152)..‏ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث‏..*‏
هذا النص القرآني المعجز جاء في الثمن الأول من سورة الزمر وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها خمس وسبعون‏(75)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الاشارة فيها إلي تمايز الناس في يوم القيامة ـ حسب أعمالهم ـ إلي زمر من أهل الجنة‏,‏ وزمر من أهل النار‏,‏ فيساق كل إلي مصيره المحتوم‏.‏
ويدور المحور الرئيسي للسورة الكريمة حول قضية العقيدة ـ شأنها في ذلك شأن كل السور المكية‏.‏

من ركائز العقيدة في سورة الزمر
‏(1)‏ الايمان بان القرآن الكريم هو كلام الله العزيز الحكيم الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ أنزله بالحق ـ قرآنا عربيا غير ذي عوج ـ يدعو إلي عبادة الله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده بما أمر بإخلاص وتجرد تامين‏(‏ بغير شريك‏,‏ ولاشبيه‏,‏ ولامنازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏),‏ وتنزيهه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لايليق بجلاله‏,‏ لأنه‏(‏ تعالي شأنه‏)‏ لايقبل من عباده إلا التوحيد الخالص لذاته العلية‏,‏ والشكر الدائم علي نعمه العديدة‏.‏
‏(2)‏ اليقين بأن الشرك بالله‏(‏ تعالي‏)‏ كفر به‏,‏ وأن المشركين قد يتمتعون قليلا في الدنيا‏,‏ ثم هم في الآخرة من أصحاب النار‏,‏ وعلي الذين يدعون لله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ولدا بغير علم‏,‏ ولاهدي‏,‏ ولاسلطان مبين‏,‏ أن ينزهوا الله الواحد القهار عن ذلك اللغو لأن الولد من صفات المخلوقين‏,‏ والخالق منزه عن جميع صفات خلقه‏.‏
وعلي الذين اتخذوا من دون الله أولياء ـ يعبدونهم من دون الله ـ بدعوي أنهم يقربونهم إلي الله زلفي أن يعلموا كذب هذا الادعاء‏,‏ وخطورة هذا الافتراء علي الله‏(‏ تعالي‏)‏ الذي سوف يحكم بينهم يوم القيامة‏,‏ وهو‏(‏ سبحانه‏)‏ لايهدي من هو كاذب كفار‏,‏ وأن من كذب علي الله‏,‏ وكذب بالحق إذ جاءه قد ظلم نفسه ظلما كبيرا‏.‏
‏(3)‏ التسليم بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ لايرضي لعباده الكفر‏,‏ ولكنهم إن كفروا فالله غني عنهم‏,‏ وإن آمنوا وشكروا فالله‏(‏ تعالي شأنه‏)‏ يرضي ذلك منهم‏,‏ وأنه لاتزر وازرة وزر أخري‏,‏ وأن الخلق جميعا راجعون إلي الله فينبئهم بما كانوا يعملون‏,‏ وأنه عليم بذات الصدور وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ هو الغفور الرحيم الذي لايغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏.‏
‏(4)‏ الايمان بأن من شرح الله صدره للاسلام فهو علي نور من ربه‏,‏ وأن الكفار والمشركين من أصحاب القلوب القاسية في ضلال مبين‏.‏ وأنه لايستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون‏,‏ وأنه لايتذكر إلا أولو الألباب‏.‏
‏(5)‏ اليقين بأن كل بني آدم خطاؤون‏,‏ وأن خير الخطائين التوابون‏,‏ وأن للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة‏,‏ وأن لهم في الآخرة الأجر العظيم فإن تعرضوا لشيء من الابتلاء أو الايذاء فإن عليهم بالصبر لأن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب‏.‏
‏(6)‏ التسليم بأن الرزق من الله تعالي وأنه هو الذي يبسطه لمن يشاء ويقدر‏.‏ وبأن الموت حق علي العباد‏,‏ وكذلك البعث والنشور‏,‏ وأن للآخرة نفختين‏:‏ نفخة الصعق التي يصعق بها من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله‏,‏ ونفخة البعث التي إذا نفخت بعث بها كل ميت‏(‏ فإذا هم قيام ينظرون‏).‏
‏(7)‏ الايمان بكل ما جاء بالسورة الكريمة من عذاب أهل النار‏,‏ ونعيم أهل الجنة‏,‏ وبكل صور العذاب التي أنزلها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بالعاصين المكذبين من أبناء الأمم السابقة‏,‏ وبأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق كل شيء ورب كل شيء ومليكه‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة الزمر
‏(1)‏ وصف عملية خلق السماوات والأرض بأنها تمت بالحق أي حسب قوانين وسنن منضبطة تشهد لخالقها بأنه الحق‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏
‏(2)‏ الاشارة الضمنية الدقيقة الي كروية الأرض‏,‏ وإلي دورانها حول محورها وإلي جريها في مدارها حول الشمس‏,‏ وجري كل من الأرض والقمر والشمس‏(‏ وبالتالي كل أجرام السماء‏)‏ إلي أجل مسمي مما يشير إلي حتمية الآخرة‏.‏
‏(3)‏ التأكيد علي خلق الناس جميعا من نفس واحدة هي نفس أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ التي خلق منها زوجها‏(‏ أمنا حواء عليها السلام‏).‏
‏(4)‏ ذكر إنزال ثمانية أزواج من الأنعام مما قد يشير إلي إنزال الشفرة الوراثية لها أو الأمر الالهي بخلقها‏.‏
‏(5)‏ التأكيد علي خلق جنين الانسان علي مراحل ـ خلقا من بعد خلق ـ في ظلمات ثلاث‏.‏
‏(6)‏ عدم مساواة الذين يعلمون والذين لايعلمون‏,‏ والتقرير بأن الذين يتدبرون ويفهمون ويتذكرون هم أولو الألباب والنهي‏.‏
‏(7)‏ الاشارة إلي أن أصل الماء تحت سطح الأرض هو ماء المطر الذي يسلكه ربنا‏(‏ تبارك اسمه‏)‏ ينابيع في الارض‏,‏ ثم يخرج به زروعا مختلفة الألوان والأنواع‏,‏ وعند نضجها تيبس وتجف بعد نضارتها‏,‏ ويصفر لونها‏,‏ ثم تتحطم وتصبح فتاتا متكسرا‏,‏ وفي ذلك إشارة إلي دورة الحياة والموت في كل مخلوق وفي كل شيء‏.‏
‏(8)‏ الاشارة إلي مفارقة النفس للجسد في حالتي النوم والممات‏,‏ ثم يعاد إرسالها إلي النائم لحظة يقظته‏,‏ وإمساكها عن جسد الميت لحظة مماته‏.‏
‏(9)‏ التأكيد علي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق كل شيء‏,‏ وأنه علي كل شيء وكيل‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الخامسة من القائمة السابقة والتي جاءت في الآية السادسة من سورة الزمر‏,‏ وقبل التعرض لدلالاتها العلمية أستعرض عددا من أقوال المفسرين في شرح دلالة هذا النص الكريم‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
‏..‏ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث‏..(‏ الزمر‏:6)‏
‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ مامختصره‏:..‏ أي قدركم في بطون أمهاتكم‏.(‏ خلقا من بعد خلق‏)‏ يكون أحدكم أولا نطفة‏,‏ ثم يكون علقة‏,‏ ثم يكون مضغة‏,‏ ثم يخلق فيكون لحما وعظما وعصبا وعروقا‏,‏ وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر‏(‏ فتبارك الله أحسن الخالقين‏),‏ وقوله جل وعلا‏:(‏ في ظلمات ثلاث‏)‏ يعني ظلمة الرحم‏,‏ وظلمة المشيمة‏,‏ وظلمة البطن‏,‏ كذا قال ابن عباس ومجاهد‏...‏
‏*‏ وجاء في الظلال‏(‏ رحم الله كاتبها برحمته الواسعة‏)‏ ما مختصره‏..‏ من النطفة إلي العلقة إلي المضغة إلي العظام‏,‏ إلي الخلق الواضح فيه عنصر البشرية‏.(‏ في ظلمات ثلاث‏):‏ ظلمة الكيس الذي يغلف الجنين‏,‏ وظلمة الرحم الذي يستقر فيه هذا الكيس‏,‏ وظلمة البطن الذي تستقر فيه الرحم‏....‏
‏*‏ وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم‏(‏ جزاهم الله خيرا‏)‏ ما نصه‏:...‏ يخلقكم في بطون أمهاتكم طورا من بعد طور في ظلمات ثلاث‏:‏ هي ظلمة البطن‏,‏ والرحم والمشيمة‏...‏
وجاء في تعليق الخبراء بالهامش ما نصه‏:‏ تنشأ البويضة في أحد مبيضي المرأة‏,‏ حتي إذا اكتمل نضجها انطلقت منه فيتلقفها أحد بوقي فالوب‏,‏ ثم تمضي في قناة فالوب في طريقها إلي الرحم فلا تصله إلا بعد بضعة أيام قد يقدر لها في أثنائها أن يخصبها الحيوان المنوي من الرجل فتبدأ توا مراحل تطورها المبكرة‏,‏ وفي الرحم يمضي الجنين بقية مدة الحمل حيث يكون لنفسه فيها غلافين‏:‏
السلي‏(Chorion)‏ ويسهم جزء منه في تكوين المشيمة
والرهل‏(Amnion)‏ الذي يحيط بالجنين إحاطة مباشرة
وقد اختلفت الآراء في تحديد الظلمات الثلاث في الآية الكريمة فمن ذلك أنها‏:‏
‏(1)‏ البطن‏,‏ والرحم‏,‏ والمشيمة‏(‏ ويقصد بها ما يغلف الجنين بصفة عامة‏)‏
‏(2)‏ الرحم‏,‏ والسلي‏,‏ والرهل
‏(3)‏ البطن‏,‏ والظهر‏,‏ والرحم‏.‏
‏(4)‏ المبيض‏,‏ وقناة فالوب‏,‏ والرحم‏.‏
والظاهر أن الرأي الأخير هو الأرجح لأنها ثلاث متفرقات في أماكن مختلفة‏.‏ أما الآراء الأخري فإنها تشير في الواقع الي ظلمة واحدة في مكان واحد تحيط به طبقات متعددة‏.‏ ولعل الخالق العظيم قد أشار في كتابه الي هذه الحقيقة العلمية في زمن لم يكن الناس قد اكتشفوا فيه بويضة الثدييات ومسلكها ذاك في أجسام الإناث بعيدا عن العيون‏.‏
‏*‏ وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه لرأي كل من الإمامين ابن كثير وسيد قطب‏(‏ عليهما من الله الرحمات‏)‏ ولا أري حاجة الي تكرار سرده هنا‏,‏ وإن كنت أختلف مع تفسير خبراء المنتخب لأن الخلق يتم في داخل الرحم‏,‏ والجنين محاط بأغشيته التي تحدث الظلمة الأولي‏,‏ والأغشية محاطة بجدار الرحم الذي يحدث الظلمة الثانية‏,‏ والرحم محاط بالبدن الذي يحدث الظلمة الثالثة‏.‏ ومراحل الخلق المتتالية من النطفة الأمشاج الي العلقة‏,‏ فالمضغة‏,‏ فالعظام‏,‏ ثم اللحم‏,‏ ثم النشأة الأخري كل ذلك يتم في داخل الرحم‏,‏ ومراحل النطف الذكرية والأنثوية السابقة علي لحظة الإخصاب لا تدخل في هذه المراحل وإن اعتبرت مقدمات لها‏.‏

من الدلالات العلمية للنص القرآني الكريم
أولا‏:‏ في قوله تعالي‏:‏ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق‏...:‏
في وقت ساد الاعتقاد بأن الجنين البشري يتخلق من دم الحيض وحده أو من ماء الرجل وحده نزل القرآن الكريم بالتأكيد علي اشتراك خلايا التكاثر الذكرية والأنثوية في تكوين الجنين وذلك في العديد من الآيات نختار منها قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏(1)‏ ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلي أجل مسمي ثم نخرجكم طفلا‏...*)‏
‏(‏الحج‏:5)‏

‏(2)‏ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين‏*‏ ثم جعلناه نطفة في قرار مكين‏*‏ ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين‏*(‏ المؤمنون‏:12‏ ـ‏14).‏
‏(3)‏ هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة‏...*(‏ غافر‏:67).‏
‏(4)‏ وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثي‏*‏ من نطفة إذا تمني‏*(‏ النجم‏:45‏ و‏46).‏
‏(5)‏ أيحسب الإنسان أن يترك سدي‏*‏ ألم يك نطفة من مني يمني‏*‏ ثم كان علقة فخلق فسوي‏*‏ فجعل منه الزوجين الذكر والأنثي‏*(‏ القيامة‏:36‏ ـ‏39)‏
‏(6)‏ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا‏*(‏ الإنسان‏:2)‏
‏(7)‏ من نطفة خلقة فقدره‏(‏ عبس‏:19)‏

وتنزل القران الكريم بهذا الحق المبين‏,‏ وبهذا الوصف الدقيق‏,‏ الكامل‏,‏ الشامل لأطوار الجنين في الإنسان‏,‏ وهي أطوار لا تتعدي في معظمها أجزاء من الملليمتر الي ملليمترات قليلة في الطول‏,‏ وذلك من قبل ألف وأربعمائة سنة‏,‏ وفي زمن لم يكن متوافرا أية وسيلة من وسائل التكبير أو التصوير أو الكشف مما يشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل كلام الله الخالق‏.‏
وظل الناس ـ أغلب الناس ـ علي تصوراتهم الخاطئة التي منها أن الجنين يتخلق من دم الحيض كخلق ذاتي تلقائي سابق التشكيل للإنسان الكامل الهيئة الذي يبدأ في صورة مصغرة جدا لا تكاد تري‏,‏ ثم يزداد في الحجم بمرور الوقت حتي يكتمل نمو الحنين‏.‏
وظلت هذه التصورات المنطلقة من الخيال الجامح سائدة عند أغلب أهل الأرض الي أواخر القرن السابع عشر الميلادي حين أمكن للهولندي أنتون فان ليو‏(AntonVanLeeuwenhoek)‏ فين هويك وزميله هام‏(Hamm)‏ من رؤية الحويمن‏(‏ الحيوان المنوي‏)‏ لأول مرة بواسطة المجهر وذلك في سنة‏(1677‏م‏)‏ وبعد ذلك بقرنين من الزمان‏(‏ أي في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي‏)‏ تمت رؤية بويضة الثدييات لأول مرة‏.‏
وفي نفس الوقت تقريبا أي في حدود سنة‏1865‏ م‏,1869‏ م وضع النمساوي مندل‏(Mendel)‏ تصورا مبدئيا لآلية توارث الصفات من خلال عدد من التجارب والملاحظات علي نبات البازلاء استخلص منها أن عملية توارث الصفات أي انتقالها من جيل الي اخر تتم عبر عدد من العوامل الوراثية المتناهة في ضآلة الحجم عرفت فيما بعد باسم حاملات الوراثة أو المورثات‏(Genes)‏ وبقيت المورثات مجرد رموز تستخدم في تفسير عمليات التنوع في الخلق الي العقد الثاني من أوائل القرن العشــرين حين استطاع الأمريكي مورجــــــان‏(ThomasHuntMorgan)‏ في سنة‏(1912‏ م‏)‏ إثبات أن المورثات هي أجزاء فعلية من عدد من الجسيمات الخيطية المتناهية في الصغر والدقة والرقة توجد في داخل نواة الخلية الحية وتعرف باسم الجسيمات الصبغية أو الصبغيات‏(Chromosomes)‏ بسبب قدرتها الفائقة علي اكتساب الصبغة المضافة الي الخلية بشكل أوضح من بقية أجزائها‏.‏ ومن خلال دراسته للصبغيات في خلايا جسم الإنسان تعرف مورجان علي الصبغي المختص بالتكاثر‏(ReproductiveChromosome)‏ واقترح فكرة التخطيط الوراثي للكائنات الحية‏(‏ أي رسم خرائط وراثية تفصيلية للصبغيات‏)‏ باعتبار الصبغيات مسئولة عن نقل الصفات من الوالدين الي المولود‏.‏
في سنة‏(1955‏ م‏)‏ تمكن كل من الأمريكي جيمس واطسون والبريطاني فرنسيس كريك‏(JamesWatsonandFrancisCrick)‏ من التعرف علي التركيب الكيميائي للصبغيات وإثبات أنه جزيء من الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين‏(DeoxyribonucleicAcidorDNA)‏ الذي تكتب بمكوناته الشفيرة الوراثية لكل كائن حي‏.‏
ومع تطور الأجهزة العلمية خلال القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين تطور علم الأجنة تطورا مذهلا‏,‏ وكان في كل خطوة يخطوها يثبت صدق كل ما جاء في كتاب الله وفي سنة خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ من أن جنين الإنسان ينتج من اتحاد واندماج النطفتين الذكرية والأنثوية ليكونا معا النطفة الأمشاج‏(‏ المختلطة‏)‏ التي يقدر فيها خلق الجنين بتقدير من الله‏(‏ تعالي‏)‏ وأن هذه النطفة الأمشاج تتخلق منها الأجنة في بطون الأمهات عبر عدد من الأطوار المتتالية التي عجز العلم المكتسب ـ في قمة لم يصلها من قبل ـ عن تسميتها‏,‏ واكتفي بالتعبير عنها بعدد الأيام من أعمارها‏,‏ وسماها القران الكريم بأسماء النطفة‏,‏ ثم العلقة‏,‏ ثم المضغة‏,‏ فالعظام‏,‏ فكسوة العظام باللحم‏,‏ ثم إنشاء الجنين خلقا اخر‏(‏ فتبارك الله أحسن الخالقين‏)‏

ثانيا‏:‏ في قوله تعالي‏:..‏ خلقا من بعد خلق‏..*:‏
في الوقت الذي ساد غالبية الناس الاعتقاد الخاطئ بتخلق الإنسان تخلقا ذاتيا‏,‏ تلقائيا سابق التشكيل‏,‏ كامل الهيئة‏,‏ في صورة مصغرة جدا لا تكاد أن تري‏,‏ ثم يزداد في الحجم بمرور الوقت حتي يكتمل نمو الجنين‏,‏ جاء القرآن الكريم بإثبات الخلق علي مراحل متتالية عبر عنها بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ خلقا من بعد خلق وفصل هذه المراحل في سبع مراحل متتالية أثبتتها الدراسات العلمية في العقود القليلة الماضية وسماها القرآن الكريم بأسمائها المحددة التالية‏:‏
‏(1)‏ طور النطفة‏:‏ وهي في اللغة تعبير عن القليل من الماء الذي يعدل قطرة الي بضع قطرات‏,‏ واستخدمها القرآن الكريم للتعبير عن خلية التكاثر‏(Gamete)‏ سواء كانت مذكرة‏(Sperm)‏ او مؤنثة‏(Ovum).‏
‏(2)‏ طور النطفة الأمشاج‏:‏ وهي في اللغة المختلطة والنطفة مفرد‏,‏ وأمشاج جمع مشيج‏,‏ واستخدم الجمع للتعبير عن خلط أكثر من شيئين لأن الذي يختلط فيها ليس مجرد خليتي التكاثر الذكرية والأنثوية‏,‏ ولكن ما بداخل كل واحدة منهما من مكونات وأهمها الشفرة الوراثية التي تشمل في الخلية العادية الواحدة من الخلايا البشرية‏18.6‏ بليون جزيء كيميائي من القواعد النيتروجينية والسكر والفوسفات وتحمل نصف هذا العدد كل خلية من خلايا التكاثر‏.‏

يكتمل عدد كل من الصبغيات وما تحمله من جزيئات كيميائية تكتب الشفرة الوراثية للجنين عبر التقدير الإلهي الذي يعبر عنه في لغة العلم باسم برمجة المورثات او البرمجة الجينية‏(GeneticProgramming).‏
فبعد ساعات من إخصاب البييضة‏(‏ وبها‏23‏ صبغيا‏)‏ بالحيوان المنوي‏(‏ وبه نفس العدد‏)‏ يكتمل عدد الصبغيات المحدد للنوع البشري‏(46‏ صبغيا في‏23‏ زوجا‏),‏ وفي أثناء عملية الاختلاط تلك تتحدد الصفات التي يرثها الجنين من الابوين وتعرف باسم الصفات السائدة‏(DominantCharacters)‏ وهي التي سوف تظهر عليه بعد اكتمال نموه‏,‏ كما تتنحي صفات أخري تعرف باسم الصفات المستترة او المتنحية‏(RecessiveCharacters)‏ والتي قد تظهر في الاجيال التالية‏,‏ وذلك لان كل صفة من الصفات تورث مرتين‏,‏ مرة من جانب الأب والاجداد من جهته‏,‏ ومرة من جانب الامم والاجداد من جهتها‏,‏ فتسود إحداهما وتتنحي الصفة الاخري بتقدير من الله‏(‏ تعالي‏),‏ وبذلك يتم تقدير صفات الجنين في مرحلة النطفة الامشاج‏(Zygote)‏ ولذلك قال‏(‏ تعالي‏):‏
قتل الانسان ما أكفره‏*‏ من اي شيء خلقه‏*‏ من نطفة خلقه فقدره
‏(‏سورة عبس‏:17‏ ـ‏19)‏

وهذا التقدير يمتد عبر القرون ليتصل بالاجداد العلا الي ابينا آدم وأمنا حواء‏(‏ عليهما السلام‏).‏ ومن المعجز حقا أن يشير المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ الي تلك الحقيقة من قبل ان يعرف شيء عن قوانين الوراثة باكثر من اثني عشر قرنا فقد أخرج كل من ابن جرير وابن ابي حاتم ان رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ سأل رجلا فقال له‏:‏ ما ولد لك؟ قال الرجل‏:‏ يارسول الله ماعسي ان يولد لي إما غلام وإما جارية‏.‏ قال‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ فمن يشبه؟ قال الرجل‏:‏ يارسول الله من عسي ان يشبه؟ إما أباه وإما أمه‏.‏ فقال الرسول‏(‏ صلوات الله وسلامه عليه‏):‏ مه‏..‏ لا تقولن هكذا‏.‏ إن النطفة إذا استقرت في الرحم احضرها الله تعالي كل نسب بينها وبين آدم‏...‏ أما قرأت هذه الآية في كتاب الله تعالي‏:(‏ في أي صورة ماشاء ركبك‏)‏ قال‏:‏ اي شكلك‏.‏ وتعبير النطفة الأمشاج هو اول تعبير علمي دقيق عن تخلق الجنين باتحاد النطفتين الذكرية والانثوية‏,‏ وهي حقيقة لم يعرفها العلم المكتسب إلا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي‏(1775‏ م‏/1186‏ هـ‏).‏
ويتضمن التقدير الذي يحدث عند عملية الإخصاب تحديد الجنس ذكرا كان أم أنثي وفي ذلك يقول ربنا تبارك وتعالي‏:‏
وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثي‏.‏ من نطفة إذا تمني‏(‏ النجم‏:46,45).‏
وبعد إتمام عملية التقدير تبدأ النطفة الأمشاج بالانقسام السريع الي خلايا أصغر فأصغر حتي تتحول الي كتلة كروية من الخلايا الارومية تعرف باسم التويتة‏(Morula).‏ ثم تتمايز التويتة الي طبقة خارجية وأخري داخلية مكونة ما يعرف باسم الكيسة الارومية‏(Blastocyst)‏ التي تبدأ في الانغراس بجدار الرحم في اليوم السادس من تاريخ الإخصاب‏,‏ وتعرف هذه المرحلة باسم مرحلة الغرس او الحرث‏(Implantation)‏ وتستغرق اسبوعا كاملا الي اليوم الرابع عشر حتي يتم انغراس الكيسة الارومية في جدار الرحم فتنتقل من طور النطفة الي طور العلقة‏.‏
‏(3)‏ طور العلقة‏:‏ بمجرد إتمام تعليق الكيسة الأرومية بجدار الرحم بواسطة المشيمة البدائية التي تتحول فيما بعد الي الحبل السري‏,‏ يبدأ طور العلقة‏(‏ من اليوم الخامس عشر الي الخامس والعشرين‏)‏ وذلك باطراد النمو‏,‏ وتعدد الخلايا‏,‏ وبدء تكوين الأجهزة واستطالة الجنين ليأخذ شكل دودة العلق‏(Leech)‏ في شكلها‏,‏ وفي تعلقها بجدار الرحم‏0‏ تماما كما تتعلق الدودة بجسم العائل الذي تتطفل عليه‏),‏ وفي تغذيته علي دم الأم‏(‏ تماما كما تتغذي دودة العلق علي دم الحيوان الذي تتعلق به‏),‏ وعلي ذلك فإن التعبير القرآني عن هذه المرحلة‏(‏ بالعلقة‏)‏ يعتبر سبقا علميا معجزا في زمن لم تتوفر اية وسيلة من وسائل التكبير او التصوير او الكشف لطور يتراوح طوله بين‏0,7‏ ـ من اللمليمتر و‏3,5‏ مللميتر‏.‏
‏(4)‏ طور المضغة‏:‏ ببدء ظهور عدد من فلقات الكتل البدنية‏(Somites)‏ علي جسم العلقة تبدأ بفلقة واحدة في منتصف الأسبوع الرابع من عمر الجنين وتنتهي الي حوالي‏40‏ ـ‏45‏ فلقة‏.‏ في بدايات الاسبوع الخامس تنتقل‏(‏ العلقة‏)‏ الي طور‏(‏ المضغة‏)‏ لان الجنين يبدو فيها كأنه قطعة صغيرة من اللحم الممضوغ الذي بقيت عليه طبعات اسنان الماضع كما تبقي مطبوعة علي قطعة من العلك الممضوغ‏.‏ ومن هنا كان السبق القراني بوصف هذه المرحلة التي لا يتعدي طولها في نهاية عمرها‏(1‏ سم‏)‏ باسم‏(‏ المضغة‏)‏ إعجازا ما بعده إعجاز حيث لم يكن لأحد من الخلق إدراك لذلك في زمن الوحي‏,‏ ولا لأكثر من اثني عشر قرنا من بعده‏.‏
‏(5)‏ طور العظام‏:‏ في خلال الأسبوع السابع من عمر الجنين يبدأ انتشار الهيكل العظمي في جسم الجنين‏,‏ وذلك بالتكلس التدريجي للغضاريف التي تم تكونها في مرحلة المضغة حول عدد من المنابت العضوية‏,‏ وبتكون العظام يبدأ الجنين‏(‏ الذي يتراوح طوله بين‏14‏ و‏20‏مم‏)‏ في اكتساب استقامة جذعه‏,‏ وبروز أطراف أصابعه‏,‏ وظهر حويصلات مخه‏.‏ ووصف القرآن الكريم لتخلق العظام في مرحلة مابعد المضغة سبق علمي معجز حيث لم يكن لأحد من الخلق إلمام بتلك الحقيقة قبل القرن العشرين‏.‏
‏(6)‏ طور كسوة العظام باللحم‏:‏ في خلال الأسبوع الثامن من عمر الجنين تبدأ عملية كسوة العظام باللحم‏(‏ العضلات والجلد‏)‏ ويكون طول الجنين في هذه المرحلة بين‏22‏ مم و‏31‏ مم وتنشأ خلايا العضلات عادة من الطبقة المتوسطة للمضغة‏,‏ وتخرج من بين فلقاتها‏,‏ ولذلك تنشأ مجزأة‏,‏ وتنتقل بعيدا عن منطقة الفلقات الجسدية ثم تنمو وتتصل مع بعضها البعض مكونة أعدادا من الخيوط والألياف والأنابيب العضلية التي تنتظم بالتدريج في حزم مميزة تكسو العظام وتتصل بأغشيتها مكونة ما يعرف باسم النسيج العضلي للظهر والبطن والأطراف‏,‏ ويزود كل قسم منها بفرع من العصب الشوكي‏.‏ وسبق القرآن بذلك من الأمور المعجزة حقا‏.‏
‏(7)‏ طور التنشئة‏:‏ بدءا من الأسبوع التاسع من عمر الجنين الي نهاية فترة الحمل تأخذ صفاته الجسدية في التمايز بتكامل خلق كل أعضاء وأجهزة الجسم التي تنشط للعمل مع بعضها البعض في تناسق عجيب‏.‏
وفي هذه الرحلة يبدأ نمو الجنين ببطء حتي بداية الأسبوع الثاني عشر‏,‏ ثم تتسارع معدلات النمو في الحجم‏,‏ والتغير في الشكل فتتحرك العينان الي مقدمة الوجة‏,‏ وتنتقل الأذنان من الرقبة الي الرأس‏,‏ ويستطيل الساقان بشكل ملحوظ‏,‏ ويتراوح طول الجنين بين‏33‏ مم و‏500‏مم‏.‏
وهذه المراحل السبع المتتالية في خلق الجنين تؤكدها الدراسات الحديثة‏,‏ ولا تميزها إلا بأيام العمر‏,‏ مع عجزها عن إعطائها مسمياتها الدقيقة‏,‏ وسبق القرآن الكريم بوصف هذه المراحل وترتيبها بهذه الدقة الفائقة في غيبة كل وسائل التكبير والتصوير والكشف‏,‏ من قبل أربعة عشر قرنا مما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية وإلي قيام الساعة‏,‏ ويشهد للنبي والرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة والرسالة‏.‏

ثالثا‏:‏ في قوله تعالي‏:..‏ خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث‏..:‏
يحاط الجنين في داخل الرحم بمجموعة من الأغشية هي من الداخل الي الخارج كما يلي‏:‏ غشاء السلي أو الرهل‏(amnion),‏ والغشاء المشيمي‏(chorion),‏ والغشاء الساقط‏(Decidua),‏ وهذه الاغشية الثلاثة تحيط بالجنين إحاطة كاملة فتجعله في ظلمة شاملة هي الظلمة الأولي‏.‏ ويحيط بأغشية الجنين جدار الرحم‏,‏ وهو جدار سميك يتكون من ثلاث طبقات تحدث الظلمة الكاملة الثانية حول الجنين وأغشيته‏.‏
والرحم المحتوي علي الجنين وأغشيته في ظلمتين متتاليتين يقع في وسط الحوض‏,‏ ويحاط إحاطة كاملة بالبدن المكون من كل من البطن والظهر‏.‏ وكلاهما يحدث الظلمة الثالثة تصديقا لقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

‏..‏ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث‏..(‏ الزمر‏:6)‏
وما كان أحد من الخلق يعلم بهذه الظلمات الثلاث في زمن الوحي‏,‏ ولا لقرون متطاولة من بعده‏,‏ وسبق القرآن الكريم بالإشارة إليها مما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ حتي يبقي حجة علي الناس كافة إلي يوم الدين‏,‏ ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏.‏