاثين ألف بييضة‏,‏ تنمو منها بييضة واحدة كل شهر طوال فترة خصوبة المرأة المقدرة بحوالي عشرين إلي ثلاث وثلاثين سنة في المتوسط‏,‏ وعلي ذلك فإن مجموع البييضات التي يفرزها جسم المرأة البالغة طوال مدة خصوبتها لا يزيد علي الأربعمائة‏,‏ يهلك جزء كبير منها قبل الزواج‏,‏ وفي غير فترات الحمل بعد الزواج‏.‏ فإذا أراد الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لجنين أن يخلق حسب برنامج خلق بني آدم والذي وضع في صلب أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ لحظة خلقه‏,‏ اختارت يد القدرة الإلهية بييضة محددة من البييضات الناضجة ومكنتها من الخروج من خدرها في الزمان والمكان المحددين‏,‏ لملاقاة نطفة محددة من رجل معين كان الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد اختاره لها‏,‏ وذلك من أجل إخصابها وتخلق جنين محدد منهما‏,‏ بصفات وراثية محددة في علم الخالق العظيم‏,‏ سواء قدرت له الحياة أم لم تقدر‏.‏

فإذا لم يكن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد أراد لهذا الجنين أن يخلق‏,‏فإن البييضة لاتوفق الي لقاء النطفة فتموت‏,‏ لأن عمرها محدد بأربع وعشرين ساعة فقط‏,‏ وخصوبتها محددة بنصف عمرها أي باثنتي عشرة ساعة فقط‏.‏
وتذكر الدراسات الطبية أنه في مقابل كل نطفة أنثوية‏(‏ بييضة‏)‏ تفرزها الزوجة‏,‏ فإن الزوج يفرز بليون نطفة ذكرية‏(‏ حيمن‏)‏ علي الأقل‏,‏ وتصطفي القدرة الالهية المبدعة من هذا الكم الهائل من النطف نطفة مؤنثة محددة‏,‏ بصفات وراثية معينة لتلتقي بنطفة مذكرة محددة بصفات وراثية خاصة في زمان ومكان محددين ليتخلق في رحم الأم جنين بصفات وراثية معينة قدر الله‏(‏ تعالي‏)‏ له أن يكون منذ الأزل‏.‏

ومن الثابت أن البييضة قد تلقح ولاتخصب‏,‏ وقد تخصب ولكن لسبب ما لاتستمر الي مراحل التخلق التالية‏,‏ فليست كل بييضة مخصبة مؤهلة للوصول الي طور الجنين الكامل‏,‏ خاصة وأن الاحصاءات الطبية تشير الي أن‏78%‏ من كل حمل يجهض ويتم إسقاطه‏,‏ وأن نحو‏50%‏ من حالات الحمل يفشل ويسقط قبل ان تدرك الأم أنها حملت بالفعل‏.‏ وفي ذلك يقول المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏
إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكا فقال يارب‏:‏ مخلقة او غير مخلقة‏,‏ فإن قال‏:‏ غير مخلقة مجتها الأرحام دما‏(‏ أخرجه الإمام إبن أبي حاتم‏).‏

ومن صور الاصطفاء الإلهي للجنين تحديد جنسه‏,‏ فإن كانت النطفة المحددة التي اختارها الله‏(‏ تعالي‏)‏ لاخصاب بييضة محددة تحمل شارة التذكير‏(Y)‏ جاء الجنين ذكرا بإذن الله‏,‏ وإن كانت تحمل شارة التأنيث‏(x)‏ جاء الجنين أنثي بإذن الله‏,‏ ولذلك قال‏(‏ تعالي‏):‏
وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثي‏*‏ من نطفة إذا تمني‏(‏ النجم‏:46,45).‏

ويأتي بعد تحديد الصفات والجنس تحديد كل من الأجل‏,‏ والرزق‏,‏ والعمل‏,‏ والشقاء أو السعادة‏,‏ بأمر من الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏
ومن أروع صور الاصطفاء للجنين البشري وهو في بطن أمه هو ذلك الاصطفاء من مخزون الصفات الوراثية لكل من الأب وأسلافه‏,‏ والأم وأسلافها‏,‏ حتي يأتي الجنين حسب تقدير الله‏(‏ تعالي‏)‏ في عالم الذر في صلب أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏).‏ وذلك لأن عدد المورثات البنائية في الشفرة الوراثية للانسان يتراوح بين ثلاثين ألفا وخمسة وثلاثين ألفا مورثة‏,‏ وقد عرف من هذه المورثات مايتحكم في تشكل الجنين ولذلك ســـميت باســـم مورثـات التكوين والبناء‏(formationandstructureGenes),‏ ومنها ما يتحكم في تسوية أعضاء الجنين حتي يصل الي شكله الكامل ولذلك سميت باسم مورثات التنظيم والتسوية‏(RegulationandfashioningGenes),‏ وما يتحكم في الشكل والصورة‏Formandimagegene‏ ومايتحكم في لون كل من البشرة‏,‏ والشعر‏,‏ والعينين‏,‏ وفي طول القامة وقصرها‏,‏ وفي غير ذلك من الصفات‏,‏ وهذه المورثات وغيرها وهي من خلق واختيار الله‏(‏ تعالي‏)‏ هي التي تتحكم في تحديد كل صفات الجنين التي تميزه عن غيره من المخلوقين‏,‏ ولذلك قال‏(‏ تعالي‏):‏
هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم‏(‏ آل عمران‏:6)‏

وبالاضافة الي هذه العمليات التصويرية لأجنة الناس في أرحام أمهاتهم فان هذه الآية الكريمة تشير كذلك الي طلاقة القدرة الالهية المبدعة في أن النطفة الأمشاج‏(‏ البييضة المخصبة‏)‏ وهي كيان لايتعدي قطره خمس‏(5/1)‏ الملليمتر‏(200‏ ميكرون‏)‏ تتحول الي الحميل الكامل في فترة تتراوح بين‏(180)‏ يوما‏(‏ وهي أقل مدة للحمل‏),(266)‏ يوما‏(‏ وهي أطول مدة للحمل‏)‏ ليصل طوله الي نصف متر تقريبا‏,‏ وليحوي جسده ملايين الخلايا المتخصصة التي تنتظمها أنسجة متخصصة‏,‏ في أعضاء وأجهزة محددة تعمل في توافق تام من أجل هذا المخلوق الجديد‏,‏ وذلك عبر مراحل محددة وصفها القرآن الكريم في عشرات الآيات‏:‏ من العلقة الي المضغة‏(‏ المخلقة وغير المخلقة‏)‏ الي خلق العظام‏,‏ ثم كسوتها باللحم‏(‏ العضلات والجلد‏),‏ ثم إنشائه خلقا آخر‏.‏
فسبحان الله الخالق الباريء المصور الذي أنزل في محكم كتابه من قبل ألف وأربعمائة سنة حقيقة أنه‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يصور الخلق في الأرحام كيف يشاء‏,‏ وهي حقيقة لم تدركها العلوم المكتسبة إلا بعد تطور علوم الوراثة‏,‏ وقراءة الشيفرة الوراثية للإنسان‏,‏ وإدراك الضوابط العديدة التي تتحكم في تخلق الأجنة في أرحام الأمهات مما يشير الي أنها لايمكن أن تتخلق بعفوية او صدفة‏,‏ بل لابد لها من خالق عليم حكيم له من صفات الألوهية والربوبية والوحدانية ما يمكنه من تحقيق ذلك‏.‏

وسبق القرآن الكريم بالتأكيد علي هذه الحقيقة‏,‏ وبوصف تلك المراحل وصفا يفوق ما حققته العلوم المكتسبة ـ في عصر تفجر المعرفة العلمية الذي نعيشه ـ دقة وشمولا وكمالا لمما يقطع بأن هذا الكتاب الخالد لايمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية‏,‏ وتعهد بهذا الحفظ الكامل لكتابه الخاتم إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها‏,‏ حتي يبقي شاهدا علي الناس كافة إلي يوم الدين‏,‏ فالحمد لله علي نعمة الاسلام‏,‏ والحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله علي بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏)‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏