ثم كلي من كل الثمرات
بقلم : لقمان ابراهيم القزاز

حظيت نحلة العسل بعناية إلهية خاصة ، لم تتكرر في أمثالها من المخلوقات . ومع أنها لم تـُعط َ قدراً كافياً من الذكاء لتفكر وتعمل ؛ وتخطئ وتصيب ؛ كما يفعل الإنسان ، إلا أنها ا ُعدَّت بإحكام ٍ و وُجّهت بدقةٍ للوصول إلى غاياتٍ ساميةٍ كُلـِّفت بتحقيقها ، وذلك عن طريق ما أوحي إليها من إلهام إلهي متتابع وجه سلوكها ؛ بَدءاً من تأمين السكن (اتخذي ) والمؤونة (كلي ) إلى سلوك (اسلكي ) السبل التي سُخِّرت لها وخُصصت بها وحدها . واستقرت هذه التوجيهات الإلهية مع كل ما يتعلق بها في غريزتها الموروثة ، أو كما يقال بلغة العلم بُرمٍجت بكل المعلومات الدقيقة الهائلة ذات العلاقة ، لتصبح جهازاً حياً مبرمجاً ، يعمل تلقائيا بسلاسةٍ وأمانة ، لا يحتمل خطأ ولا انحرافاً ، ويسمو على أي تحديثٍ في كيانه ومنهاجه ، لأنه فـُطر تامَ الكمال .
وقد ربط أول الهام ٍ ا ُلهمت به النحل ما بين إتخاذ السكن و مصادر الغذاء ، وحدد لها ثلاث مناطق جغرافية غنية بتلك المصادر ؛ تتوزع فيها ؛ وتتخذ بيوتاً في ما يصلح للسكن منها ، لتتمكن الطوائف و الطرود التي تنشأ منها أن تعيش وتنمو في بيئة طبيعية ملائمة ، من غيرانتشار عشوائي يُفضي إلى المجاعة ثم الهلاك . و حُصرت تلك المناطق الجغرافية الغنية : بالجبال الخضر، والشجر المنتشر في الأراضي الخصبة ، ثم بما يهيئ الإنسان لسكنها في الحقول المزروعة . وظلت تلك الأمكنة الخضرُ الثلاث ، وما تزال ، وستبقى إلى ما شاء الله المراعيَ المناسبة لعيشها وتكاثرها . ولم يتفق في يوم ما أن عُثر على طائفة تعيش في بيئة مغايرة ، على الرغم من التنوّع البيئي وسَعة انتشارِ النحل في أرجاء المعمورة ، وفي ذلك مصداق لقوله تعالى ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) النحل 68.
بعد أن تَفرغ َ النحل من تلبية النداء الأول وتستقرَّ عصبياً ومكانياً تُلهم بطلب ٍ ثان ٍ يستنهضها إلى السعي في طلب الرزق (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) ، الثمرات التي تعرّفتها في برمجتها فقط ، وليس كلّ ما يصادفها منها ، فقد خلق الله ما لا يحصى من الثمرات وأمرها أن تأكل منها ، مع إستثناءات جُعلت لصالحها . ومعروف أن غذاء النحل يتكون من العسل الذي يمدها بالطاقة ، ومن حبوب اللقاح التي تشكل العنصر الرئيس في الطعام و تحتوي على البروتينات و الفيتامينات و الدهون و الأحماض الأمينية و الأملاح المعدنية و غيرها . وهنا نقطة يجب إيضاحها : لا تمتلك النحلة فكوكاً ًقاطعة تجرح قشور الثمرات مهما كانت رقيقة لامتصاص العصارة السكرية ، لأن فكوكها المستديرة اُعدَّت لتشكيل الشمع وبنائه ، ولكن يمكنها أن تمتصّ من عصارة ثمرةٍ ناضجةٍ مهشمة أو ثمرةٍ إنفطرت قشرتها لفرط نضجها أو ثمرةٍ سبق إليها زنبورٌ أو طائر أحدث جرحا ً فيها وأخذ جزءا ً من عصارتها . والملاحظ في هذه الأحوال أن ما تحصل عليه النحلة من عصارة قليلٌ لا يفي بحاجتها ولا يخالطه شيءٌ من حبوب اللقاح التي هي عماد (خبز النحل) ، لذلك لابدّ من الرجوع إلى الزهرة ، مبدأ الثمرة ومادتها ، وفيها يجتمع غذاء النحل كاملاً ، والى هذا أشارت آية النحل الثانية (كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) فليس في الثمرة ما تأكله ، إنما أكلها من الزهرة التي تبذل الطعام لتحصل على التلقيح ؛ وتتطور بعده الى ثمرة ، ويؤكد الارتباط الوثيق بين الغذاء والتلقيح أن الثمرة بديل من الزهرة ، يؤيد هذا ما جاء في الآية ( 3 ) من سورة الرعد في قوله تعالى : ( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) ذكرًا وأنثى ، ومن الواضح أن أعضاء الذكورة والأنوثة ، حبوب اللقاح والبويضات ، خُلقت في الزهرة ولم تُخلق في الثمرة ، وبذلك يتبيّن من هاتين الآيتين بشكلٍ لا لبسَ فيه ولا غموض أن الزهرة هي المقصودة والمعنية بلفظ الثمرة . . وربما جاء ذكر الثمرة إكراماً لها لِما فيها من رزق للأحياء ، وتنبيهاً على عمل النحل في الزهرة لتتحول الى ثمرة ... ومن نحوٍ ثانٍ فإن من المجاز في القرآن أن يُطلق على الشيئ إسم ما يؤول إليه ، فمثلاً أُطلق لفظ ( النار)على ( أموال ) اليتامى التي تؤكل ظلماً ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (النساء10) ، فسُميت تلك الأموال ناراُ بما تؤول إليه ، ومثله جاء في الآية ( 36 ) من سورة يوسف في قوله تعالى ( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ) والخمر لا تعصر إنما يُعصر العنب الذي يؤول إليها . ومن البديهية أن لفظي ( النار و الخمر) أُطلقا في تلك الآيات على ( الأموال و العنب ) مجازاً ، ومثلهما وفي هاتين الآيتين أُطلق مجازاُ لفظ ( الثمرة ) على ( الزهرة ) .
وتقضي النحلة وقتا ً طويلاً من عمرها القصير في غُدوّ ٍ ورواح ٍ بين الخلية والحقل ؛ تلقح عَرَضا ًما تقف عليه من أزهار ، وتجمع منها ما تستطيع من غذاء ؛ مستعينة ًـ لإرشاد زميلاتها إلى مكان الغذاء وهنَّ في ظلام الخلية ـ بحركات ٍ راقصة تحدد المسافة وتعيّن الاتجاه ؛ مستفيدة ً من موقع الشمس من خلال ضوئها المرئيِّ و المستقطب . والزهرة من جانبها لا تكفّ عن إغراء النحلة وجذبها بعطرها القويِّ ورحيقها الحلو المذاق وبحبوب لقاحها ذاتِ القيمة الغذائية العالية . وأمَّن هذا الترابط بينهما المصدرَ الغذائيَّ الكاملَ للنحلة والتلقيحَ الخلطيَّ المضمون للزهرة ، إلا أن النحلة لا تقترب من زهرة أو تطير مسافات ٍ بعيدة ً تبحث عنها إلا إذا كانت موثـَقة ضمن برمجتها الفطرية ، التي تشمل رائحة الزهرة ولونَها وتصميمَها و مرونةَ تمايلها وساعة عطائها ومدى بُعدِها ويُسرَ تناولِها وسلامةَ نِتاجها وتركيز فروزها وثراءَ حبوب لقاحها وروائحَ تُنثر عليها وحولها وأشعة ً تنعكس عليها وتكشف عمّا خفِيَ من رحيقها وأشياءَ أُخرى غيرَ معروفةٍ الله أعلم بها ، حِفاظاً على النحلة من
زهرةٍ تميتها وأخرى تعبث بها... وهذا يبيّن سبب إهمالها لعديد من أنواع الإزهار ، جزئياً او كلياً ، فهي لا تمتص الرحيق من (زهرة الكمثرى ) لأن تركيز السكر فيه 20% وأقلّ ، وهي نسبة مُتدنية مُجهدة ، و تكتفي منها بأخذ وفرةٍ من حبوب اللقاح .. ولا تحاول زيارة (زهرة الخطميّ) إلا لِماماً لخلوّها من الرحيق ، ثمّ لا تجد في حبوب اللقاح فيها ما تريد من مواد مغذية ، وهكذا لا تزور (أزهار الزيتون والطماطم ) وغيرها لفقرٍ في محتوياتها .. ولا تبدد طاقتها و تضيع وقتها في التردد على مثل ( زهرة الفلّ ) ذات العطر الفوّاح ؛ لخلوّها من حبوب لقاح و رحيق .. وتُعرِض عن ( زهرة العسل ) وأمثالها مع ما في رحيقها من وفرةٍ وعطرٍ لطيف ؛ لِقِصر خرطومها وعجزه عن الوصول الى مواضعه في العُمق .. ثم هي تبتعد عن زيارة ( زهرة الدّفلى ) وأشباهها لِما فيها من سُمّ قاتل!! .
وهنا ينبغي أن نعلم أنه ليس في برمجتها ما يُبعدها عن خطر السموم الكيمياوية ؛ الخالية من روائح طاردة ، ولذلك يمكن أن تقتل َ السّموم الكيمياوية النحلةَ و مع آلاف ٍ من أفراد طائفتها فيما إذا وقعت على زهرة تتردّد عليها لـُوِّثت بالمبيدات . وهذا ما يحصل تماماً حين تجمع النحل ُ الحقلية ُحبوبَ اللقاح ِ الملوّثة بالسم من زهرتها المفضلة وتطير بها إلى خليتها ، لا تستهلك شيئا منها في الطريق ، تضعها في نخاريبها ثم تعود لنقل المزيد ، وحين تتغذى بها النحل ُ ويرقاتـُها تتمّ إبادة ُ آلاف الأفراد حتى ينفد الأكل ُ الملوّث ُ بالكامل ، وبذلك يُقضى على نصف الطائفة أو أكثر.... أما الرحيق ُ الملوّث بالسموم فتستهلك جزءا ً منه في طريق عودتها ، ويسقط آلاف منها قبل الوصول إلى الخلية ، والقليل الذي يستطيع الوصول بحمولته المسمّمة تستلمها النحل المنزلية منه ، وتهلك بدورها قبل أن تـُتم ََّ إنضاجَها وخزنَها.... فتأمّل هذا التدبيرَ الإلهي َّ المُعجز! الذي أ دخل في حُسبانه أيامَنا وسمومَها ، وأحكم السُبُل َ لِتخطـّيها ، فقتل النحلة ليضمن السلامة للإنسان ، وحال دون وضع الرحيق المسمم في الخلية في الوقت الذي سمح فيه للنقيِّ منه أن يُوضع ويُنضَّجَ ويُختم ، ويبقى دائماً وأبداً شرابا ً مباركا ً ً فيه شفاءٌ للناس .
لقد ثبت أن الإرهاق الذي يصيب النحلة الحقلية جرّاء جمع طعامها يقلل من عمرها ، ولو أنها جرت وراءَ كلِّ زهرةٍ تتفتح لانخفض معدل أعمارها إلى حدٍ تشرف فيه على التلف ، ولكنها تعلمت أن تبتعد عما لا يخدمها من أنواع الأزهار ، ليس بطريق التجربة والخطأ ، إذ لا وقتَ لديها للتجارب ؛ ولا تدركُ ما تفعل ، ولكن بإعجاز إلهي أرشدها على نحوٍ سليم لا فرصة فيه للخطأ ولا إرادةَ لها معه الى ما ينبغي لها أن تـُقبل عليه أو تـُدبر عنه ، وأودع في جيناتها الوراثية هذه القدرات الراسخة ، وجعلها إرثا ً عاماً للأجيال الجديدة . و بالتالي لذلك يمكن القول أن (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) تعني والله تعالى أعلم : ( وقد إستقرّ بك المقام في ملاذٍ آمن ؛ خذي الطعام لكِ و لأفراد طائفتكِ من كل الأزهار التي اُرشدتِ اليها ، وسُخّرت لِمدّكِ بالغذاء ، وإبتعدي عما لا عِلمَ لكِ به من الأزهار ) .
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (طه 50)

المراجع :

- القرآن الكريم .
- التفسير العلمي لآية النحل . محمد علي البنبي . مجلة نحل العسل . العدد الأول 1998القاهرة .
- تفسير القرطبي . محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي 600- 673 هجرية . المكتبة الشاملة .
- مع النحل في خلاياها . لقمان ابراهيم القزاز 2008 الموصل .