161)‏
بلي قادرين علي أن نسوي بنانه‏*(‏ القيامة‏:4)‏
بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
الآية الكريمة جاءت في مطلع سورة القيامة‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها أربعون بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لحديثها عن الآخرة وأهوالها‏,‏ وعن عدد من علاماتها‏,‏ ومن الأحداث الكبري المصاحبة لها‏,‏ من لحظة الاحتضار وما فيها من التأكيد علي حقيقة الموت‏,‏ وحتميته‏..,‏ إلي هول البعث والحساب والجزاء‏,‏ مع التذكير بشيء من طبائع النفس الإنسانية‏,‏ وميلها إلي التكاسل عن طاعة الله‏(‏ تعالي‏),‏ وإلي الإقبال علي الدنيا‏,‏ ونسيان الآخرة‏,‏ ومن هنا كان امتداح النفس اللوامة‏.‏
وترد السورة الكريمة علي المشككين في البعث‏,‏ وتشرح دوافعهم لذلك التشكيك‏,‏ وتؤكد فجيعتهم لحظة مفاجأتهم بوقوعه‏,‏ وتشير إلي انقسام الخلائق يومئذ إلي سعداء وأشقياء‏,‏ وتذكر الإنسان بأصله وبحقيقة رسالته في هذه الحياة‏,‏ وبحتمية رجوعه إلي خالقه‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وتستخلص السورة الكريمة من عملية خلق الإنسان‏,‏ وحقيقة نشأته الأولي شهادة علي إمكانية بعثه بعد موته‏.‏

وتبدأ سورة القيامة بقسم من الله‏(‏ تعالي‏)‏ ــ وهو الغني عن القسم ــ يقول فيه‏(‏ عز من قائل‏):‏
لا أقسم بيوم القيامة‏*(‏ القيامة‏:1)‏

و‏(‏لا‏)‏ صلة لتوكيد القسم‏,‏ وقد تكون نافيه للجنس لأن نفي القسم في اللغة العربية توكيد له‏.‏ ويوم القيامة هو يوم البعث‏,‏ ويطلق علي كثير من أحوال الآخرة وأهوالها ونوازلها التي تحدث ما بين الدنيا والآخرة‏.‏
ويلي هذا القسم قسم آخر بالنفس اللوامة‏,‏ ويأتي القسم أيضا مؤكدا بوصله‏,‏ أو بنفيه فيقول فيه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ ولا أقسم بالنفس اللوامة‏*(‏ القيامة‏:2)‏

أي النفس التي إذا وقعت في خطأ ندمت‏,‏ وسارعت بالعودة إلي مرضاة الله‏,‏ والتي إذا قصرت في طاعة الله ندمتذلك لأنها لم توف العبادة حقها‏,‏ أو لم تستكثر منها‏,‏ فهي نفس متيقظة‏,‏ تخشي الله‏(‏ تعالي‏),‏ وتتقي حرماته‏,‏ وتحاسب صاحبها قبل أن يحاسب‏,‏ وتحذر خداع ذاتها‏,‏ والنفس اللوامة يحبها الله‏(‏ تعالي‏)‏ حتي ليقسم بها كما أقسم بيوم القيامة علي تعاظم هوله‏..,‏ ويقابلها بالنفس الفاجرة التي تسول لصاحبها الخروج علي أوامر الله‏,‏ والخوض في نواهيه‏,‏ ولذلك تحاول إقناعه بإنكار الآخرة وما فيها من بعث وحشر‏,‏ وحساب وجزاء‏,‏ وجواب القسم محذوف وتقديره‏:‏ أن القيامة واقعة لا محالة‏,‏ وإن الخلق ليبعثن جميعا‏,‏ وليحاسبن وليكافأن علي ماعملوا‏,‏ إن خيرا فخير‏,‏ وإن شرا فشر‏.‏ ويدل علي جواب القسم ما جاء بعد القسم من قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه‏*‏ بلي قادرين علي أن نسوي بنانه‏*‏
‏(‏القيامة‏:4,3)‏

وهو استفهام تقريعي توبيخي لكل إنسان كافر بالبعث‏,‏ ومن مآسي هؤلاء البشر الغافلين أنهم يقيسون علي الله‏(‏ تعالي‏)‏ بمقاييسهم المحدودة‏,‏ العاجزة‏,‏ القاصرة‏,‏ ولا يعلمون أن الله تعالي علي كل شيء قدير‏,‏ وأن قدرته‏(‏ تعالي‏)‏ لا تحدها حدود‏,‏ لأنه هو رب هذا الكون ومليكه‏,‏ خالقه ومبدعه‏,‏ ومدبر أمره والمتصرف فيه بعلمه وحكمته وقدرته وإرادته التي يصفها القرآن الكريم بأنها بين الكاف والنون فيقول‏:‏
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون‏*‏ فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون‏*(‏ يس‏:83,82).‏

والذين يقيسون علي الله‏(‏ تعالي‏)‏ بمقاييس البشر ــ في القديم والحديث ــ يستصعبون عملية البعث بعد أن تكون الأجساد قد رمت‏,‏ وتكون‏,‏ العظام قد نخرت وبليت‏,‏ ويكون ذلك قد اندثر وتفرق في تراب الأرض وثراها‏,‏ وخصت العظام بالذكر هنا لأنها هي الهيكل الصلب الذي يحمل اللحم‏(‏ العضلات والجلد‏),‏ ويعطي للإنسان قوامه المنصوب الذي يميزه عن غيره من المخلوقات‏,‏ ولذلك فالعظام هنا تعني الجسد كله منفوخة فيه الروح‏.‏
وهاتان الآيتان الكريمتان‏:‏
أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه‏*‏ بلي قادرين علي أن نسوي بنانه‏*(‏القيامة‏:4,3)‏

تؤكدان حتمية بعث الأموات أحياء‏,‏ وإعادتهم من البلي كما خلقهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ أول مرة من العدم‏,‏ وتستشهد الآيتان علي ذلك بقدرة الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ علي تسوية البنان بسلمياتها الصغيرة‏,‏ وبكسائها من اللحم والجلد‏,‏ وبما علي جلدها من بصمات مميزة لصاحبها‏,‏ لا تتطابق في شخصين أبدا‏,‏ ولا في التوائم المتماثلة‏,‏ ولا في اصبعين من مكونات اليد أو القدم الواحدة أبدا‏,‏ والبنان هي الأصابع أو أطراف الأصابع‏,‏ ومفردها بنانة‏,‏ وهذه الأشكال المميزة لكل فرد من بني آدم بل لكل اصبع من أصابع يديه وقدميه لها من الثبات طيلة حياته‏(‏ إلا في ازدياد حجمها مع نمو الجسم‏)‏ ما يجعلها إحدي علاماته الجسدية المميزة له‏,‏ وتسوية البنان بكل هذه التفاصيل‏,‏ وإعادتها لحظة البعث بنفس التفاصيل لمما يثبت القدرة الآلهية علي بعث الأموات بتفاصيل صفاتهم الجسدية إلي أدق دقائقها‏,‏ وهذا لا يعجز الخالق العظيم الذي أبدع خلق الإنسان وما حوله من آفاق تتسع إلي نهاية لا يعلمها إلا هو‏.‏

ماذا يحدث للجسد بعد وفاة الإنسان؟
بعد وفاة الإنسان ودفن جسده في تراب الأرض يبدأ هذا الجسد في التحلل بعملية معاكسة لعملية بنائه التي بدأت أصلا من تراب الأرض الذي ارتوي بالماء فأصبح طينا‏,‏ وأذاب الماء من هذا الطين ما قبل الذوبان فيه من عناصر الأرض ومركباتها حتي تمايزت من بين حبات هذا الطين سلالة مذابة في الماء‏(‏ سلالة من طين‏),‏ وبتبخير المحاليل المذيبة لتلك السلالة جزئيا ترسبت بعض العناصر والمركبات بين حبيبات المعادن الصلصالية فأصبح الطين‏(‏ طينا لازبا‏)‏ أي لاصقا بعضه ببعض‏.‏
وبجفاف هذا الطين اللازب أصبح‏(‏ صلصالا من حمأ مسنون‏)‏ أي أسود منتن‏,‏ ثم زاد جفافه فأصبح‏(‏ صلصالا كالفخار‏),‏ ثم نفخ الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيه من روحه فأصبح إنسانا‏(‏ هو آدم أبو البشر‏),‏ ومن آدم خلقت زوجه حواء‏(‏ عليها السلام‏)‏ بمعجزة أمر بها الله تعالي‏.‏ وتسلسل نسل آدم منه ومن زوجه حواء‏(‏ عليهما السلام‏)‏ من شفرتيهما الوراثيتين اللتين خلقهما الله‏(‏ تعالي‏)‏ وخلق فيهما جميع نسلهما‏,‏ وتغذي هذا النسل ونمت أجساده علي عناصر الأرض التي يمتصها النبات مع عصارته الغذائية من طين الأرض‏,‏ ثم بواسطة ما يأخذه النبات الأخضر من طاقة الشمس‏,‏ وما يمتصه من غاز ثاني أكسيد الكربون من الجو‏,‏ وبما وهبه الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ من قدرات يحول بها ذلك كله إلي ثمار ومحاصيل يحيا عليها كل من الإنسان‏,‏ وما يباح له أكله من الحيوان‏,‏ وأصل ذلك كله من تراب الأرض‏.‏

ثم إذا مات ابن آدم‏,‏ وغادرت روحه جسده‏,‏ فإن هذا الجسد يبدأ في اليبوس والتخشب حتي يصير كالتمثال الحجري أو‏(‏ صلصال كالفخار‏),‏ وبعد دفنه يبدأ في التحلل التدريجي الذي تقوم به البكتريا والفيروسات‏,‏ والفطريات والطحالب التي تعايشت مع الجسد في حياته‏,‏ والتي توجد في جو وتربة القبر الذي يدفن فيه‏,‏ فيتغير لونه‏,‏ وتنتن رائحته‏(‏ أي تفسد‏)‏ حتي يصير‏(‏ صلصالا من حمأ مسنون‏),‏ ثم يتحول إلي‏(‏ طين لازب‏)‏ بفقد جزء من محتواه المائي‏,‏ وبفقد كل مائة يتحول إلي تراب يغيب في تراب الأرض فيما عدا فضلة واحدة سماها رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ باسم‏:‏ عجب الذنب‏,‏ ووصفها بأنها عظمة في حجم حبة الخردل توجد في نهاية العصعص‏,‏ وإنها لا تبلي أبدا‏,‏ وأن الإنسان يبعث منها في يوم القيامة بعد إنزال مطر خاص فينبته الله منها كما ينبت البقلة من بذرتها‏,‏ وقد أيدت الدراسات المختبرية صدق هذا الوصف النبوي الشريف بأن عجب الذنب لا يبلي أبدا‏.‏ وأن مه تخلق كل أعضاء وأجهزة الجسم‏.‏

كيفية البعث كما شرحها رسول الله‏([)‏
أخرج الإمام مسلم في صحيحه‏(‏ كتاب الفتن وأشراط الساعة‏)‏ عن أبي هريرة‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:‏
‏*‏ كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب‏.‏ والحديث أخرج مثله كل من الأئمة أحمد والبخاري ومالك‏,‏ والنسائي‏,‏ وأبو داود‏,‏ وابن ماجه‏,‏ وابن حبان‏.‏

‏*‏ وفي رواية أخري أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:‏ يبلي كل عظم من ابن آدم إلا عجب الذنب‏,‏ وفيه يركب الخلق يوم القيامة‏.‏
‏*‏ كذلك أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ قال رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ ما بين النفختين أربعون‏..‏ ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل‏,‏ وليس من الإنسان شيء إلا يبلي‏,‏ إلا عظما واحدا‏,‏ وهو عجب الذنب‏,‏ ومنه يركب الخلق يوم القيامة‏.‏

وواضح الأمر من هذه الأحاديث النبوية الشريفة ومن غيرها أن بلي الأجساد هو حكم إلهي عام لا يستثني منه إلا أجساد كل من الأنبياء والشهداء‏,‏ والموذنين المحتسبين كما ذكر ابن حجر العسقلاني‏.‏
وأحاديث‏(‏ عجب الذنب‏)‏ تحتوي علي حقيقة علمية لم تتوصل إليها العلوم المكتسبة إلا بعد الثلث الأول من القرن العشرين في سلسلة من الأبحاث قام بها العالم الألماني هانز سبيمان‏(HansSpemann)‏ الذي نال جائزة نوبل في العلوم‏(‏ سنة‏1935‏ م‏)‏ لأبحاثه علي عجب الذنب في البرمائيات‏,‏ فاثبت صحة حديث رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ عمليا دون علم به‏.‏ حيث أثبتت تجاربه أن جميع أجهزة الجسم تتخلق من الشريط الأولي‏,‏ وأن هذا الشريط لا يبلي أبدا‏,‏ وأنه بعد اكتمال تكون جميع أجهزة الجسم فإن هذا الشريط الأولي ينسحب إلي نهايات العمود الفقري التي تعرف باسم العصعص‏(Coccyx)‏ علي هيئة عظمة دقيقة سماها رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ باسم عجب الذنب‏.‏

وتؤكد الآيات أن من الدوافع النفسية إلي إنكار البعث هي محاولة خداع النفس من أجل الإغراق في الشهوات المحرمة‏,‏ والمضي قدما في الفجور دون رادع أو وازع من حساب أو عقاب‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
بل يريد الإنسان ليفجر أمامه‏*‏ يسأل أيان يوم القيامة‏(‏ القيامة‏:6,5)‏

وللتأكيد علي حتمية الآخرة تسارع الآيات إلي استعراض عدد من مشاهدها المرعبة المذهلة فتقول‏:‏
فإذا برق البصر‏*‏ وخسف القمر‏*‏ وجمع الشمس والقمر‏*‏ يقول الإنسان يومئذ أين المفر‏*‏ كلا لا وزر‏*‏ إلي ربك يومئذ المستقر‏*‏ ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخر‏*‏ بل الإنسان علي نفسه بصيرة‏*‏ ولو ألقي معاذيره‏*‏
‏(‏القيامة‏:7‏ ـ‏15).‏

فمن مشاهد الآخرة خطف الأبصار وشدة شخوصها‏,‏ وسرعة تقلبها كتقلب البرق وخطفه‏,‏ وخسوف القمر وطمس نوره‏,‏ ثم ابتلاع الشمس له كإشارة إلي بدايات تهدم النظام الكوني بأمر من الله‏(‏ تعالي‏).‏ وفي وسط ذهول الناس من فجائية هذه الأحداث وتسارع وقعها يتساءل الإنسان المرعوب‏,‏ المرتاع‏,‏ الفزع‏,‏ الذي أنكر القيامة وسخر من وقوعها‏,‏ ثم فوجيء بأهوالها فيقول‏:‏ أين المفر؟
فيرد عليه الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بقوله العزيز‏:‏ كلا لا وزر وكلا لفظة ردع وزجر وإبطال لقول القائل‏,‏ و‏(‏الوزر‏)‏ الملجأ الذي يلتجأ إليه من جبل أو حصن أو غيرهما‏,‏ بمعني أنه لا ملجأ من الله‏(‏ تعالي‏)‏ إلا إليه‏,‏ فالمصير والمنتهي إليه ولذلك قال تعالي‏:‏ إلي ربك يومئذ المستقر حين يواجه الإنسان بصحيفة أعماله كاملة غير منقوصة‏:‏ بنبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخر‏.‏

وهو حين تعرض عليه أعماله‏,‏ و تشهد عليه جوارحه يصبح شاهدا علي نفسه‏,‏ بصيرا بما كان منها‏,‏ فلن تقبل منه الأعذار مهما حاول‏.‏
وبعد ذلك تنتقل الآيات بالخطاب إلي خاتم الأنبياء والمرسلين‏,(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ الذي كان يجهد نفسه الشريفة في متابعة الوحي بالقرآن الكريم من جبريل‏(‏ عليه السلام‏)‏ في لهفة بالغة حتي لا يتفلت منه شيء‏,‏ فنزل الوحي مطمئنا إياه بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد تكفل بجمع القرآن الكريم وحفظه علي مر الزمان‏,‏ وفي قلوب الحفاظ عبر التاريخ إلي قيام الساعة‏,‏ كما تكفل بتثبيته علي لسانه‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قراءة صحيحة وعلي ألسنة الراغبين في حفظه من أمته علي مر الأزمنة‏.‏ فما كان علي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ إلا أن يستمع لجبريل‏(‏ عليه السلام‏)‏ وهو يقرأ عليه القرآن الكريم فإذا ما أتم قراءته طبع الله‏(‏ تعالي‏)‏ ما قريء في قلب خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وأجراه علي لسانه فقرأ مثلما قرأ جبريل تماما‏.‏ كذلك تعهد ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بتفهيم من يشاء من عباده دلالة آيات كتابه العزيز ولذلك قال‏(‏ عز من قائل‏)‏ موجها الخطاب إلي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏

لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه‏(‏ القيامة‏:16‏ ـ‏19).‏
وبعد ذلك تنتقل الآيات بالخطاب إلي الناس كافة موضحة حبهم للدنيا وانشغالهم بها إلي الحد الذي قد ينسي الكثيرين منهم حتمية رجوعهم إلي الله تعالي في الآخرة‏,‏ بل قد يدفع بالبعض إلي إنكارها فتقول‏:‏
كلا بل تحبون العاجلة‏*‏ وتذرون الآخرة‏(‏ القيامة‏:21,20).‏

وفجأة تنقل الآيات الناس إلي مصائرهم في الآخرة بين وجوه تعلوها النضرة والصفاء والبشر ناعمة بالنظر إلي ربها ومستبشرة بحسن مصيرها ووجوه كالحة ذليلة مستيقنة بداهية تقصم ظهورها وفي ذلك تقول‏:‏
وجوه يومئذ ناضرة‏*‏ إلي ربها ناظرة‏*‏ ووجوه يومئذ باسرة‏*‏ تظن أن يفعل بها فاقرة‏(‏ القيامة‏:22‏ ـ‏25).‏

وفجأة كذلك تنتقل بنا الآيات إلي مشهد الاحتضار‏,‏ وشدة سكرات الموت‏,‏ وحشرجة الصدر وبلوغ الروح إلي الحلقوم‏,‏ لعل الناس يستيقظون من غفلتهم ليعلموا خطورة الانتقال من الدنيا إلي الآخرة‏,‏ وينتبهوا إلي حتمية الموت الذي يصرع الجبابرة كما يصرع المساكين‏,‏ ويقهر المتسلطين كما يقهر المستضعفين‏,‏ ولا حيلة لأحد من الخلق فيه أبدا فتقول‏:‏ كلا إذا بلغت التراقي‏*‏ وقيل من راق‏*‏ وظن أنه الفراق‏*‏ والتفت الساق بالساق‏*‏ إلي ربك يومئذ المساق‏*‏ فلا صدق ولا صلي‏*‏ ولكن كذب وتولي‏*‏ ثم ذهب إلي أهله يتمطي‏*‏ أولي لك فأولي‏*‏ ثم أولي لك فأولي‏*‏ أيحسب الإنسان أن يترك سدي‏.‏
‏(‏ القيامة‏:26‏ ـ‏36).‏

ثم تستشهد الآيات بطلاقة القدرة الإلهية المبدعة في خلق الإنسان من نطفة إذا تمني‏,‏ ثم جعله علقة بطول أجزاء قليلة من الملليمتر‏,‏ ومن هذه العلقة خلق الإنسان بأعضاءجسده المختلفة‏,‏ وأجهزته المتعددة‏,‏ وأنسجته وخلاياه المتخصصة التي تتعاون في خدمة هذا المخلوق المكرم بجنسيه الذكر والأنثي طيلة حياة كل منهما وإلي لحظة مماته‏,‏ ولذلك ختمت هذه السورة المباركة بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ أيحسب الإنسان أن يترك سدي‏*‏ ألم يك نطفة من مني يمني‏*‏ ثم كان علقة فخلق فسوي‏*‏ فجعل منه الزوجين الذكر والأنثي‏*‏ أليس ذلك بقادر علي أن يحيي الموتي
‏(‏القيامة‏:36‏ ـ‏40).‏

وعلي كل سامع لهذا الختام المنطقي الرائع أن يقول كما أوصانا نبينا‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ بلي‏!‏ هو سبحانه قادر علي أن يحيي الموتي‏,‏ وأنا علي ذلكم من الشاهدين‏.‏

من ركائز العقيدة في سورة القيامة
‏1‏ـ الإيمان بيوم القيامة وبكل ما فيه من أحداث جسام وصفها القرآن الكريم‏.‏
‏2‏ـ التسليم بقيمة النفس اللوامة في إصلاح سلوك صاحبها وإيقاظ ضميره وإسعافه بالتوبة إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ من أخطائه‏,‏ وشحذ همته لمزيد من الطاعة وعمل الخير‏.‏

‏3‏ـ التصديق بحقيقة البعث‏,‏ بل بحتميته وضرورته‏.‏
‏4‏ـ اليقين بأن من الدوافع النفسية لإنكار البعث عند الكافرين هي الرغبة في مخالفة أوامر الله‏(‏ تعالي‏)‏ دون تأنيب الضمير‏,‏ والخوض في المعاصي إلي حد الفجور دون مخافة الحساب‏.‏

‏5‏ـ التسليم بأن من أوائل أحداث تدمير الكون هي حادثة ابتلاع الشمس للقمر‏.‏
‏6‏ـ الإيمان بأنه لا ملجأ ولا منجي من الله إلا إليه‏.‏

‏7‏ـ اليقين بأن جميع أعمال وأقوال الإنسان مدونة عليه‏,‏ وأنه سوف ينبأ في يوم الحساب بما قدم وآخر‏,‏ وأنه سيكون شاهدا علي نفسه في ذلك اليوم‏,‏ ولن تقبل منه أعذار عن أخطائه‏.‏
‏8‏ـ التصديق بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد تكفل بطبع القرآن الكريم في قلب خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وفي قلوب الحفاظ المجتهدين إلي قيام الساعة‏,‏ كما تكفل بجمعه وحفظه بمختلف صور الحفظ المادي حفظا كاملا بنفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها‏,‏ وتكفل بتيسير تلاوته‏,‏ وبيان معانيه لمن يشاء من عباده‏.‏

‏9‏ـ التسليم بأن حب الدنيا ونسيان الآخرة جزء من هوي النفس البشرية‏,‏ والعاقل من قاوم تلك النزعة حتي يحيا حياته في توازن واعتدال‏.‏
‏10‏ـ الإيمان بأن الناس سوف ينقسمون في الآخرة إلي سعداء وأشقياء وأن العقلاء هم الذين يوظفون دنياهم من أجل الفوز في أخراهم‏.‏

‏11‏ـ اليقين بأن الموت حق علي جميع العباد وأن أحدا لا يملك للمحتضر شيئا‏.‏
‏12‏ـ التصديق بأن الإعراض عن دين الله وتكذيب رسل الله‏,‏ والتقصير في أداء العبادات المفروضة وأولها الصلاة‏,‏ وإنكار المعلوم من الدين بالضرورة وفي مقدمته الغيوب التي نزل بها وحي السماء‏,‏ والتعالي والاختيال والتكبر علي خلق الله‏,‏ كل ذلك من مبررات تحقق وعيد الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ في الدنيا والآخرة وعند الموت والبعث والحساب والجزاء‏.‏

‏13‏ـ الإيمان بأن للإنسان رسالة محددة في هذه الحياة هي عبادة الله‏(‏ تعالي‏)‏ بما أمر‏,‏ وحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بعماراتها وإقامة عدل الله فيها‏.‏
‏14‏ـ اليقين بأن الذي خلق الزوجين الذكر والأنثي من نطفة إذا تمني قادر حقا علي أن يحيي الموتي‏,‏ وأن الخلق الأول شاهد علي إمكانية البعث‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة القيامة
‏1‏ـ نفي أزلية العالم بالتأكيد علي حتمية الآخرة‏.‏
‏2‏ـ التأكيد علي عدد من جوانب النفس الإنسانية وطبائعها‏.‏

‏3‏ـالإشارة إلي دقة تسوية البنان في الإنسان‏.‏
‏4‏ـ التأكيد علي أن من أوائل أحداث انهدام الكون ابتلاع الشمس للقمر‏,‏ والعلوم المكتسبة تسجل ابتعاد القمر عن الأرض بمعدل ثلاثة سنتيمترات في كل سنة مما يشير إلي حتمية وقوع ذلك الحدث بسنن وقوانين الآخرة التي هي مغايرة لسنن الدنيا وقوانينها‏.‏

‏5‏ـ الإشارة إلي حفظ القرآن الكريم بوعد من الله‏(‏ تعالي‏),‏ وحفظه علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية في نفس لغة الوحي التي أنزل بها‏(‏ اللغة العربية‏)‏ دون زيادة حرف واحد أو نقصان حرف واحد‏.‏
‏6‏ـ التأكيد علي حقيقة الموت‏,‏ وعلي عجز المخلوقين عن دفعه‏.‏

‏7‏ـ وصف بعض صفات الكفار والمشركين وصفا دقيقا‏.‏
‏8‏ـ التأكيد علي أن الإنسان مسئول عن حياته‏,‏ وأنه سوف يحاسب علي أساس عمله فيها‏.‏

‏9‏ـ الإشارة إلي عملية التناسل البشري ووصف بعض مراحل الجنين فيها‏.‏
‏10‏ـ الإشارة إلي حتمية البعث‏,‏ وبقاء عجب الذنب دون أن يبلي يؤكد إمكانية تحقيق ذلك‏.‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة
في الرد علي منكري البعث جاء قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه‏*‏ بلي قادرين علي أن نسوي بنانه‏*(‏القيامة‏:4,3)‏

والإشارة الي تسوية بنان الإنسان الحي أمر معجز حقا‏,‏ والأكثر إعجازا اعادة تسوية بنان الميت عند بعثه‏,‏ بعد أن كان جسده قد تحلل‏,‏ وكانت عظامه قد بليت‏,‏ وغاب ذلك كله في تراب الأرض‏,‏ من أعظم الدلالات علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة علي بعث الأموات من رفاتهم المتحلله كما خلقهم أول مرة من العدم‏.‏
و‏(‏بلي‏)‏ في الآية الكريمة حرف رد للنفي الذي جاء في الآية السابقة‏(‏ ألن نجمع عظامه‏)‏ وإلغاء له‏,‏ وهو جواب للتحقيق يوجب ما جاء في تلك الآية السابقة بمعني أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قادر علي جمع العظام بعد تحللها‏,‏ بل هو‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ قادر علي ما هو فوق ذلك الا وهو إعادة تسوية بنان الميت عند بعثه‏,‏ بتفاصيل بصمته التي ميزته طيلة حياته عن غيره من بني جنسه‏,‏ والتي تمثل الخاتم الذي ختم به بناء جسده وهو لم يزل جنينا في بطن أمه لم يتجاوز الشهر الثالث من عمره‏.‏

واللفظة‏(‏ قادرين‏)‏ حال من فاعل الفعل المقدر بعد الحرف‏(‏ بلي‏)‏ أي نجمع العظام النخرة ونحن علي ذلك قادرون وما هو فوق ذلك أننا قادرون‏(‏ علي أن نسوي بنانه‏)‏ أي نجعلها كاملة الخلقة تماما كما كانت في حياته الأولي‏.‏ و‏(‏البنان‏)‏ هي الأصابع أو أناملها‏(‏ أطراف الأصابع‏)‏ وهي جمع‏(‏ بنانة‏).‏
ومعني الآية الكريمة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قادر علي إعادة بعث رفات الميت مهما كانت درجات تحللها وبعثرتها في تراب الأرض‏,‏ وقادر علي جمع ذرات كل من عظامه ولحمه وجلده وشعره‏,‏ وكل صفة كانت في جسده قبل الموت‏,‏ وقادر علي التأليف بين ذلك كله‏,‏ وإعادة بعث الروح فيه ليرده حيا كما كان قبل الموت‏.‏ وتخصيص البنان بالذكر يعود الي كونها من أبرز الصفات الظاهرة في الجسم‏,‏ واخر ما يتم من المراحل الأساسية في خلق الجنين‏,‏ وأنه الخاتم الرباني لكل فرد من بني الإنسان‏,‏ وإعادته إشارة إلي إعادة بعث الجسد كاملا دون أدني نقص‏,‏ ولذلك قال ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
بلي قادرين علي أن نسوي بنانه‏*‏
‏(‏ القيامه‏:4)‏

تسوية البنان‏:‏ من معاني‏(‏ التسوية‏)‏ إتمام الشيء علي ما اقتضت من كمال الإتقان في الصنعة‏,‏ وهذا هو المعني المقصود في الآية الكريمة التي نحن بصددها‏.‏
والخالق العظيم قد أتم خلق الإنسان علي أكمل ما يقتضي الخلق من الإتقان‏,‏ وختم خلق كل فرد من بني الإنسان بتسوية بنانه أي بصمات أصابعه بصفة عامة وبصمات أنامل تلك الأصابع بصفة خاصة‏.‏ والبصمة عبارة عن شكل محدد من تبادلات واضحة بين عدد من الخطوط البارزة والغائرة في بشرة جلد أصابع كل من اليدين والقدمين‏,‏ كما توجد في راحتي اليدين‏,‏ وفي بطني القدمين وفي جبين الإنسان‏.‏

وهذه الخطوط تتخذ أشكالا مميزة لكل فرد من أفراد الجنس البشري‏,‏ فلا يمكن لها أن تتطابق في فردين أبدا حتي لو كانوا من التوائم المتماثلة بل لا يمكن لها أن تتطابق بين إصبعين من أصابع اليد الواحدة أو القدم الواحدة في الفرد الواحد‏.‏
ومن الثابت أن بصمة الإنسان تزداد في الحجم مع نمو الجسم ولكنها تظل محتفظة برسمها وشكلها وتفاصيلها المميزة لشخصه طيلة حياته مما يجعلها دليلا قاطعا عليه‏,‏ وميزة ثابتة له‏.‏ لأنه حتي لو تقاربت في الشكل بصمتا بنانين مختلفين‏,‏ فإنه لايمكن لهما أن تتطابقا تطابقا كاملا في التفاصيل أبدا‏.‏ والأشكال الهندسية للبصمات سواء كانت لأصابع اليدين أو القدمين‏,‏ أو علي راحتي اليدين أو بطني القدمين‏,‏ أو علي الجبين‏,‏ هي نمط من الكتابة الدقيقة التي لايعلمها إلا الله‏(‏ تعالي‏)‏ والملك الذي خطها انطلاقا من قول رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏

إذا خلق الله النسمة قال ملك الأرحام‏:‏ أي رب ذكر أم أنثي؟ فيقضي الله أمره‏,‏ ثم يقول‏:‏ أي رب شقي أم سعيد؟ فيقضي الله أمره‏,‏ ثم يكتب بين عينيه ماهو لاق حتي النكبة ينكبها
‏(‏أخرجه البزار عن ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين‏)‏

وقد ميز الله الخالق الباريء المصور كل فرد من عباده بهذه الكتابه علي الجبين‏,‏ وعلي أصابع كل اليدين والقدمين‏,‏ وعلي راحتي اليدين‏,‏ وبطني القدمين بصورة تجعله منفردا عن غيره‏,‏ ومميزا عن جميع من هم سواه من بني البشر‏.‏ فيختلف في ذلك الأخ عن أخيه‏,‏ والولد عن أبيه‏,‏ والبنت عن كل من أمها وشقيقاتها رغم روابط الرحم والدم وبعض الصفات الوراثية‏.‏
بصمة البنان خاتم مميز لكل إنسان‏:‏

‏(‏البنانة‏)‏ واحدة‏(‏ البنان‏)‏ وهي أطراف الأصابع‏,‏ وكل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء فإنه يوحد ويذكر‏,‏ فيقال‏:‏ بنان مخضب‏.‏ وقد ثبت بالدراسة المستفيضة أن لكل بنان في جسم كل فرد من بني الإنسان بصمة خاصة به‏,‏ لها من الأشكال والهيئات والتفاصيل المحددة مايميزها عن غيرها من البصمات‏.‏
والبصمة عبارة عن خطوط بارزة تفصلها منخفضات غائرة في بشرة جلد أصابع كل من اليدين والقدمين‏,‏ وراحتي اليدين‏,‏ وبطني القدمين‏.‏ وتعرف خطوط الأصابع باسم بصمة البنان كما تعرف بصمات راحتي اليدين وبطني القدمين والجبين‏,‏ وإن كانت بصمات البنان اكثرها شيوعا لسهولة استخدامها والخطوط البارزة في البصمة تحمل المسام العرقية‏.‏ وتتكون بشرة الجلد من خمس طبقات أسفلها الطبقة الملاصقة للجلد وهي التي تجدد البصمة إذا تأثرت بعارض خارجي‏.‏

وقد أثبتت دراسات الجنين البشري أن هذه الخطوط المميزة لكل فرد ترسم بعناية فائقة في نهايات الشهر الثالث وبدايات الشهر الرابع من عمر الجنين وهو لايزال في بطن أمه‏,‏ وقد اكتمل هيكله العظمي‏,‏ وتمت كسوته باللحم‏(‏ العضلات والجلد‏)‏ واكتملت أعضاؤه وأجهزته‏,‏ وأخذت الملامح البشرية في الظهور عليه‏,‏ وأصبح في الطريق إلي إنشائه خلقا آخر‏,‏ وتمثل هذه الخطوط البصمية ختما خاصا لكل فرد من أفراد الجنس البشري أعطاه الله‏(‏ تعالي‏)‏ إياه‏,‏ وخص الإنسان به دون سائر المخلوقات وهذا الختم الالهي‏,‏ لايمكن تقليده‏,‏ وقد أعطاه الله‏(‏ سبحانه وتعالي القدرة علي الثبات وعدم التغير‏,‏ وعلي إعادة التشكل بنفس الهيئة عند تعرضه لأية مؤثرات خارجية من مثل الحرق أو القطع أو بعض الأمراض الجلدية‏,‏ أو بعض المزاولات المهنية الشاقة وتبقي هذه الخطوط بأشكالها‏,‏ وتفرعاتها‏,‏ ومواضع اتصالها أو انفصالها ثابتة لاتتغير أبدا حتي تبقي هوية ربانية دائمة لكل واحد من بني الإنسان‏,‏ إلا إذا تم تشويه الأنامل تشويها كاملا‏,‏ ووصل هذا التشويه إلي الطبقة السفلي من الجلد وهي الطبقة المعوضة للبصمة فلا تعوض‏,‏ويتم التحام الجلد ليبقي علامة مميزة أخري بما يحمل من أثار مشوهة‏.‏

ومن الثابت علميا أن البصمات هي صفات فردية محضة لاتورث‏,‏ ولا تتأثر بعامل النسب‏,‏ ومن هنا كانت أهميتها في مجال تحقيق الشخصية‏,‏ ويمكن استخدامها كذلك في التعرف علي شيء من صفات تلك الشخصية من مثل الجنس‏(‏ ذكر أم أنثي‏,‏ العمر‏,‏ الحالة الصحية‏,‏ الحجم‏(‏ وذلك لتناسب حجم البصمة مع حجم الجسم‏),‏ والمهنة‏,‏ وغير ذلك والبصمات تترك آثارها علي كل جسم تلمسه سواء كان هذا الجسم ذا سطح خشن أو أملس‏,‏ ومن هنا يمكن الاستفادة بإبرازها في تتبع العديد من المجرمين‏,‏ ومعرفة تفاصيل حدوث الجريمة‏.‏
من هذا الاستعراض تتضح قيمة البنان في حياة الإنسان‏,‏ وقد سميت بذلك لأن بها صلاح الأحوال التي يمكن للإنسان أن يبن بها ما يريد أن يقيم‏,‏ أي يتحسس بها الأحوال لتركيز النهايات العصبية والحسية فيها‏.‏ يقال‏:‏ أبن بالمكان‏,‏ يبين به أي أقام به بعد أن اطمأن إلي سلامة المقام فيه‏,‏ ولذلك قال‏(‏ تعالي‏):‏ بلي قادرين علي أن نسوي بنانه‏.‏ وقال‏(‏ عز من قائل‏):‏ واضربوا منهم كل بنان أي التي بها يقاتلون‏,‏ و‏(‏ البنة‏)‏ الرائحة التي تبن بما تعلق به‏.‏

والبنان تحمل بصمتها التي تعتبر ختما إلهيا جعله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ علامة جماعية فارقة للإنسان دون غيره من المخلوقات المعروفة لنا‏,‏ كما جعله ميزة فردية لكل واحد من بني الإنسان تحديد شخصيته تحديدا قاطعا‏,‏ وتفرده عن غيره إفرادا مميزا يتجاوز حدود الإرث والنسب والعرق‏,‏ وذلك طيلة حياته والآية الكريمة التي نحن بصددها تؤكد علي إعادة بصمة كل بنان مع بعث كل ميت‏,‏ تأكيدا علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في كل من الخلق والبعث‏.‏ كما تشير إلي دقة تسوية البنان وإلي أهمية ذلك في حياة الإنسان‏,‏ وهي أهمية لم تدركها العلوم المكتسبة إلا في مطلع القرن العشرين‏(1901‏ م‏)‏ حين استخدم المحتلون البريطانيون بصمات الأصابع في تتبع بعض مقترفي الجرائم في الهند‏,‏ ثم أصبحت وسيلة من أهم وسائل التشخيص لبني الإنسان في كل دول العالم‏.‏
وسبق القرآن الكريم بثلاثة عشر قرنا لجميع المعارف المكتسبة‏,‏ وذلك بالإشارة إلي تسوية البنان في الأحياء ثم عند البعث مما يقطع بأن القرآن الكريم لايمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏,‏ فالحمد لله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله‏.‏ علي بعثة سيد ولد عدنان‏:‏ سيدنا محمد بن عبدالله‏,‏ خاتم الأنبياء والمرسلين‏,‏ وإمامهم أجمعين‏,‏ فصلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم‏,‏ والحمد لله رب العالمين‏.‏