ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها
ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا‏...*‏
هذا النص القرآني المعجز جاء قبل منتصف سورة الأحقاف بقليل‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها خمس وثلاثون بعد البسملة‏,‏ وسميت بهذا الاسم لورود الاشارة فيها إلي الأحقاف التي كانت قبيلة عاد قد أقامت بها منازلها‏,‏ والأحقاف‏(‏ جمع حقاف التي هي جمع حقف‏)‏ والحقف هو ما استطال من الكثبان الرملية واعوج‏,‏ والأحقاف هي من رمال الجزء الجنوبي الشرقي من الربع الخالي بين كل من حضرموت وعمان وباقي أجزاء الجزيرة العربية‏.‏

وقبيلة عاد قوم نبي الله هود‏(‏ علي نبينا وعليه من الله السلام‏)‏ كانوا من أشد الناس ـ في زمانهم ـ قوة ومن أكثرهم ثراء وترفا‏,‏ وبدلا من شكر الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي نعمه‏,‏ والخضوع لجلاله بالطاعة والعبادة‏,‏ عصوا رسول الله إليهم‏,‏ وكفروا بنعم الله عليهم‏,‏ وأشركوا في عبادته مالم ينزل به سلطانا‏,‏ وسخروا من وعيد الله لهم‏,‏ فأرسل عليهم ريحا صرصرا عاتية فيها عذاب أليم فدمرتهم وقضت عليهم‏,‏ ونجي الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ نبيه هودا والذين آمنوا معه‏.‏
وافتتحت سورة الأحقاف بحرفين من الفواتح الهجائية هما‏(‏ حم‏)‏ وقد تكررا بمفردهما ست مرات في القرآن الكريم‏,‏ ومرة سابعة بإضافة ثلاثة حروف أخري‏(‏ حم‏*‏ عسق‏*)‏ وتعرف هذه السور في مجموعها باسم الحواميم وتشمل سور غافر‏,‏ فصلت‏,‏ الشوري‏,‏ الزخرف‏,‏ الدخان‏,‏ الجاثية‏,‏ والأحقاف‏,‏ وأرقامها في المصحف الشريف‏(40‏ ـ‏46).‏

والفواتح الهجائية افتتحت بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم‏,‏ وقيل فيها أنها قد تكون رموزا إلي معان أو أعداد معينة في السورة التي استهلت بها‏,‏ وقد تكون أسماء لتلك السور‏,‏ أو قد تكون صورة من صور التحدي للعرب وإثبات عجزهم عن الإتيان بشيء من مثل القرآن الكريم وهو لم يجاوز حروف لغتهم‏,‏ وقد تكون وسيلة من وسائل قرع الأسماع والقلوب كي تتنبه لتلقي كلام رب العالمين‏,‏ كما أنها دليل ناصع علي صدق نبوة سيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وذلك لنطقه بأسماء الحروف ـ وهو الأمي ـ ومن الثابت أن الأمي ينطق بأصوات الحروف ولا يعرف أسماءها‏.‏ وقد يكون كل ذلك وغيره من أسرار تلك الفواتح الهجائية‏.‏

وبعد هذا الاستفتاح جاء التأكيد علي أن القرآن الكريم منزل بالوحي من لدن رب العالمين‏:‏
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم‏*‏
‏(‏ الأحقاف‏:2).‏

وأن هذا الإله العظيم وصف ذاته العلية بالعزة التي لاترام‏,‏ والغالبة علي الوجود كله‏,‏ وبالحكمة البالغة في الأقوال والأفعال‏,‏ والظاهرة في خلقه ظهور العيان لكل ذي بصر وبصيرة‏,‏ ومن ذلك خلق السماوات والأرض ومابينهما علي نواميس ثابتة‏,‏ وإلي آماد محددة تؤكد حتمية الآخرة علي الرغم من إعراض الكافرين عن إنذار الله‏(‏ تعالي‏)‏ لهم بها‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ما خلقنا السماوات والأرض ومابينهما إلا بالحق وأجل مسمي والذين كفروا عما أنذروا معرضون‏*‏ قل أرأيتم ماتدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين‏*(‏ الأحقاف‏:3‏ و‏4).‏

وتستنكر الآيات شرك المشركين بالله‏(‏ تعالي‏)‏ وضلالهم بدعاء معبودات غافلة عنهم‏,‏ لاتسمع دعاءهم ولاتستجيب لهم‏,‏ ولاتملك من أمرهم شيئا‏,‏ وتتنكر لهم يوم القيامة‏,‏ ولعبادتهم الخاطئة‏,‏ وتقف منهم موقف الاستهجان والمعاداة والإنكار‏.‏
وهؤلاء الكفار والمشركون إذا تتلي عليهم ايات القرآن الكريم قالوا ـ من فجرهم ـ هذا سحر مبين‏,‏ أو تطاولوا علي خاتم الأنبياء والمرسلين بالادعاء الباطل أنه كتب القرآن الكريم‏,‏ وافتري نسبته إلي رب العالمين‏(‏ نزهه الله تعالي عن ذلك وزاد من تشريف قدره‏)‏ كما لو كان هو أول رسل الله‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏

أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلاتملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفي به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم‏*‏ قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري مايفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحي إلي وما أنا إلا نذير مبين‏*‏ قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل علي مثله فآمن واستكبرتم إن الله لايهدي القوم الظالمين‏*(‏ الأحقاف‏:8‏ ـ‏10)‏
والآية العاشرة تشير إلي عبدالله بن سلام‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ وكان من أحبار يهود يثرب فمن الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليه بالإسلام وشهد بوجود صفة المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ فيما بقي بين أيدي اليهود من كتابات‏.‏ وتشير الآية الحادية عشرة إلي أن الكافرين والمشركين من استعلائهم وكبرهم وصلفهم يدعون أنه لو كان ما جاء به سيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ حقا ماسبق الفقراء والمستضعفون في مجتمعاتهم إلي الإيمان به مشيرين الي أنهم هم أصحاب السيادة والذكاء ورجاحة العقل‏,‏ ويضيفون إلي هذا الكبر صلفا آخر مؤداه أنهم ماداموا هم لم يهتدوا به ـ وهم كبراء القوم ووجوهه ـ فلابد من الطعن فيه ـ زورا ـ بوصفه أنه كذب من أساطير الأولين‏.‏ وتأكيدا لحقيقة الوحي السماوي الذي استمر من آدم إلي محمد‏(‏ صلي الله وسلم وبارك علي أنبياء الله ورسله أجمعين‏)‏ تقول الايات‏:‏

ومن قبله كتاب موسي إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشري للمحسنين‏*(‏ الأحقاف‏:12)‏
وفي المقابل تمتدح الايات المؤمنين بالله‏(‏ تعالي‏),‏ الموحدين لجلاله‏,‏ المستقيمين في حياتهم علي منهجه فتقول‏:‏
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون‏*‏ أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون‏*‏
‏(‏الأحقاف‏:14,13)‏

ثم تنتقل الآيات إلي توصية كل إنسان بالإحسان إلي والديه فتقول‏:‏
ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتي إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلي والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين‏*‏ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ماعملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون‏*(‏ الأحقاف‏:16,15).‏

وفي المقابل تصف الآيات نموذجا للانحراف والضلال والفسوق بالكافر العاق لوالديه المؤمنين الذي قال لهما حين دعواه إلي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر متضجرا منهما‏,‏ ومنكرا عليهما دعوتهما‏:‏ أف لكما‏.‏ أتعدانني بالبعث بعد الموت‏,‏ وقد مضت الأمم من قبلي ولم يبعث من القبور أحد‏..!!‏ ووالداه يستغيثان الله إشفاقا عليه من فداحة كفره قائلين له‏:‏ هلكت إن لم تؤمن‏,‏ لأن وعد الله بالبعث حق فيرد مكابرا‏...‏ ماهذا إلا أساطير الأولين‏*‏
وترد الآيات عليه وعلي أمثاله من الضالين لتقول‏:‏

أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين‏*‏ ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لايظلمون‏*‏ ويوم يعرض الذين كفروا علي النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون‏*(‏ الأحقاف‏:18‏ ـ‏20)‏
ومن قبيل تثبيت الله‏(‏ تعالي‏)‏ لخاتم أنبيائه ورسل في وجه المكذبين لبعثته الشريفة‏,‏ وإنذار كفار قريش وتذكيرهم بالأمم التي أهلكها الله‏(‏ تعالي‏)‏ من حولهم تنقلنا الآيات الثماني التالية‏(‏ من‏21‏ إلي‏28)‏ بسرعة خاطفة إلي قصة سيدنا هود‏(‏ علي نبينا وعليه من الله السلام‏)‏ مع قومه‏(‏ قوم عاد‏)‏ الذين سكنوا منطقة الأحقاف‏,‏ فدعاهم إلي الإيمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ وبملائكته‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله‏,‏ واليوم الآخر‏,‏ وحذرهم نبيهم من الكفر بالله‏(‏ تعالي‏)‏ أو الشرك به‏,‏ وأنذرهم بأهوال البعث بعد الموت‏,‏ والعرض الأكبر أمام الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ والحساب‏,‏ والميزان‏,‏ والصراط‏,‏ وبحتمية العودة إلي الله‏,‏ والخلود في الحياة الآخرة إما في الجنة أبدا‏,‏ أو في النار أبدا‏,‏ ولم يكن في زمانه نذير لهم من الله‏(‏ تعالي‏)‏ غيره‏,‏ وقد مضت الرسل من قبله‏,‏ فكذبوه‏,‏ وأنكروا عليه قوله‏,‏ وسخروا من إنذاره‏,‏ فدمرهم الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بريح فيها عذاب أليم‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
وأذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم‏*‏ قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين‏*‏ قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون‏*‏ فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم‏*‏ تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يري إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين‏*.(‏ الأحقاف‏:21‏ ـ‏25)‏

ومع استمرار الحديث عن قوم عاد ينتقل الخطاب إلي كفار قريش ليقول لهم رب العزة والجلال منبها من أخطار الشرك بالله‏,‏ ومنذرا بعقاب الأمم من حولهم‏:‏
ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغني عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ماكانوا به يستهزءون‏*‏ ولقد أهلكنا ما حولكم من القري وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون‏*‏ فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون‏*‏
‏(‏الأحقاف‏:26‏ ـ‏28)‏

ثم تنقلنا الآيات في سورة الأحقاف نقلة أخري سريعة إلي أحد عوالم الغيب‏:‏ وهو عالم الجن وهم خلق مكلفون‏,‏ ولكننا لا نراهم‏,‏ منهم المؤمنون ومنهم الكافرون‏,‏ ولذلك تحركت قلوبهم بالاستماع إلي تلاوة من القرآن الكريم‏,‏ وفي ذلك توبيخ لكفار قريش الذين كذبوا رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بعد أن كانوا قد نعتوه بالصادق الأمين‏,‏ وكفروا بالقرآن الكريم‏,‏ وجحدوا أنه منزل من رب العالمين‏,‏ وقد عجزوا عن معارضته‏,‏ وهم أهل اللسان العربي الذي نزل به هذا الكتاب العظيم‏,‏ وتنكروا لرسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وهو من دمهم ولحمهم‏,‏ وسليل أشرافهم‏,‏ وآمنت به طائفة من الجن وهم ليسوا من جنسه‏,‏ وفي ذلك توجه الآيات الخطاب إلي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ فتقول‏:‏
وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلي قومهم منذرين‏*‏ قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسي مصدقا لما بين يديه يهدي إلي الحق وإلي طريق مستقيم‏*‏ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنو به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم‏*‏ ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين‏*‏
‏(‏الأحقاف‏:29‏ ـ‏32).‏

وتستشهد الآيات في ختام سورة الأحقاف بخلق السماوات والأرض علي طلاقة القدرة الإلهية في تحقيق البعث بعد الموت‏,‏ وتهدد الكافرين بيوم عرضهم علي النار‏,‏ وتوصي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بالصبر كما صبر أسلافه من أولي العزم من الرسل مؤكدة قصر الحياة الدنيا فتقول‏:‏
أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر علي أن يحيي الموتي بلي إنه علي كل شيء قدير‏*‏ ويوم يعرض الذين كفروا علي النار أليس هذا بالحق قالوا بلي وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون‏*‏ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون‏*(‏ الأحقاف‏:33‏ ـ‏35).‏

من ركائز العقيدة في سورة الأحقاف
‏(1)‏ الإيمان بالله‏(‏ تعالي‏),‏ وبملائكته‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله‏,‏ واليوم الآخر‏,‏ وبأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هو العزيز الحكيم‏,‏ الغفور الرحيم‏,‏ الخالق‏,‏ الباريء المصور‏,‏ الواحد الأحد‏,‏ الفرد الصمد‏,‏ الذي لم يلد‏,‏ ولم يولد‏,‏ ولم يكن له كفوا أحد‏,‏ وأن الشرك به كفر به‏,‏ لأنه‏(‏ تعالي‏)‏ ليس له شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏.‏

‏(2)‏ اليقين بأن القرآن الكريم هو كتاب منزل من لدن رب العالمين علي قلب خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ هداية لأهل الأرض أجمعين‏,‏ وأن هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم لا يتتبع إلا ما يوحي إليه به‏.‏

‏(3)‏ التسليم بخلق السماوات والأرض وما بينهما‏,‏ وأن هذا الخلق قد تم بالحق وإلي أجل مسمي‏,‏ وإن أنكر الكافرون حتمية البعث وضرورته‏.‏

‏(4)‏ التصديق بالبشارات العديدة بمقدم خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ والموجودة بين ما بقي من حق عند بعض أهل الكتاب‏.‏

‏(5)‏ الإيمان بأن بر الوالدين من صميم الدين‏,‏ ومن وصايا رب العالمين لعباده أجمعين‏,‏ وأن عقوقهما من الكبائر ومن أسباب الخسران في الدنيا والآخرة‏.‏

‏(6)‏ اليقين بأن من حقوق الله علي العباد التوبة من الذنوب والشكر علي النعم‏,‏ وأن من أفضل أدعيه العباد الدعاء بصلاح كل من الأعمال والذرية‏.‏

‏(7)‏ التصديق بعوالم الغيب ومنهم الملائكة وهم خلق من نور مسخرون‏,‏ والجن وهم خلق من نار مكلفون مخيرون‏.‏

‏(8)‏ التسليم بأن من لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض‏,‏ وليس له من دون الله أولياء‏.‏

‏(9)‏ الإيمان بحقيقة كل من الجنة والنار‏,‏ وبالخلود في الحياة الآخرة‏,‏ وبأنه لا يهلك إلا القوم الفاسقون‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة الأحقاف
‏(1)‏ الإشارة إلي خلق السماوات والأرض بالحق وأجل مسمي‏,‏ وهذه البينية تشير إلي مركزية الأرض من السماوات وهو ما لا تستطيع العلوم المكتسبة إثباته‏.‏

‏(2)‏ التأكيد علي وجود عدد من البشارات بمقدم خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ فيما بقي من حق عند بعض أهل الكتاب‏.‏

‏(3)‏ تحديد فترتي الحمل والفصال للوليد بثلاثين شهرا في هذه السورة المباركة سورة الأحقاف‏,‏ وتحديد فترة فصال الوليد في عامين كما جاء في الآية الرابعة عشرة من سورة لقمان‏,‏ وبذلك تكون أقصر مدة للحمل في أنثي الإنسان هي ستة أشهر‏,‏ وهو ما أثبته علم الأجنة مؤخرا‏.‏

‏(4)‏ الإشارة إلي قوم عاد‏,‏ وإلي سكناهم في الأحقاف‏,‏ وإلي نبيهم هود‏(‏ عليه السلام‏)‏ وهو من أنبياء الله الذين لم يرد لهم ذكر عند أهل الكتاب‏,‏ وإلي قصته مع قومه‏,‏ وإلي شيء من صفاتهم‏,‏ وإلي الوسيلة التي دمروا بها‏(‏ ريح فيها عذاب أليم‏)‏ والكشوف الأثرية الحديثة تؤكد صدق ذلك بينما لم يكن معروفا عنهم شيء في زمن الوحي ولا لقرون متطاولة من بعده‏,‏ ولا ذكر لهم عند أهل الكتاب‏.‏

‏(5)‏ الاستشهاد بخلق السماوات والأرض علي إمكانية البعث وعلي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي كل شيء قدير‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا الخمس تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الثالثة من القائمة السابقة والتي جاءت في الآية الخامسة عشرة من سورة الأحقاف‏.‏

من أقوال المفسرين
ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا‏...(‏ الأحقاف‏:15)‏

‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:...‏ وقال عز وجل ههنا‏:(‏ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا‏)‏ أي أمرناه بالإحسان إليهما والحنو عليهما‏,..(‏ حملته أمه كرها‏)‏ أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا‏,‏ من وحم وغثيان وثقل وكرب إلي غير ذلك‏,‏ مما تنال الحوامل من التعب والمشقة‏,(‏ ووضعته كرها‏)‏ أي بمشقة أيضا من الطلق وشدته‏,(‏ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا‏)‏ وقد إستدل بهذه الآية مع التي في لقمان‏(‏ وفصاله في عامين‏),‏ علي أن أقل مدة الحمل ستة أشهر‏,‏ وهو استنباط قوي صحيح‏,...‏ وقال ابن عباس‏:‏ إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهرا‏,‏ وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا‏,‏ وإذا وضعته لستة أشهر فحولان كاملان‏,‏ لأن الله تعالي يقول‏:(‏ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا‏)‏

‏*‏ وجاء في الظلال‏(‏ رحم الله كاتبها برحمته الواسعة‏)‏ ما مختصره‏:(‏ حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا‏)‏ وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضني والكلال‏...‏ لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد‏,‏ ويلهث بالأنفاس‏!‏ إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه‏,‏ وصورة الوضع وطلقه وآلامه‏.‏ ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة‏...‏ ثم الوضع‏,‏ وهو عملية شاقة‏,‏ ممزقة‏,‏ ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة‏,‏ ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة‏.‏ ثمرة التلبية للفطرة‏,‏ ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش‏,‏ وتمتد‏...‏ بينما هي تذوي وتموت‏!‏ ثم الرضاع والرعاية‏.‏ حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها‏,‏ وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية‏.‏ وهي مع هذا وذلك فرحة سعيدة‏,‏ رحيمة ودودة‏,‏ لا تمل أبدا ولا تكره تعب هذا الوليد‏.‏ وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو‏.‏ فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد‏!‏ فأني يبلغ الإنسان في جزاء هذه التضحية‏,‏ مهما يفعل‏.‏ وهو لا يفعل إلا القليل الزهيد؟ وصدق رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وقد جاءه رجل كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها‏,‏ فسأل رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ هل أديت حقها؟ فأجابه‏:(‏ لا‏,‏ ولا بزفرة واحدة‏)‏ رواه الحافظ أبو بكر البزار ـ بإسناده ـ عن بريدة عن أبيه‏.‏

‏*‏ وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن‏(‏ رحم الله كاتبها‏)‏ ما نصه‏:‏
‏(‏ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا‏)‏ أمرناه أن يحسن إليهما إحسانا‏,‏ ويبرهما بصنوف البر في حياتهما وبعد مماتهما‏.‏ والإحسان‏:‏ خلاف الإساءة‏.‏ وقريء‏(‏ حسنا‏).‏ نزلت هذه الآية إلي قوله‏(‏ وعد الصدق الذي كانوا يوعدون‏)‏ في أبي بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏ وهو مثل رفيع في الجمع بين التوحيد والاستقامة في الدين‏.‏

‏*‏ وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم ماموجزه‏:‏ ووصينا الإنسان بوالديه أن يحسن إليهما احسانا عظيما‏,‏ حملته أمه حملا ذا مشقة‏,‏ ووضعته وضعا ذا مشقة‏,‏ ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا قاست فيها صنوف الآلام‏....‏
وجاء بالهامش ما يلي‏:‏ أقل مدة للحمل ستة أشهر لقوله تعالي‏:(‏ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا‏)‏ وقوله تعالي‏:(‏ وفصاله في عامين‏)‏ وقوله تعالي‏:(‏ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة‏)‏ فبإسقاط مدة الفصال من مدة الحمل والفصال يبقي للحمل ستة أشهر‏.‏ وهذا يتفق مع ما ثبت علميا من أن الطفل إذا ولد لستة أشهر فإنه قابل للحياة‏.‏
‏*‏ وجاء في صفوة التفاسير‏(‏ جزي الله كاتبها خيرا‏)‏ ما نصه‏:(‏ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا‏)‏ لما كان رضا الله في رضا الوالدين‏,‏ وسخطه في سخطهما حث تعالي العباد عليه‏,‏ والمعني أمرنا الإنسان أمرا جاذما مؤكدا بالإحسان إلي الوالدين‏.‏ ثم بين السبب فقال‏:‏
‏(‏حملته أمه كرها ووضعته كرها‏)‏ أي حملته بكره ومشقة ووضعته بكره ومشقة‏(‏ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا‏)‏ أي ومدة حمله ورضاعه عامان ونصف العام‏,‏ فهي لاتزال تعاني التعب والمشقة طيلة هذه المدة‏,‏ قال ابن كثير‏:‏ أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا من وحم‏,‏ وغثيان‏,‏ وثقل‏,‏ وكرب إلي غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة‏,‏ ووضعته بمشقة أيضا من الطلق ومشدته‏,‏ وقد استدل العلماء بهذه الآية مع التي في لقمان‏(‏ وفصاله في عامين‏)‏ علي أن أقل مدة الحمل ستة أشهر‏,‏ وهو استنباط قوي صحيح‏....‏

‏*‏ وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه لا أري حاجة إلي تكراره هنا‏.‏
من الإشارات العلمية في النص القرآني الكريم

أولا‏:‏ في قوله تعالي‏:‏ حملته أمه كرها‏:‏
يعيش جنين الإنسان في بطن أمه فترة تتراوح مابين الستة والتسعة أشهر معتمدا علي جسدها اعتمادا كليا‏,‏ مستمدا جميع احتياجاته الغذائية والتنفسية والمناعية من دمها ومن ذلك مثل الأحماض الأمينية‏,‏ والمواد البروتينية‏(‏ من مثل مكونات خلايا العضلات والجلد والخلايا الدهنية‏)‏ والكربوهيدراتية‏(‏ من مثل المواد السكرية كالجلوكوز وغيره‏),‏ والفيتامينات‏,‏ والهرمونات‏,‏ والأملاح‏(‏ من مثل الكالسيوم‏,‏ والفوسفور‏,‏ والحديد‏,‏ وغيرها‏),‏ والأوكسجين‏,‏ وخلايا المناعة وغيرها‏,‏ ويأخذ جسم الأم الحامل من جنينها كل السموم التي يفرزها جسمه من مثل البولينا‏,‏ وثاني أوكسيد الكربون وغيرهما‏.‏ ومن الثابت أن جسد الأم الحامل يضحي لجنينها بكامل احتياجاته علي حساب احتياجاته هو ولو أدي ذلك إلي فقر دمها وإمراضها‏,‏ ولذلك قال رب العالمين‏:(‏ حملته أمه كرها‏).‏

ومن الأعراض التي تطرأ علي جسد الحامل اضطراب الجهاز الهضمي المصاحب عادة بالقيء‏,‏ والغثيان‏,‏ وسوء الهضم‏,‏ والحموضة الزائدة‏,‏ ونقص الشهية‏,‏ والرغبة الشديدة في بعض الأطعمة الخاصة أو المواد الغريبة التي يحتاجها هذا الجسد بالإضافة إلي ضغط الرحم علي كل من المعدة والكبد خاصة في الشهور الأخيرة من الحمل‏.‏ وما يتحمله كل من القلب وأوردة وشرايين الجهاز الدوري من جهد زائد لأجل ضخ الدم إلي جسم الجنين فيرتفع ما يضخه القلب من‏(6500‏ لتر‏/‏ يوميا‏)‏ قبل الحمل إلي‏(15.000‏ لتر يوميا‏)‏ بعد الحمل‏.‏ وقد يؤدي ذلك إلي إجهاد عضلة القلب‏,‏ وإلي اضطراب ضغط الدم‏,‏ أو إلي تمدد الأوردة وتعرجها‏(‏ مرض دوالي الأرجل والأقدام‏).‏
كذلك فإن تزايد نمو الجنين في شهوره الأخيرة قد يؤدي إلي مزيد من الضغط علي كل من الحجاب الحاجز والرئتين مما يعيق عملية التنفس‏.‏ كما أن كثرة إفراز الهرمونات المتعلقة بعملية الحمل قد يزيد كمية الماء المختزن في الجسم ويظهر علي هيئة تورم القدمين‏,‏ وقد يؤدي إلي الاضطراب في وظائف عدد من الغدد الصماء مثل الغدة الدرقية‏.‏

وقد تصاب بعض الحوامل بشيء من لين العظام أو هشاشتها لنقص الكالسيوم في جسمها نظرا لسحب الجنين كميات زائدة من كالسيوم دم الأم أثناء تكون عظام جسده‏.‏ ومع مصاحبة ذلك لشيء من زيادة وزن الأم حوالي عشرة كيلو جرامات في المتوسط يوضح جانبا مما تكابده الأم الحامل من مشاق في حالات الحمل الطبيعي‏,‏ وتتضاعف هذه المشاق أضعافا كثيرة في حالات حمل التوائم‏,‏ أو الحمل خارج الرحم مما يعرف باسم الحمل غير الطبيعي‏.‏ والذي قد يؤدي إلي وفاة كل من الجنين والأم معا‏.‏
وإذا أضفنا إلي هذه الصعوبات الجسدية ما تكابده الأم الحامل من معاناة نفسية تتأرجح بها بين الرجاء والخوف‏,‏ والتفاؤل والتشاؤم‏,‏ والفرح والحزن‏,‏ والاطمئنان والقلق‏,‏ وحاجتها ـ وسط هذه الأمواج المتلاطمة من الوهن الجسدي والحساسية الشديدة وسرعة التأثر والانفعال‏,‏ والمشاعر المتضاربة من الاستبشار والتوجس خيفة ـ إلي العناية الشديدة من المحيطين بها‏,‏ وإلي غمرها بمزيد من العطف والحنان الذي قد لا تجده في اغلب الأحوال‏,‏ اتضحت لنا روعة التعبير القرآني الذي يقول فيه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):(‏ حملته أمه كرها‏)‏ أي بمشقة شديدة‏.‏
و‏(‏الكره‏)‏ و‏(‏الكره‏)‏ واحد‏,‏ وقيل‏(‏ الكره‏)‏ المشقة تنال الإنسان من خارج فيما يحمل عليه بإكراه‏,‏ و‏(‏الكره‏)‏ ما يناله من ذاته وهو يعافه‏,‏ وذلك علي ضربين‏,‏ أحدهما‏:‏ ما يعاف من حيث الطبع‏,‏ والثاني‏:‏ ما يعاف من حيث العقل أو الشرع‏.‏ وعلي ذلك فإن‏(‏ الكره‏)‏ بالضم المشقة وبالفتح الإكراه‏.‏

ثانيا‏:‏ في قوله تعالي‏:(‏ ووضعته كرها‏):‏
باكتمال الشهر الثالث من حياة الجنين فإنه يبدأ في اتخاذ وضع خاص في داخل رحم أمه‏,‏ يكون فيه رأسه الي أسفل‏,‏ ومؤخرته الي أعلي ويتم ذلك بانقباض عام في كل من جذعه وأطرافه علي بعضها البعض‏,‏ فينحني الجنين برأسه في اتجاه ركبتيه‏,‏ ويثني ركبتيه في اتجاه رأسه مع جعل وجهه في اتجاه ظهر أمه‏,‏ حتي إذا جاءت لحظة الميلاد كان أول ما يخرج منه رأسه‏,‏ وبخروجه يسهل خروج باقي جسده وسائر أطرافه‏,‏ وتمثل الولادة الطبيعية بخروج الرأس أولا أيسر عمليات الوضع‏,‏ الا أن هناك العديد من حالات الوضع غير الطبيعية والمتعسرة ويسبق الوضع الام الطلق التي قد تفوق في شدتها أية آلام أخري تتعرض لها الأم الحامل طيلة مدة حملها وقد تنتهي عملية الوضع في بعض الاحوال بوفاة الأم أو الجنين أو بوفاتهما معا لاقدر الله‏.‏
وقد تضطر الحامل الي الولادة غير الطبيعية بالشفط أو باستخدام بعض الآلات الخاصة‏(‏ مثل الجفت‏)‏ أو حتي بعملية جراحية بشق البطن تعرف باسم العملية القيصرية‏,‏ والي غير ذلك من المخاطر‏.‏ وعلي الرغم من أن التطور الطبي قد تمكن من خفض نسبة تلك المخاطر إلا أنه لم يتمكن بعد من القضاء عليها‏,‏ فلا تزال حمي النفاس منتشرة بين كثير من الوالدات‏,‏ ولا تزال حالات تسمم الحوامل وإصابتهن بالعديد من الأمراض الجسدية والنفسية من الأمور الشائعة خاصة في المجتمعات المتخلفة علميا وتقنيا‏,‏ وتكفي في ذلك الإشارة الي ضخامة حجم المولود بالنسبة الي ضيق عنق الرحم‏,‏ ولولا رحمة الله‏(‏ تعالي‏)‏ ودقة تقديره بتهيئة الجهاز التناسلي للمرأة الحامل بهيئة خاصة تعينه علي إفراز العديد من الهرمونات التي توسع عنق الرحم وتجعله علي استقامة مع الرحم ذاته‏,‏ والتي ترخي كلا من عظام الحوض وعضلاته لتيسير عملية الولادة وخروج المولود الجديد إلي عالم الحياة الدنيا بشيء من اليسر لكانت عملية الولادة أمرا مستحيلا‏.‏

كما تكفي في ذلك الاشارة الي ما تتعرض له الوالدة من آلام أثناء عملية المخاض ومن بعده‏,‏ ومن ذلك ما تشعر به من إجهاد شديد وقشعريرة بعد الولادة مباشرة‏,‏ ثم ارتفاع في درجة الحرارة‏,‏ وما تتعرض له من انخفاض في ضغط الدم‏,‏ واضطراب في النبض‏,‏ وتعرضها لامكانية سقوط الرحم وإلي غير ذلك من الأمراض التي قد تصيبها والمعاناة التي قد تصاحب تلك الأمراض حتي تشفي وتعود إلي حالتها الطبيعية‏.‏
وتكفي في ذلك الإشارة أيضا إلي ما تتعرض له الوالدة من نزيف دموي طيلة فترة النفاس‏,‏ والتي قد تمتد من لحظة إلي ستين يوما‏(‏ بمتوسط يقدر بحوالي الأربعين يوما‏)‏ وذلك لسقوط المشيمة مع المولود‏,‏ وتركها للأوعية الدموية التي كانت تصل بينها وبين جدار الرحم مفتوحة كالجروح النازفة‏,‏ ولولا رحمة الله‏(‏ تعالي‏)‏ بالوالدة‏,‏ تلك الرحمة التي هيأت لها إفراز العديد من الهرمونات التي تعين الرحم علي الانقباض انقباضا شديدا بعد الولادة مباشرة لنزفت النفساء حتي الموت‏.‏ وهذا الانقباض يعود بوزن الرحم‏(‏ بدون محتوياته‏)‏ من حوالي الكيلو جرام قبل الولادة مباشرة إلي حوالي الخمسين جراما فقط في نهاية فترة النفاس‏,‏ ويعود بحجمه من سبعة آلاف ميليلتر في المتوسط إلي حوالي المليلترين فقط‏,‏ ويعود بجدار الرحم من خمسة سنتيمترات إلي أقل من سنتيمتر واحد في السمك‏,‏ وتستمر التغيرات في جدار الرحم‏,‏ وفي بطانته حتي يعود الي هيئته قبل الحمل عبر سلسلة من المعاناة الحقيقية التي تتحملها الأم الوالدة بالكثير من الصبر والاحتمال‏.‏
ولذلك قال ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):..‏ حملته امه كرها ووضعته كرها‏..‏

وقال المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ للرجل الذي حمل أمه علي ظهره يطوف بها البيت الحرام وهي علي ظهره‏,‏ ثم سأله قائلا‏:‏ يا رسول الله‏:‏ هل قضيت حقها؟ فقال له رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ لا‏,‏ ولا بزفرة واحدة‏,‏ والزفرة‏(‏ وجمعها زفرات‏)‏ هي واحدة‏(‏ الزفير‏)‏ بمعني إدخال النفس إلي الرئتين‏,‏ وعكسها‏(‏ الشهيق‏)‏ وتشجع الوالدة أثناء الوضع علي التنفس بطريقة خاصة تعينها علي تحمل الطلق ويقال‏:(‏ ازدفر‏)‏ فلان كذا إذا تحمله بمشقة فترددت فيه نفسه‏,‏ وقيل للإماء الحاملات للماء‏(‏ زوافر‏)‏ لما يتعرضن له أثناء ذلك من مشقة‏.‏
ثالثا‏:‏ في قوله تعالي‏:(‏ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا‏):‏

درج الناس علي أن مدة حمل الجنين البشري هي في حدود التسعة شهور قمرية أو‏(266)‏ يوما من لحظة الإخصاب‏,‏ وعلي ذلك اتهموا كل وضع قبل تلك المدة بالزنا كما حدث في الحادثة التي رواها محمد بن إسحاق عن معمر بن عبد الله الجهني قال‏:‏ تزوج رجل منا امرأة من جهينة‏,‏ فولدت له لتمام ستة أشهر‏,‏ فانطلق زوجها إلي عثمان‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ فذكر له ذلك‏,‏ فبعث إليها‏,‏ فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها‏,‏ فقالت‏:‏ ما يبكيك؟ فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالي غيره قط‏,‏ فيقضي الله سبحانه وتعالي في ما يشاء‏.‏ فلما أتي بها عثمان‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ أمر برجمها‏,‏ فبلغ ذلك عليا‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ فأتاه فقال له‏:‏ ما تصنع؟ قال‏:‏ ولدت لتمام ستة أشهر وهل يكون ذلك؟ فقال له علي‏(‏ رضي الله عنه‏):‏ أما تقرأ القرآن؟ قال‏:‏ بلي‏,‏ قال‏:‏ أما سمعت الله‏(‏ عز وجل‏)‏ يقول‏:(‏ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا‏),‏ وقال‏:(‏ حولين كاملين‏)‏ فلم نجده بقي الا ستة أشهر‏,‏ فقال عثمان‏(‏ رضي الله عنه‏):‏ والله ما فطنت بهذا‏,‏ علي بالمرأة‏,‏ فوجدوها قد فرغ منها‏.‏ قال‏:‏ فقال معمر‏:‏ فوالله ما الغراب بالغراب‏,‏ ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه‏,‏ فلما رآه أبوه قال‏:‏ ابني‏,‏ والله لا أشك فيه‏....‏

وجاء علم الأجنة في القرن العشرين ليؤكد لنا أن أقل مدة للحمل هي ستة أشهر قمرية‏(‏ أي‏177‏ يوما‏)‏ من لحظة الاخصاب‏,‏ وأن الجنين إذا ولد لستة أشهر فإنه قابل للحياة‏,‏ لأن كافة أجهزة وأعضاء جسمه يكون خلقها قد اكتمل مع نهاية الأسبوع الثامن من لحظة الإخصاب‏(‏ بعد‏56‏ يوما‏),‏ وأن مرحلة إنشائه خلقا آخر تبدأ من اليوم السابع والخمسين من عمر الجنين وتستمر حتي لحظة ميلاده في فترة تتراوح ما بين الستة والتسعة شهور قمرية‏(‏ أي‏177‏ يوما إلي‏266‏ يوما بعد لحظة الإخصاب‏)‏ تتم خلالها عملية تحديد الملامح الشخصية للجنين‏(‏ الحميل‏).‏

وسبق القرآن الكريم بتحديد أقل مدة للحمل بستة شهور‏,‏ هذا التحديد الجازم الواضح في أكثر من آية قرآنية كريمة كالتي نحن بصددها مما يقطع بأن هذا الكتاب الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية‏,‏ في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية وحتي قيام الساعة حتي يكون شاهدا علي جميع خلقه‏,‏ ومبشرا ونذيرا لهم بعد انقطاع الوحي‏,‏ وختام النبوة‏,‏ وتكامل رسالات السماء كلها فيه‏,‏ فالحمد لله علي نعمه الإسلام‏,‏ والحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله علي بعثة سيد الآنام‏,‏ سيدنا محمد‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه‏,‏ ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏,‏ وعلي أنبياء الله ورسله أجمعين‏)‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏