بسم الله الرحمن الرحيم
العظة ُوالعبرة ُ في الهجرةِ العطرةِ
يقولُ الحقُّ تباركَ وتعالى في مُحكم ِالتنزيل ﴿:{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }﴾ الصف/9 .
ويقولُ الرسولُ الأكرمُ صلى اللهُ عليهِ وسلم : ( واللهِ لـَيُتِمنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموتٍ لا يخشى إلاَّ اللهَ ، والذئبَ على غنمه ) .
ويقولُ أيضاً: ( إنَّ اللهَ زوى ليَ الأرضَ فرأيتُ مشارقـَهَا ومغاربَهَا ، وإنَّ أمَّتي سيبلغُ مُلكـُها ما زُويَ لي منها ) .
إخوتي في اللهِ أحبتي في الله : اليوم ذكرى هجرةِ الهادي عليهِ السلامُ . الأوَّل ِمن محرم ِالخيرِ رأس ِالسنةِ الهجريةِ , لِتـُعلِـنَ فيهِ البلدانُ الإسلامية ُعُطلة ًرسمية ً، تـُعَطـَّلُ فيهِ المؤسساتُ والدوائرُ الحكومية ُ، وانبرى العلماءُ والخطباءُ يُبينونَ للناس ِأسبابَ الهجرةِ ومَآلاتِـهَا. فعقدوا الندواتِ وألقوُا المحاضراتِ في المساجدِ وعبرَ الإذاعاتِ والفضائياتِ وانحصرَ كلامُهُم ـ إلاَّ, مَن رحِمَ اللهُ ـ بأنَّ الهجرة َكانت فراراً للرسول ِصلى اللهُ عليهِ وسلمَ من مكة َإلى المدينةِ بعدَ أن اشتدَ بهِ الأذى وبمن معهُ من المسلمينَ المُستضعفينَ .
وأنَّ الهجرة َ تكونُ بهجران ِالآثام ِوالمعاصي , وأن فيها روحَ البذل ِوالتضحيةِ والعطاءِ والفداءِ كما فدى عليٌّ كرَّمَ اللهُ وجههُ محمداً صلى اللهُ عليهِ وسلمَ , وأمرُ قذفِ الحصى في وجوهِ المشركينَ , وسُرَاقة َ، والغارَ، والحمامة َ, والعنكبوتِ، والصدِّيق ِولدغةِ العقربِ, وقول ِأبي بكرٍ رضيَ اللهُ تعالى عنهُ : لو نظرَ أحدُهُم لموطىءِ قدمِهِ لرآنا , وذاتِ النطاقين ِ، وغيرِ ذلكَ من الرواياتِ الصحيحةِ .
تـُرى ألهذا هاجرَ الحبيبُ المُصطفى أيُّها المسلمون ؟؟ مَعَ أنهُ لاقى أكثرَ من ذلكَ فصبر!! أم أنهُ الوحيُ ليقيمَ دولة َالإسلام ِ بعدَ أن أوجدَ مُصعبُ الخيرِ الأرضَ الخصبة َللإسلام ِوقد أثمرت , فبعثَ لحبيبهِ محمدٍ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ يُخبرُهُ أنهُ لم يبقَ بيتٌ في المدينةِ إلاَّ ويُذكرُ فيهِ الإسلام , وفي روايةٍ إلاَّ وقد دَخلهُ الإسلام . لتكونَ يثربُ بعدَ هجرتهِ عليه السلامُ نقطة َالإرتكازِ والنواة َالأولى لدولةِ الإسلام ِوقد أنارت بهجرتهِ عليهِ السلامُ إليها . ثم لتنطلقَ منها جحافلُ جيوش ِالمسلمينَ فاتحينَ ومحررين .
هذا هو القصدُ والغاية ُمنَ الهجرةِ .
نعم أيها الإخوة ُالأحبة ُ: هذا ما كانَ من أمرِ هجرتهِ عليهِ السلامُ .
وإليكُمُ الحكاية ُبعجالةٍ من بَدءِها لمآلِها بعدَ أن حطتْ رحالـَهَا إلى أن وصلت لِمَا نحنُ عليهِ الآن .
فأقولُ وباللهِ التوفيق : لقد بَعَثَ اللهُ سبحانهُ وتعالى رسُولـَهُ الأكرمَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ بمكة َبدعوةِ الإسلام ِللناس ِجميعاً ، ليخرجَهُم منَ الظلماتِ إلى النورِ . فبدأ َعليهِ السلامُ يدعو من يثقُ بهم سراً. ومن ثمَّ جهراً بعدَ ثلاثِ سنواتٍ عندما أمرَهُ ربُّهُ بقولِهِ ﴿{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ }﴾ بدءً بعشيرتهِ ﴿(وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ )﴾ فقاوَمَهُ قومُهُ أشدَّ المقاومَةِ ، فكانت المقاطعة ُبشعبِ أبي طالبٍ ، ثمَّ الهجرة ُالأولى إلى الحبشةِ ، وتحمَّلَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ الصدَّ والأذى في المرحلةِ الثانيةِ ثمانيْ سنواتٍ .
فلمَّا اشتدَّ بهِ الأذى بَدَأ عليهِ السلامُ يطلبُ النصرة َمن القبائل ِ, ويَعرِضُ نفسَهُ عليهم وعلى ساداتهم .
يشترط ُعليهم إن هم أعطوهُ النصرة َـ الإسلامَ والمنعة َـ فمنهم من أعطاهُ النصرة َمشروطة ًبأن يكونَ لهُمُ المُلكُ من بعدهِ , كبني عامرٍ بن ِصعصعة َ, فقالَ من لا ينطقُ عن الهوى : ( الأمرُ للهِ من قبلُ ومن بعدُ يَضَعُهُ حيثُ يشاء ) . ومنهم من صدَّهُ وأغلظ َ لهُ القولَ .
واستمرَّ الحالُ كذلكَ حتى جاءَ وفدُ الأوس ِ. وكانت بيعة ُالعقبةِ الأولى , ثمَّ في العام ِالذي تلاهُ , بيعة ُ العقبةِ الثانيةِ , بيعة ُ الحرب , حيثُ هاجرَ بعدَها رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ وصحبُهُ للمدينةِ المنورةِ بعدَ أن مكثوا بمكة َثلاثة َعَشرَ عاماً .
وفي المدينةِ أقامَ عليهِ السلامُ الدولة َالإسلامية َوكانت الانطلاقة ُوبدأ َبـِنشرِ الإسلام ِ, وجهادِ الكفارِ, وإقامةِ الحدودِ, وحمايةِ الثغورِ, وإرسال ِالرسل ِ, وعقد الهُدَن ِ والعهودِ, والعمل ِبالسياسةِ الداخليةِ والخارجيةِ وتطبيق ِالأنظمةِ وتنفيذِ الأحكام ِالشرعيةِ .
من أجل ِذلكَ إخوة َالإيمان ِكانت الهجرة ُ, لإعلان ِالدولةِ وإيجادِ الكيان ِ, ومن أجل ِحمل ِالإسلام ِ للناس ِكافة ًعن طريق ِالجهادِ .
وبعدَ وفاةِ الرسول ِالأكرم ِصلى اللهُ عليهِ وسلمَ أخلصَ الخلفاءُ الراشدونَ حملَ الأمانةِ ومَن تـَبعَهُم بإحسان ٍلإنجازِ وعدِ ربِّهم بإظهارِ الإسلام ِعلى الدين ِكلـِّهِ. وكانت الهزيمة ُ الساحقة ُ للدُّولتين ِ العظيمتين ِآنذاك – فارسَ والروم ِ– وأصبحت الدولة ُالإسلامية ُالدولة َالأولى في العالم ِطيلة َثلاثة َ عَشرَ قرناً وزيادة , وهيَ الدولة ُالمبدئية ُالوحيدة ُالصحيحة ُ, لصحةِ عقيدتِها وسلامةِ مبدئِـها الموافقةِ لفطرةِ الإنسان ِوالمقنعةِ للعقل ِالسويِّ .
واستظلَّ العالمُ برايَةِ لا إلهَ إلاَّ اللهُ محمدٌ رسولُ الله . من الصين ِشرقاً حتى المحيط ِالأطلسيِّ غرباً , ومن أسوارِ فينا وعمق ِفرنسا شمالاً, حتى أواسطِ إفريقيا جنوباً. وعاشَ المسلمونَ قادة ً للدنيا ينشرونَ دينَ اللهِ الذي صهرَ الفاتحينَ مَعَ البلادِ المفتوحةِ في بوتقةٍ واحدةٍ . فعاشوا معاً سُعداءَ آمنينَ مطمئنينَ , أكرَمُهُم عندَ اللهِ أتقاهُم ، ليسَ لعربي ٍعلى عجمي ٍ فضلٌ إلاَّ بالتقوى . أجل إنهُ الإسلامُ العظيم .
فهذا المبدأ ُلا يُفرقُ بينَ غالبٍ ومغلوب , وفاتح ٍومفتوح . حُكِمَ المسلمُ والذمِّيُّ بالإسلام ِ, فلمسَ الذمِّيُّ عدالتـَهُ فأسلم, لا، بل أسلمت البلدانُ المفتوحة ُبعد أن اطمأنوا بهديهِ وَسُعِدُوا بنهجهِ وسادوا بعدلهِ. وشهدَ على ذلكَ من ليسوا بأهلهِ.
وكذلكَ التاريخُ خيرُ شاهدٍ , حتى طافتْ أموالُ الدولةِ ووصلت القرنَ الإفريقيَّ تبحثُ عن مُستحقيها فلم تجد .
اللهُ أكبرُ هذا هو العيشُ الهنيُّ والعدلُ السويُّ . ولكن دوامَ الحال ِمنَ المُحَال ِ, فالمسلمونَ نسُوا أو تناسوْا أنَّ الإسلامَ وحدهُ سببُ عزَّتِهم , وسبيلُ نهضتِهم , وأساسُ وَحدَتِهم , وسرُّ وجودِهِم وبقائِهم . فتركوا الجهادَ, وأغلقوا بابَ الاجتهادِ , وتعاونوا مَعَ الأعداءِ ووالوهُم على المسلمينَ وأذلوهُم , وآثروا الحياة َ الدنيا الفانيةِ وانشغلوا بزخرُفِـها الزائل ، وبَعُدُوا عن تصورِ الآخرةِ ونعيمِها الدائم ِ.
فلما انحرفوا عن ذلكَ انتقلوا إلى الصفوفِ الأخيرةِ بينَ الأمم ِ, وقـُطـِّعَت أوصالـُهُم الواحدُ تلوَ الآخرِ. حتى استطاع َ الكافرُ المستعمرُ أن يقضيَ على دولةِ الخلافةِ في الثالثِ من آذارٍ عامَ ألفٍ وتسعمائةٍ وأربعةٍ وعشرين . وحينـَهَا أصبحَ المسلمونَ بحق ٍغـُثاءً كغثاءِ السيل ِ, تقاسَمَتهُمُ الدُّولُ الكافرة ُ, وأذاقتهُم صُنوفَ الذلِّ والهوان ِ, وما زالتْ حتى السَّاعةِ . ومنَ النهضةِ إلى الإنحطاطِ حتى الساعةِ .
ويَعبثُ بمقدراتِهم أيدٍ خبيثةٍ غربيةٍ غريبةٍ عنهم , حتى الساعة .
وما السرطانُ الأمريكيُّ والمكرُ الإنجليزيُّ والخبثُ الأوروبيُّ عنكم ببعيد .
حتى صرنا نرى السوادَ الأعظمَ من الأمةِ لا يُحركُ ساكناً وكأن الأمرَ لا يعنيهم ، أو أنَّ الذي يَجري , على كوكبٍ آخر, حتى أحاسيسُهُم تبلدت , فلم يَتعظوا ولم يَعتبروا بما أصابَهُم من مصائبَ وويلاتٍ وهزائمَ ، بالرُّغم ِمن تكرارِ المؤامراتِ , وتعدادِ الخياناتِ مراتٍ ومرات .
وصدقَ اللهُ العليُّ العظيمُّ : ﴿(أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ)﴾ التوبة/126 .
فإنْ لم تكسرِ الأمة ُالقيدَ من مِعصَمِهَا فلا عاصمَ لها . وإن رَضِيَتْ بعيش ِالأنعام ِفستحلُّ عليها الآثام . فيا أحفادَ عبادة َوشدادَ وأبي عبيدة َوضرارَ وخالد , انفـُضُوا عنكمْ غبارَ العارِ واعتصموا بحبل ِاللهِ الواحد .
ويا خيرَ خلق ِاللهِ من خلقهِ كونوا خيرَ خلفٍ لخيرِ سلفٍ . فلا توالوا أبناءَ القردةِ والخنازيرِ وعُبَّادَ الأوثان .
وكل عام وانتم بخير
والله المستعان
المفضلات