السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إن مما لا شك فيه أن القرآن الكريم لم يُجمع في السطور كاملاً في عهده صلى الله عليه وسلم بل كان محفوظاً في الصدور، صدور الصحابة رضي الله عنهم. وكانت أجزاء منه قد كُتبت على الرقاع، وأُخرى على أغصان النخيل، والأحجار، وما تيسر من وسائل الكتابة في ذلك العصر ..




ولسائل أن يسأل: لِمَ لم يدوَّن القرآن ويُكتب في عهده صلى الله عليه وسلم؟ وهو سؤال مشروع، والجواب عليه من وجهين:

الأول: أن وجود النسخ في حياته صلى الله عليه وسلم كان أمرًا وارداً على بعض آيات القرآن الكريم، فلو دُوِّن الكتاب ثم جاء النسخ لأدى ذلك إلى الاختلاف والاختلاط في الدين، فَحَفِظَه سبحانه في قلوب الصحابة إلى انقضاء زمان النسخ، ثم وَفَّق الصحابة بعدُ للقيام بجمعه. وأيضاً فإن الله سبحانه قد أمَّن رسوله من النسيان، بقوله: {
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} (الأعلى:6) فحين وقع الخوف من نسيان الخلق، وحدث ما لم يكن، أُحْدِث بضبطه ما لم يحتج إليه قبل ذلك .

الوجه الثاني: إن دواعي الكتابة لم تكن قائمة في عهده صلى الله عليه وسلم، من جهة أن القرآن ربما كان لم يكتمل بعد، ومن جهة أيضًا أن عددًا كبيراً من الصحابة كان يحفظ القرآن في صدره .




ولكن...لما توافرت دواعي الكتابة، متمثلة بوفاته صلى الله عليه وسلم، وما ترتب بعد ذلك من حروب الردة التي استنفدت عدداً كبيراً من الصحابة الحفظة....لما حدث ما حدث بادر الصحابة إلى جمعه وتدوينه مخافة ضياعه وذهابه من الصدور .


يرشد لهذا حديث البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: ( أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر عنده، فقال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرَّ - أي اشتد وكثر - يوم اليمامة بُقرَّاء القرآن...) ففي الحديث دلالة واضحة على أن أبا بكر ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم لما رأوا الحاجة إلى جمع القرآن بادروا إلى ذلك وقاموا بجمعه من صدور الرجال، ومن الرقاع المكتوبة عند بعض الصحابة. ومن الثابت أن القرآن الكريم كان في مجموعه محفوظاً في صدور الرجال أيام النبي صلى الله عليه وسلم، ومؤلَّفاً على الترتيب الذي بين أيدي الناس اليوم .



ومما له دلالته في هذا السياق، ما ورد في الحديث نفسه، من قول زيد رضي الله عنه قال: (...فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُب - ورق النخل - واللخاف - حجارة بيض رقيقة - وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره: {
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128) حتى خاتمة سورة براءة،




ووجه الدلالة في قول زيد رضي الله عنه أنه لم يجد هاتين الآيتين مكتوبتين عند أحد من الصحابة، إلا عند خزيمة الأنصاري، وإلا فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يحفظونها في صدورهم. وهذا يدل على أن أكثر آيات القرآن الكريم كانت مكتوبة عند الصحابة، وما لم يكن كذلك كان محفوظًا في الصدور. وهذا يؤيد ويؤكد ما قررناه آنفًا من أن القرآن الكريم كان محفوظًا كاملاً في عهده صلى الله عليه وسلم، ما بين الصدور والسطور .



وحاصل الأمر عنه، أن جمع أبي بكر للقرآن لم يكن مغايراً لما كان عليه الأمر في عهده صلى الله عليه، وكل ما في الأمر أن أبا بكر نقله من الصدور والأماكن المتفرقة التي كُتب عليها، ومن ثَمَّ جَمَعَها في موضع واحد، مخافة ضياعها وفواتها بفوات الصحابة .



أما الإجابة عن شبهة من قال إن الصحابة قد اختلفوا في جمع القرآن وترتيبه ؟؟؟

، فحاصل القول فيها: إنه إذا بدت من بعض الصحابة وجه معارضة ومخالفة حول جَمْعِ القرآن بدايةً، إلا أن الاختلاف بين الصحابة قد آل إلى وفاق واتفاق في النهاية، واجتمعت كلمة الصحابة على ضرورة جمع القرآن في مصحف واحد، وليس في هذا ما يدعو إلى التشكيك في موقف الصحابة رضي الله عنهم من جمع القرآن .