ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون‏*‏
هذه الآية الكريمة جاءت في أواخر الثلث الأول من‏'‏ سورة السجدة‏',‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها ثلاثون‏(30)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي سجود المؤمنين لله‏(‏ تعالي‏)‏ طاعة لأمره‏,‏ وتعبدا لجلاله‏,‏ وقد جاء ذلك في منتصف هذه السورة المباركة حيث توجد سجدة تلاوة بعد الآية الخامسة عشرة منها‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون‏*‏ تتجافي جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون‏*‏ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون‏*(‏ السجدة‏:15-17).‏
ويدور المحور الرئيسي‏'‏ لسورة السجدة‏'‏ حول العقيدة الإسلامية‏,‏ ومن ركائزها‏:‏ الإيمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ ربا واحدا أحدا‏,‏ فردا صمدا‏,‏ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏,‏ وتنزيهه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله‏.‏ ومن ركائز العقيدة الإسلامية الإيمان بملائكة الله‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله‏(‏ دون أدني تفريق‏),‏ وباليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وجزاء‏,‏ وخلود في الحياة القادمة إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏,‏ والإيمان بالقدر خيره وشره‏.‏

ومن أهم ركائز العقيدة الإسلامية الإيمان ببعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وبالرسالة الخاتمة التي أوحاها الله‏(‏ تعالي‏)‏ إليه‏,‏ والتي تعهد ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بحفظها فحفظت في القرآن الكريم وفي سنة هذا النبي والرسول الخاتم‏(‏ عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم‏)‏ علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية وسوف تبقي كذلك إلي قيام الساعة حتي تكون حجة علي الناس كافة‏.‏
وقد استهلت سورة السجدة بالحروف المقطعة الثلاثة‏(‏ أ ل م‏)‏ والتي جاءت في مطلع ست من سور القرآن الكريم‏.‏ وهذه المقطعات من الفواتح الهجائية جاءت في مطلع تسع وعشرين سورة من سور القرآن الكريم‏,‏ وتعتبر سرا من أسراره التي وكلها أغلب المفسرين إلي علم الله‏(‏ تعالي‏),‏ وحاول البعض الآخر تفسيرها‏,‏ فقيل فيها أنها قد تكون رموزا إلي كلمات أو معان أو أعداد محددة متعلقة بالسورة التي استفتحت بها‏,‏ أو أنها قد تكون أسماء لتلك السور‏,‏ أو صورة من صور تحدي العرب بالقرآن الكريم‏,‏ وإثبات إعجازه لهم‏,‏ لأنه لا يجاوز حروف لغتهم العربية‏,‏ التي علي الرغم من تميزهم فيها فإنهم عجزوا عن الإتيان بشيء من مثل القرآن العظيم‏.‏

كذلك سبق القول في المقطعات الهجائية أنها قد تكون وسيلة من وسائل قرع الأسماع وتحريك القلوب والأفهام كي تستعد لتلقي كلام رب العالمين‏.‏ وقيل فيها إنها من الشهادات المثبتة لنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وذلك لنطقه بأسماء الحروف‏-‏ وهو الأمي‏-‏ والأمي ينطق بأصوات الحروف دون أسمائها‏,‏ وقيل في هذه المقطعات الهجائية أنها قد تجمع بين ذلك كله‏,‏ وقد يكون لها من الدلالات ما لم يكتشف بعد من أسرار هذا الكتاب العزيز الذي أنزله الله‏(‏ تعالي‏)‏ بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية‏,‏ في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ وحفظه حفظا كاملا علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية‏,‏ وتعهد‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بذلك الحفظ إلي قيام الساعة حتي يبقي القرآن الكريم شاهدا علي الناس كافة إلي يوم الدين‏.‏ وبعد هذا الاستهلال يأتي التأكيد القاطع من رب العالمين بأن القرآن الكريم هو تنزيل منه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ دون أدني شك أو شبهة أو ريبة‏,‏ وذلك دفعا لادعاءات كفار ومشركي قريش‏-‏ ولادعاءات كل كافر ومشرك وظالم أو جاهل من بعدهم إلي يوم الدين‏-‏ بأن القرآن الكريم هو من كتابات سيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ الذي شاءت إرادة الله‏(‏ تعالي‏)‏ أن يجعله أميا لا يقرأ ولا يكتب حتي ينفي عنه هذه التهمة الباطلة‏.‏ وفي ذلك جاءت الآيات في مطلع سورة السجدة بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ألم‏*‏ تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين‏*‏أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون‏*‏ الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوي علي العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون‏*(‏ السجدة‏:1-4).‏

ثم أشارت الآيات إلي السرعة الفائقة التي يدبر الله‏(‏ تعالي‏)‏ بها أمور الكون كله‏,‏ والزمن هو أحد أبعاده‏,‏ والكون بزمانه‏,‏ ومكانه‏,‏ ومادته ومختلف صور الطاقة فيه من خلق الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ الذي يتحكم في كل ذلك كيف يشاء‏,‏ يخلقه ويفنيه‏,‏ ويقصره ويطويه‏,‏ ويمده كيف يشاء إلي نهاية لا يعلمها إلا هو‏(‏ جل شأنه‏),‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
يدبر الأمر من السماء إلي الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون‏*.(‏ السجدة‏:5).‏

وتضيف الآيات عددا من صفات الخالق العظيم تشهد له‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بالألوهية‏,‏ والربوبية‏,‏ والخالقية‏,‏ والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه فتقول‏:‏
ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم‏*‏الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين‏*‏ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين‏*‏ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون‏*.(‏ السجدة‏9).‏

وتندد الآيات بعد ذلك بالمكذبين بالبعث‏,‏ المستهزئين بإمكانية وقوعه‏,‏ وتصف لجاجتهم في أمره‏,‏ وأقوالهم الساذجة التي تنم عن جهلهم بطلاقة القدرة الإلهية التي لا تحدها حدود فيقولون‏:‏ أئذا متنا‏,‏ وتحللت أجسادنا إلي تراب يختلط بتراب الأرض حتي يغيب فيه‏,‏ ولا يتميز عنه‏,‏ هل يمكن أن يعاد خلقنا من جديد؟ وهذا من أخطاء الكفار الذين يقيسون قدرة الله‏(‏ تعالي‏)‏ غير المحدودة بقدرات البشر المحدودة‏,‏ وترد عليهم الآيات مؤكدة حتمية الموت والرجوع إلي الله‏,‏ ومبكتة هؤلاء المكذبين بذلهم وانكسارهم وهوانهم حين يفاجأون بالبعث وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون‏*‏ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلي ربكم ترجعون‏*‏ ولو تري إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون‏*‏ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏*‏ فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون‏*.‏
‏(‏السجدة‏:10-14).‏

وفي المقابل تستعرض الآيات حال المؤمنين بالله‏,‏ الذين فهموا رسالتهم في هذه الحياة‏:‏ عبادا لله‏(‏ تعالي‏)‏ يعبدونه بما أمر‏,‏ ويحسنون القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بعمارتها‏,‏ وإقامة عدل الله فيها‏,‏ وهم ساجدون لجلال الله‏,‏ مسبحون بحمده‏,‏ خاشعون لعظمته‏,‏ موقنون من عودتهم إليه‏,‏ متطلعون إلي رحمته‏,‏ وراجون حسن ثوابه في الآخرة بالفوز بالجنة والنجاة من النار‏,‏ وتقابلهم الآيات بأحوال الجاحدين من الكفار والمشركين‏,‏ والفاسقين الظالمين‏,‏ المفسدين في الأرض والمتجبرين علي الخلق وهم في ذل وهوان في الآخرة‏,‏ يصلون نار الجحيم‏,‏ وحذرهم من ذلك في الدنيا قبل الآخرة وهم لا يسمعون‏,‏ وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏'‏أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون‏*‏ أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوي نزلا بما كانوا يعملون‏*‏ وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون‏*‏ ولنذيقنهم من العذاب الأدني دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون‏*‏ ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون‏*.(‏ السجدة‏:18-22).‏
ثم تنتقل الآيات بعد ذلك بالإشارة إلي كتاب موسي‏(‏ التوراة‏)‏ الذي جعله الله‏(‏ تعالي‏)‏ هدي لبني إسرائيل‏,‏ وجعل منهم أئمة يهدون بأمر الله لما صبروا وكانوا بآيات الله يهتدون‏,‏ ثم تصف الآيات كيف ارتدت غالبيتهم بعد ذلك‏,‏ وقتلوا أنبياءهم‏,‏ والصالحين من بينهم كما يفعلون اليوم علي أرض فلسطين‏,‏ وعلي غيرها من أراضي المسلمين‏.‏
وبالقرب من ختام هذه السورة المباركة توجه الآيات الخطاب إلي كفار ومشركي قريش‏(‏ وإلي كل كافر ومشرك وظالم من بعدهم إلي يوم الدين‏)‏ مذكرة إياهم بمصارع الغابرين‏,‏ ومستشهدة علي حتمية البعث بإعادة إنبات الأرض الجرز التي قضي علي نباتها إما بالرعي الجائر‏,‏ أو بالجفاف والتصحر‏,‏ فإذا ساق الله‏(‏ تعالي‏)‏ إليها الماء اخضرت وازدهرت بمختلف أنواع النباتات التي يأكل منها الناس وأنعامهم‏,‏ وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون‏*‏ أو لم يروا أننا نسوق الماء إلي الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون‏*..‏
‏(‏ السجدة‏27,26).‏

وتختتم‏'‏ سورة السجدة‏'‏ بتهديد من الله‏(‏ تعالي‏)‏لكفار ومشركي قريش‏(‏ ولكل مشرك وكافر من بعدهم إلي يوم الدين‏)‏ بأهوال يوم القيامة الذي لا ينفع الذين كفروا أو أشركوا وماتوا علي الكفر أو الشرك بالله أن يعلنوا إيمانهم فيه‏,‏ وهم كانوا قد أنكروه في الدنيا‏,‏ وتقطع الآيات بأنهم لن يمهلوا من العذاب شيئا وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ويقولون متي هذا الفتح إن كنتم صادقين‏*‏ قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفرا إيمانهم ولا هم ينظرون‏*‏ فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون‏*.(‏ السجدة‏28-30).‏
أي أعرض يا محمد عن الكفار والمشركين‏,‏ وأعرضوا عنهم يا أتباع محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ إلي يوم الدين‏,‏ ولا تبالوا بهم‏,‏ وانتظروا ما سوف يحل بهم من عذاب الله في الدنيا قبل الآخرة‏,‏ لأنهم دوما متربصون بكم‏,‏ وكائدون لكم‏,‏ ومتآمرون عليكم‏,‏ وهم من جهلهم وغطرستهم‏,‏ وكبرهم لا يعلمون قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏*.(‏ يوسف‏:21).‏
ولا يعلمون قوله‏(‏ عز من قائل‏):‏
‏...‏ ولن يجعل الله للكافرين علي المؤمنين سبيلا‏*.(‏ النساء‏:141).‏

من ركائز العقيدة في سورة السجدة
‏(1)‏ الإيمان بالله الواحد الأحد‏,‏ الفرد الصمد‏,‏ الذي لم يلد ولم يولد‏,‏ ولم يكن له كفوا أحد‏,‏ وبملائكته‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله‏,‏ واليوم الآخر‏(‏ بما فيه من بعث‏,‏ وحساب‏,‏ وخلود إما في الجنة أبدا‏,‏ أو في النار أبدا‏).‏

‏(2)‏ اليقين بأن القرآن الكريم هو كلام الله‏,‏ الموحي به إلي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ والمحفوظ بنفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ حفظا كاملا إلي يوم الدين‏.‏

‏(3)‏ التسليم بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق السموات والأرض وما بينهما‏,‏ عالم الغيب والشهادة‏,‏ العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين‏*‏ ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين‏*‏ ثم سواه ونفخ فيه من روحه‏...*'.‏

‏(4)‏ التسليم ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وبالقرآن الكريم الذي أوحاه الله‏(‏ تعالي‏)‏ إليه هداية للخلق أجمعين‏,‏ وبسنته المطهرة التي هي من صميم الدين‏.‏

‏(5)‏ اليقين بأن المؤمنين بالله‏,‏ القائمين علي عبادته‏,‏ والذين يصلحون في الأرض‏,‏ ويعملون الطيبات‏,‏ ويقيمون عدل الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيها لا يستوون أبدا مع الكفار والمشركين‏,‏ والفاسقين المفسدين‏,‏ والطغاة المتجبرين علي الخلق‏.‏

‏(6)‏ التسليم بحتمية البعث وضرورته ليكافأ أهل الخير والصلاح ويجازي أهل الكفر والشرك والضلال كل بعمله‏.‏

‏(7)‏ الإيمان بطلاقة القدرة الإلهية التي لا تحدها حدود‏,‏ ولا يقف أمامها عائق‏,‏ وبأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قادر علي كل شيء‏,‏ وأن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له‏:'‏ كن‏'‏ فيكون‏.‏

من ركائز العبادة في سورة السجدة
‏(1)‏ ضرورة الشكر لله‏(‏ تعالي‏)‏ علي كل نعمة أنعم بها علي الإنسان‏.‏

‏(2)‏ مداومة السجود لله‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ والتسبيح بحمده كلما ذكرت آياته المنزلة في محكم كتابه أو المبثوثة في النفس الإنسانية‏,‏ أو في الآفاق‏,‏ خاصة إذا كان فيها أو في مضمونها أمر واضح بالسجود لله‏(‏ تعالي‏).‏

‏(3)‏ الحرص علي قيام الليل‏,‏ وتجافي الجنوب عن المضاجع‏,‏ عبادة لله‏(‏ تعالي‏)‏ طمعا في جزيل ثوابه‏,‏ وخوفا من شديد عقابه‏.‏

‏(4)‏ محاربة شح النفس بالحرص علي الإنفاق مما رزق الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏

‏(5)‏ النهي عن كل صور الإفساد في الأرض من الكفر والشرك والفسوق والعصيان‏,‏ والظلم والطغيان‏,‏ ومحاربته بكل ما في الطاقة من إمكان‏.‏

‏(6)‏ الإعراض عن الكفار والمشركين إذا دعوا للإيمان ولم يستجيبوا والحرص من كيدهم‏.‏

‏(7)‏ ضرورة الاعتبار بهلاك العاصين من الأمم السابقة‏.‏

من الإشارات الكونية في‏'‏ سورة السجدة‏'‏
‏(1)‏ الإشارة إلي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام‏(‏ أي ست مراحل متتالية‏)‏ يحاول العلم المكتسب اليوم تفسيرها‏.‏

‏(2)‏ الإيحاء بمركزية الأرض للسماوات بالإشارة إلي البينية الفاصلة لهما‏,‏ وهي من الأمور التي لا طاقة للإنسان علي الوصول إليها‏.‏

‏(3)‏ الإشارة إلي سرعات كونية فائقة يدبر الله‏(‏ تعالي‏)‏ بها الأمر بين السماء والأرض قبل أن يصل إلي علم الإنسان شيء من ذلك بأكثر من اثني عشر قرنا‏.‏

‏(4)‏ التأكيد علي خلق الإنسان من طين‏,‏ وعلي جعل نسله سلالة من ماء مهين‏.‏

‏(5)‏ الإشارة إلي تسوية خلق الإنسان في مراحل جنينية محددة‏,‏ ثم نفخ الروح فيه‏,‏ وخلق السمع والأبصار والأفئدة في زمرة مجموعة من الحواس لا تستقيم حياة الإنسان علي الأرض بفقدها‏.‏ وتقديم السمع علي بقية الحواس في هذه السورة الكريمة وفي العديد غيرها من آيات القرآن الحكيم هو من أبلغ دلالات الإعجاز العلمي للقرآن الكريم‏.‏

‏(6)‏ وصف الذات الإلهية بتعبير‏'‏ رب العالمين‏'‏ مما يشمل عالمي الغيب والشهادة‏,‏ و عالمي الدنيا والآخرة‏,‏ وعالمي الإنسان والجن‏,‏ وغير ذلك من العوالم التي نجهلها‏.‏

‏(7)‏ الدقة العلمية الفائقة في اختيار وصف‏'‏ الأرض الجرز‏',‏ وهي الأرض التي اندثر نباتها إما بالرعي الجائر‏,‏ أو الحش الجائر‏,‏ أو بانقطاع الماء عنها لفترات طويلة‏,‏ فيجف نباتها‏,‏ وييبس حتي يندثر‏,‏ وتبقي هذه الأرض صالحة للزراعة بتربتها وبمخزونها من بقايا الحياة النباتية والحيوانية المدفونة فيها‏,‏ وذلك لأن‏(‏ الجرز‏)‏ في اللغة هو القطع‏,‏ أما باقي أنواع الأراضي التي لا ينبت فيها نبات أبدا من مثل الأرض السبخة فلا تسمي باسم‏'‏ الأرض الجرز‏'‏ لأنه لا يمكن أن يكون قد نما فيها غطاء خضري ثم اجتث بالقطع‏,‏ أو يبس واندثر بسبب ندرة المطر‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الخامسة من القائمة السابقة والتي تتحدث عن تسوية خلق الإنسان في مراحل جنينية محددة‏,‏ ثم نفخ الروح فيه‏,‏ وخلق السمع والأبصار والأفئدة‏.‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة
أولا‏:‏ في قول‏(‏ ربنا تبارك وتعالي‏):'‏ ثم سواه‏...':‏
تشمل التسوية هنا مراحل خلق الجنين من لحظة الإخصاب‏(‏ طور النطفة الأمشاج‏)‏ إلي مرحلة نفخ الروح‏(‏ طور المضغة‏)‏ والتي حددها رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بحديثه الشريف الذي قال فيه‏:'‏ إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة‏,‏ ثم يكون بعد ذلك علقة مثل ذلك‏,‏ ثم يكون مضغة مثل ذلك‏,‏ ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح‏...'‏
‏(‏رواه الشيخان عن ابن مسعود‏).‏

وأكد هذا النبي الخاتم‏(‏ عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم‏)‏ تلك الحقيقة في حديث آخر قال فيه‏:'‏ إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها‏,‏ وخلق سمعها‏,‏ وبصرها وجلدها ولحمها‏,‏ وعظامها‏,‏ ثم قال‏:‏ يارب أذكر أم أنثي‏,‏ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك‏'.‏
‏(‏صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد‏).‏

وفترة تسوية الجنين البشري يمكن تلخيصها في الأطوار التالية‏:‏
‏(1)‏ طور النطفة الأمشاج‏:‏ ويبدأ هذا الطور بمجرد إخصاب نطفة الرجل‏(‏ الحيمن‏)‏ لنطفة المرأة‏(‏ البييضة‏)‏ عند التقاء مائيهما المهينين‏(‏ التناسليين‏),‏ فقد جعل الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ التناسل بهذه الطريقة وسيلة لبقاء النوع‏,‏ وبالتقاء الشفرتين الوراثيتين لكل من الحيمن والبييضة في النطفة الأمشاج تتكون الصفات السائدة التي تظهر علي الجنين والتي تميزه عن غيره من بني الإنسان‏,‏ كما تتكون الصفات المستترة‏(‏ المتنحية‏)‏ والتي تختزن فيه للظهور في نسله من بعده إلي يوم الدين‏,‏ وتسمي العلوم المكتسبة هذه العملية باسم التنوع في الوحدة‏(DIVERSITYINUNITY)‏ مما يشير إلي خلق البشرية كلها من أب واحد وأم واحدة هما أبوانا آدم وحواء‏(‏ عليهما من الله السلام‏)‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏'‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم علي أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين‏*'.(‏ الأعراف‏:172).‏

ويقول‏(‏ عز من قائل‏):‏
‏'‏يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء‏...*'.(‏ النساء‏:1).‏
وجاءت هذه الحقيقة في عدد آخر من آي القرآن الكريم من مثل‏(‏ الأعراف‏:189,‏ الزمر‏:6,‏ الروم‏:21,‏ فاطر‏:11).‏

ويقول سبحانه وتعالي كذلك‏:‏
‏'‏ وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثي‏*‏ من نطفة إذا تمني‏')(‏ النجم‏:46,45).‏
ولذلك يسمي القرآن الكريم عملية الإخصاب بما فيها من تحديد للصفات الوراثية للجنين باسم‏(‏ التقدير‏)‏ فقال ربنا‏(‏ تبارك اسمه‏):‏
‏'‏ قتل الإنسان ما أكفره‏*‏من أي شيء خلقه‏*‏من نطفة خلقه فقدره‏*'(‏ عبس‏:17:19).‏

ويقول المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)'‏ إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله تعالي كل نسب بينها وبين آدم‏'(‏أخرجه كل من ابن جرير وابن أبي حاتم‏).‏
وهو تقدير حقيقي لأن الخالق العظيم قد قدر لكل فرد من أفراد خلقه صفاتا وراثية محددة حتي لا يتشابه اثنان من المخلوقات تشابها كاملا أبدا‏,‏ ولا حتي التوائم‏,‏ ولذلك تسمي العلوم المكتسبة عمليه الإخصاب باسم البرمجة الجينية‏(GeneticCoding).‏ وهي برمجة حقيقية تتم حسب علم الله المحيط بكل شيء والذي أقر صفات كل فرد من خلقه في شيفرة وراثية وزعها بين الخلايا التناسلية لكل من الأب والأم‏,‏ ثم جمع بينهما بالزواج لتلتقي خلية تناسلية محددة من بلايين الخلايا التي وهبها الله‏(‏ تعالي‏)‏ للزوج مع بييضة محددة من بين ما وهب الله للزوجة من البييضات حتي يخلق منهما الجنين المقدرة صفاته الوراثية في علم الله وبعلمه بحكمة بالغة‏,‏ وتقدير دقيق‏.‏
وبمجرد تكون النطفة الأمشاج‏(Zygote)‏ تبدأ في الانقسام المتكرر حتي تتحول إلي ما يعرف باسم التويتة‏(Morula)‏ التي تبدأ بعد حوالي الستة أيام في الانغراس في بطانة الرحم وتستغرق هذه العملية قرابة الأسبوع حتي تتعلق بالمشيمة البدائية بواسطة ساق تصبح فيما بعد الحبل السري‏,‏ وتظل تنمو بالانقسام إلي اليوم الرابع عشر من تاريخ الإخصاب وبذلك يكتمل طور النطفة الأمشاج فتعرف حينئذ باسم الكيسة الأرومية‏(‏ الأرومة المتكيسة أو الكرة الجثومية‏)‏ التي يتراوح طول قطرها بين‏0.55‏ من الملليمتر إلي‏0.68‏ من الملليمتر‏.‏

‏(2)‏ طور العلقة‏:‏ تستمر الكيسة الأرومية أو الكرة الجرثومية‏(Blastula)‏ في النمو وانقسام الخلايا حتي تأخذ شكل دودة العلق‏-‏ هيأة ووظيفة‏-‏ في الفترة من اليوم الخامس والعشرين‏(‏ أي من بدايات الأسبوع الثالث إلي بدايات الأسبوع الرابع‏)‏ من عمر الجنين الذي يتعلق بطرفيه بجدار الرحم ليتغذي بدم الأم‏,‏ وتسمي هذه المرحلة باسم مرحلة العلوق أو الانغراس‏(Implantation),‏ وفي خلالها تتمايز طبقات اللوح الجنيني إلي ثلاث طبقات و يبدأ تخلق الخلايا المتخصصة من الطبقة الوسطي لهذا اللوح الجنيني عبر الشريط الأولي‏(‏ المنظم‏)‏ الذي يبدأ في الظهور علي سطح الكيسة الأرومية مع بداءة هذا الطور‏,‏ ولا يكاد طول العلقة يتعدي ربع الملليمتر عند انغراسها في جدار الرحم‏,‏ ومع استمرار النمو يتزايد طولها إلي ما بين‏0.7‏ من الملليمتر‏,‏ و‏3‏ ملليمتر في المتوسط عند نهاية هذا الطور حين يبدأ ظهور كل من الشق العصبي‏(Neuralgroove)‏ والفلقات‏(‏ الكتل‏)‏ البدنية أو الجسدية‏(Somites),‏ وثنية الرأس‏,‏ ثم الأنبوب العصبي‏(Neuraltube),‏ ويأخذ الجنين شكلا منحنيا يشبه دودة العلق‏,‏ وتعطي الدماء في الأوعية الدموية للعلقة هيئة كتلة من الدم المتخثر‏.‏

‏(3)‏ طور المضغة‏:‏ منذ أواخر الأسبوع الرابع من عمر الجنين‏(‏ أي في حدود اليوم السادس والعشرين‏)‏ من نهاية الإخصاب‏)‏ إلي نهاية الأسبوع السادس‏(‏ حوالي اليوم الثاني والأربعين من عمر الجنين‏)‏ تأخذ الكتل البدنية‏(Somites)‏ في توالي الظهور بالتدريج من قمة الجنين إلي مؤخرته‏,‏ ويكون طول الجنين قد وصل إلي حولي‏(13)‏ ملليمترا‏,‏ وتعطيه انبعاجات الكتل البدنية والمنخفضات الفاصلة بينها شكل قطعة اللحم الممضوغة‏,‏ ومن هنا كانت دقة التسمية القرآنية بتعبير‏(‏ المضغة‏).‏ وفي هذا الطور تظهر براعم الطرفين العلويين ثم الطرفين السفليين‏,‏ كما تظهر بالتدريج أزواج من الأقواس الخيشومية‏,‏ القلب‏,‏ فتحتا الأذنين‏,‏ وحويصلة كل منهما‏,‏ وعدستا العينين وقرصاهما‏,‏ وفتحتا الأنف‏,‏ وتكون صفحتي اليدين‏,‏ ثم صفحتي القدمين‏,‏ وظهور أطراف الأصابع‏,‏ ويبدأ جذع الجنين في الاستقامة‏,‏ وتبدأ الحويصلات المخية في البروز‏,‏ ويتكون جذع الدماغ الذي يتحكم في جميع المراكز الحيوية بجسم الجنين‏,‏ ويبدأ صوانا الأذن في أخذ شكليهما‏,‏ كما تبدأ الأعضاء الداخلية الأساسية في التمايز إلا أن الجنين حتي نهاية هذا الطور يبقي بدون الملامح البشرية‏.‏
وهذه بإيجاز هي مراحل تسوية الجنين البشري التي عبر عنها القرآن بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏'‏ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم‏*‏ الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين‏*‏ ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين‏*‏ ثم سواه‏.........*'(‏ السجدة‏:6-9).‏
وهذه التسوية في ذرية آدم تختلف عن التسوية في خلقه الأول التي وصفها ربنا‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏بقوله العزيز‏:‏
‏'‏فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين‏*.(‏ ص‏:72,‏ الحجر‏:29).‏

ثانيا‏:‏في قوله‏(‏ تعالي‏):'...‏ ونفخ فيه من روحه‏...':‏
يفرق القرآن الكريم بين الحياة والروح‏,‏ فالحياة بمعني القدرة علي النمو والتكاثر موجودة في كل من النبات والحيوان‏,‏ أما الروح فهي من مبررات التكريم الذي اختص الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ به أبانا آدم وبنيه من بعده‏,‏ وهي غيب من الغيوب التي استأثر الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بعلمها‏,‏ فقال‏(‏ عز من قائل‏):‏
‏'‏ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏*'.(‏ الإسراء‏:85).‏
وكل ما نعلمه عن الروح أنها سر من أسرار رب العالمين‏,‏ كرم به أبانا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ ومن ثم أمنا حواء‏(‏ عليها رضوان الله‏)‏ ثم ذريتهما إلي يوم الدين‏.‏ فبعد أن سواه من طين‏,‏ نفخ فيه من روحه‏,‏ وعلمه الأسماء كلها‏,‏ وأمر الملائكة بالسجود له‏,‏ ثم خلق زوجته منه وأكرمها بنفخة الروح‏,‏ وخلق ذرياتهما بالتناسل‏,‏ وأبدع ذلك بعلمه وحكمته وقدرته بالتقاء نطفتي الرجل المعين والمرأة المعينة فتتكون منهما النطفة الأمشاج المحددة التي تنقسم انقسامات عديدة علي هيئة الكيسة الجرثومية‏(‏ الأرومية‏)‏ التي تنغرس في جدار الرحم‏,‏ وفي خلال الأسابيع الستة الأولي من تاريخ الإخصاب تمر هذه الكيسة الأرومية بمرحلتي العلقة ثم المضغة‏,‏ ثم يرسل الله‏(‏ تعالي‏)‏ الملك إلي هذا الجنين لينفخ فيه الروح‏,‏ ومن ثم يأخذ الهيأة الآدمية بالتدريج‏,‏ ويكمل مراحل نموه بخلق العظام وكسوتها لحما ثم ينشئه الله‏(‏ تعالي‏)‏ خلقا آخر حتي اكتمال نموه‏,‏ ثم ميلاده‏.‏ وتأخذ هذه الأطوار حوالي الثمانية والثلاثين أسبوعا‏(‏ أو‏266‏ يوما‏)‏ في المتوسط‏.‏
وجاء ذكر تكريم أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ بنفخة الروح من الله‏(‏ تعالي‏)‏ في العديد من آيات القرآن الكريم‏(‏ الحجر‏:28-31,‏ ص‏:71-78,‏ السجدة‏:7-9)‏ وانطلاقا من هذه الحقيقة تخيل بعض الناس أن الروح التي نفخها الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ في أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ وهو منجدل في طينته فأحياه‏,‏ وتلك التي نفخها في عيسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ فولد من أم بغير أب‏,‏ والروح التي يحملها الملك إلي كل جنين بشري وهو في بطن أمه مع تمام الأسبوع السادس من عمره‏.‏ كل ذلك جعل عددا من الجاهلين بحقيقة الدين يتخيل الروح جزءا من الذات الإلهية‏,‏ والذات الإلهية لا تتجزأ‏,‏ ومن هنا كان هذا التخيل محض افتراء علي الله‏(‏ تعالي‏)‏ الذي هو مغاير في ذاته وصفاته لجميع خلقه‏.‏ وذلك لأن المعلوم من كتاب الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ ومن سنة خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أن نسبة الروح إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ هي من قبيل التشريف والتعظيم لا من قبيل التبعيض والتقسيم‏,‏ لأن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ رب كل شيء ومليكه‏,‏ فإذا قيل‏(‏ بيت الله‏)‏ أو‏(‏ كعبة الله‏)‏ أو‏(‏ ناقة الله‏)‏ فالمقصود به التشريف والتعظيم بنسبة الشيء إلي رب العالمين‏.‏
وتحديد وقت نفخ الروح من الأمور الشرعية الهامة حيث ينبني عليه العديد من الأحكام مثل تحريم قتل الجنين بعده‏,‏ لأن ذلك يساوي بقتله بعد الولادة‏,‏ وفيه القصاص لا الدية‏.‏ وهذا الوقت حددته أحاديث رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ومنها قوله الشريف‏:‏
‏'‏إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها‏,‏ وخلق سمعها‏,‏ وبصرها وجلدها ولحمها‏,‏ وعظامها‏,‏ ثم قال‏:‏ يارب أذكر أم أنثي‏,‏ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك‏'.‏
‏(‏صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد‏).‏

ثالثا‏:‏في قوله تعالي‏:'...‏ وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون‏*.‏

‏(1)‏ تخلق حاسة السمع‏:‏ في هذه الآية القرآنية الكريمة وفي العديد غيرها من آيات هذا الكتاب العزيز قدمت حاسة السمع علي غيرها من الحواس لأهميتها أولا‏,‏ ولسبق تكونها في أطوار الجنين ثانيا‏,‏ فالأذن الداخلية يبدأ تخلقها مع نهايات طور العلقة وبدايات طور المضغة‏(‏ في حدود اليوم الثاني والعشرين من عمر الجنين علي هيئة تخانة علي جانبي نصف المخ الخلفي‏,‏ وفي الأسبوع الرابع تتحول هذه التخانة إلي حفرة ثم إلي حويصلة سمعية وتبدأ الأذن الوسطي في التكون بدءا من الأسبوع الرابع‏,‏ وفي الأسبوع الخامس تنقسم الحويصلة السمعية إلي قسمين‏:‏ أمامي وخلفي علي هيأة غشائية ثم عظمية‏.‏ ويبدأ تكوين كل من الأذن الخارجية وصوان الأذن في الأسبوع السادس من عمر الجنين‏.‏ وفي الفترة من الأسبوع السادس إلي الثامن يكتمل تكون قوقعة الأذن‏,‏ وتتكون عقدتا السمع والتوازن في الأسبوع السابع وتتكون الشعيرات السمعية وما يتصل بها من أعصاب في الأسبوع العاشر كامتداد من مؤخر المخ‏.‏
ويستطيع الجنين الاستماع إلي ما يدور حوله في حدود الشهر الرابع‏.‏

‏(2)‏ تخلق حاسة البصر‏:‏ تبدأ حاسة البصر في التخلق في أواخر الأسبوع الرابع وأوائل الخامس من عمر الجنين علي هيأة عدد من خلايا تنفصل من مقدمة المخ وتعرف باسم خلايا حويصلة الإبصار‏,‏ وفي الأسبوع الخامس تترتب هذه الخلايا في طبقتين تتصل الداخلية منهما بعصب العين‏,‏ وتغطي الخارجية شبكية العين بعد تخلقها مكونة كلا من القزحية والجسم الهدبي‏,‏ ومن الشهر الثالث إلي السابع من عمر الجنين يتم خلق باقي أجزاء العينين في مقدمة الرأس‏,‏ وكذلك كل من العصب البصري والتصالب البصري الذي يربط العينين بمؤخرة المخ‏,‏ وتشق الجفون عن العينين في الشهر السابع من عمر الجنين‏.‏ لذلك جاء ذكر حاسة الإبصار بعد ذكر حاسة السمع في هذه الآية القرآنية الكريمة وفي غيرها من آيات القرآن الكريم‏.‏

‏(3)‏ تخلق حاسة الفؤاد‏:‏ ليس المقصود بالفؤاد مجرد عضلة القلب وحدها‏,‏ ولكن يعبر بالفؤاد عن العلاقة الربانية المحكمة الدقيقة بين العقل والقلب‏,‏ تلك العلاقة التي تؤثر في مضغة لحمية صغيرة نابضة بشكل متصل‏,‏ لا تتوقف عن النبض علي طول الحياة‏,‏ وهذه المضغة عبارة عن عضلة في حجم قبضة اليد مودعة في الصدر‏,‏ تضخ الدم المؤكسد إلي مختلف أجزاء الجسم‏,‏ وغير المؤكسد إلي الرئتين لأكسدته‏,‏ ولكنها في نفس الوقت هي مركز الإحساس في جسم الإنسان الذي يجعله يخفق بشدة عند الفرح ويتثاقل بالهموم عند الحزن‏,‏ وينفعل بكل حادثة بحسب حجمها دون أن يتمكن الإنسان من فهم هذه العلاقة فهما دقيقا‏,‏ أو وضع تصور كامل لها‏.‏

ويمكن تمييز بروز القلب مع نهاية الأسبوع الرابع من عمر الجنين‏,‏ وكذلك تمييز الأوعية الدموية في كل من الجنين والغشاء المشيمي والمعلاق‏,‏ ويتصل الأورطيان الظهريان ليكونا شريانا واحدا هو الأورطي الظهري في جهة صفيحة القلب الأولية التي تتحول إلي أنبوب ملتو علي هيئة الحرف الإنجليزي‏(S)‏ ثم بعد ذلك تبدأ غرف القلب في الظهور مكونة أذينين متصلين وبطينين متصلين في باديء الأمر‏,‏ وتتم الدورة الدموية بين الجنين والأم عبر المشيمة‏,‏ ويتم تخلق الجهاز الدوري بالتدريج حتي يتم اكتمال نمو الجنين‏.‏
ويتكون جذع الدماغ الذي يتحكم في أغلب العمليات الحيوية في الجسم‏(‏ من مثل التنفس والدورة الدموية‏)‏ في اليوم الثاني والأربعين من عمر الجنين‏.‏ أما الاتصال بين المناطق المخية العليا الموجودة في قشرة الدماغ والمناطق السفلي فلا يتم إلا في نهاية الشهر الرابع من عمر الجنين‏(‏ بعد‏120‏ يوما من لحظة الإخصاب‏,‏ ولذلك جاء ذكر الفؤاد متأخرا بعد كل من حاستي السمع والإبصار‏.‏

هذه الحقائق العلمية عن تسوية الجنين لم تعرف بواسطة العلوم المكتسبة إلا في القرنين التاسع عشر والعشرين‏,‏ وورودها في كتاب أنزل علي نبي أمي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين من قبل أربعة عشر قرنا أو يزيد لمما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ علي هذا المدي الطويل‏,‏ وتعهد بذلك الحفظ إلي قيام الساعة‏,‏ وشاهدا بالنبوة والرسالة للنبي والرسول الخاتم الذي تلقاه‏.‏
فالحمد لله الذي أنزل القرآن الكريم بعلمه‏,‏ وتعهد بحفظه فحفظ حفظا كاملا حتي يكون حجة لله‏(‏ تعالي‏)‏ علي عباده من بعد الرسل‏,‏ وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلي من تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏.‏