بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام علي رسول الله وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين وبعد:


هذه هي الخاطرة الثانية في العقيدة بعد خاطرة كرامات الأولياء ، ويدور الكلام فيها علي ثلاث مباحث لبيان عقيدة أهل السنة و الجماعة فيها وكذا بيان المخالفين لهم بحول الله وقوته
المبحث الأول : عصمة الأنبياء
المبحث الثاني : عصمة الملائكة
المبحث الثالث : عصمة الأئمة و الأولياء
فائدة دراسة هذا الموضوع
أولا : تحقيق عقيدة أهل السنة و الجماعة
ثانيا : يتيسر لمن بمن الله تعالى عليه بفهم حقيقة العصصمة أن يدفع كثيرا من الإفتراءات التي تثار حول النبي صلي الله عليه وسلم
و العصمة لغة : هي المنع و الحفظ ، جاء في مختار الصحاح " العِصْمَة المَنْع يقال عَصَمَهُ الطَّعَام أي مَنَعَه من الجُوعِ. والعِصْمة أيضاً الحفْظ وقد عَصَمه يَعْصِمه بالكسر عِصْمةً فانْعَصَم " ، وعلي هذا مدار الحديث في كثير من كتب اللغة و المعاجم .
أما التعريف الإصطلاحي للعصمة فيختلف باختلاف حال المعصوم علي الوجه الذي سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى

المبحث الأول
عصمة الأنبياء :
تعريفها إصطلاحا : لعل من أحسن التعريفات للعصمة في هذا الباب وأسلمها ما ذكره صاحب كتاب نسيم الرياض فى شرح الشفا للقاضى عياض بأنها : "لطف من الله تعالى يحمل النبى على فعل الخير، ويزجره عن الشر مع بقاء الاختيار تحقيقاً للابتلاء"
يقول شيخ الإسلام في التفريق بين النبي و الرسول " النبي هو المنبئ عن الله، والرسول هو الذي أرسله الله تعالى، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا "
وفي عصمتهم مسائل
المسألة الأولي : عصمة الانبياء من الأحوال البشرية التي توهم النقص ( مثل النسيان و المرض و وسوسة الشيطان ... وغيرها )
مذهب أهل السنة في هذا أن الأنبياء و الرسل معصومون منها إذا مست الرسالة أو التبليغ أما إذا كانت لا تمس البلاغ فلا عصمة لهم من هذه الأحوال البشرية لأنهم بشر ولأن نصوص الكتاب و السنة تواترت علي ذلك وجاء في الصحيح قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكرونى" رواه البخاري
يقول الدكتور الأشقر " الأعراض البشرية كالخوف والغضب والنسيان تقع من الرسل والأنبياء ، وهي لا تنافي عصمتهم والأمثلة على ذلك في الكتاب والسنة كثيرة ، فمن ذلك :
1- خوف إبراهيم عليه السلام من ضيوفه :
أوجس إبراهيم عليه السلام في نفسه خيفة عندما رأى أيدي ضيوفه لا تمتد إلى الطعام الذي قدمه لهم ، ولم يكن يعلم أنّهم ملائكة تشكلوا في صور البشر ( فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ) [ هود : 70 ] .
2- عدم صبر موسى عليه السلام على تصرفات العبد الصالح :
وموسى وعد الخضر بأن يصبر في صحبته له ، فلا يسأله عن أمر يفعله العبد الصالح حتى يحدث له منه ذكراً ، ولكنه لم يتمالك نفسه ، إذ رأى تصرفات غريبة ، فكان في كل مرّة يسأل أو يعترض أو يوجه ، وفي كل مرّة يذكّره العبد الصالح ويقول له : ( قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ) [ الكهف : 75 ] . وعندما كشف له عن سر أفعاله قال له: ( ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ) [ الكهف : 82 ] .
3- تصرفات موسى عليه السلام عندما رأى قومه يعبدون العجل :
وغضب موسى غضباً شديداً ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه ، وألقى الألواح وفي نسختها هدى - عندما عاد إلى قومه بعد أن تمّ ميقات ربه ، فوجدهم يعبدون العجل ، ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) [ الأعراف : 150 ] وفي الحديث : " ليس الخبر كالمعاينة ، إنَّ الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل ، فلم يلق الألواح ، فلمّا عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت " رواه أحمد في مسنده ، والطبراني في الأوسط ، بإسناد صحيح : ( انظر صحيح الجامع الصغير : 5/87 ) .
4- نسيان آدم وجحوده :
ومن ذلك نسيان آدم عليه السلام وجحوده ، فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما خلق الله آدم مسح ظهره ، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كلٍّ منهم وبيصاً من نور ، ثمّ عرضهم على آدم ، فقال : أي ربِّ مَن هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك ، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه ، فقال : أي ربّ من هذا ؟ فقال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك ، يقال له داود ، فقال : ربِّ كم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة ، قال : أي ربِّ زده من عمري أربعين سنة ، فلما انقضى عمر آدم ، جاءه ملك الموت ، فقال : أو لم يبق من عمري أربعون سنة ، قال : أو لم تعطها ابنك داود ؟ قال : فجحد آدم ، فجحدت ذريته ، ونسي آدم ، فنسيت ذريته ، وخطئ آدم فخطئت ذريته " رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، ورواه الحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح على شرط مسلم : ( البداية والنهاية 1/87 ) .
5- نبي يحرق قرية النمل :
ومن ذلك ما وقع من نبي من الأنبياء غضب إذ قرصته نملة ، فأمر بقرية النمل فأحرقت ، فعاتبه الله على ذلك ، ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " نزل نبيٌّ من الأنبياء تحت شجرة ، فلدغته نملة ، فأمر بجهازه فأخرج من تحتها ، ثمّ أمر ببيتها فأحرق بالنار ، فأوحى الله إليه : فهلاّ نملة واحدة " صحيح البخاري : 3319 . وصحيح مسلم : 2241 .
6- نسيان نبينا صلى الله عليه وسلم وصلاته الظهر ركعتين :
ومن ذلك نسيان الرسول صلى الله عليه وسلم في غير البلاغ ، وفي غير أمور التشريع ، فمن ذلك ما رواه ابن سيرين عن أبي هريرة قال : " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إحدى صلاتي العشيّ ، فصلى ركعتين ، ثمّ سلّم ، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد ، فاتكأ عليها كأنّه غضبان ، ووضع يده اليمنى على اليسرى ، وشبّك بين أصابعه ، ووضع خدّه الأيمن على ظهر كفه اليسرى ، وخرجت السرعان من أبواب المسجد ، فقالوا : قصرت الصلاة ، وفي القوم أبو بكر وعمر ، فهابا أن يكلماه .
وفي القوم رجل يقال له ذو اليدين ، فقال : يا رسول الله ، أنسيت أم قصرت الصلاة ؟ فقال : لم أنس ، ولم تقصر ، فقال : أكما يقول ذو اليدين ؟ فقالوا : نعم . فتقدم فصلّى ما ترك ، ثمّ سلّم ، ثمّ كبّر ، وسجد مثل سجود أو أطول ، ثمّ رفع رأسه وكبّر ، وسجد مثل سجوده أو أطول ، ثمّ رفع رأسه وكبّر ، فربما سألوه ، ثمّ سلّم ، فيقول : أنبئت أنّ عمران بن حصين ، قال : ثمّ سلّم " متفق عليه ، وليس لمسلم فيه وضع اليد على اليد ولا التشبيك .
وفي رواية ، قال : " بينما أنا أصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر سلّم من ركعتين ، فقام رجل من بني سليم ، فقال : يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ " وساق الحديث ، رواه أحمد ومسلم .
وهذا يدل على أنّ القصة كانت بحضرته وبعد إسلامه .
وفي رواية متفق عليها لما قال : " لم أنس ولم تقصر ، قال : بلى ، قد نسيت " وهذا يدل على أن ذا اليدين تكّلم بعدما علم عدم النسخ كلاماً ليس بجواب سؤال.
وقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بطروء النسيان عليه كعادة البشر ، ففي حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ولكنّي إنّما أنا بشر ، أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني " رواه الجماعة إلاّ الترمذي ، قال هذا بعد نسيانه في إحدى الصلوات .
أمّا الحديث الذي يروى بلفظ : " إني لا أنسى ، ولكن أُنسَّى لأسنّ " فلا يجوز أن يعارض به الحديث السابق ، لأنّ هذا الحديث - كما يقول ابن حجر - لا أصل له ، فإنّه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد . ( نيل الأوطار : 3/117 ) .
و النصوص في هذا الباب كثيرة يتعذر إحصاؤها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية حاكيا للخلاف ومبينا الراجح في هذه المسألة : " الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون عن الله سبحانه وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة، ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه : قال تعالى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } .
إلي أن قال : : " وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة؛ فللناس فيه نزاع " أ هـ
وخالف في هذه المسألة بعضا من إخواننا الأشاعرة و الشيعة هداهم الله إلي الحق فالأشاعرة يقولون حتى الأمراض يجوز عليهم اليسير منها وهذا ضلال واضح مصادم للنص ويقول أحدهم في منظومة له في عقائد الأشاعرة :
بغير نقصٍ كخفيفِ المرضِ وجائز في حقهم من عرضِ
يعني أنهم يجوز عليهم الأعراض منها الأمراض الخفيفة ، فأين هم من قول النبي عليه الصلاة والسلام (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، يُبتلى الرجل على قدر دينه) وقد دخل عليه ابن مسعود رضي الله عنه ، دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وهو يوعك وعكاً شديداً ، فقال يا رسول الله أئنك لتوعَكُ فقال أجل إني لأوعك كما يُوعك رجلان منكم)
ويقول شيخ الإسلام في منهاج السنة " وأما المسائل المتقدمة فقد شرك غير الإمامية فيها بعض الطوائف إلا غلوهم في عصمة الأنبياء فلم يوافقهم عليه أحد أيضا حيث ادعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسهو فإن هذا لا يوافقهم عليه أحد فيما علمت اللهم إلا أن يكون من غلاة جهال النساك فإن بينهم وبين الرافضة قدرا مشتركا في الغلو وفي الجهل والإنقياد لما لا يعلم صحته " أ هـ
تنبيه : فإذا علم قول أهل السنة في هذا الباب فإنه يبطل به كثير من الإفتراءات التي يثيرها أصحاب الباطل ليلبسوا بها علي الناس و التي لا يصح كثير منها أصلا كحديث الغرانيق ومص النبي للسان زوجاته وحديث المفاخذة ... وغيرها من الأمور التي لا تصح و التي حتي وإن صحت لا يكون في كثير منها شيئا علي ما سبق بيانه .
ومثال ما صح ويدفع بما سبق ، إصابة النبي بالسحر ،مس الشيطان لنبي الله أيوب قال تعالى : { واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب } ، ونسيان النبي آيات من القرآن كما في البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعَ النَّبِيُّ قَارِئًا يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ فِي الْمسْجِدِ فَقَالَ: يَرْحَمُهُ اللهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَة كَذَا وَكَذَا. وفي رواية: أُنْسِيتُها وهذا نسيان عارض يكون بعد البلاغ و التدوين قال الباقلاني : وإن أردت أنه ينسى مثل ما ينسي العالم الحافظ بالقرآن نسيانا لا يقدح فيه فان ذلك جائز بعد أدائه وبلاغه ، وكذا بول النبي قائما و التي يشنع علينا بها إخواننا الشيعة هداهم الله تعالى مع أنها وردت في كتبهم وفعلها النبي لبيان الإباحة لا الاستحباب ومع ذلك فنحن نقول أن هذا ليس فيه تنقص من قدر النبي ، كذلك قتل النبي متأثرا بسم الشاة فليس فيه ما يناقض العصمة فقد تم بعد البلاغ ... وهكذا ثم قس علي ذلك ما يشابهه .
بقية الموضوع علي هذا الرابط
خواطر في العقيدة ( 2 / 1 ) العصمة - منتديات الموسوعة