إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين‏*‏
فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله علي الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين‏*‏
هذان الآيتان الكريمتان جاءتا في نهاية النصف الأول من سورة آل عمران‏,‏ وهي سورة مدنية‏,‏ ومن طوال سور القرآن الكريم إذ يبلغ عدد آياتها مائتي آية بعد البسملة‏,‏ ولذا تأتي في المقام الثالث بعد كل من سورتي البقرة والأعراف من حيث عدد الآيات‏.‏

والتسمية بـ‏(‏ آل عمران‏)‏ توقيفية من الله‏(‏ تعالي‏)‏ ولكن يبدو أن سببها هو ورود الإشارة في هذه السورة المباركة إلي أسرة السيدة‏/‏ مريم ابنة عمران‏,‏ أم نبي الله عيسي‏(‏ علي نبينا و عليه من الله السلام‏),‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
إن الله اصطفي آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران علي العالمين‏*‏ ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم‏*.‏
‏(‏آل عمران‏:34,33)‏

وتروي هذه السورة الكريمة قصة امرأة عمران‏,‏ وابنتهما‏:‏ مريم البتول‏,‏ ومعجزة ميلادها لوليدها من غير أب‏,‏ كما تروي عددا من المعجزات التي أجراها الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي يدي هذا الوليد لكي تكون شاهدة له بالنبوة وبالرسالة‏.‏
كذلك جاءت الاشارة في هذه السورة المباركة إلي نبي الله زكريا‏(‏ علي نبينا وعليه السلام‏)‏ الذي وهبه الله الوهاب ابنا علي الكبر هو نبي الله يحيي‏(‏ عليه السلام‏)‏ كرامة له واستجابة لدعائه الصادق‏.‏

وجاء في سورة آل عمران أيضا أمور أخري‏,‏ منها ذكر لما حدث في معركة أحد‏,‏ وللدروس المستفادة منها‏.‏
ويدور المحور الرئيسي لهذه السورة المباركة حول حوار أهل الكتاب ممثلا في وفد نصاري نجران‏,‏ وتحدد من خلال هذا الحوار عدد من ركائز العقيدة الإسلامية وتشريعاتها‏,‏ وقد سبق لنا استعراض هذه السورة المباركة بأهم ملامحها ومحاورها وركائز العقيدة التي أرستها‏,‏ والتشريعات التي حددتها‏,‏ ولذلك لا أري حاجة إلي تكرار ذلك هنا من أجل إفساح الساحة لاستعراض ما جاء في هاتين الآيتين الكريمتين من حقائق علمية تشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏),‏ وحفظه حفظا كاملا‏(‏ حرفا حرفا‏,‏ وكلمة كلمة‏,‏ وسورة سورة بنفس الترتيب الذي نراه في بلايين المصاحف الموجودة بين أيدينا وفي صدور مئات الملايين منها اليوم‏)‏ وحفظه علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية‏,‏ وتعهد بحفظه إلي قيام الساعة ليكون شاهدا علي الناس كافة إلي يوم الدين‏,‏ وشاهدا للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة رغم أنوف المنكرين من الكفار والمشركين‏.‏

من الدلالات العلمية للآيتين الكريمتين
أولا‏:‏ في قوله تعالي‏:‏ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين‏*‏ بعد مجاهدة طويلة استغرقت آلافا من العلماء‏,‏ عبر عشرات من العقود ثبت لنا في منتصف الستينيات من القرن العشرين أن أرضنا في مرحلة من مراحل خلقها كانت مغمورة بالماء غمرا كاملا‏,‏ ثم شاءت إرادة الله‏(‏ تعالي‏)‏ أن يفجر قاع هذا المحيط الغامر بثورة بركانية عنيفة ظلت تلقي بحممها التي تراكمت فوق بعضها البعض مكونة سلسلة جبلية في وسط هذا المحيط الغامر‏,‏ وظلت هذه السلسلة في النمو والارتفاع حتي ظهرت قمتها فوق سطح الماء مكونة أول جزء من اليابسة علي هيئة جزيرة بركانية من مثل جزر اليابان‏,‏ الفلبين‏,‏ اندونيسيا‏,‏ هاواي‏,‏ وغيرها من الجزر البركانية المنتشرة في محيطات اليوم‏.‏
وباستمرار عمليات النشاط البركاني نمت هذه الجزيرة الأولية بالتدريج بواسطة الثورات البركانية المتلاحقة التي اضافت اليها مساحات جديدة من اليابسة محولة اياها إلي قارة كبيرة تعرف باسم القارة الأم أو بانجيا‏(Pangaea),‏ وهذا النمو بالإضافة علي مراحل هو‏(‏ الدحو‏)‏ الذي يعرف لغة‏:‏ بالمد والبسط والإلقاء وهو تعريف دقيق لعمليات مد اليابسة بواسطة الثورات البركانية‏.‏

وبعد اكتمال تكون القارة الأم شاءت إرادة الله‏(‏ تعالي‏)‏ أن يمزقها بواسطة شبكة هائلة من الصدوع العميقة التي شكلت خسوفا أرضية غائرة‏,‏ قسمت تلك القارة الأم إلي القارات السبع المشاهدة حاليا علي سطح الأرض‏,‏ والتي كانت في القديم أشد تقاربا إلي بعضها البعض ثم بدأت في الزحف والتباعد حتي وصلت إلي مواقعها الحالية علي سطح الأرض‏,‏ والألواح الصخرية المكونة لتلك القارات لا تزال في حركة دائبة إلي اليوم‏.‏
هذه الظاهرة التي يتحول فيها جزء من المحيط إلي أرض يابسة‏,‏ أو تنشق الأرض اليابسة لتحتوي محيطا فيما بينها تعرف باسم دورة المحيط واليابسة‏.‏ ويتم تحول المحيط إلي أرض يابسة بواسطة الثورات البركانية المتكررة من تحت قاع المحيط والتي ترتفع بجزء من ذلك القاع إلي ما فوق سطح الماء علي هيئة جزر بركانية تظل تنمو بالتدريج متحولة إلي قارة‏,‏ ثم بواسطة تصدع وخسف أجزاء من تلك القارة تنفصل إلي كتلتين متوازيتين يفصلهما بحر طولي شبيه بالبحر الأحمر‏,‏ يظل يتسع باستمرار حتي يتحول إلي محيط‏.‏

ومن قبل ألف وأربعمائة سنة روي عن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قوله الشريف‏:‏ كانت الكعبة خشعة علي الماء فدحيت منها الأرض‏,‏ والحديث ذكره الهروي في غريب الحديث‏(3/362),‏ وذكره الزمخشري في الفائق في غريب الحديث‏1/371‏ لأن دلالته العلمية كانت سابقة لعصره بألف وأربعمائة من السنين و‏(‏الخشعة‏)‏ أكمة لاطئة بالأرض‏,‏ والجمع‏(‏ خشع‏).‏
وهذا الحديث النبوي الشريف يدعمه حديث آخر أخرجه كل من الطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن عمر‏(‏ رضي الله عنهما‏)‏ موقوفا عليه‏:‏ انه‏(‏ أي بيت الله الحرام‏)‏ كان أول ما ظهر علي وجه الماء عند خلق السماوات والأرض زبدة‏(‏ بفتح الزاي‏,‏ أي كتلة من الزبد‏)‏ بيضاء فدحيت الأرض من تحته‏.‏

وهذان الحديثان الشريفان يعتبران سبقا علميا معجزا لرسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ يشهد له بالنبوة وبالرسالة‏,‏ وبأنه كان موصولا بالوحي‏,‏ ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض‏,‏ لأنه لم يكن لأحد من الخلق قبل منتصف الستينيات من القرن العشرين إدراك لشيء من هذا العلم‏.‏
ويؤكد ذلك حقيقة توسط مكة المكرمة لليابسة‏,‏ كما يحمل معني أن اليابسة تحت الكعبة المشرفة تعتبر أقدم جزء من الغلاف الصخري للأرض علي الإطلاق‏,‏ وهو ما لم يحاول أحد اثباته بعد‏,‏ وعلي علماء المسلمين أن يتحققوا من ذلك بتحديد العمر المطلق للصخور القائمة حول الكعبة المشرفة بواسطة العناصر المشعة الموجودة فيها حتي يمكن تقديم هذا الدليل إلي الناس جميعا ـ مسلمين وغير مسلمين ـ مما يعتبر وثيقة مادية ملموسة‏,‏ وحجة منطقية علي صدق نبوة هذا النبي الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

ولعل في هذين الحديثين الشريفين ما يدعم قول السدي‏(‏ رحمه الله‏)‏ في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):(‏ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين‏):‏ أنه أول بيت وضع علي وجه الأرض مطلقا‏....‏

ثانيا‏:‏ في قوله تعالي‏:‏ فيه آيات بينات مقام إبراهيم‏...*.‏
ذكر ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ أن المقصود بتعبير‏(‏ مقام إبراهيم‏)‏ هو تلك الصخرة التي استعان بها سيدنا إبراهيم‏(‏ علي نبينا وعليه السلام‏)‏ للارتفاع بالوقوف عليها وهو يرفع القواعد من البيت العتيق‏,‏ وولده اسماعيل‏(‏ عليه السلام‏)‏ يناوله الحجارة حتي تم البناء‏.‏
وانطلاقا من ذلك قال مجاهد‏(‏ رحمه الله‏)‏ إن الآيات البينات التي جاء ذكرها في هاتين الآيتين الكريمتين هي أثر قدمي سيدنا إبراهيم‏(‏ عليه السلام‏)‏ في تلك الصخرة المعروفة باسم‏(‏ مقام إبراهيم‏).‏ ولكن ابن عباس‏(‏ رضي الله عنهما‏)‏ ذكر أن المقصود بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)(‏ مقام إبراهيم‏)‏ هو الحرم علي اتساعه‏,‏ وأن الآيات البينات التي فيه منهن مقام إبراهيم والمشاعر‏,‏ وأيد ذلك عطاء‏(‏ رحمه الله‏)‏ كما رواه ابن أبي حاتم فقال‏:‏ الحرم كله مقام إبراهيم‏,‏ ويؤيد ذلك قوله‏(‏ تعالي‏):‏ من دخله كان آمنا‏,‏ أي من دخل إلي الحرم المكي‏.‏

وتقدر مساحة هذا الحرم المكي بنحو‏558‏ إلي‏600‏ كيلو متر مربع علي هيئة سلسلة من الأودية والمنخفضات تمتد من مكة المكرمة غربا إلي ساحة عرفات شرقا‏,‏ مرورا بكل من وادي مني ووادي المزدلفة‏.‏
ولهذا الحرم حدود حددها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ لأبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏),‏ وحملها جبريل‏(‏ عليه السلام‏)‏ إلي أبي الأنبياء إبراهيم‏(‏ علي نبينا وعليه من الله السلام‏)‏ ثم إلي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏ وقد نصبت علي هذه الحدود اعلام في جهات خمس تعتبر المداخل الرئيسية للحرم المكي‏,‏ وهذه الاعلام علي هيئة أحجار مرتفعة قدر متر واحد‏,‏ منصوبة علي جانبي كل طريق من الطرق المؤدية إلي منطقة الحرم المكي‏.‏
وهنا يتبادر السؤال ما هي الآيات البينات التي أشارت إليها الآية الكريمة التي نحن بصددها في هذه المساحة الكبيرة التي تشكل الحرم المكي؟ وما هي دلالاتها علي شرف المكان وعظمته وبركاته؟ وللاجابة علي ذلك نورد ما يلي‏:‏

(1)‏ توسطة مكة المكرمة لليابسة‏:‏
وقد قام بإثبات ذلك الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ في اثناء تحديده لاتجاهات القبلة من المدن الرئيسية في العالم فلاحظ تمركز مكة المكرمة في قلب دائرة تمر بأطراف جميع القارات السبع التي تكون اليابسة‏.‏
فإذا كانت الأرض هي مركز السماوات السبع بنص الآية الكريمة التي يقول فيها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان‏*‏
‏(‏الرحمن‏:33).‏

فلابد أن تكون الكعبة المشرفة في مركز الكون‏.‏
ويدعم هذا الاستنتاج ورود الإشارة بذكر السماوات والأرض وما بينهما في عشرين آية قرآنية صريحة‏,‏ ومقابلة السماوات بالأرض في عشرات الآيات القرآنية الأخري‏,‏ علي ضخامة أبعاد السماوات والضآلة النسبية لأبعاد الأرض‏.‏ ويدعم هذا الاستنتاج كذلك ما روي عن المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ من اقوال منها‏:‏

*‏ كانت الكعبة خشعة علي الماء فدحيت منها الأرض‏.‏
‏*‏ إن الحرم حرم مناء من السماوات السبع والأرضين السبع‏.‏
‏*‏ البيت المعمور منا مكة‏,‏ ووصفه‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ للبيت المعمور بأنه بيت في السماء السابعة علي حيال الكعبة تماما حتي لو خر لخر فوقها‏.‏
كل هذه النصوص تؤكد مركزية مكة المكرمة لليابسة أي الأرض الأولي‏,‏ التي من دونها ست أراضين‏,‏ ومركزية الأرض للسماوات السبع‏,‏ فالحرم المكي مركز بين السماوات السبع والأرضين السبع كما وصفه المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

(2)‏ انتفاء الانحراف المغناطيسي عند خط طول مكة المكرمة‏:‏
كذلك ذكر الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ في بحثه القيم المعنون إسقاط الكرة الأرضية بالنسبة لمكة المكرمة والمنشور في العدد الثاني من المجلد الأول لمجلة البحوث الإسلامية الصادرة بالرياض سنة‏1396/1395‏ هـ‏(‏ الموافق‏1976/1975)‏ أن الأماكن التي تشترك مع مكة المكرمة في نفس خط الطول ينطبق فيها الشمال المغناطيسي الذي تحدده الابرة الممغنطة في البوصلة مع الشمال الحقيقي الذي يحدده النجم القطبي‏,‏ ومعني ذلك أنه لا يوجد أي قدر من الانحراف المغناطيسي علي خط طول مكة المكرمة‏,‏ بينما يوجد عند جميع خطوط الطول الأخري‏.‏ ولذلك اقترح الأستاذ الدكتور اتخاذ خط طول مكة المكرمة كخط طول اساسي بدلا من خط طول جرينتش الذي يبلغ الانحراف المغناطيسي عنده‏(8.5)‏ درجة إلي الغرب من الشمال‏,‏ وقد فرض علي العالم بالقوة اثناء الهيمنة الاستعمارية البريطانية التي زال ظلها إلي الأبد بحمد الله‏.‏

(3)‏ ضبط اتجاه زوايا الكعبة المشرفة‏:‏
الكعبة المشرفة مبنية بزواياها الأربع في الاتجاهات الأربعة الأصلية تماما‏,‏ فالحجر الأسود في اتجاه الشرق الحقيقي تماما‏,‏ والركن المصري في اتجاه الغرب الحقيقي تماما‏,‏ والركن اليماني في اتجاه الجنوب تماما‏,‏ ويقابله الركن الشامي في اتجاه الشمال الحقيقي‏,‏ تماما‏.‏ وتحديد تلك الاتجاهات بهذه الدقة في زمن موغل في التاريخ كالذي بنيت فيه الكعبة المشرفة ينفي امكانية كونه عملا بشريا‏,‏ ويؤكد علي كرامة المكان‏,‏ ويضيف إلي ما فيه من الآيات‏.‏

(4)‏ الحجر الأسعد من أحجار السماء‏:‏
روي أبي بن كعب عن النبي‏(‏ صلي الله علي وسلم‏)‏ انه قال‏:‏ الحجر الأسود نزل به ملك من السماء‏.‏ وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس‏(‏ رضي الله عنهما‏)‏ أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:‏ نزل الحجر الأسود من الجنة‏,‏ وهو أشد بياضا من اللبن‏,‏ فسودته خطايا بني آدم‏.‏
وروي عنه ايضا قوله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ لأم المؤمنين السيدة عائشة‏(‏ رضي الله عنها‏)‏ وهي تطوف معه بالكعبة المشرفة حين استلم الركن‏:‏ لولا ما طبع علي هذا الحجر يا عائشة من أرجاس الجاهلية وأنجاسها إذن لاستشفي به من كل عاهة‏,‏ ولألفي اليوم كهيئته يوم أنزله الله‏(‏ عز وجل‏),‏ وليعيدنه إلي ما خلقه أول مرة‏,‏ وإنه لياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة‏,‏ ولكن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ غيره بمعصية العاصين‏,‏ وستر زينته عن الظلمة والأثمة‏,‏ لأنه لا ينبغي لهم أن ينظروا إلي شيء كان بدؤه من الجنة‏(‏ رواه الأزرقي عن وهب بن منبه‏).‏

كذلك أخرج كل من الترمذي‏,‏ وأحمد‏,‏ والحاكم‏,‏ وابن حبان قول رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة‏.‏
وجاء في رواية للبيهقي ان رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ اضاف‏:‏ ولولا ما مسهما من خطايا بني آدم لأضاءا ما بين المشرق والمغرب‏,‏ وما مسهما من ذي عاهة ولاسقم إلا شفي‏.‏

وحينما قرأ المستشرقون هذه الأحاديث النبوية الشريفة ظنوا الحجر الأسعد قطعة من البازلت الذي جرفته السيول من الحرات المجاورة وألقت به إلي منخفض مكة المكرمة‏.‏
ومن أجل اثبات ذلك استأجرت الجمعية الملكية الجغرافية البريطانية ضابطا بريطانيا باسم ريتشارد فرانسيس بيرتون‏RichardFrancisBurton‏ جاء إلي الحجاز في هيئة حاج افغاني‏,‏ وذلك في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي‏(1269‏ هـ‏/1853‏ م‏)‏ بهدف سرقة جزء من الحجر الأسود والفرار به إلي بريطانيا‏,‏ وبالفعل تم له ذلك‏,‏ وبدراسة العينة المسروقة ثبت أنها من أحجار السماء‏,‏ لأنها تشبه احجار النيازك‏,‏ وإن تميزت بتركيب كيميائي ومعدني خاص‏,‏ وكان هذا الاكتشاف سببا في إسلامه‏,‏ وقد سجل قصته في كتاب من جزءين بعنوان رحلة إلي مكة‏(AJourneyToMecca),‏ وتوفي بيرتون في سنة‏1890‏ م‏/1308‏ هـ‏.‏

(5)‏ مقام إبراهيم‏(‏ عليه السلام‏)‏ يحمل طبعة قدميه‏:‏
كلمة‏(‏ المقام بفتح الميم الأولي وضمها تأتي بمعني الإقامة‏,‏ من الفعل‏(‏ أقام‏),(‏ يقيم‏),(‏ إقامة‏)‏ و‏(‏مقاما‏),‏ ومن هنا أخذ التعبير القرآني‏(‏ مقام إبراهيم‏)‏ علي أنه الحرم المكي بكامل حدوده‏,‏ ولكن من مدلول الكلمة أيضا‏(‏ موضع القيام‏)‏ من الفعل‏(‏ قام‏)(‏ يقوم‏)(‏ مقاما‏),‏ ولذلك فهم تعبير‏(‏ مقام إبراهيم‏)‏ بالصخرة التي‏(‏ قام‏)‏ عليها وهو يرفع القواعد من البيت‏,‏ وبهذا المفهوم فإن هذه الصخرة تحمل آية بينة وهي أنه علي الرغم من صلادتها‏(‏ صلابتها‏)‏ الشديدة فإنها تحمل طبعة غائرة لقدمي أبي الأنبياء إبراهيم‏(‏ عليه السلام‏),‏ ولين هذه الصخرة الصلدة إلي الحد الذي يمكنها من حمل طبعة قدمي هذا النبي الكريم معجزة بكل المقاييس العلمية يقف العلم عاجزا أمام إمكانية تفسيرها‏,‏ لأن المعجزات خوارق للسنن والقوانين‏,‏ ولذلك لا يمكن للعلم الكسبي أن يفسرها‏,‏ وهي آية محسوسة لكل ذي بصيرة‏.‏ وفي الأثر أن هذا المقام كان يرتفع بإبراهيم‏(‏ عليه السلام‏)‏ حتي يضع الحجر في مكانه المحدد من البناية‏,‏ ثم يهبط به ليتناول حجرا آخر من ولده إسماعيل‏(‏ عليه من الله السلام‏).‏
وفيما يروي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قوله‏:‏ الركن والمقام من الجنة‏,‏ وقوله‏:‏ الحجر والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة‏.‏

(6)‏ بئر زمزم آية من آيات الحرم المكي‏:‏
إن تدفق الماء من بئر زمزم علي مدي أكثر من ثلاثة آلاف سنة‏,‏ من قلب صخور نارية ومتحولة شديدة التبلور هو أمر لافت للنظر‏..‏ علي الرغم من طمرها وحفرها لعدة مرات‏,‏ ولم يعرف مصدر هذا الماء المتدفق إلي البئر إلا بعد حفر الأنفاق حول مكة المكرمة‏,‏ حين أدرك العاملون في حفر تلك الأنفاق أن الماء يتدفق من تشققات شعرية دقيقة في الصخور المتبلورة تمتد لمسافات بعيدة خارج حدود مكة المكرمة وفي جميع الاتجاهات من حولها‏,‏ وهذه الملاحظة تؤكد وصف المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ لهذه البئر المباركة بأنها نتجت عن طرقة شديدة وصفها بقوله الشريف‏:‏ هي هزمة جبريل وسقيا الله لاسماعيل لأن الهزمة في اللغة هي الطرقة الشديدة‏.‏
وبئر زمزم هي إحدي الآيات المادية الملموسة الدالة علي كرامة المكان ويصف رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ماءها بقوله‏:‏ خير ماء علي وجه الأرض ماء زمزم‏,‏ فيه طعام طعم وشفاء سقم‏,‏ وقوله‏:‏ ماء زمزم لما شرب له‏.‏

(7)‏ إن اعدادا كبيرة من الأنبياء والصالحين مدفونون في الحرم المكي‏:‏
فعلي سبيل المثال يذكر أن سيدنا اسماعيل‏(‏ عليه السلام‏),‏ وأمه السيدة هاجر‏(‏ رضي الله عنها‏)‏ مدفونان في حجر إسماعيل‏,‏ ويروي عن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أنه قال‏:‏ في مسجد الخيف قبر سبعين نبيا‏,‏ ويروي عن سعد بن أبي وقاص‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ قوله عن الحرم الشريف‏:‏ لو كنت من أهل مكة ما أخطأتني جمعة لا أصلي فيه‏,‏ ولو يعلم الناس ما فيه لضربوا إليه أكباد الإبل‏..,‏ وقال مجاهد‏:‏ حج خمسة وسبعون نبيا كلهم قد طاف بهذا البيت وصلي في مسجد مني‏.‏

ثالثا‏:‏ في قوله تعالي‏:...‏ ومن دخله كان آمنا‏...*:‏
رأي المفسرون في هذا النص القرآني الشريف التأكيد علي أمن من دخل إلي الحرم المكي علي اتساع مساحته‏,‏ فكل من دخل في هذا الحرم صار آمنا علي نفسه‏,‏ مطمئنا علي ماله‏,‏ ولو كان مطلوبا للثأر ولاذ به‏,‏ كان ذلك في الجاهلية‏,‏ من بقايا إجلال الناس لهذا المكان‏,‏ الذي كرمه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏),‏ وفضله علي جميع الأرض‏,‏ وجعله أشرف بقاعها علي الإطلاق‏,‏ أما اليوم فمن اقترف جرما فيه من جرائم الحدود أقيم عليه الحد‏.‏
وفي أثناء الفتح الإسلامي لمكة المكرمة أمر رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بمناد ينادي‏:‏ من دخل المسجد فهو آمن‏,‏ ومن دخل داره فهو آمن‏,‏ ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏.‏

وأشار بعض المفسرين إلي أن الأمن في الحرم المكي ليس للانسان فقط‏,‏ بل هو ايضا للحيوان والنبات‏,‏ فقد حرم رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أن يعضد شوكه‏,‏ أو يقلع حشيشه‏,‏ أو يقطع شجره‏,‏ أو ينفر صيده‏,‏ أو أن تلتقط لقطته إلا من عرفها‏.‏
وقد لاحظ المراقبون أن الحيوانات الضارية لا تصطرع في الحرم المكي‏,‏ ولا يؤذي بعضها بعضا‏,‏ بل تخالط من الحيوانات ما تعودت علي افتراسه خارج الحرم المكي‏,‏ ولا تتعرض له فيه ابدا‏.‏
ويروي لنا التاريخ أن كل جبار قصد الحرم المكي بسوء أهلكه الله‏,‏ ولم يمكنه من ذلك‏,‏ كما حدث مع أصحاب الفيل‏,‏ وربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ يقرر حمايته لبيته العتيق بقوله‏(‏ عز من قائل‏):...‏ ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم‏(‏ الحج‏:25),‏ وتحقيقا لهذا الوعد الإلهي تعجل العقوبة لمن انتهك حرمة في الحرم المكي‏.‏ لذلك قال المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ الدجال يطوي الأرض كلها إلا مكة والمدينة‏.‏ وقال‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ يوم فتح مكة‏:‏ لا تغزي مكة بعد هذا اليوم ابدا‏.‏

ومن الشواهد العلمية علي أمن الحرم المكي ما يلي‏:‏
‏(1)‏ حماية مكة المكرمة من الهزات الأرضية والثورات البركانية‏:‏
علي الرغم من انفتاح قاع البحر الأحمر بخسوف ارضية عميقة‏,‏ واتساع هذا القاع بمعدل‏1‏ ـ‏3‏ سنتيمترات في كل سنة‏(‏ تقاس عند باب المندب‏),‏ وعلي الرغم من تحرك الجزيرة العربية ككل في الاتجاه الشمالي الشرقي‏(‏ أي في عكس اتجاه عقرب الساعة‏)‏ متباعدة عن القارة الإفريقية‏,‏ وعلي الرغم من السجلات الزلزالية المدونة‏,‏ والثورات البركانية العنيفة التي تركت طفوحا هائلة من الحمم والرماد البركاني في المنطقة والتي تقدر بنحو‏2586‏ حدثا زلزاليا تقدر قوتها بقدر يتراوح من‏3.1‏ إلي‏6.7‏ درجة علي مقياس ريختر خلال الفترة من سنة‏627‏ م إلي‏1989‏ م‏,‏ وما تلي ذلك من زلازل حتي سنة‏1996‏ م بلغ قدر أعلاها‏6‏ درجات علي مقياس ريختر‏(‏ أو فوق ذلك قليلا‏),‏ وامتدت من اليمن جنوبا‏(‏ مثل زلزال ذمار الذي حدث في‏1982/12/13‏ م‏)‏ إلي العقبة شمالا‏,‏ فلم تسجل هزة أرضية واحدة في الحرم المكي كله الممتد من وادي الشميسي غربا‏(‏ علي بعد‏15‏ كم من مكة المكرمة‏)‏ إلي الجعرانة شرقا‏(‏ علي بعد‏16‏ كم‏),‏ ومن أضاه جنوبا‏(‏ علي بعد‏12‏ كم‏)‏ إلي التنعيم شمالا‏0‏ علي بعد‏6‏ كم‏),‏ وإلي وادي نخلة في الشمال الشرقي من مكة المكرمة‏(‏ علي بعد‏14‏ كم‏),‏ وذلك علي الرغم من وقوع زلزال في المدينة المنورة سنة‏1256‏ م‏,‏ صاحبته ثورة بركانية عنيفة وعلي الرغم من وجود أكثر من تسعين ألف كيلو متر مربع من الطفوح البركانية وآلاف الفوهات البركانية علي أرض الحجاز‏.‏

(2)‏ توسط مكة المكرمة لليابسة‏,‏ وإثبات وجود الأرضين السبع كلها في أرضنا‏,‏ انطلاقا من حديث سيد المرسلين‏(‏ عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم‏)‏ الذي قال فيه‏:‏ من أخذ شيئا من الأرض بغير حقه خسف به يوم القيامة إلي سبع أرضين‏,‏ ومن دراسات التركيب الداخلي للأرض ثبت أن أرضنا مكونة من سبع أرضين متطابقة حول مركز واحد يغلف الخارج منها الداخل‏,‏ مما ينطبق وقول رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ إن الحرم حرم مناء من السماوات السبع والأرضين السبع‏,‏ وقوله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ يا معشر قريش‏,‏ يا معشر أهل مكة‏,‏ إنكم بحذاء وسط السماء‏,‏ وأقل الأرض ثيابا‏,‏ فلا تتخذوا المواشي‏.‏
وقوله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ البيت المعمور منا مكة‏.‏ ووصفه البيت المعمور بأنه بيت في السماء السابعة علي حيال الكعبة تماما حتي لو خر لخر فوقها‏.‏
كل ذلك يؤكد لنا أن الأرض في مركز الكون‏,‏ وأن الكعبة المشرفة في مركز الأرض الأولي‏,‏ ودونها ست أرضين‏,‏ وحولها سبع سماوات‏,‏ والكعبة تحت البيت المعمور مباشرة‏,‏ والبيت المعمور تحت العرش‏.‏ هذا الموقع المتميز للحرم المكي أعطاه من الشرف والكرامة‏,‏ والبركة والعناية الإلهية ما جعل من هذا الوصف القرآني‏:...‏ ومن دخله كان آمنا حقيقة مدركة ملموسة لأنه دخل في أمان الله وظل عرشه‏,‏ وهل يمكن أن يضام من نال شرف الوجود في هذا المكان؟

من هنا كان اختيار الحرم المكي ليكون أول بيت عبد الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيه علي الأرض‏,‏ وليكون قبلة للمسلمين‏,‏ ومقصدا لحجهم واعتمارهم‏,‏ وجعلت الصلاة فيه بمائة ألف صلاة‏,‏ والحسنة فيه بمائة ألف حسنة‏,‏ لذلك قال رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في حق مكة المكرمة عشرات الأحاديث النبوية الشريفة التي تؤكد خصوصية المكان‏,‏ ومكانته عند الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ومنها قوله‏(‏ عليه افضل الصلاة وازكي التسليم‏):‏ هذا البيت دعامة الإسلام‏,‏ من خرج يؤم هذا البيت من حاج أو معتمر كان مضمونا علي الله إن قبضه أن يدخله الجنة‏,‏ وإن رده أن يرده بأجر وغنيمة‏(‏ رواه ابن جريج عن جابر رضي الله عنه‏).‏
فسبحان الذي اختار مكة المكرمة موقعا لأول بيت عبد فيه في الأرض‏,‏ واختاره بهذه المركزية من الكون‏,‏ وغمره بالكرامات والبركات‏,‏ وقرر أن من دخله كان آمنا‏,‏ وهذه حقائق ما كان للانسان أن يدركها لولا نزول القرآن الكريم‏,‏ وحفظه بلغة وحيه بحفظ الرحمن الرحيم‏,‏ فالحمد لله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله علي نعمة مكة المكرمة‏,‏ والحمد لله علي بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

رابعا‏:‏ في قوله تعالي‏:...‏ ولله علي الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏...:‏
هذا النص الكريم يفيد أن الحج فريضة افترضها الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي المستطيع من عباده تعبدا لجلاله وتنسكا‏,‏ والمفهوم اللغوي لـ‏(‏ العبادة‏)‏ أنها قمة الخضوع لله‏(‏ تعالي‏)‏ بالطاعة لأوامره‏,‏ ومفهوم‏(‏ التعبد‏)‏ هو التنسك لله‏(‏ تعالي‏)‏ طلبا لمرضاته‏.‏
والأصل في العبادات أنها لا تعلل‏,‏ لأنها من الأمور التوقيفية التي لا يملك المسلم حيالها إلا القبول والتسليم‏,‏ ومع ذلك فإن هذين الأمرين من القبول والتسليم لا يتنافيان مع محاولة التعرف علي شيء من حكمة العبادات المفروضة كالحج مثلا‏.‏ وللخوض في مثل هذه المحاولات نقول إن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ خلق كلا من المكان والزمان‏,‏ وجعلهما أمرين متواصلين‏,‏ فلا يوجد مكان بلا زمان‏,‏ كما لا يوجد زمان بلا مكان‏.‏ وقد فضل ربنا‏(‏ جل جلاله‏)‏ بعض الأماكن علي بعض‏,‏ كما خص بعض الأزمنة بزيادة فضل بعضها علي بعض‏,‏ فإذا اجتمع فضل المكان وفضل الزمان تضاعفت بركات الفضلين أضعافا كثيرة بإذن الله‏,‏ ولعل تعريض المسلم ـ ولو لمرة واحدة في العمر ـ لمثل هذه الأضعاف المضاعفة من فضل الله علي الزمان والمكان معا هي الحكمة من وراء عبادة الحج‏,‏ وذلك لتوافق وجوده في أشرف الأماكن مع أشرف الأيام عند الله‏.‏

لذلك جعل الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ الحج أحد أركان الإسلام‏,‏ وفرض من الفرائض التعبدية التي علمت من الدين بالضرورة‏,‏ والتي تجب علي كل مسلم‏,‏ بالغ‏,‏ عاقل‏,‏ حر‏,‏ مستطيع مرة واحدة في العمر‏,‏ ومازاد فهو تطوع إلا أن ينذره فيجب الوفاء بالنذر‏.‏ والحج واجب علي التراخي‏,‏ أي يؤدي في أي وقت من العمر‏(‏ من البلوغ إلي ما قبل الوفاة‏),‏ وإن رأي بعض الفقهاء أنه واجب علي الفور خوفا من المرض أو الموت‏.‏
ومن تفضيل الله‏(‏ تعالي‏)‏ لبعض الأماكن علي بعض كان فضل مكة المكرمة وحرمها الشريف علي جميع البقاع يوم خلق الله السماوات والأرض‏,‏ ومن بعدها تفضيل مدينة رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وجوارها المبارك‏,‏ ثم فضل بيت المقدس وأكنافه‏(‏ التي ندعو الله تعالي أن يحررها من دنس الصهاينة الغاصبين‏).‏

ومن تفضيل بعض الأزمنة علي بعض كان فضل يوم الجمعة علي باقي أيام الأسبوع‏,‏ وفضل شهر رمضان المبارك علي باقي شهور السنة‏,‏ وفضل العشر الأواخر من لياليه علي باقي ليالي السنة‏,‏ وفضل ليلة القدر من هذه الليالي العشر‏,‏ وجعلها خيرا من ألف شهر‏,‏ وأفضل ليالي السنة علي الإطلاق وبالمقابل خص ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ الأيام العشرة الأوائل من ذي الحجة بزيادة فضل علي باقي أيام السنة كلها‏,‏ وجعل أشرف أيام السنة علي الإطلاق هو يوم عرفة‏(‏ التاسع من ذي الحجة‏).‏
من هنا يتضح جانب من جوانب الحكمة من فريضة الحج وهو تعرض المسلم البالغ‏,‏ العاقل‏,‏ الحر‏,‏ المستطيع ـ ولو لمرة واحدة في عمره ـ لبركة المكان المقدس في الحرم المكي الشريف ـ وهو أشرف البقاع ـ في الأيام العشرة الأولي من ذي الحجة ـ وهي أشرف أيام السنة علي الإطلاق ـ فينال العبد المسلم الحاج بركات كل من الزمان والمكان مضاعفة أضعافا كثيرة من فضل الله الكريم المنان‏.‏ هذا بالإضافة إلي الدروس التربوية والروحية والنفسية العديدة‏,‏ والفوائد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الجمة التي يمكن أن تجتني من رحلة الحج إذا أحسن استثمارها‏,‏ وتجردت النوايا فيها بالإخلاص لله الذي فرض هذه الفريضة علي عباده المؤمنين ولا يناله إلا التقوي منهم‏.‏

خامسا‏:‏ في قوله تعالي‏:...‏ ومن كفر فإن الله غني عن العالمين‏*:‏
ومن معاني هذا النص الكريم أن من جحد فريضة الحج فقد كفر بالله‏(‏ تعالي‏)‏ ربه‏,‏ وخالقه‏,‏ ورازقه‏,‏ وراعيه‏,‏ والله الذي هذه من صفاته‏,‏ غني عن العالمين لأنه رب هذا الكون ومليكه‏,‏ وحاكمه ومدبر أمره‏,‏ هدي الناس إلي ما فيه خير دنياهم وأخراهم‏,‏ فمن أبي الخير فهو في الخسران المبين‏,‏ ولن يضر الله شيئا‏,‏ وذلك لأن الحج هو من أفضل العبادات‏,‏ وأفضل الجهاد‏,‏ يمحق الفقر والذنوب‏,‏ وجزاؤه الجنة‏,‏ ولذلك روي عن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أقوال كثيرة في فضل الحج منها قوله الشريف‏:‏ تابعوا بين الحج والعمرة‏,‏ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب‏,‏ كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة‏,‏ وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة‏.(‏ أخرجه كل من النسائي والترمذي عن ابن مسعود‏)‏ وقوله‏(‏ عليه الصلاة والسلام‏):‏ الحجاج والعمار وفد الله‏,‏ إن دعوه أجابهم‏,‏ وان استغفروه غفر لهم‏.(‏ أخرجه كل من النسائي وابن ماجه عن أبي هريرة‏).‏
هذه الحقائق عن كرامة بيت الله بقيت في أزمنة الإيمان بالله واضحة جلية في قلوب وعقول المؤمنين‏,‏ ولم تمح من قلوب وعقول الكفار والمشركين في أزمنة الانتكاس عن دين الله وإن اصابها كثير من الغبش‏,‏ وتجليتها في الآيتين الكريمتين اللتين نحن بصددهما مما يجزم بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحية‏(‏ اللغة العربية‏)‏ علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية وتعهد‏(‏ سبحانه‏)‏ بحفظه إلي يوم الدين‏,‏ فالحمد لله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله علي نعمة القرآن والصلاة والسلام علي الرسول الخاتم الذي تلقاه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏,‏ اللهم أمين أمين أمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏