صلى الله عليه وسلم
د. سلمان العودة
لم يُكتب لأحدٍ من البشر من الأثر والخلود والعظمة ما كتب لصاحب النسب الشريف -صلى الله عليه وسلم-.
ولقد دونت في سيرته الكتب، ودبجت في مديحه القصائد، وعمرت بذكره المجالس، وبقيت عظمته قمة سامقة لاتطالها الظنون.
تقلبت به صروف الحياة من قوة وضعف، وغنى وفقر، وكثرة وقلة، ونصر وهزيمة، وظعن وإقامة، وجوع وشبع، وحزن وسرور، فكان قدوة في ذلك كله، وحقق عبودية الموقف لربه كما ينبغي له.
ظل في مكة ثلاث عشرة سنة، وما آمن معه إلاّ قليل، فما تذمّر ولا ضجر، وجاءه أصحابه يشتكون إليه، ويسألونه الدعاء والاستنصار، فحلف على نصر الدين وتمام الأمر، وأنكر عليهم أنهم يستعجلون، فكان الأمر كما وعد، علمًا من أعلام نبوته، ونصرًا لأمر الله، لا للأشخاص.
وكان من نصره أن تأتيه وفود العرب من كل ناحية مبايعة على الإسلام والطاعة فما تغير ولا تكبّر، ولا انتصر لنفسه من قوم حاربوه وآذوه وعاندوا دينه.
كما كان يقول أبو سفيان بن الحارث:
لعمرك إني يوم أحمل راية
لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله
فهذا أواني حين أهدى وأهتدي
هـداني هادٍ غير نفسي ودلني
عـلى الله من طردته كل مطرد
وما حملت من ناقة فوق ظهرها
أبر وأوفى ذمة من محمد
فاستل العداوات، ومحا السخائم، وألّف القلوب، وأعاد اللُّحمة، وعرف عدوُّه قبل صديقه أنها النبوة، وأنه لم يكن صاحب طموح شخصي، ولا باني مجد ذاتي، وإن كان الطموح والمجد لبعض جنوده.
تعجب من عفويته، وقلة تكلفه في سائر أمره، واحتفاظ شخصيته بهدوئها وطبيعتها وتوازنها مهما تقلبت عليها الأحوال، واختلفت عليها الطرائق.
كل إنسان إلاّ وله طبعه الخاص الذي يبين في بعض الحال، ويستتر في بعض، ويترتب عليه استرواح لقوم دون آخرين، ويحكم العديد من مواقفه وتصرفاته حاشاه -صلى الله عليه وسلم-.
فهو يُقْبِل بوجهه على كل جليس، ويخاطب كل قوم بلغتهم، ويحدثهم بما يعرفون، ويعاملهم بغاية اللطف والرحمة والإشفاق، إلاّ أن يكونوا محاربين حملوا السلاح في وجه الحق، وأجلبوا لإطفاء نوره وحجب ضيائه .
كل طعام تيسر من الحلال فهو طعامه، وكل فراش أتيح فهو وطاؤه، وكل فرد أقبل فهو جليسه.
ما تكلف مفقودًا، ولا رد موجودًا، ولا عاب طعامًا، ولا تجنّب شيئًا قط لطيبه، لا طعامًا، ولا شرابًا ولا فراشًا ولا كساءً، بل كان يحب الطيب، ولكن لا يتكلفه.
سيرته صفحة مكشوفة يعرفها محبوه وشانئوه، ولقد نقل لنا الرواة دقيق وصف بدنه، وقسمات وجهه، وصفة شعره، وكم شيبة في رأسه ولحيته، وطريقة حديثه، وحركة يده، كما نقلوا تفصيل شأنه في مأكله، ومشربه، ومركبه، وسفره، وإقامته، وعبادته، ورضاه، وغضبه، حتى دخلوا في ذكر حاله مع أزواجه أمهات المؤمنين في المعاشرة، والغسل، والقسم، والنفقة، والمداعبة، والمغاضبة، والجد، والمزاح، وفصّلوا في خصوصيات الحياة وضروراتها.
جريدة المدينة - الجمعة 14 / 4 / 1432 هـ - العدد : 17495
المفضلات