165)‏
بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
قد مكر الذين من قبلهم فأتي الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لايشعرون‏*‏
‏*(‏ النحل‏:26)*‏
الآية الكريمة جاءت في نهاية الخمس الأول من سورة النحل‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها‏(128)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الاشارة فيها إلي النحل‏.‏ ويقال إن حشرة النحل قد سميت بهذا الاسم لأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد نحلها القدرة علي إخراج العسل‏,‏ وميزها بها عن كثير غيرها من الحشرات التي يقدر عدد أنواعها بأكثر من ثلاثة أرباع المليون نوع‏,‏ يمثل كل نوع منها ببلايين الأفراد‏.‏
وتبدأ سورة النحل بالتحذير من فجائية الآخرة ومن فظاعة جريمة الشرك بالله‏,‏ فتقول‏:‏

أتي أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالي عما يشركون‏*(‏ النحل‏:1)‏
وفي الآية الكريمة تحد واضح للذين يستعجلون الآخرة إنكارا لها‏,‏ ومنكرها كافر لأنها معلومة من الدين بالضرورة‏,‏ وتثني الآية بتسبيح الله وتنزيهه‏(‏تعالي‏)‏ عن الشريك والشبيه والمنازع والصاحبة والولد لأن هذه كلها من صفات المخلوقين‏,‏ والله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ منزه عن جميع صفات خلقه‏.‏
وتتتابع الآيات بتأكيد حقيقة الوحي الذي أنزله ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي من اصطفي من عباده الصالحين من الأنبياء والمرسلين لهداية الخلق إلي طريق الله‏(‏ تعالي‏)‏ المستقيم وبضرورة تقوي العباد لأوامر الله‏(‏سبحانه‏),‏ وبإنذارهم من أخطار مخالفة ذلك‏.‏

واستعرضت سورة النحل العديد من الآيات الكونية الدالة علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة‏,‏ والشاهدة لله الخالق بالألوهية والربوبية‏,‏ والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏,‏ وبالعلم الشمولي‏,‏ والحكمة البالغة‏.‏
وبعد ذلك تؤكد الآيات الفارق الهائل بين الخالق والمخلوقين‏,‏ كما تؤكد وحدانية الخالق العظيم‏,‏ وتعدد جانبا من نعم الله علي خلقه وتشير إلي كره الله للمستكبرين من عباده الذين ينكرون وحي السماء‏,‏ وتستنكر كلا من شرك المشركين‏,‏ وإنكار الآخرة من الكافرين‏.‏

ثم تعرض الآيات لبعض مشاهد القيامة‏,‏ وتنعي علي الذين أشركوا ادعاءهم الكاذب بأن ذلك هو قدر الله عليهم‏,‏ وتؤكد أن ما علي الرسل إلا البلاغ المبين‏,‏ وقد بعث الله‏(‏ تعالي‏)‏ رسولا في كل أمة من الأمم يدعوهم الي عبادةالله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده‏,‏ وإلي اجتناب الطاغوت فكان من هذه الأمم من هدي الله‏,‏ ومن حقت عليه الضلالة‏.‏ وتدعو الآيات عقلاء الأرض الي السير في جنباتها للاعتبار بعواقب المكذبين من الأمم السابقة
وتخاطب الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏صلي الله عليه وسلم‏)‏ في شأن المكذبين بالبعث‏.‏ مؤكدة أن المؤمنين الذين اضطروا الي الهجرة من ديارهم فرارا من المظالم التي وقعت عليهم من جبابرة الأرض وعتاتها سوف يعوضهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ في الدنيا‏,‏ ثم يضاعف لهم الأجر في الآخرة جزاء صبرهم علي مالقوه دفاعا عن دينهم‏,‏ ومن أجل التمسك بعقيدتهم‏.‏

وتؤكد السورة لخاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏صلي الله عليه وسلم‏)‏ أن الأنبياء والمرسلين الذين أرسلوا الي الأمم من قبله كانوا رجالا من الإنس اصطفاهم الله‏(‏تعالي‏)‏ لتلقي الوحي كما تلقاه هو‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏)‏ ليبينوا للناس مانزل إليهم‏,‏ ولم يكونوا ملائكة‏,‏ ولا آلهة‏,‏ ولا أبناء آلهة كما ادعي المبطلون‏.‏
وتهدد الآيات الذين فعلوا السيئات بخسف الأرض بهم‏,‏ او بإتيان العذاب لهم من حيث لايشعرون‏,‏ أو وهم يتقلبون في الأرض أو علي تخوف منهم وهم حذرون حتي يتفكروا ويتدبروا أن الله رءوف رحيم‏.‏
وتجزم الآيات أن كل ما يتفيأ ظلاله من خلق الله يسجد لله وهم داخرون‏,‏ وأن كل ما في السماوات والأرض من ملائكة ودواب يسجد لله وهم لايستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون مايؤمرون‏*‏
‏(‏ النحل‏:50)‏
وهنا سجدة من سجدات التلاوة‏.‏

وتعاود الآيات النهي عن الشرك بالله‏,‏ مؤكدة وحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه‏,‏ وأن علي الخلق أن يرهبوا خالقهم‏,‏ الذي له مافي السماوات والأرض‏,‏ وله الدين الدائم وحده‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ صاحب النعم علي جميع خلقه‏,‏ وهو كاشف الضر اذا مسهم وجأروا بالشكوي إليه‏,‏ وإن كان فريق من الناس يعاود الشرك بالله بمجرد كشف الضر عنه‏,‏ وهؤلاء تتهددهم الآيات بعذاب الآخرة‏.‏
وتعيب الآيات في سورة النحل علي المشركين التشريع لغيرهم بغير علم‏,‏ مؤكدة أن الذي يفعل ذلك سوف يسأل عنه‏,‏ كما تعيب نسبة البنات اختلاقا الي الله‏,‏ وهو‏(‏سبحانه‏)‏ المنزه عن ذلك‏,‏ ونسبتهم مايشتهون لأنفسهم‏,‏ وهم لايملكون ذلك‏.‏ كما تنعي علي أهل الجاهلية كراهيتهم لخلفة البنات الي حد وأدهن أحياء‏,‏ مؤكدة أن‏:‏

للذين لايؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلي وهو العزيز الحكيم‏*(‏ النحل‏:60)‏
وتشير الآيات الي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ لو يؤاخذ الناس بظلمهم ماترك علي ظهر الأرض من دابة‏,‏ ولكن يؤخرهم إلي أجل مسمي‏,‏ فاذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولايستقدمون‏.‏ ومن تطاولهم ينسب المشركون الي الله‏(‏ تعالي‏)‏ مايكرهون أن ينسب إليهم‏,‏ ويتخيلون كذبا ان لهم الحسني في الآخرة‏,‏ وتجزم الآيات بأن مصيرهم إلي النار وأنهم إليها معجلون‏.‏ ثم توجه الخطاب إلي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقول الحق تبارك وتعالي‏:‏
تالله لقد أرسلنا إلي أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم‏*‏ وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدي ورحمة لقوم يؤمنون‏*‏
‏(‏ النحل‏64,63)‏

كذلك تنعي الآيات علي الذين يعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولايستطيعون‏*(‏ النحل‏:73)‏
وتوصي بعدم ضرب الأمثال لله‏(‏ تعالي‏)‏ لأنه لايشبهه شيء من خلقه‏,‏ والله يعلم فساد الذين ضربوا هذه الأمثال وهم لايعلمون‏.‏

وتقارن الآيات بين روعة التوحيد وفلاح الموحدين وبين فساد الشرك والمشركين‏,‏مؤكدة أن الغيب المطلق في السماوات والأرض لايعلمه إلا الله‏,‏ وأن من هذا الغيب أمر الساعة التي لاتأتي إلا بغتة‏,‏ وأن الله علي كل شيء قدير‏.‏
ويتكرر توجيه الخطاب إلي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين‏*‏
‏(‏ النحل‏:82).‏

وتؤكد الآيات أن الكافرين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها‏,‏ وتصف مواقفهم يوم القيامة‏,‏ والأنبياء يشهدون علي أممهم بمن فيهم خاتمهم اجمعين الذي سوف يشهد علي أمته‏,‏ وعلي الذين كذبوا نبوته‏,‏ وجحدوا رسالته في زمانه وإلي يوم الدين‏,‏ وفي ذلك يقول الحق‏(‏تبارك وتعالي‏):‏
ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا علي هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدي ورحمة وبشري للمسلمين‏*(‏ النحل‏:89).‏

وتستطرد الآيات بعد ذلك بعدد من القيم الأخلاقية النبيلة والسلوكيات الراقية التي يحبها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ فتقول‏:‏
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون‏*‏ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولاتنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ماتفعلون‏*‏ ولاتكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربي من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ماكنتم فيه تختلفون‏*(‏ النحل‏:90‏ ــ‏92).‏

وتضيف الآيات بعد ذلك قول ربنا‏(‏ عز من قائل‏):‏
ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون‏*(‏ النحل‏:93)‏
ويقول سبحانه وتعالي‏:‏من عمل صالحا من ذكر أو أنثي وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون‏*(‏ النحل‏:97)‏

وتأمر الآيات بالاستعاذة بالله العظيم من الشيطان الرجيم قبل البدء بتلاوة القرآن الكريم وتشير إلي إمكانية نسخ آية بآية أخري‏,‏ وتضيف قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ مخاطبا خاتم انبيائه ورسله عن القرآن الكريم‏:‏
قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدي وبشري للمسلمين‏*‏
‏(‏النحل‏:102)‏

وتستنكر الآيات الادعاء الكاذب الذي أشاع به عدد من الكفار والمشركين بأن ما أفاء الله‏(‏ تعالي‏)‏ به علي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏صلي الله عليه وسلم‏)‏ من هداية إنما يعلمه إياه بشر‏,‏ وترد الآيات بأن لسان الذين يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين مستنكرة عدم الإيمان بآيات الله‏,‏ وافتراء الكذب عليه‏,‏ أو الكفر به إلا لمن أكره وقلبه مطمئن بالايمان‏,..‏ ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم‏..‏ وأنهم في الآخرة هم الخاسرون‏.‏
وفي المقابل يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد مافتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم‏*‏
‏(‏النحل‏:110).‏

وضربت الآيات مثلا بقرية‏..‏
كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون‏*(‏ النحل‏:112).‏
وتعرض الآيات في أواخر سورة النحل للمحرمات من الطعام‏,‏ مؤكدة أن التحليل والتحريم من سلطات الله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده‏,‏ ولايتجرأ عليه إلا كاذب‏,‏ وهؤلاء الذين يكذبون علي الله لايفلحون لأن متاعهم في الدنيا قليل ولهم في الآخرة عذاب أليم‏.‏ ومن هؤلاء الذين كذبوا علي الله اليهود الذين خالفوا أوامره فحرم عليهم من الطعام‏,‏ ما كان مباحا لهم‏,‏ وذلك بسبب تماديهم في الشر‏,‏ وتجاوزهم لحدود الله‏,‏ مع أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ غفور رحيم يعفو عن الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من بعد ذلك ويصلحون أعمالهم‏.‏

وتصف الآيات نبي الله إبراهيم‏(‏ عليه السلام‏)‏ بأنه كان أمة قانتا لله حنيفا‏,‏ ولم يك من المشركين‏,‏ وأنه كان شاكرا لأنعم الله فاجتباه الله وهداه إلي صراط مستقيم‏,‏ وأتاه في الدنيا حسنة وجعله في الآخرة من الصالحين‏.‏ وأوحي الله‏(‏ تعالي‏)‏ إلي رسوله الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أن يتبع ملة إبراهيم حنيفا‏.‏
وتؤكد الآيات أن تعظيم يوم السبت كان مفروضا علي اليهود‏,‏ فخرج بعضهم عن أوامر الله‏,‏ وأن الله‏(‏تعالي‏)‏ سوف يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏.‏

وتختتم سورة النحل بأمر من الله‏(‏تعالي‏)‏ إلي كل مسلم من خلال توجيه ذلك الأمر إلي خاتم أنبياء الله ورسله‏(‏صلي الله عليه وسلم‏)‏ والذي يقول فيه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين‏*‏ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ماعوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين‏*‏ واصبر وما صبرك إلا بالله ولاتحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون‏*‏ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏*‏
‏(‏ النحل‏:125‏ ـــ‏128)‏

من ركائز العقيدة في سورة النحل
‏(1)‏ الإيمان بالله الواحد الأحد‏,‏ خالق كل شيء‏,‏ ورب كل شيء ومليكه‏,‏ الذي لامنازع له في سلطانه ولاشريك له في ملكه‏,‏ ولاشبيه له من خلقه‏,‏ وبأنه تعالي علي كل شيء قدير‏,‏ وأن امره بكن فيكون‏,‏ وانه رءوف بعباده‏,‏ ورحيم بهم‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لايحب المستكبرين‏,‏ ويعلم مانسر ومانعلن‏.‏

‏(2)‏ التصديق بحقيقة الوحي الذي أنزله ربنا‏(‏تبارك وتعالي‏)‏ علي فترة من الأنبياء والمرسلين‏,‏ اصطفاهم من بين خلقه‏,‏ وبعثهم إلي مختلف الأمم‏,‏ في كل الأزمنة والعصور‏,‏ ثم أكمل وحيه وأتمه وختمه في بعثة خاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمد بن عبدالله‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏).‏
ونظرا لضياع أصول الرسالات السابقة كلها‏,‏ وتعرض ما بقي من ترجمات منحولة لبعضها إلي قدر هائل من التحريف الذي دفع بأهل الكتاب إلي الشرك بالله‏,‏ وإلي عدد من الوثنيات القديمة والمعتقدات الباطلة‏,‏ فقد تعهد ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بحفظ وحيه الخاتم حفظا كاملا كلمة كلمة وحرفا حرفا إلي يوم الدين بنفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏).‏

(3)‏ اليقين بأن مهمة كل نبي من أنبياء الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هي البلاغ عن الله‏,‏ وترك حرية الاختيار كاملة للناس‏,‏ ليلقوا جزاءهم في الآخرة علي أساس من هذا الاختيار‏.‏
‏(4)‏ التسليم بحقيقة البعث وحتميته‏.‏
‏(5)‏ الإيمان بحقيقة الحساب والجزاء‏.‏
‏(6)‏ التصديق بأن الحاكمية لله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده‏,‏ ومن ثم حق التحليل والتحريم‏.‏

(7)‏ اليقين بأن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ قد وهب للناس عقولا تدرك‏,‏ وإرادة حرة تختار وتوجه‏,‏ وبين لهم طريق الاستقامة الموصل إلي الخير‏,‏ وطرق الانحراف الموصلة إلي الشر‏,‏ وترك الخيار كاملا لكل فرد‏.‏
‏(8)‏ التسليم بأن كل شيء في الوجود يسجد لله‏(‏ تعالي‏),‏ وأن مختلف الأوثان التي اصطنعها المشركون من الحجر‏,‏ والشجر‏,‏ والنجوم‏,‏ والكواكب وغيرها‏,‏ كلها مخلوقة وعاجزة عن الخلق‏,‏ وخاضعة لله بالعبادة‏.‏
‏(9)‏ الإيمان بأن لله ما في السماوات وما في الأرض‏,‏ وأن الدين له وحده دائما‏.‏

من مكارم الأخلاق في سورة النحل
‏(1)‏ الدعوة الي اقامة عدل الله في الأرض‏,‏ والإحسان إلي الخلق‏,‏ والوفاء بالعهد‏,‏ وإلي غير ذلك من مكارم الأخلاق وضوابط السلوك‏,‏ وقواعد المعاملات المنطلقة من مخافة الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ومراقبته‏.‏
‏(2)‏ الأمر بالإنفاق في سبيل الله‏..‏ وإيتاء ذي القربي‏.‏
‏(3)‏ الدعوة إلي الهجرة في سبيل الله‏.‏

(4)‏ التحذير من الوقوع في الفتن‏,‏ ومن أخطرها فتنة الكفر بعد الإيمان‏.‏
‏(5)‏ النهي عن الشرك بالله نهيا قاطعا‏,‏ وعن الفحشاء والمنكر والبغي‏.‏

(6)‏ التذكير بنعم الله العديدة علي العباد‏,‏ ومنها اللجوء إليه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ في كل شدة فيكشفها‏,‏ وضرورة شكر الله علي نعمه التي لا تحصي ولا تعد‏.‏
‏(7)‏ التذكير بأحوال الإنسان ابتداء من مراحل الأجنة‏,‏ إلي الشباب والفتوة‏,‏ ثم الشيخوخة والهرم‏,‏ حتي الاحتضار والموت‏.‏ ومقارنة ذلك بالانتقال من أحوال الشدة والبلاء الي النعمة والرخاء وبالعكس‏.‏

من الآيات الكونية في سورة النحل
حفلت سورة النحل بالعديد من الآيات الكونية التي يمكن إيجازها فيما يلي‏:‏
‏(1)‏ خلق السماوات والأرض بالحق‏,‏ وتأكيد أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق كل شيء‏.‏
‏(2)‏ خلق الإنسان من نطفة‏,‏ وعلي الرغم من ذلك فهو كثيرا ما يقابل فضل خالقه بالجحود والنكران‏.‏

(3)‏ خلق الأنعام‏(‏ الإبل‏,‏ والبقر‏,‏ والضأن‏,‏ والماعز‏),‏ وفيها العديد من المنافع للإنسان‏.‏
‏(4)‏ خلق الخيل والبغال والحمير‏,‏ وغير ذلك من وسائل الركوب التي لم تكن معروفة في زمن الوحي‏,‏ والله يخلق مالا يعلمه الانسان‏.‏

(5)‏ انزال الماء من السماء للشراب‏,‏ ولانبات كل من الشجر والزروع‏,‏ ومن أهمها‏:‏ الزيتون‏,‏ والنخيل‏,‏ والأعناب‏,‏ ومن كل الثمرات‏,‏ وقد جعل ربنا في ذلك آية للذين يتفكرون‏.‏
‏(6)‏ تسخير الأرض لعمارتها وذلك بتكويرها‏,‏ وتدويرها حول محورها أمام الشمس‏(‏ حتي يتبادل عليها الليل والنهار‏),‏ وكذلك تسخير كل من الشمس والقمر والنجوم بأمر من الله‏(‏ تعالي‏)‏ لاستقامة الحياة في هذا الكون‏.‏

(7)‏ نشر مختلف صور وألوان كل من الأحياء والجمادات في كوكبنا الأرض‏.‏
‏(8)‏ تسخير البحر للانسان بما فيه من أحياء ذات لحم طري‏,‏ وهياكل تصلح لصناعة الحلي‏,‏ وقدرة علي حمل الفلك ذات الأحجام المختلفة التي تجري بمصالح العباد شاقة عباب مائه‏,‏ وما فوق الماء من هواء‏.‏

(9)‏ إلقاء الجبال علي الأرض‏,‏ وجعلها رواسي لها‏,‏ كي لا تميد ولا تضطرب‏,‏ وإلا ما كانت الأرض صالحة للعمران‏,‏ وارتباط تكون الجبال بنبع الأنهار من قممها‏,‏ ودور حركة الانهار من منابعها إلي مصابها في تفتيت الصخور‏,‏ وتكوين التربة‏,‏ وتركيز العديد من المعادن والصخور النافعة‏,‏ والثروات الأرضية الأخري‏,‏ وفي تسوية سطح الأرض وشق الفجاج والسبل فيها‏.‏
‏(10)‏ جعل تضاريس الأرض المختلفة علامات للاهتداء بها علي اليابسة في وضح النهار‏,‏ وجعل النجوم علامات للاهتداء بها في ظلمات البر والبحر‏.‏

(11)‏ وصف عقاب بعض الأمم السابقة وصفا ينطبق بدقة كبيرة علي ما تحدثه الزلازل في زماننا من قبل أن يدرك أحد من الخلق ميكانيكية حدوث تلك الهزات الأرضية‏.‏ وتأكيد أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد خسف الأرض بالذين مكروا السيئات في الماضي‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه‏)‏ قادر علي أن يخسفها بهم في الحاضر والمستقبل‏,‏ وفي ذلك تأكيد أن فهم الانسان لميكانيكية حدوث مختلف صور الكوارث الأرضية لا يخرجها عن كونها جندا من جند الله يسلطها علي من يشاء من عباده عقابا للعاصين‏,‏ وابتلاء للصالحين‏,‏ وعبرة للناجين‏.‏
‏(12)‏ الاشارة الي دوران الأرض حول محورها أمام الشمس بمد الظل وقبضه‏,‏ واعتباره صورة من صور السجود التسخيري لله‏(‏ تعالي‏)‏ في خضوع وطاعة تامين‏.‏

(13)‏ تأكيد الإعجاز في خلق الأنعام‏,‏ وفي تكوين اللبن في ضروعها من بين فرث ودم‏,‏ وخروجه لبنا خالصا سائغا للشاربين‏.‏
‏(14)‏ جعل ثمار النخيل والأعناب مصدرا للرزق الحسن‏,‏ وإن أساء بعض الناس استخدامها في صناعة المسكرات‏.‏

(15)‏ خلق حشرة النحل‏,‏ ومنح إناثها القدرة علي بناء بيوتها في الجبال‏,‏ وفي الأشجار‏,‏ وفيما يعرش لها الناس بهذه الدقة الهندسية البديعة‏,‏ وإعطائها خصوصية جمع الرحيق وحبوب اللقاح من مختلف الزهور عبر مسافات شاسعة الاتساع دون أن تضل عن بيوتها والقدرة علي صناعة ذلك الشراب العجيب والمختلف الألوان والمعروف باسم عسل النحل في بطونها الذي جعل الله تعالي فيه شفاء للناس‏.‏
‏(16)‏ خلق الأزواج من ذات النفس الواحدة‏,‏ وخلق البنين والحفدة من الازواج‏,‏ في دورة للحياة تنطبق علي كل حي‏,‏ ومن الأحياء الانسان الذي قد يتوفي طفلا‏,‏ أو شابا أو كهلا‏,‏ ومنهم من يرد الي أرذل العمر‏,‏ ومن مظاهره فقدان الذاكرة جزئيا أو كليا حتي لا يعلم بعد علم شيئا‏.‏

(17)‏ إخراج المواليد من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد جعل لهم السمع والأبصار والافئدة لعلهم يشكرون‏,‏ والقرآن الكريم يقدم السمع علي البصر دوما‏,‏ والعلم يثبت سبق حاسة السمع علي حاسة البصر في خلق الأجنة‏,‏ فالجنين يسمع وهو في بطن أمه ولا يري‏,‏ وكذلك الطفل حديث الولادة‏.‏
‏(18)‏ الاشارة الي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يمسك الطيور مسخرات في جو السماء‏.‏

(19)‏ الاشارة بلفظة الحر إلي كل من الحر والبرد لأن كلا من الحالين يمثل بدرجة حرارة إما ايجابا وإما سلبا‏.‏
‏(20)‏ تحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به‏..‏ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم‏(‏ النحل‏115).‏

وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك سوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الحادية عشرة فقط من القائمة السابقة‏.‏ والمتعلقة بوصف أثر الزلازل علي المنشآت الأرضية‏.‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة
أولا‏:‏ في قول ربنا تبارك وتعالي‏:‏ قد مكر الذين من قبلهم‏...:‏
و‏(‏المكر‏)‏ لغة هو الاحتيال والخديعة‏,‏ أو هو صرف الغير عما يقصده الفاعل بحيلة من الحيل‏,‏ و‏(‏المكر‏)‏ ضربان‏:‏ محمود ومذموم‏,‏ والمحمود هو الذي يتحري به صاحبه فعل أمر جميل‏,‏ والمذموم هو الذي يتحري به صاحبه فعل أمر قبيح‏.‏ ومن المكر المحمود ما وصف به الله ذاته العلية فقال‏(‏ عز من قائل‏):‏
‏...‏ والله خير الماكرين‏*(‏ آل عمران‏:54)‏
ومن المكر المذموم ما جاء ذمه في القرآن الكريم بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

استكبارا في الأرض ومكر السييء ولا يحيق المكر السييء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا‏*(‏ فاطر‏:43)‏
والآية السادسة والعشرون من سورة النحل جاءت بعد استعراض عدد من المخالفات الشرعية الجسيمة من أمثال الشرك بالله‏(‏ تعالي‏),‏ والكفر بالآخرة وإنكار البعث والحساب والجنة والنار‏,‏ والاستعلاء في الأرض والتكبر والتجبر علي الخلق‏,‏ والله لا يحب المستكبرين‏,‏ وإنكار وحي السماء ووصفه زورا بـ‏(‏ أساطير الأولين‏)‏ وهؤلاء تصفهم الآية الخامسة والعشرون من سورة النحل بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون‏*‏
‏(‏النحل‏:25)‏

ولعل كل هذه المخالفات الشرعية الجسيمة من الكفر‏,‏ والشرك‏,‏ وإنكار البعث‏,‏ والجحود للخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ والاستكبار في الأرض‏,‏ وإضلال الخلق وإفساد فطرة الناس قد جمعت كلها في قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ قد مكر الذين من قبلهم‏...‏ وجاء الرد علي هذا المكر السييء بعقاب الله المدمر لهؤلاء العصاة المتجبرين في الدنيا‏,‏ الذين يقفون لدعوة الله‏(‏ تعالي‏)‏ بالمرصاد‏,‏ ولحملتها بالتصدي والاضطهاد‏,‏ ويحسبون أن كفرهم وشركهم سوف ينفعهم‏,‏ أو أن استعلاءهم علي الخلق وتجبرهم في الأرض سوف يمر دون مساءلة لهم من خالق الخلق‏,‏ وأن مكرهم لا يرد‏,‏ وأن مؤامراتهم ودسائسهم لن تخيب‏,‏ ولكن الله من ورائهم محيط‏,‏ وعقاب الله‏(‏ تعالي‏)‏ لأمثالهم من الأمم السابقة ماثل أمام أعينهم‏,‏ ويصفه القرآن الكريم بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏...‏ فأتي الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون‏*‏

وهذا الخراب والدمار والهلاك في الدنيا‏,‏ أما في الآخرة فمآلهم أنكي وأنكد وتصفه الآيات التالية بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء علي الكافرين‏*‏ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلي إن الله عليم بما كنتم تعملون‏*‏ فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوي المتكبرين‏*(‏ النحل‏:27‏ ـ‏29).‏

وعلي ذلك فإن هذا المقطع المعجز من الآية السادسة والعشرين من سورة النحل يحسم الحكم علي جميع الكوارث والمصائب التي تحدث للخلق‏:‏ الطبيعية‏(‏ الفطرية‏)‏ منها والشخصية مؤكدة أنها كلها تحدث بعلم الله‏(‏ تعالي‏)‏ وأمره‏,‏ ويسخر ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ لتنفيذها ما يشاء من جنده‏:‏ عقابا للعاصين‏,‏ وابتلاء للصالحين‏,‏ وعبرة للناجين‏,‏ وذلك تحقيقا لقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏(1)‏ وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون‏*‏ فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين‏*‏ فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين‏*(‏ الأعراف‏:4‏ ـ‏6)‏
‏(2)‏ ولو أن أهل القري آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون‏*‏ أفأمن أهل القري أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون‏*‏ أوأمن أهل القري أن يأتيهم بأسنا ضحي وهم يلعبون‏*‏ أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون‏*‏ أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع علي قلوبهم فهم لا يسمعون‏*‏
‏(‏الأعراف‏:96‏ ـ‏100).‏

(3)‏ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏*‏
‏(‏العنكبوت‏:40).‏

وسئل المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ يارسول الله‏!‏ أنهلك وفينا الصالحون؟ قال‏:‏ نعم إذا كثر الخبث‏,‏ ثم يبعث الناس علي نواياهم‏.‏
وقال الإمام علي‏(‏ كرم الله تعالي وجهه‏):‏ ما نزل عقاب الا بذنب‏,‏ وما رفع الا بتوبة‏.‏

وأسجل هذه الحقيقة القرآنية هنا لاختلاف الكتاب في الحكم علي الزلزال الذي ضرب جنوب آسيا في ساعة مبكرة من صبيحة الأحد‏1425/11/14(‏ الموافق‏2004/12/26)‏ بقوة بلغت‏8.9‏ علي مقياس ريختر المفتوح‏,‏ وتسبب في عدد من الهزات الأرضية اللاحقة صحبتها موجات بحرية عنيفة بسرعات وصلت إلي قرابة الألف كيلو متر في الساعة في عدد من الموجات المتلاحقة يزيد طول الواحدة منها علي المائتي كيلو متر‏,‏ وبارتفاع فاق العشرة أمتار فأغرق عددا من السواحل المكشوفة في كل من إندونيسيا‏,‏ وماليزيا‏,‏ وتايلاند‏,‏ وسريلانكا‏,‏ والهند‏,‏ وجزر المالديف‏,‏ كما أغرق أكبر قاعدة بحرية أمريكية في المحيط الهادي في جزيرة دييجو جارسيا‏,‏ ووصلت آثار هذه الموجات البحرية الي كل من سواحل عمان وسواحل افريقيا الشرقية‏.‏ والهزة وقعت علي عمق‏40‏ كم من نقطة بين جزيرتي جاوة وسومطرة‏.‏ وراح ضحيتها أكثر من‏165‏ ألف نفس‏,‏ ومئات الآلاف من الجرحي‏,‏ وملايين المشردين بالاضافة الي خسائر مادية تقدر بعشرات المليارات من الدولارات‏.‏
وتعجب كثير من الناس كيف يكون هذا عقابا من الله‏(‏ تعالي‏)‏ وأغلب سكان المناطق المتضررة من المسلمين‏!!‏ وينسي هؤلاء أن الحضارة الغربية الخالية من الدين والأخلاق والقيم‏(‏ كما كشفتها مؤامرة اغتصاب فلسطين وما يجري علي أرضها من مظالم‏.‏ وأحداث سجون جوانتانامو‏,‏ وأبو غريب وأفغانستان‏,‏ وغزو كل من العراق وأفغانستان دون أدني مبرر‏,‏ ومن قبل مذابح البلقان‏,‏ واتفاقات سايكس ـ بيكو وغيرها من المؤامرات الحقيرة التي دبرتها كبريات دول الغرب‏)‏ هذه الحضارة الخاوية قد استغلت فقر دول جنوب آسيا وحولتها الي ساحة لمبارزة الله بالمعاصي من مستعمرات العراة‏,‏ إلي سياحات الجنس والشذوذ‏,‏ إلي نوادي القمار‏,‏ وساحات الاتجار في الاطفال وهم في سن الزهور مما يغضب الله‏(‏ تعالي‏)‏ ويستجلب سخطه فيسلط من جنده ما يدمر مناطق الفساد انتقاما من العاصين‏,‏ وابتلاء للصالحين‏,‏ وعبرة للناجين‏,‏ وفهمنا لميكانيكية الحدث لا يخرجه عن كونه من جند الله‏.‏ وإذا لم تؤخذ هذه الكوارث وأمثالها في هذا الاطار فلن يستفيد الناجون منها شيئا وسوف يظلون عرضة للانتقام الإلهي المرة تلو الأخري‏...‏ وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا‏*(‏ الإسراء‏:8)‏

ثانيا‏:‏ في قوله تعالي‏:...‏ فأتي الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون‏*:‏
ولا أجد وصفا لما تحدثه الزلازل من دمار أبلغ من هذا الوصف القرآني‏.‏ فأرضنا تتعرض سنويا لحوالي المليون هزة أرضية‏,‏ أغلبها هزات خفيفة تسجلها أجهزة الرصد الزلزالي ولا يكاد يشعر بها الإنسان‏,‏ وبعضها هزات متوسطة‏,‏ ومنها حوالي‏(100‏ ـ‏150)‏ هزة مدمرة‏,(20)‏ هزة ذات دمار شامل‏,‏ بالاضافة إلي هزة واحدة كل‏(5‏ ـ‏10)‏ سنوات تبلغ قمة الدمار الشامل‏,‏ كما تتعرض الأرض لحوالي العشرين ثورة بركانية كبري كل خمسين عاما تقريبا‏.‏

والزلازل والبراكين عمليتان متواصلتان‏,‏ لأن ثورة البركان قد تصاحب بعدد من الهزات الأرضية‏,‏ كما قد تصاحب الزلازل بخروج أقدار من الطفوح البركانية‏,‏ وكلاهما قد يصاحب بالأعاصير الهوائية أو العواصف البحرية أو بهما معا‏.‏
ومن مخاطر الزلازل دك قواعد المباني‏(‏ أي أساساتها ودعائمها وعمدها‏)‏ مما يؤدي إلي انهيار الأسقف والمنشآت العلوية كلها في مشهد من الدمار الكامل الشامل للمباني وما فيها ومن فيها كما تصف الآية الكريمة تماما‏.‏

ومن أسباب دك قواعد المباني اهتزاز سطح الأرض أفقيا ورأسيا مما يؤدي إلي تصدعاته وإلي خسف أو رفع أجزاء منه‏,‏ وإحداث أعداد من الانهيارات الشديدة فيه‏.‏ وقد يصاحب ذلك عدد من العواصف البحرية المدمرة التي تعين علي مزيد من الخراب خاصة في المناطقة الساحلية المكشوفة كما حدث في جنوب آسيا منذ أسابيع قليلة مضت‏.‏
ويهتز سطح الأرض بمرور الموجات الزلزالية فيه‏,‏ وهي تعمل علي تضاغط وتخلخل مكونات الصخور أو حبيبات التربة التي تمر فيها مما يضعف من تماسكها‏,‏ ويعمل علي زحزحتها‏,‏ ويؤدي ذلك الي تدمير قواعد المباني والمنشآت‏,‏ وبتدميرها تنهار بالكامل‏,‏ خاصة إذا تداخلت ترددات الموجات الزلزالية مع ترددات التربة أو مكونات الصخور المقام عليها المبني أو المنشأة‏,‏ وتردد المبني أو المنشأة ذاتها‏,‏ خاصة إذا كان ذلك مقاما علي تربة رخوة من مثل التربة الطينية أو الرملية‏,‏ أو صاحب الهزة الأرضية تكون أعداد من التشققات أو الصدوع أو الانهيارات الأرضية‏.‏

ومما يساعد علي دك قواعد المباني والمنشآت الأخري ما تسببه ترددات الموجات الزلزالية من تمييع‏(‏ إماعة‏)‏ لمكونات الصخور أو لحبيبات التربة المقام عليها تلك المباني والمنشآت‏..‏ فتسلك مسلك الموائع تحت تلك الضغوط مما يؤدي إلي عدد من الإزاحات الأفقية والرأسية لمكونات القواعد فتخلخلها تماما ثم تدمرها مما يؤدي إلي انهيار المباني أو المنشآت المقامة عليها‏,‏ خاصة اذا كانت التربة طينية رطبة أو مشبعة بالماء مما يضاعف من قدرتها علي الهبوط والزحف والانهيار فتؤدي حركتها إلي تدمير القواعد بالكامل وبتدميرها تنهار المباني والمنشآت القائمة عليها‏.‏
هذه الحقائق لم تدرك الا في العقود المتأخرة من القرن العشرين‏,‏ ووصفها بهذه الدقة العلمية الفائقة في الآية السادسة والعشرين من سورة النحل مما يقطع بأن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏),‏ وحفظه حفظا كاملا‏:‏ حرفا حرفا‏,‏ وكلمة كلمة‏,‏ وآية آية‏,‏ وسورة سورة‏,‏ بنفس الترتيب‏,‏ المحفوظ في بلايين المصاحف‏,‏ ومئات الملايين من الصدور‏,‏ وفي وسائل الحفظ الأخري‏,‏ وحفظ ربنا‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ القرآن الكريم علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية وتعهد بذلك إلي أن يرث الأرض ومن عليها حتي يبقي القرآن الكريم شاهدا علي جميع الخلق إلي قيام الساعة‏.‏

ووصف القرآن الكريم انهيار منشآت الكفار والمشركين‏,‏ والطغاة الباغين‏,‏ المفسدين في الأرض‏,‏ والمتجبرين علي الخلق بإتيان تلك المنشآت من القواعد هو وصف علمي دقيق لما تحدثه الزلازل‏(‏ الهزات الأرضية‏)‏ وهذا الوصف العلمي الدقيق ـ وإن جاء في مقام التشبيه ـ إلا أنه قد صيغ بدقة علمية فائقة في زمن سادت فيه الخرافات والأساطير في تفسير العديد من الظواهر الطبيعية‏.‏ ففي تفسير الزلازل ـ علي سبيل المثال ـ سادت فكرة وجود كائن حي يحمل الأرض ويعمل علي حفظ توازنها في أغلب الأوقات‏,‏ فإذا احتاج هذا الكائن الي قسط من الراحة اهتزت الأرض محدثة الزلازل‏.‏ واختلف هذا الكائن الأسطوري باختلاف الأمم فمنها من تصوره ثورا عظيما يحمل كوكب الأرض علي أحد قرنيه وينقله من قرن إلي آخر فيحدث الزلزال‏,‏ ومنها من تصوره سلحفاة ضخمة‏,‏ ومنهم من تخيله حوتا عملاقا‏,‏ أو ضفدعة كبيرة‏,‏ أو ماردا مفزعا‏,‏ أو عنكبوتا عظيما‏.‏
ومن الوثنيين من توهم آلهة لباطن الأرض ترضي وتغضب وتثور وتهدأ‏,‏ ومن الفلاسفة البدائيين من فسر الزلازل باندفاع الغازات من كهوف خاصة في داخل الأرض‏.‏

وسط هذا الركام من الخرافات والأساطير يأتي وصف القرآن الكريم للزلازل‏(‏ بإتيان القواعد‏)‏ وصفا علميا فائق السبق والدقة‏,‏ وشاهدا لربانية القرآن الكريم‏,‏ ولنبوة الرسول الخاتم الذي تلقاه‏,‏ ومؤكدا أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ الذي وصف ذاته العلية بقوله‏(‏ عز من قائل‏):‏
‏*‏ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين‏*(‏ الأنعام‏:59).‏

*‏ وقوله‏:...‏ وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين‏*(‏ يونس‏:61).‏
‏*‏ وقوله‏:...‏ عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر الا في كتاب مبين‏*(‏ سبأ‏:3).‏

هذا الإله العظيم لا يمكن لحدث من الأحداث أن يخرج عن علمه وأمره‏,‏ وهو‏(‏ سبحانه‏)‏ مسبب الأسباب‏,‏ ومجري الأحداث‏,‏ وصاحب الأمر كله‏,‏ ومحاولة إخراج حدث كالزلازل والبراكين والعواصف والأعاصير وغيرها من سنن الله في الكون عن حقيقة كونها من جنده التي يسخرها بعلمه وحكمته وقدرته‏:‏ عقابا للعاصين‏,‏ وابتلاء للصالحين‏,‏ وعبرة للناجين‏,‏ ومحاولة نسبتها إلي الطبيعة هي صورة من صور الشرك الخفي الذي نعوذ بالله من الوقوع فيه‏,‏ والله يقول الحق وهو يهدي إلي سواء السبيل‏,‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏.‏