شعبٌ جبانٌ وضعيف وخائب، مقموع ومضطهد، عديم الحيلة تماماً، ورجلٌ مقنّع يركب فرسه ويحمل سيفه ويقاتل الجيش وحده وينتصر، هذه هي الصّورة في فيلم زورو.

وشعب مرفّه وناعم، وضعيف، حتى إذا بدأ الجوكر يعيث في المدينة فساداً ويروّع أهلها بألعابه المدمّرة، فرّ الشّعب كالفَراش المبثوث، لا يتقنون إلّا الصّراخ والهرب، وأفضل ما يمكنهم فعله إرسال إشارة ليزريّة في السّماء إلى بات مان، الذي يأتي بقناعه الأسود ومعدّاته القويّة ليحارب الشرّ وحده، وينتصر، هذه هي الصورة في فيلم بات مان.

ومجموعة من المراهقين عالقون في قاطرة متدلّية من الجسر آيلة للسّقوط، وهم عديمو الحيلة تماماً، الوضع الطّبيعي لهم أن يدعو الله مخلصين له الدّين: "لئن أنجيتنا من هذه لنكوننّ من الشّاكرين" 22 يونس، ولكنّهم لم يفعلوا، بل استغاثوا بالرّجل العنكبوت الخارق الّذي أنقذهم وأنقذ صديقته وقتل الشّرير في نفس الوقت، هذه هي الصّورة في فيلم سبايدرمان.

إنّها ثقافة "المخلّص" التي آمنت بها الدّيانات الوثنيّة وتسرّبت إلى دياناتٍ سماويّة.
فاليهود ما زالوا بانتظار نبيّ آخر الزمان الذي سيدمّر كل أعدائهم ويقيم مملكتهم في فلسطين
والنّصارى بانتظار المسيح ليرفعهم فوق السّحاب حين يقتتل البشر في هرمجدّون
والشّيعة بانتظار "المهدي" الذي يقال أنّه غائبٌ منذ ألف سنة في سراديب سامرّاء

وبقي العرب زماناً ينتظرون مخلّصهم وفي كلّ مرّة لاحت فيها خشبةٌ طافيةٌ، تعلّق بها الغارقون في المعاناة من ظلم واستبداد حكوماتهم ومن تردّي الأوضاع الاقتصاديّة، إضافةً إلى مشاعر الذلّ والهوان التي لا تطاق، وفي كلّ مرّة تخيب آمالهم وتتراكم الإحباطات فوق الإحباطات.

مرّةً يتعلّقون بإيران ومرّةً بأمريكا ومرّةً برئيس وزراءٍ جديد .. وفي كلّ مرّة يعودون وحيدين كأيتامٍ لا بواكي لهم.

ثمّ نزلت الرّحمة على هذه الأمّة مع انطلاق شرارة الثّورة التّونسيّة التي فجّرها –لن أقول رجلٌ مقهورٌ أشعل النّار في نفسه- ولكن إخوته التّونسيّون الّذين غاروا على كرامة أخيهم فلم يصرخوا: وا-زورو-واه! أو يرسلوا إشارة لباتمان، ولكن انتفضوا بأنفسهم ورفعوا أصابعهم في وجه الظّلم قائلين ملء حناجرهم: لا!

وسرعان ما استيقظت مشاعر عزّة المسلم في صدور العرب فانتفضت الشّعوب العربيّة تترى ليكتشفوا أنّ مخلّصهم الحقيقي هو وحدتهم وإرادتهم وشجاعتهم وإيمانهم العميق بقوله تعالى: " والذينَ إذا أصابَهُمُ البَغيُ هم ينتَصِرون " 39 الشّورى
وقوله: " إنّ اللهَ يُدافِعُ عنِ الّذينَ آمنوا إنّ اللهَ لا يُحبُّ كلّ خوّانٍ كَفور" 38 الحج
وقوله: " إنّ اللهَ لا يُغَيّرُ ما بقومٍ حتّى يُغَيّروا ما بأنفسهم " 11 الرعد

كلّ الحضارات العظيمة قامت على أكتاف الشّعوب العظيمة وليس على أكتاف الأساطير، حتّى القائد العظيم وحده لا يكفي، فإن لم يكن الشعب عظيماً أيضاً فلن يحقّق نهضته المرجوّة.

لقد كان موسى عليه السّلام قائداً عظيماً ولكن شعبه كان شعباً جباناً هزليّاً معانداً معقّداً لا يفهم ولا يحس، غلاظ العقول والأكباد، كلّما أمرهم بأمرٍ بدؤوا بالتّذمّر واختلقوا العوائق وشدّدوا في السّؤال وردّوا عليه بالهزل والعبث، حتى انتهى الحال به عليه السّلام متبرّئاً منهم " ربّ إنّي لا أملِكُ إلّا نفسي وأخي فافرُق بيننا وبين القومِ الفاسقين" 25 المائدة، وانتهى ببني إسرائيل الحال مشتّتين في الأرض "وضُرِبَت عليهمُ الذّلة والمسكنة وباؤوا بغضبٍ من الله" 61 البقرة

بينما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم ورضي الله عنهم كانوا شعباً مؤمناً عاقلاً شجاعاً مطيعاً جادّاً كلّما أمرهم بأمرٍ قالوا: سمعنا وأطعنا، لم يتواكلوا على تأييد الله لأنبيائه ووعده بالنّصر لهم، ولكن قدّموا كلّ ما لديهم، فبنيت بجهودهم وجهادهم أعظم حضارة على الإطلاق أضاء نورها الآفاق "يا أيّها النّبيّ حَسبُكَ اللهُ ومنِ اتّبَعَكَ من المؤمنين" 64 الأنفال.

هذه هي الحقيقة "وعدَ اللهُ الذينَ آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم في الأرض" 55 النور

يقول سعيد حوى في كتابه (الإسلام): "..عندما تدرس الوضع في ألمانيا الغربيّة مثلاً فإنّك تجد أمّةً تحطّمت في الحرب العالميّة الثّانية، ودُمّرَ كلّ شيءٍ عندها ومع ذلك فإنّها استطاعت أن تعيد بناءها خلال خمسة عشر عاماً، لأنّها استفادت من الوقت، فكان كل ألماني يعمل عشر ساعات، ثمانية لنفسه واثنتين لبناء ألمانيا، ولأنّ كل إنسانٍ يعمل بمهارة في اختصاصه ولأنّ الطّاقات الظّاهرة والباطنة في الأرض تُستغل، ولأنّ الأمّة فيها كفايتها من الاختصاصيّين، والحكم فيه استقرار.
وقد تكون هناك عوامل مساعدة، مثل النّظام أو الثّقة أو المال، ولكن هذه عناصر مساعدة فقط، وليست أساسيّة، فأُمّةٌ فقيرة مثل اليابان استطاعت خلال أربعين عاماً أن تصبح دولة كبرى عندما تأمّنت لها تلك المعاني الأساسيّة" سعيد حوى، الإسلام، دار السّلام، ط2، 1993، ص509

لقد حقّقت أوروبا والولايات المتّحدة الأمريكيّة واليابان طموحاتها وأحلامها والتقدّم المدني والعلمي والتكنولوجي فيها حين شمّرت عن سواعدها ولم تركن إلى الأساطير.

هذه الثّورات العربيّة هي بداية نفض ركام الفشل والخيبة عن هذه الشعوب المسلمة العظيمة التي ستقوم من جديد وتمضي قُدُماً سائرةً إلى ربّها سيراً جميلاً لتكمل ما بدأته في يومٍ من الأيّام فتُعِيدَ الحقّ إلى نصابه وتعيد الحضارة إلى أهلها وتملأ الأرض عدلاً كما ملئت من قبل جوراً وظلماً.

وتصلح ما أفسده الجوكر المهووس والجُباةُ الجشعون والآليّون المجرمون والفضائيّون الغرباء، متوكّلين على الله مستغنين عن باتمان وزورو وسبايدرمان وسوبرمان.

انتهى زمن الأساطير وبدأ زمان الشّعوب العزيزة المتعاونة الفطنة النّبيهة العالمة العاملة المؤمنة الصّالحة، والحمد لله ربّ العالمين.