قال حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه "فيصل التفرقة بين الكفر والزندقة"

(اعلم أن شرح ما يكفر به وما لا يكفر به، يستدعي تفصيلاً طويلاً يفتقر إلى ذكر كل المقالات والمذاهب، وذكر شبهة كل واحد ودليل، ووجه بعده عن الظاهر، ووجه تأويله.وذلك لا يحويه مجلدات، ولا تتسع لشرح ذلك أوقاتي.
------------------------------------------------

فاقنع الآن بوصية وقانون.

أما الوصية: فان تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك، ماداموا قائلين لا إله إلا الله، محمد رسول الله، غير مناقضين لها. والمناقضة تجويزهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذر، أو غير عذر، فإن التكفير فيه خطر.والسكوت لا خطر فيه.

أما القانون: فهو أن تعلم أن النظريات قسمان: قسم يتعلق بأصول القواعد.وقسم يتعلق بالفروع.


وأصول الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله، وبرسوله، وباليوم الآخر.

وما عداه فروع

.واعلم أنه لا تكفير في الفروع أصلاً، إلا في مسألة واحدة.وهي أن ينكر أصلاً دينياً علم من الرسول صلى الله عليه وسلم بالتواتر.

لكن في بعضها تخطئة، كما في الفقهيات.

وفي بعضها تبديع، كالخطأ المتعلق بالإمامة وأحوال الصحابة.

واعلم أن الخطأ في الإمامة، وتعيينها وشروطها، وما يتعلق به، لا يوجب شيئ منه تكفيراً.

فقد أنكر ابن كيسان أصل وجوب الإمامة، ولا يلزم تكفيره.

ولا يلتفت إلى قوم يعظمون أمر الإمامة، ويجعلون الإيمان بالإمام مقروناً بالإيمان بالله ورسوله.

ولا إلى خصومهم المكفرين لهم بمجرد مذهبهم في الإمامة.

فكل ذلك إسراف ؛ إذ ليس في واحد من القولين تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم أصلاً، ومهما وجد التكذيب، وجب التكفير، وإن كان من الفروع.

فلو قال قائل مثلاً: البيت الذي بمكة ليس الكعبة التي أمر الله بحجها، فهذا كفر، إذ قد ثبت تواتراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافه.

ولو أنكر شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك البيت بأنه الكعبة لم ينفعه إنكاره، بل يعلم قطعاً أنه معاند في إنكاره، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، ولم يتواتر عنده ذلك.

وكذلك من نسب عائشة رضي الله عنها إلى الفاحشة، وقد نزل القرآن ببراءتها فهو كافر؛ لأن هذا وأمثاله لا يمكن إلا بتكذيب الرسول، أو إنكار التواتر.

والتواتر ينكره الإنسان بلسانه، ولا يمكن أن يجهله بقلبه.

نعم لو أنكر ما ثبت بأخبار الآحاد، فلا يلزمه به الكفر.

ولو أنكر ما ثبت بالإجماع، فهذا فيه نظر؛ لأن معرفة كون الإجماع حجة قاطعة، فيه غموض يعرفه المحصلون لعلم أصول الفقه.

وأنكر النظام كون الإجماع حجة أصلاً، فصار كون الإجماع حجة مختلفاً فيه.

فهذا حكم الفروع.

-----------------------------

وأما الأصول الثلاثة، وكل ما لم يحتمل التأويل في نفسه، وتواتر نقله، ولم يتصور أن يقوم برهان على خلافه، فمخالفته تكذيب محض.

ومثاله: ما ذكرناه من حشر الأجساد، والجنة والنار، وإحاطة علم الله بتفاصيل الأمور
.

----------------------------------------------------

وما يتطرق إليه احتمال التأويل، ولو بالمجاز البعيد، فننظر فيه إلى البرهان:

فإن كان قاطعاً، وجب القول به.

ولكن إن كان في إظهاره مع العوام ضرر، لقصور فهمهم، فإظهاره بدعة.

ولم يكن البرهان قطعياً، لكن يفيد ظناً غالباً، وكان مع ذلك لا يعلم ضرره في الدين، كنفي المعتزلة الرؤية عن الله تعالى، فهذه بدعة، وليس بكفر.

وأما ما يظهر له ضرر، فيقع في محل الاجتهاد والنظر، فيتحمل أن يكفر، ويحتمل أن لا يكفر.

ومن جنس ذلك ما يدعيه بعض من يدعي التصوف أنه قد بلغ حالة بينه وبين الله تعالى، أسقطت عنه الصلاة، وأحلت له شرب الخمر والمعاصي، وأكل مال السلطان.

فهذا ممن لا شك في وجوب قتله، وإن كان في الحكم بخلوده في النار نظر.وقتل مثل هذا أفضل من قتل مائة كافر، إذ ضرره في الدين أعظم، وينفتح به باب من الإباحة لا ينسد.وضرر هذا، فوق ضرر من يقول بالإباحة مطلقاً، فإنه يمنع عن الإصغاء إليه ظهور كفره.

وأما هذا فإنه يهدم الشرع من الشرع، ويزعم أنه لم يرتكب فيه إلا تخصيص عموم، إذ خصص عموم التكليفات بمن ليس له مثل درجته في الدين.

وربما يزعم أنه يلابس ويقارف المعاصي بظاهره، وهو بباطنه بريء عنها، ويتداعى هذا إلى أن يدعي كل فاسق مثل حاله، وينحل به عصام الدين.

ولا ينبغي أن يظن أن التكفير ونفيه ينبغي أن يدرك قطعاً في كل مقام.

بل التكفير حكم شرعي، يرجع إلى:

إباحة المال.وسفك الدم.والحكم بالخلود في النار.

فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشرعية:

فتارة يدرك بيقين.وتارة بظن غالب.وتارة يتردد فيه.

ومهما حصل تردد، فالوقف فيه عن التكفير أولى.والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل.

---------------------------------------------------------

ولا بد من التنبيه على قاعدة أخرى، وهي أن المخالف: قد يخالف نصاً متواتراً، ويزعم أنه مؤول، ولكن ذكر تأويله لا انقداح له أصلاً في اللسان، لا على بعد، ولا على قرب، فذلك كفر، وصاحبه مكذب، وإن كان يزعم أنه مؤول.

مثاله: ما رأيت في كلام بعض الباطنية:

إن الله تعالى واحد، بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها.

وعالم، بمعنى أنه يعطي العلم لغيره ويخلقه.

وموجود، بمعنى أنه يوجد غيره.

وأما أن يكون واحداً في نفسه، وموجوداً، وعالماً، على معنى اتصافه، فلا.
وهذا كفر صراح ؛ لأن حمل الواحد على إيجاد الوحدة، ليس من التأويل في شيء ولا تحتمله لغة العرب أصلاً.

ولو كان خالق الوحدة يسمى خالقاً ؛ لخلقه الوحدة لسمي ثلاثاً، وأربعاً؛ لأنه خلق الأعداد أيضاً.)

-------------------

انتهى كلامه فنفعنا الله به وبعلمه