ونكتب ما قدَّموا وآثارهم

قال تعالى :
(إنّا نَحْنُ نُحْيي المَوْتى ونَكْتُبُ ماقَدَّمُوا وآثارَهُم وكُلَّ شَيء أَحْصَيْناهُ في إمام مُبِين ) . ( يس / 12 )
(إذ يَتلقّى المُتَلَقّيانِ عن الَيمينِ وعنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ * ما يلفِظُ مِن قَول إلاّ لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيد ) . ( ق / 17 ـ 18 )
(هذا كتابُنا ينطِقُ عليكُم بالحقِّ إنّا كُنّا نَستَنْسِخُ ما كُنْتُم تَعْمَلُون ) .
( الجاثية / 29 )
(وكُلَّ إنسان ألْزَمْناهُ طائرهُ في عُنُقِهِ ونُخرِجُ لهُ يومَ القيامةِ كتاباً يَلقاهُ مَنْشوراً * اقْرأ كِتابَكَ كفى بنفسِكَ اليومَ عليكَ حَسيباً ) .
( الإسراء/ 13 ـ 14 )
(ما لِهذا الكتابِ لا يُغادرُ صَغيرةً ولا كَبيرةً إلاّ أحْصاها ) .
( الكهف / 49 )
(وإذا الصُّحُفُ نُشِرَت ) . ( التكوير / 10 )
(اليومَ نَخْتِمُ على أَفْواهِهِم وَتُكَلِّمُنا أَيدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرجُلُهُم بِما كانُوا يَكسِبُون ) . ( يس / 65 )
(حتّى إذا ما جاءوها شهد عليهم سَمْعُهم وأبْصَارُهم وجُلودهم بما كانوا يعملون * وَقالوا لِجُلُودِهم لِمَ شَهِدتُّم عَلينا قالُوا أنطَقَنا اللهُ الّذي أنطقَ كُلَّ شيء وهو خَلَقكُم أوّلَ مرّة وإليه تُرجَعون * وما كُنتم تَستَتِرُونَ أن يَشهَدَ عَليكُم سَمعُكُم وَلا أَبصارُكُم وَلا جُلُودُكُم وَلكن ظَنَنتُم أَنَّ اللهَ لا يَعلَمُ كَثيراً مِمَّا تَعمَلُونَ ) . ( فصّلت / 20 ـ 22 )
الدعوة إلى تنظيم السلوك والحياة، والالزام بالتكاليف، وترتيب المسؤولية والحساب والجزاء ، كل تلك المسائل والقضايا تتوقّف على الاحصاء وتثبيت مفردات العمل والسلوك الذي يمارسه الإنسان، وإقامة الأدلة والشهادات لاحضارها أمام القضاء وفي ساحة الحساب، ليُقضى بها ، وتترتب الأحكام، والأقضية عليها .
وذلك منطق العدل، وتلك سنة الله في عالم الدنيا وهي ذاتها جارية في عالم الآخرة .
فكيف يتم تسجيل الفعل الإنساني، وتثبيت آثاره، وجمع أدلة الاثبات على عمله ونواياه التي مارس بها ذلك العمل ؟
إن القرآن الكريم يتحدث لنا عن علاقة عالم الدنيا بعالم الآخرة، وارتباط عالم الحس والمادة بعالم الغيب والروح فهو يثبت انّ عالم الإنسان المادي بما يُحدث من فعل وأثر وحركة في هذا الوجود ، خيراً كان أو شراً ، عبثاً كان أو مُغيّاً لايضيع في هذا الكون الرحيب بل يُسجّل ويُدوّن ويُحفظ ليُحضر يوم الحساب .
لذا أوضح القرآن لنا ما كان خافياً علينا من تسجيل الأثر الإنساني في صحف وإحصائه ونشره يوم القيامة وإنطاق الشهود والمحاسبة بمقتضاها .
ولقد كان العقل المادي الجاهلي الساذج يستخف وينكر مسألة تسجيل الآثار وما يُحدثه الإنسان من الأقوال والأفعال، ويظن أنّ مايحدث يذهب سدىً ويضيع .
وبعد تقدم علوم الفيزياء والطبيعة، ودراسة الطاقة والاشعاع وحركة المادة والاهتزاز والأمواج الصوتية وقوانين الحرارة،ثبت علمياً أن الكون بأسره عبارة عن وعاء دقيق لحفظ كلّ مايقع فيه، ولا شيء يذهب سُدىً ، أو يضيع، فكل حركة، وكل صوت، وكل مشهد يترك اهتزازاً معيناً ، وأثراً منطبعاً في عالم الطبيعة، ممّا دعا العلماء إلى البحث عن آثار الماضين عن طريق محاولة استعادة الأصوات والصور التي وقعت في الماضي. بل أمكن الكشف عن حوادث ووقائع حدثت، واختفى فاعلوها بعد أكثر من ساعة .
وها هو القرآن يتحدث عن عالم الرقابة والاحصاء ، ويضع الإنسان أمام أجهزة التسجيل والاستنساخ التي تحفظ الصورة والصوت بشكل يتناسب ونظام الروح والعالم غير المادي .
كما يترك أثره المادي في الكون على شكل حركة واهتزاز، وهو الذي عبّر عنه القرآن بالأثر .
فما تتركه الأفعال والآثار من صيغ شتى في عالم الطبيعة من الحركة والاهتزاز والأمواج والضوء أو لدى عالم الروح الملائكي الذي يتداخل مع هذا العالم، ولا نعرف من قوانينه سوى وجوده الذي أشار إليه القرآن، ودلَّت على تعريفه لحواسّنا أبحاث الفيزياء .
إنّ كلّ تلك الآثار ستعاد صوراً وأصواتاً وحركات كما وقعت أول مرة، ليراها ويسمعها الإنسان يوم الحساب، كما تحول الطاقة في عالم الطبيعة من شكل إلى آخر .
إنّ من شواهد التكييف وتحول الطاقة من شكل إلى آخر، هو تحويل الطاقة الشمسية في محطات فضائية عُليا إلى طاقة كهربائية، ثمّ تحويل تلك الطاقة الكهربائية إلى شكل آخر من أشكال الطاقة التي يمكن إرسالها من تلك المحطات لتتسلمها محطات أرضية، فتقوم بتحويلها مرة أخرى إلى طاقة كهربائية. ومن أمثلتها الواضحة هو تسلُّم أجهزة البث الاذاعي والتلفزيوني الأصوات والصور فترسلها على شكل طاقة وأمواج تتسلمها أجهزة الراديو واللاسلكي والتلفزيون والفاكس فتحولها مرة أخرى إلى صور وأصوات .
وهكذا سهلت علوم البحث والتطبيق الفيزيائي فهم خلود الأعمال، وحفظها وتسجيلها على الإنسان، واعادتها كما صدرت منه مرّة اخرى .
وها هو القرآن الكريم يثبِّت لنا حقائق في عالمنا الإنساني تكشف حفظ مايصدر عن الإنسان من فعل وقول، بل ونيّة يحاسب بها يوم اللقاء . وكما يكشف لنا هذه الحقيقة في عالم الدنيا فإنه يصور لنا كيفية تجسّدها مرة أخرى يوم الحساب في عالم الآخرة .
إنّنا نقرأ كلّ ذلك في الفاظ الآيات المذكورة آنفاً كالآتي :
(ونكتبُ ما قدّموا وآثارَهُم ) .
(وكلَّ شيء أحصَيْناه ) .
(في إمام مُبين ) .
(لديهِ رقيبٌ عتيد ) .
(إنّا كنّا نستنسخ ) .
(يتلقى المتلقيان ) .
(عن اليمين وعن الشمال قعيد ) .
(إذا الصُّحفُ نُشِرَت ) .
(ونُخْرِجُ لَهُ يَومَ القِيامَةِ كتاباً يَلْقاه مَنْشُوراً ) .
(اقْرَأ كِتابَك ) .
(نَخْتِم على أفْواهِهِم ) .
(وتُكَلِّمُنا أيدِيهم ) .
(وتَشْهَدُ أرْجُلُهم ) .
(شَهدَ عليهِم سَمْعهُم وأبْصارهُم وجلودُهم ) .
(أنْطَقَنا اللهُ الّذي أنْطَقَ كُلّ شيء ) .
ولكي تتضح المعاني بشكل أدق وأجلى فلنتابع دلالات الفاظها اللغوية الواردة في تلك الآيات فهي :
آثارهم : «أثر الشيء : حصول ما يدلّ على وجوده» () .
أحصيناه : «الاحصاء التحصيل بالعدد .. وأحصى كل شيء عدداً : أي حصّله وأحاط به» () .
إمام مبين : «الإمام : المؤتم به، إنساناً ، كأن يقتدى بقوله وفعله، أو كتاباً ، أو غير ذلك ...» () .
رقيب : «الرقيب : الحافظ» () .
عتيد : «العتاد : ادخار الشيء قبل الحاجة إليه... والعتيد المُعِدُّ ... ورقيب عتيد : أي مُعْتَدُّ أعمال العباد» () .
«رقيب عتيد : حافظ حاضر» () .
نستنسخ : «... ونسخ الكتاب : نقل صورته المجرَّدة إلى كتاب آخر، وذلك لايقتضي إزالة الاولى بل يقتضي إثبات مثلها في مادة اخرى ... وقد يعبّر بالنسخ عن الاستنساخ ...» () .
المتلقيان : «المتلقيان : الملَكان، يأخذان منه عمله فيكتبانه، كما يكتب المملى عليه» () .
عن اليمين وعن الشمال قعيد : «المراد بالقعيد هنا : الملازم الذي لا يبرح، لا القاعد الذي هو ضد القائم» () .
وهكذا تتكامل صورة الموقف القضائي ، وأدلة الاثبات، تمهيداً للحساب والجزاء .
ففي عالم الدنيا اُحيط الإنسان بالرقابة والحفظ والتسجيل، وهو لا ينفك عن إحداث الآثار التي تكتب وتستنسخ وتثبت في كتاب واضح، لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها .
ويحدثنا القرآن أن ملكين وهما : ملك اليمين ، وملك الشمال هما رقيبان حاضران ملازمان للإنسان لايفوتهما شيءٌ من عمله وآثاره، شأنهما شأن أجهزة التسجيل في عالم المادة . وطبيعتهما التكوينية كما نعلم هي طبيعة روحية تتناسب وماهيّة الروح والنفس الإنساني .
وتلك الرقابة والمتابعة التي كرَّس القرآن العديد من آياته للتعريف بها ، وايضاح قيمتها توقظ في حسِّ الإنسان المؤمن ووعيه الحذر من اقتراف المعاصي وممارسة الشر والجريمة ، وتربي في نفسه يقظة الضمير والاحساس بالمسؤولية والشعور بانكشاف مايحاول التستُّر عليه، أو الاستخفاء به عن رقابة السلطة والمجتمع . فهو مكشوف أمام الله سبحانه بكل مايحاول أن يخفيه أو يتستَّر عليه . إنه يتحرك أمام أجهزة التسجيل والاثبات، فما يلفظ من قول إلاّ وقد دُوِّن ذلك اللفظ في كتاب ، وما يفعل من شيء إلاّ وقد استنسخ ذلك الفعل في صحف ستنشر يوم الحساب .
انّ تلك الصحف والكتب هي حقائق تتناسب وعالم الروح والملائكة تحفظ الآثار الإنسانية كاملة بتلك الصيغة لتعاد يوم القيامة وتنشر أمام الإنسان بالشكل الذي يفهمه، ويدرك كامل معناه، ولذا يخاطب :
(اقرأ كِتابَكَ كفى بِنَفْسِكَ اليومَ عليكَ حَسِيباً ) . ( الإسراء / 14 )
وليس الكتب والصحف الحافظة لآثار الإنسان هي وحدها التي تُسْتَحْضَر يوم الحساب ، بل يُطلب من أعضاء الإنسان ـ السمع والبصر والأيدي والأرجل والجلود والألسن ـ أجهزة الحسّ والتنفيذ ، يطلب منها أداء الشهادة، وتُسْتَنْطَق فتنطق بها ، وتشهد بما اقترفت ومارست ونفَّذت .
ويحاصر المجرمون بعد أن يجدوا ما عملوا محضراً يوم الحساب ، وأنهم مطوقون بأدلة الاثبات، فلا يجدون إلاّ التسليم والانقياد القهري للمصير .
إن نطق الأعضاء والجوارح كان مسألة غامضة على العقل المادي البدائي ، غير أن الإيمان بها أصبح قضية ميسورة أمام العقل البشري بعد أن اكتشف الإنسان كثيراً من أسرار الطبيعة، واستطاع تخزين الصوت في أشرطة مادية ميِّتة ، لا حِسَّ فيها ، ولا حياة وجعلها جاهزة للاستنطاق في أي لحظة يشاء.