مالكم لاترجون لله وقارا‏*‏ وقد خلقكم أطوارا‏*‏ ‏(‏نوح‏:13‏ ـ‏14)‏
الآيتان الكريمتان جاءتا في منتصف سورة نوح‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها ثمان وعشرون‏(28)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت باسم نبي الله نوح‏(‏ عليه السلام‏)‏ لأن المحور الرئيسي للسورة يدور حول قصته مع قومه من بدء دعوته لهم إلي عبادة الله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده حتي اغراق المكذبين منهم بالطوفان‏,‏ ونجاة نوح‏(‏ عليه السلام‏)‏ ومن آمن معه‏,‏ وما في ذلك من تأكيد عدد من الدروس المستفادة من هذه الواقعة الفاصلة في تاريخ البشرية‏.‏

الدروس المستفادة من قصة نبي الله نوح مع قومه
‏(1)‏ التسليم بحاجة البشرية الي الهداية الربانية والتي بدونها لاتستقيم الحياة علي الأرض‏,‏ ولايتعرف الانسان علي حقيقة رسالته في الدنيا‏,‏ ولا علي مصيره من بعدها‏.‏

(2)‏ اليقين بأن من رحمة الله‏(‏ تعالي‏)‏ بعباده إرسال الأنبياء الواحد تلو الاخر من أجل هداية الناس الي دين الله الحق‏,‏ علي الرغم من إعراض الغالبية الساحقة من البشر عنهم‏,‏ ومحاربتهم لهم‏,‏ واضطهادهم إياهم‏,‏ ومطاردة الذين آمنوا بهم وبرسالاتهم في كل أرض‏.‏

(3)‏ الايمان بالوحي المنزل من الله تعالي علي فترة من الرسل والذي تكامل في بعثة النبي والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ والتأكيد علي وحدة رسالة السماء‏,‏ وعلي الأخوة بين الأنبياء‏,‏ وعلي اكتمال رسالاتهم جميعا في الرسالة الخاتمة التي بعث بها الرسول الخاتم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين‏).‏

(4)‏ تثبيت النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ علي طريق الحق‏,‏ وتثبيت جميع المؤمنين برسالته من بعده إلي قيام الساعة علي هذا الطريق‏,‏ وتشجيعهم علي تحمل تبعات الدعوة الإسلامية ومسئولية التبليغ عن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وعن خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

(5)‏ التأكيد علي أن الصراع بين الخير والشر‏,‏ والحق والباطل‏,‏ والهدي والضلال هو سنة من سنن الله في الخلق‏,‏ وحتمية من حتميات الوجود علي الأرض‏,‏ والتسليم بأن أغلب أهل الأرض ليسوا بمؤمنين إيمانا صحيحا بالله‏(‏ تعالي‏).‏

(6)‏ القناعة بحتمية نزول عذاب الله في الدنيا قبل الآخرة إذا كثر الخبث‏,‏ وانتشر الفساد في الأرض‏,‏ وعمت المظالم الناس‏.‏

(7)‏ تأكيد عناية الله‏(‏ تعالي‏)‏ بالقلة المؤمنة وتجسيد تعهده بنصرهم‏,‏ والجزم بحتمية عقابه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ للكثرة الفاجرة‏,‏ فمهما تضافرت جهود أهل الباطل‏,‏ ومهما بلغت امكاناتهم المادية فإن جند الله هم الغالبون‏,‏ ومهما تطاول أهل الباطل علي الحق وأهله‏,‏ وتجاوزوا كل الحدود في حربه فلابد من تنزل نصر الله الموعود علي القلة المؤمنة‏,‏ المجاهدة الصابرة‏,‏ المحتسبة بإذن الله‏.‏

(8)‏ النهي عن الشرك بالله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ نهيا قاطعا‏,‏ بكل أشكاله وصوره‏,‏ والتأكيد علي تنزيه الله‏(‏ جل وعلا‏)‏ عن الشريك والشبيه‏,‏ والمنازع‏,‏ والصاحبة‏,‏ والولد‏,‏ وعن كل وصف لايليق بجلاله‏,‏ والتحذير من عواقب الشرك الوخيمة في الدنيا قبل الآخرة‏.‏

(9)‏ التأكيد علي مسئولية الدعاة ومنها الصبر علي المدعوين‏,‏ والاستعداد للتضحية في سبيل تبليغ دعوة الله‏,‏ وانذار الخلق من مغبة مخالفة أوامره‏,‏ وتحمل نتائج ذلك‏,‏ وتأكيد ضرورة التوجه الي الله‏(‏ تعالي‏)‏ بالدعاء في كل شدة‏,‏ وبالحمد والثناء في كل رخاء وسعة‏.‏

استعراض سريع لسورة نوح
تبدأ هذه السورة الكريمة بالتأكيد علي حقيقة الوحي الإلهي الي نبي الله نوح‏(‏ عليه السلام‏),‏ والمتضمن انذار قومه ببأس الله قبل نزوله بهم‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
إنا أرسلنا نوحا إلي قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم‏*‏ قال ياقوم إني لكم نذير مبين‏*‏ أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون‏*‏ يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم الي أجل مسمي ان أجل الله إذا جاء لايؤخر لو كنتم تعلمون‏(‏ نوح‏:1‏ ـ‏4)‏

وبعد خطابه إلي قومه‏,‏ وشرح حقيقة رسالته إليهم بأنه نذير مبين من رب العالمين‏,‏ يأمرهم بعبادة الله وحده‏,‏ وبتقواه وبطاعة الرسول المرسل إليهم في شخصه‏,‏ وبعد تبيان أن ذلك يستتبع غفران الله‏(‏ تعالي‏)‏ لذنوبهم‏,‏ وتأخيرهم إلي أجل مسمي جعله الله‏(‏ تعالي‏)‏ طويلا غاية الطول في أعمارهم فإن أمر الله‏(‏ تعالي‏)‏ إذا جاء لايؤخر لأنه‏(‏ سبحانه‏)‏ رب كل شئ ومليكه‏,‏ وهو العزيز‏,‏ الجبار‏,‏ المنتقم‏,‏ الذي دانت له جميع المخلوقات طوعا وكرها‏,‏ وقهر كل شئ بإرادته ومشيئته‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ولذلك حذرهم نبي الله نوح‏(‏ عليه السلام‏)‏ بأنهم لو علموا ما سوف ينزل بهم من عذاب‏,‏ وماسوف يحل بهم من ندم وحسرة عند انقضاء آجالهم لسارعوا إلي الإيمان بالله‏,‏ وإلي نبذ عبادة الأصنام والأوثان واجتناب نواهي الله كلها‏,‏ ومجانبة محارمه‏,‏ والقيام علي عبادته‏(‏ تعالي‏)‏ وحده‏.‏
وبعد هذا الانذار يتوجه سيدنا نوح‏(‏ علي نبينا وعليه من الله السلام‏)‏ بالشكوي إلي ربه من معاصي قومه بعد دعوته لهم لفترة استمرت ألف سنة إلا خمسين عاما فتقول الآيات‏:‏

قال رب اني دعوت قومي ليلا ونهارا‏*‏ فلم يزدهم دعائي إلا فرارا‏*‏ وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا‏*‏ ثم إني دعوتهم جهارا‏*‏ ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا‏*‏ فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا‏*‏ يرسل السماء عليكم مدرارا‏*‏ ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا‏*(‏ نوح‏:5‏ ـ‏12)‏
ثم يعاود نبي الله نوح‏(‏ عليه السلام‏)‏ معاتبة قومه علي عدم خضوعهم بالطاعة لله تعالي‏,‏ مستشهدا بعدد من آيات الله في الكون علي حقيقة ألوهية هذا الخالق العظيم وربوبيته‏,‏ ووحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه فيقول‏:‏

مالكم لاترجون لله وقارا‏*‏ وقد خلقكم اطوارا‏*‏ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا‏*‏ وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا‏*‏ والله أنبتكم من الأرض نباتا‏*‏ ثم يعيدكم فيها ويخرجكم اخراجا‏*‏ والله جعل لكم الأرض بساطا‏*‏ لتسلكوا منها سبلا فجاجا‏(‏ نوح‏:13‏ ـ‏20)‏
ويكرر نبي الله نوح‏(‏ عليه السلام‏)‏ الشكوي الي ربه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ من عصيان قومه له‏,‏ وانصرافهم عنه‏,‏ وإصرارهم علي عبادة الأوثان‏,‏ واتباعهم لأهل الضلال‏,‏ ومكرهم به‏,‏ واستخفافهم بدعوته‏,‏ فدعا الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليهم وفي ذلك تقول الآيات‏:‏

قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا‏.‏ ومكروا مكرا كبارا‏.‏ وقالوا لاتذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولايغوث ويعوق ونسرا‏.‏ وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا
‏(‏نوح‏:21‏ ـ‏24)‏

وهنا ينطلق لسان نبي الله نوح بالدعاء علي عصاة قومه‏,‏ ويستجيب الله تعالي لدعاء نبيه فيقضي علي القوم الظالمين بالهلاك‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا من دون الله أنصارا‏*‏ وقال نوح رب لاتذر علي الأرض من الكافرين ديارا‏*‏ إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولايلدوا إلا فاجرا كفارا‏(‏ نوح‏:25‏ ـ‏27)‏

وتختتم السورة الكريمة بدعاء من نبي الله نوح‏(‏ عليه السلام‏)‏ من نوع آخر يقول فيه‏:‏
رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا‏.(‏ نوح‏:28).‏
هذه التجربة المريرة التي عاشها نبي الله نوح‏(‏ عليه السلام‏)‏ تعرض علي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ كما تعرض علي كل مؤمن برسالته من بعده ليتيقن الجميع من عناد البشر ـ في غالبيتهم ـ للحق‏,‏ ولتدعو حملة اللواء إلي ضرورة الصبر في الدعوة إلي دين الله‏,‏ وتحمل المشاق في سبيل نصرته وإعلاء رايته في الأرض‏,‏ مهما كلف ذلك من جهاد‏,‏ ومهما احتاج إلي تضحيات‏.‏

من ركائز العقيدة في سورة نوح
‏(1)‏ الإيمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ ربا واحدا أحدا‏(‏ لا شريك له في ملكه‏,‏ ولا منازع له في سلطانه‏),‏ والإيمان كذلك بملائكة الله وكتبه‏,‏ ورسله‏,‏ وعلي رأسهم خاتمهم أجمعين ـ والتصديق بكل من اليوم الآخر وبما فيه من بعث وحساب وجزاء‏,‏ واليقين بالجنة والنار‏,‏ وبأنها لجنة أبدا أو نار أبدا‏.‏
(2)‏ الإيمان بحقيقة وحي السماء‏,‏ وبالأخوة بين الأنبياء والتصديق بخاتمهم أجمعين‏.‏

(3)‏ اليقين بالآخرة‏,‏ وبأن الأجل الذي حدده الله‏(‏ تعالي‏)‏ لها لا يؤخر‏,‏ والتسليم بإمكانية وقوع عذاب الله‏(‏ تعالي‏)‏ في الدنيا قبل الآخرة‏.‏
(4)‏ التصديق بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ غفار للذنوب جميعا إلا أن يشرك به‏(‏ سبحانه‏),‏ أو أن تكون الذنوب حقوقا مغتصبة من العباد لأن حقوق العباد مقدسة عند رب العباد‏,‏ والتسليم بأنه‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي ينزل المطر من السماء‏,‏ ويرزق خلقه بما يشاء من المال والبنين ومختلف أشكال الرزق‏.‏

(5)‏ التصديق بقصة نبي الله نوح‏(‏ عليه السلام‏)‏ مع قومه كما جاءت في القرآن الكريم‏,‏ وبإغراق الكفار والمشركين‏,‏ والعصاة الملاحدة الظالمين منهم‏,‏ ونجاة عباد الله الصالحين من بينهم وهم أسلاف أهل الأرض من بعدهم إلي يوم الدين‏.‏

من ركائز العبادة في سورة نوح
‏(1)‏ ضرورة عبادة الله‏(‏ تعالي‏)‏ بما أمر‏,‏ وتقواه وطاعته‏,‏ وتوقيره وخشيته‏,‏ ورجاء ثوابه‏,‏ والخوف من عقابه‏.‏
‏(2)‏ وجوب الدعوة إلي دين الله‏(‏ تعالي‏)‏ بمختلف الأساليب المشروعة مهما لقي الإنسان في سبيل ذلك من عنت‏.‏
(3)‏ النهي عن الظلم‏,‏ وعن اتباع العصاة‏,‏ وعن معاداة الصالحين أو الكيد لهم‏.‏

(4)‏ الأمر بضرورة التعرف علي الخالق العظيم‏,‏ وعلي شيء من صفاته العليا وذلك بالتأمل في بديع صنعه في خلقه‏,‏ وباستخلاص الدروس والعبر من ذلك‏.‏
‏(5)‏ الحرص علي التوجه إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ بالدعاء للنفس‏,‏ وللوالدين وبقية الأهل‏,‏ والمعارف والأصدقاء‏,‏ وللمؤمنين والمؤمنات جميعا بظهر الغيب لعل الله تعالي أن يستجيب لذلك الدعاء‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة نوح
‏(1)‏ التأكيد علي مرحلية الحياة الدنيا مهما طالت‏,‏ وعلي حتمية الآخرة مهما بعدت‏.‏
‏(2)‏ الاشارة إلي ضرورة تنويع أساليب الدعوة وطرائقها بما يتناسب والظروف النفسية للمدعوين‏,‏ وحسب الظروف المتاحة للداعين‏,‏ وذلك من القواعد الأساسية في علم النفس الحديث‏.‏

(3)‏ تقرير أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي ينزل المطر بعلمه وحكمته وقدرته‏,‏ وهو‏(‏ سبحانه‏)‏ الرزاق ذو القوة المتين الذي يمد خلقه بالمال والبنين‏,‏ ويحيل الأرض القاحلة إلي جنات تجري من بينها الأنهار‏,‏ إذا أراد ذلك‏.‏
‏(4)‏ الاشارة إلي خلق الناس في أطوار متتالية وهو ماتؤكده العلوم المكتسبة‏.‏

(5)‏ التأكيد علي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ خلق سبع سماوات طباقا‏,‏ ولولا هذا التأكيد ما استطاع الانسان معرفة ذلك أبدا‏,‏ وهو المحبوس في حدود السماء الدنيا‏.‏
‏(6)‏ التفريق العلمي الدقيق بين كل من الضياء والنور‏,‏ وذلك بوصف القمر بأنه نور‏,‏ ووصف الشمس بأنها سراج‏,‏ والتصريح بأن القمر نور في السماوات السبع مما يشير إلي شفافية وتطابق تلك السماوات حول مركز واحد يشمل كلا من الأرض والقمر‏.‏

(7)‏ الاشارة إلي إنبات الخلق من الأرض‏,‏ ثم إعادتهم فيها‏,‏ ومن بعده إخراجهم منها‏.‏
‏(8)‏ وصف تمهيد سطح الأرض بجعله في معظمه كالبساط‏,‏ وذلك بتكوين السهول المنبسطة‏,‏ وبشق الفجاج والسبل بين سلاسل الجبال والهضاب الأرضية التي تسوي بسطح البحر بالتدريج حتي تتحول إلي تلك السهول وذلك بواسطة مختلف عمليات التعرية‏.‏
‏(9)‏ الإشارة إلي واقعة طوفان نوح الذي تؤكده الدراسات العلمية الحديثة‏.‏

وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الرابعة من القائمة السابقة والتي جاءت في الآيتين الثالثة عشرة والرابعة عشرة من سورة نوح‏.‏

من الدلالات العلمية للآيتين الكريمتين
اولا‏:‏ في قوله تعالي‏:‏ مالكم لا ترجون لله وقارا‏,‏ وقد خلقكم‏....‏
والرجاء والرجو من الأمل وهو ظن يقتضي حصول ما فيه الخير والمسرة‏,‏ وهو هنا بمعني الخوف وذلك لأن الرجاء والخوف يتلازمان‏.‏ والفعل‏(‏ رجا‏)‏ و‏(‏رجأ‏)‏ و‏(‏أرجأ‏)‏ أصله التأخير‏,‏ فيقال‏(‏ أرجأته‏)‏ أو أرجيته‏)‏ بمعني أخرته‏.‏ قال‏(‏ تعالي‏):‏
وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم‏.‏
‏(‏التوبة‏:106)‏

ومعني‏(‏ مرجون‏)‏ في الآية الكريمة‏(‏ مرجئون‏)‏ أي مؤخرون حتي ينزل الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيهم ما يريد‏,‏ ومن هنا جاء وصف‏(‏ المرجئة‏)‏ أو‏(‏ المرجية‏).‏
و‏(‏الوقار‏)‏ هو السكون والجلال والحلم والعظمة‏,‏ يقال‏:(‏ وقور‏)‏ و‏(‏وقار‏),‏ و‏(‏متوقر‏),‏ و‏(‏التوقير‏)‏ هو التعظيم والتبجيل والخشية‏.‏ وعلي ذلك فإن من معاني قوله‏(‏ تعالي‏)‏ مالكم لاترجون لله وقارا‏.‏
هو‏:‏ مالكم لا تعظمون الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ حق عظمته‏,‏ ولا تخافون من بأسه ونقمته ؟ والاستفهام إنكار لوقوع ذلك من المخاطبين من الكفار والمشركين‏,‏ والعصاة الغافلين عن ذكر الله وعن طاعته وحسن عبادته من عصاة قوم نوح‏,‏ وممن علي شاكلتهم الي يوم الدين‏.‏ وجواب الاستفهام هو‏:‏ فتطيعون أوامره‏,‏ وتجتنبون نواهيه‏,‏ وتخشون حسابه وعقابه في الدنيا قبل الآخرة‏.‏

والحكمة من السؤال أن نبي الله نوح‏(‏ عليه السلام‏)‏ قد أنكر علي كفار ومشركي قومه ان يكون الله‏(‏ تعالي‏)‏ هوخالقهم‏,‏ ثم هم بعد ذلك يعبدون غيره من الأوثان والأصنام‏,‏ ويتجاوزون حدوده بالمعاصي والآثام‏,‏ ولا يستشعرون في أنفسهم توقيرا لهذا الإله العظيم الذي بدأ خلقهم من الطين‏,‏ وصورهم فأحسن صورهم‏,‏ ورزقهم من الطيبات‏,‏ وأفاض عليهم من نعمه‏,‏ وفضلهم علي كثير من خلقه‏.‏

خلق الإنسان من طين والشيفرة الوراثية
الخلق من الطين شهادة للخالق الحكيم العليم بالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏.‏ وذلك لأن جسد الإنسان يتكون من تريليونات الخلايا التي تتنوع بتنوع وظائفها‏,‏ وأغلب هذه الخلايا علي قدر من الضآلة بحيث لا يتعدي قطر الخلية الواحدة منها في المتوسط ثلاثة من مائة من المليمتر‏(0,3‏ ـ مم‏),‏ وهي علي الرغم من ذلك بناء معقد تعقيدا يعجز العقل البشري عن تصوره‏,‏ والخلية الحية ـ علي ضآلتها ـ تعمل بإحكام تعجز أكبر المصانع التي بناها الانسان ـ بل التي فكر في إنشائها ولم يتم له ذلك بعد ـ عن محاكاة الدقة التي تعمل بها الخلية الحية الواحدة في جسده‏.‏
فلكل خلية حية‏(‏ ماعدا بعض الأنواع القليلة من مثل خلايا الدم الحمراء‏)‏ جسيم مركزي يعرف باسم نواة الخلية‏,‏ وتمثل هذه النواة العقل المفكر للخلية الحية‏,‏ لأنها تحكم جميع تصرفاتها‏,‏ وتنظم كافة انشطتها‏,‏ وتختزن بداخلها كل الصفات الوراثية الخاصة بها‏,‏علي هيئة عدد من الجسيمات الدقيقة التي تعرف باسم الجسيمات الصبغية أو الصبغيات‏(Chromosomes)‏ لتلونها بالأصباغ التي تضاف إلي الخلية الحية بشدة أعلي من باقي مكونات الخلية‏.‏ وعدد الصبغيات في الخلية الحية من العوامل المحددة لكل نوع من أنواع الحياة النباتية‏,‏ أو الحيوانية او الإنسانية‏.‏ وعدد الصبغيات في الخلية البشرية ست وأربعون‏(46)‏ مرتبة في ثلاثة وعشرين زوجا‏(23)‏ في نوي كل الخلايا ماعدا خلايا التكاثر‏((ReproductiveorGermCells‏ التي تحمل كل منها نصف هذا العدد‏(‏ أي‏23‏ صبغيا فقط‏)‏ فإذا ما اتحدت نطفة الرجل مع البييضة‏(‏ أو نطفة المرأة‏)‏ تكامل عدد الصبغيات في النطفة الأمشاج‏(‏ المختلطة‏).‏

وبذلك يكون نصف عدد الصبغيات في النطفة الأمشاج من الأب وتحمل شيئا من صفاته وصفات أسلافه إلي أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏),‏ ويكون النصف الآخر من الأم ويحمل شيئا من صفاتها وصفات أسلافها إلي كل من آدم وحواء‏(‏ عليهما السلام‏),‏ وبذلك يأتي الأبناء علي قدر من التشابه والاختلاف مع الآباء مما يحقق هذا التنوع البديع في الخلق والذي جاء كله من أصل واحد‏.‏
وتتكون الصبغيات من تجمعات الحمض النووي الريبي المنزوع الأكسجين‏(DNA)‏ ومن البروتينات بنسب متساوية تقريبا‏.‏ ويتكون جزيء هذا الحمض النووي من لفائف متناهية الدقة‏,‏ تتكون كل لفافة منها من سلسلتين‏(‏ ملتحمتين في الوسط‏)‏ من القواعد النيتروجينية وجزيئات السكر والفوسفات‏.‏ وتلتف السلسلتان حول محور وهمي علي هيئة حلزونية مطوية طيا شديدا تعرف باسم اللفائف الحلزونية المزدوجة الجدار للحمض النووي الريبي المنزوع الاكسجين‏DoubleHelixDNAStrands)),‏ ويبلغ قطر هذا الحلزون واحدا من نصف مليون جزء من الملليمتر‏,‏ ويبلغ حجمه وهو مكدس علي ذاته داخل الجسيم الصبغي واحدا من المليون من الملليمتر المكعب‏,‏ ويبلغ سمكه واحدا من خمسين مليون من الملليمتر‏.‏ واذا فرد هذا الحلزون فإن طول جزيء الحمض النووي المكون له يصل إلي حوالي أربعة سنتيمترات‏,‏ تحتوي علي أكثر من أربعمائة مليون جزيء من القواعد النيتروجينية والسكر والفوسفات‏(=404,347,800)‏ مرتبة ترتيبا مبهرا يعطي بصمة وراثية مميزة لكل فرد من أفراد بني آدم الذين عاشوا وماتوا‏,‏ والذين يملأون جنبات الأرض اليوم‏,‏ والذين سوف يأتون من بعدهم إلي قيام الساعة‏.‏

ومعني هذه الأرقام أنه إذا تم فرد جميع الصبغيات في خلية بشرية واحدة‏,‏ وتم رصها بجوار بعضها البعض فإن طولها يبلغ حوالي المترين‏(46‏ صبغيا‏X4‏ سم‏=184‏ سم‏),‏ وإذا تم ذلك بالنسبة للصبغيات الموجودة في متوسط تريليون خلية في جسم الفرد البالغ من بني الإنسان فإن طول شفرته الوراثية يزيد علي طول المسافة بين الأرض والشمس والمقدرة بحوالي المائة والخمسين مليون كيلو متر‏(‏ ما بين‏147‏ مليون كم‏,152‏ مليون كم‏)‏ بأكثر من عشر مرات‏(12,3‏ مرة‏).‏
واذا كان كل صبغي يحتوي علي أكثر من أربعمائة مليون جزيء من القواعد النيتروجينية والسكر والفوسفات‏,‏ فإن صبغيات خلية بشرية واحدة تحتوي علي‏18,6‏ بليون جزيء من هذه المركبات‏,‏ ومجموع الخلايا في جسد فرد واحد من بني الانسان تحتوي هذا الرقم المهول مضروبا في عدد خلايا جسده المقدرة بتريليون خلية في المتوسط‏,‏ وهذه البلايين من ملايين ملايين الجزيئات مرتبة بدقة فائقة إذا اختل وضع جزيء واحد منها عن مكانه المحدد له فإن هذا الكائن إما أن يشوه أو ألا يكون أبدا‏....!!‏

ويقسم كل صبغي علي طوله بعدد من العلامات المميزة‏(Markers)‏ إلي وحدات طولية في كل منها عدد من المورثات‏(Genes)‏ التي تتحكم كل واحدة منها في صفة واحدة أو في عدد من صفات الخلية الحية وصفات الجسد الذي ينبني منها‏,‏ ويتكون كل مورث من عدد محدد من الشفيرات الوراثية‏(Codons),‏ وتتكون كل شفيرة من ثلاث نويدات‏(Nucleotides)‏ وتتكون النويدة من زوج من القواعد النيتروجينية‏,‏ تستند كل قاعدة منها إلي جزيئين أحدهما من السكر والآخر من الفوسفات‏,‏ حيث تكون جزيئات السكر والفوسفات جداري اللفيفة الحلزونية المزدوجة الجدار للحمض النووي‏,‏ وتنتشر بينها أزواج القواعد النيتروجينية علي هيئة درجات السلم الخشبي في علاقات تبادلية غاية في الدقة والاحكام والانضباط‏.‏
ومن الأمور المبهرة حقا أن الخلية الواحدة من خلايا جسم الإنسان قد أعطاها الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ القدرة علي إنتاج أكثر من ثمانين ألف نوع من البروتينات‏,‏ وأن عشرات الآلاف من البروتينات التي تنبني منها أجساد البشر وغيرهم من المخلوقات تتركب من عشرين نوعا فقط من الأحماض الأمينية التي تترتب ذراتها في أجساد كل الكائنات الحية ترتيبا يساريا‏,‏ وتترتب هي في داخل الجزئ البروتيني المكون للخلية الحية ترتيبا يساريا كذلك‏,‏ فإذا ما ماتت الخلية الحية أو مات الجسد الذي يحتويها فإنها تأخذ في إعادة ترتيب ذراتها ترتيبا يمينيا بمعدلات ثابتة تمكن العلماء من تحديد لحظة وفاتها بدقة بالغة‏.‏
ويتطابق تركيب الحمض النووي الذي تكتب به الشفرة الوراثية بين جميع أفراد بني آدم بنسبة‏(99,9%),‏ ومن طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق أن الاختلافات في النسبة الباقية التي لاتتعدي‏(0,1%)‏ تعطي لكل فردمن بني الإنسان بصمة وراثية مميزة له‏.‏

خلق الإنسان من طين وتركيب الخلية الحية
بالإضافة إلي الشفرة الوراثية المبدعة والمركزة في داخل النواة والموزعة في هيئة الجينات المرتبة علي الصبغيات مكونة مايعرف بالشبكة الصبغية فإن للخلية الحية من المكونات مايلي‏:‏
‏1‏ـ جدار الخلية وهو جدار غشائي حي مكون من البروتينات والشحميات الفوسفاتية أعطاه الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ القدرة علي التحكم فيما يخرج من الخلية أو يدخل إليها‏.‏

‏2‏ـ السائل الخلوي أو الهيولي‏(Cytoplasm)‏
‏3‏ ـ الحبيبات‏(Granules)‏ وهي حبيبات دقيقة منتشرة في السائل الخلوي لها وظائف متعددة‏.‏

‏4‏ـ الريباسات‏(Ribosomes)‏ وهي عضيات في غاية الدقة منتشرة في السائل الخلوي ومكونة من المواد البروتينية والحمض النووي الريبي‏(RNA),‏ وهي مراكز تخلق البروتينات‏.‏
‏5‏ـ النوية‏(Nucleolus)‏ وهي تجمع لجزيئات الحمض النووي الريبي‏(RNA)‏ والمورثات‏(Genes)‏ مكدس في داخل النواة ووظيفتها انتاج وتخزين الريباسات‏.‏

‏6‏ـ جهاز جولجي‏(GolgiApparatus)‏ وهو عبارة عن تكتلات غشائية تقوم بإفراز عدد من العصائر وتنشيط دور الإنزيمات‏.‏
‏7‏ـ جسيمات حالة‏(Lysosomes)‏ وهي خزانات غشائية تقوم بعزل الإنزيمات القوية عن بقية الخلية‏.‏

‏8‏ـ المتقدرات‏(Mitochondria)‏ وهي عبارة عن مطويات غشائية لها القدرة علي تحويل غذاء الخلية إلي طاقة‏,‏ أي أنها مراكز تنفس الخلية‏.‏
‏9‏ـ فجوات الخلية‏(Vacuoles)‏ علي هيئة أكياس غشائية متناهية الدقة في الحجم تخزن فيها مواد خاصة‏.‏

‏10‏ـ الفجوات المنقبضة‏(ContractileVaciuoles)‏ علي هيئة خزانات غشائية تقوم بطرد الماء الزائد عن حاجة الخلية إلي خارجها‏.‏
‏11‏ـ شبكة هيولية داخلية‏(EndoplasmicReticulum)‏ علي هيئة طيات غشائية دقيقة يتكون منها عدد من الراقات والأنابيب التي تشكل أسطحا للتفاعلات الكيميائية المعقدة ولنقل منتجات تلك التفاعلات إلي مختلف أجزاء الخلية‏,‏ ومن هذه الراقات والأنابيب المتناهية الدقة الأملس ومنها الخشن‏.‏
‏12‏ـ غشاء النواة‏(NuclearMembrane)‏ الذي يفصل النواة عن باقي مكونات الخلية‏.‏

‏13‏ـ النواة‏(Nucleus)‏ وتحتوي كلا من الصبغيات والنوية‏.‏
‏14‏ـ الأنيبيبات الدقيقة‏(Microtubules)‏ وهي أنابيب شعرية دقيقة جدا فارغة مكونة من مواد بروتينية تعطي للخلية قدرا من التدعيم وتسمح لها بالحركة‏.‏

‏15‏ـ الشعيرات الدقيقة‏(Microfilaments)‏ وهي خيوط شعرية دقيقة مكونة من المواد البروتينية تعطي للخلية قدرا من التدعيم وتسمح لها بالحركة‏.‏
‏16‏ـ المريكزات‏(Centrioles)‏ وهي جسيمات أنبوبية فائقة الدقة يبدو أن لها علاقة بعملية انقسام الخلية‏.‏

هذا هو البناء العظيم المذهل للخلية الحية فهل يمكن لعاقل أن يتخيل إمكانية نشأته عفويا من تراب الأرض ومائها؟ أم أنه محتاج إلي تقدير الخالق البارئ المصور الحكيم العليم‏..‏؟
وهذه الخلية الحية هي إحدي بلايين من الخلايا المتخصصة التي تلتقي مع بعضها البعض لتكون أعدادا من الأنسجة المتخصصة‏,‏ والتي تلتقي بدورها لتكون أعدادا من أعضاء محددة تبني أجهزة متخصصة تتعاون كلها في توافق عجيب لخدمة جسد ذلك المخلوق المكرم الذي يعرف باسم الإنسان‏,‏ ومن هنا كان العتاب الإلهي لكفار ومشركي قوم نوح‏,‏ ولأمثالهم من منكري الخلق علي مدي التاريخ إلي قيام الساعة‏:‏
مالكم لاترجون لله وقارا وقد خلقكم‏..‏

ثانيا‏:‏ في قوله تعالي‏:‏ وقد خلقكم اطوارا‏:‏
‏(‏الطور‏)‏ لغة هو الحد‏,‏ يقال‏:‏ عدا فلان‏(‏ طوره‏)‏ أي جاوز حده‏.‏ و‏(‏الطور‏)‏ أيضا هوالتارة أو المرة فيقال فعل فلان كذا‏(‏ طورا‏)‏ بعد‏(‏ طور‏)‏ أي تارة بعد تارة‏,‏ أو مرة بعد مرة‏,‏ وعلي ذلك فـ‏(‏ الأطوار‏)‏ هي التارات‏,‏ أوالمرات ويؤكد ذلك ماذكره ابن رجب الحنبلي في كتابه جامع العلوم والحكم من أن قوما كانوا عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ فقالوا‏:‏ إن قوما زعموا أن العزل هوالموءودة الصغري‏,‏ فقال سيدنا علي بن أبي طالب‏(‏ رضي الله عنه‏):(‏ لاتكون موءودة حتي تمر علي التارات السبع‏:‏ تكون سلالة من طين‏,‏ ثم تكون نطفة‏,‏ ثم تكون علقة‏,‏ ثم تكون مضغة‏,‏ ثم تكون عظاما‏,‏ ثم تكون لحما‏,‏ ثم تكون خلقا آخر‏,‏ كذلك يقال في اللغة‏:‏ الناس‏(‏ أطوار‏)‏ أي أخياف علي حالات شتي‏.‏
ويشمل لفظ‏(‏ أطوار‏)‏ في الآية الكريمة التي نحن بصددها مراحل الخلق المتدرجة التي يمر فيها جنين الإنسان من النطفة‏,‏ إلي النطفة الأمشاج‏,‏ إلي العلقة‏,‏ إلي المضغة‏,‏ إلي خلق العظام‏,‏ ثم كسوتها لحما‏,‏ حتي إنشائه خلقا آخر‏.‏ وانطلاقا من عتاب الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لكفار ومشركي قوم نوح ولأمثالهم من الكفار والمشركين في كل زمان ومكان إلي يوم الدين يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ وقد خلقكم أطوارا أي أفلا تدركون عظمة الله‏,‏ وطلاقه قدرته‏,‏ فتطيعونه وتخشون عقابه‏,‏ ولقد خلقكم في عدد من التارات المتعاقبة التي لايكاد بعضها أن يري بالعين المجردة؟ والخروج عن طاعة هذا الخالق العظيم الذي بيده مقاليد خلقكم ورزقكم وسعادتكم أو شقائكم لايمكن أن يصدر عن ذي بصيرة أبدا‏!!‏

وقد جاء ذكر أطوار خلق الانسان هذه في مراحله الجنينية المتتالية مرتبة ترتيبا دقيقا‏,‏ وموصوفة وصفا شاملا لم تصله بعدالعلوم المكتسبة في قمتها الحالية‏,‏ وذلك في عدد من آيات القرآن الكريم منها‏(‏ النحل‏:4;‏ الكهف‏:37;‏ الحج‏:5;‏ المؤمنون‏:13;14;‏ فاطر‏:11;‏ يس‏:77;‏ غافر‏:67;‏ النجم‏:45;46;‏ القيامة‏:37;‏ الإنسان‏:2,‏ عبس‏:19)‏
وهذا الوصف القرآني المعجز جاء في زمن ساد فيه الاعتقاد بأن الجنين البشري يخلق خلقا كاملا في صورة متقزمة جدا لاتكاد تري بالعين المجردة‏,‏ وذلك من دم الحيض فقط‏,‏ أو من ماء الرجل فقط‏,‏ ثم يزداد في الحجم تدريجيا حتي لحظة الميلاد‏.‏ فلم تكتشف العلوم المكتسبة‏,‏ كلا من نطفة الرجل ونطفة المرأة إلا في أواخر القرن السابع عشر الميلادي بعد بناء المجهر‏.‏ وحتي بعد اكتشافهما فإن دورهما في تكوين الجنين لم يدرك إلا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي‏,‏ ولم يعرفا علي أنهما من الخلايا الحية إلا بعد منتصف القرن التاسع عشر الميلادي‏(1859‏ م‏),‏ ولم تعترف العلوم المكتسبة أن الجنين يتخلق بإخصاب نطفة الأنثي‏(‏ البييضة‏)‏ بواسطة نطفة الذكر‏(‏ الحيمن‏)‏ إلا في القرن التاسع عشر ميلادي‏.‏

وعلي ذلك فإن التأكيد علي دور كل من الذكر والأنثي في تخلق الجنين‏,‏ ووصف أطوار الجنين البشري في مراحله المتتالية بدقة متناهية في كل من كتاب الله وسنة رسوله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ من قبل أربعة عشر قرنا‏,‏ وفي زمن انعدمت فيه وسائل التكبير أو التصوير أو الفحص لمما يؤكد لكل ذي بصيرة أن القرآن الكريم لايمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية‏,‏ في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏),‏ وحفظه حفظا كاملا علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية‏,‏ وتعهد‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بذلك الحفظ الدقيق إلي قيام الساعة حتي يبقي القرآن الكريم شاهدا علي جميع الخلق في كل زمان ومكان إلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏.‏
فالحمد الله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد الله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله علي بعثة النبي والرسول الخاتم الذي تلقاه صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه‏,‏ ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏,‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏