من أجمل ماقرأت في معنى حول الله عزوجل وقلب المرء

إليكم إذا ما جاء في تفسير "التحرير و التنوير " لابن عاشور .

( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم )

إعادة لمضمون قوله (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ) الذي هو بمنزلة النتيجة من الدليل أو مقصد الخطبة من مقدمتها كما تقدم هنالك.
فافتتاح السورة كان بالأمر بالطاعة والتقوى، ثم بيان أن حق المؤمنين الكمل أن يخافوا الله ويطيعوه ويمتثلوا أمره وإن كانوا كارهين، وضرب لهم مثلا بكراهتهم الخروج إلى بدر، ثم بكراهتهم لقاء النفير وأوقفهم على ما اجتنبوه من بركات الامتثال وكيف أيدهم الله بنصره ونصب لهم عليه أمارة الوعد بإمداد الملائكة لتطمئن قلوبهم بالنصر وما لطف بهم من الأحوال، وجعل ذلك كله إقناعا لهم بوجوب الثبات في وجه المشركين عند الزحف ثم عاد إلى الأمر بالطاعة وحذرهم من أحوال الذين يقولون سمعنا وهم لا يسمعون، وأعقب ذلك بالأمر بالاستجابة للرسول إذا دعاهم إلى شيء فان في دعوته إياهم إحياء لنفوسهم وأعلمهم أن الله يكسب قلوبهم بتلك الاستجابة قوى قدسية.
واختير في تعريفهم، عند النداء، وصف الإيمان ليومي إلى التعليل كما تقدم في الآيات من قبل، أي أن الإيمان هو الذي يقتضي أن يثقوا بعناية الله بهم فيمتثلوا أمره إذا دعاهم.
والاستجابة: الإجابة، فالسين والتاء فيها للتأكيد، وقد غلب استعمال الاستجابة في إجابة طلب معين أو في الاعم، فأما الإجابة فهي إجابة لنداء وغلب أن يعدى باللام إذا اقترن بالسين والتاء، وتقدم ذلك عن قوله تعالى "فاستجاب لهم ربهم " في آل عمران.

وإعادة حرف بعد واو العطف في قوله )وللرسول( للإشارة إلى استقلال المجرور بالتعلق بفعل الاستجابة، تنبيها على أن استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم أعم من استجابة الله لأن الاستجابة لله لا تكون إلا بمعنى المجاز وهو الطاعة بخلاف الاستجابة للرسول عليه الصلاة والسلام فإنها بالمعنى الأعم الشامل للحقيقة وهو استجابة ندائه، وللمجاز وهو الطاعة فأريد أمرهم بالاستجابة للرسول بالمعنيين كلما صدرت منه دعوة تقتضي أحدهما.
ألا ترى أنه لم يعد ذكر اللام في الموقع الذي كانت فيه الاستجابة لله والرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى واحد، وهو الطاعة، وذلك قوله تعالى " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " فإنها الطاعة للأمر باللحاق بجيش قريش في حمراء الأسد بعد الانصراف من أحد فهي استجابة لدعوة معينة.
وإفراد ضمير " دعاكم" لأن الدعاء من فعل الرسول مباشرة، كما أفرد الضمير في قوله " ولا تولوا عنه " وقد تقدم آنفا.
وليس قوله " إذا دعاكم لما يحييكم" قيدا للأمر باستجابة ولكنه تنبيه على أن دعاءه إياهم لا يكون إلا إلى ما فيه خير لهم وإحياء لأنفسهم.
واللام في " لما يحييكم " لام التعليل أي دعاكم لأجل ما هو سبب حياتكم الروحية.
والأحياء تكوين الحياة في الجسد، والحياة قوة بها يكون الإدراك والتحرك بالاختيار ويستعار الأحياء تبعا الاستعارة الحياة للصفة أو القوة التبيبها كمال موصوفها فيما يراد منه مثل حياة الأرض بالإنبات وحياة العقل بالعلم وسداد الرأي، وضدها الموت في المعاني الحقيقية والمجازية، قال تعالى " أموات غير أحياء - أومن كان ميتا فأحييناه" وقد تقدم في سورة الأنعام.
والإحياء والإماتة تكوين الحياة والموت. وتستعار الحياة والإحياء لبقاء الحياة واستبقائها بدفع العوادي عنها )ولكم في القصاص حياة" ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" .
والإحياء هذا مستعار لما يشبه إحياء الميت، وهو إعطاء الإنسان ما به كمال الإنسان، فيعم كل ما به ذلك الكمال من إنارة العقول بالاعتقاد الصحيح والخلق الكريم، والدلالة على الأعمال الصالحة وإصلاح الفرد والمجتمع، وما يتقوم به ذلك من الخلال الشريفة العظيمة، فالشجاعة حياة للنفس، والاستقلال حياة، والحرية حياة، واستقامة أحوال العيش حياة.
ولما كان دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخلوا عن إفادة شيء من معاني هذه الحياة أمر الله الأمة بالاستجابة له، فالآية تقتضي الأمر بالامتثال لما يدعو إليه الرسول سواء دعا حقيقة بطلب القدوم، أم طلب عملا من الأعمال، فلذلك لم يكن قيد لما يحييكم مقصودا لتقييد الدعوة ببعض الأحوال بل هو قيد كاشف، فان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدعوهم إلا وفي حضورهم لديه حياة لهم، ويكشف عن هذا المعنى في قيد " لما يحييكم" ما رواه أهل الصحيح عن أبي سعيد بن المعلى، قال كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ثم أتيته فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال: ألم يقل الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم" ثم قال: إلا أعلمك صورة الحديث في فضل فاتحة الكتاب، فوقفه على قوله " إذا دعاكم" يدل على أن "لما يحييكم" قيد كاشف وفي جامع الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبي بن كعب فقال: يا أبي وهو يصلي فالتفت أبي ولم يجبه وصلى أبي فخفف ثم انصرف إلى رسول الله فقال: السلام عليك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك فقال: يا رسول الله إني كنت في الصلاة فقال: أفلم تجد فيما أوحي إلي أن استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم قال بلى ولا أعود إن شاء الله الحديث بمثل حديث أبي سعيد بن المعلى قال ابن عطية: وهو مروي أيضا من طريق مالك بن انس (يريد حديث أبي بن كعب وهو عند مالك حضر منه عند الترمذي ) قال ابن عطية وروي أنه وقع نحوه مع حذيفة بن اليمان في غزوة الخندق، فتكون عدة قضايا متماثلة ولا شك أن القصد منها التنبيه على هذه الخصوصية لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم.


( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون[24])

مقتضى ارتباط نظم الكلام يوجب أن يكون مضمون هذه الجملة مرتبطا بمضمون الجملة التي قبلها فيكون عطفها عليها عطف التكملة على ما تكمله، والجملتان مجعولتان آية واحدة في المصحف.

وافتتحت الجملة باعلموا للاهتمام بما تتضمنه وحث المخاطبين على التأمل فيما بعده، وذلك من أساليب الكلام البليغ أن يفتتح بعض الجمل المشتملة على خبر أو طلب فهم بأعلم أو تعلم لفتا لذهن المخاطب.
وفيه تعريض غالبا بغفلة المخاطب عن أمر مهم فمن المعروف أن المخبر أو الطالب ما يريد إلا علم المخاطب فالتصريح بالفعل الدال على طلب العلم مقصود للاهتمام، قال تعالى " اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم" وقال( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو) الآية وقال في الآية بعد هذه ' واعلموا أن الله شديد العقاب" وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي مسعود الأنصاري وقد رآه يضرب عبدا له اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود: أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام وقد يفتتحون بتعلم أو تعلمن قال زهير.

قلت تعلم أن للصيد غرة وإلا تضيعها فإنك قاتله
وقال زياد بن سيار
تعلم شفاء النفس قهر عدوهـا فبالغ بلطف في التحيل والمكر
وقال بشر بن أبي خازم
وإلا فاعلموا أنا وأنتـم بغاة ما بقينا في شقاق

و" أن" بعد هذا الفعل مفتوحة الهمزة حيثما وقعت، والمصدر المؤول يسد مسد مفعولي علم مع إفادة أن التأكيد.
والحول، ويقال الحؤل: منع شيء اتصالا بين شيئين أو أشياء قال تعالى ( وحال بينهما الموج) .

وإسناد الحول إلى الله مجاز عقلي لأن الله منزه عن المكان، والمعنى يحول شأن من شؤون صفاته، وهو تعلق صفة العلم بالاطلاع على ما يضمره المرء أو تعلق صفة القدرة بتنفيذ ما عزم عليه المرء أو بصرفه عن فعله، وليس المراد بالقلب هنا البضعة الصنوبرية المستقرة في باطن الصدر، وهي الآلة التي تدفع الدم إلى عروق الجسم، بل المراد عقل المرء وعزمه، وهو إطلاق شائع في العربية.

فلما كان مضمون هذه الجملة تكملة لمضمون الجملة التي قبلها يجوز أن يكون المعنى: واعلموا أن علم الله يخلص بين المرء وعقله خلوص الحائل بين شيئين فانه يكون شديد الاتصال بكليهما.
والمراد بالمرء عمله وتصرفاته الجسمانية.
فالمعنى أن الله يعلم عزم المرء ونيته قبل أن تنفعل بعزمه جوارحه، فشبه علم الله بذلك بالحائل بين شيئين في كونه أشد اتصالا بالمحول عنه من أقرب الأشياء إليه على نحو قوله تعالى " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" .
وجيء بصيغة المضارع" يحول" للدلالة على أن ذلك يتجدد ويستمر، وهذا في معنى قوله تعالى" ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" قاله قتادة.
والمقصود من هذا تحذير المؤمنين من كل خاطر يخطر في النفوس: من التراخي في الاستجابة إلى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتنصل منها، أو التستر في مخالفته، وهو معنى قوله " واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه" .
وبهذا يظهر وقع قوله" وأنه إليه تحشرون" عقبه فكان ما قبله تحذيرا وكان هو تهديدا. وفي الكشاف، وابن عطية: قيل إن المراد الحث على المبادرة بالامتثال وعدم إرجاء ذلك إلى وقت آخر خشية أن تعترض المرء موانع من تنفيذ عزمه على الطاعة أي فيكون الكلام على حذف مضاف تقديره: أن أجل الله يحول بين المرء وقلبه، أي بين عمله وعزمه قال تعالى " وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت" الآية.
وهنالك أقوال أخرى للمفسرين يحتملها اللفظ ولا يساعد عليها ارتباط الكلام والذي حملنا على تفسير الآية بهذا دون ما عداه أن ليس في جملة )أن الله يحول بين المرء وقلبه( إلا تعلق شأن من شؤون الله بالمرء وقلبه أي جثمانه وعقله دون شيء آخر خارج عنهما، مثل دعوة الإيمان ودعوة الكفر، وأن كلمة "بين" تقتضي شيئين فما يكون تحول إلا إلى أحدهما لا إلى أمر آخر خارج عنهما كالطبائع، فان ذلك تحويل وليس حؤلا.
وجملة" وأنه إليه تحشرون" عطف على" أن الله يحول بين المرء وقلبه" والضمير الواقع اسم أن ضمير اسم الجلالة، وليس ضمير الشأن لعدم مناسبته، ولإجراء أسلوب الكلام على أسلوب قوله" أن الله يحول" الخ.

وتقديم متعلق " تحشرون" عليه لإفادة الاختصاص أي: إليه إلى غيره تحشرون وهذا الاختصاص للكناية عن انعدام ملجإ أو مخبإ تلتجئون إليه من الحشر إلى الله فكني عن انتفاء المكان بانتفاء محشور إليه غير الله بأبدع أسلوب، وليس الاختصاص لرد اعتقاد، لأن المخاطبين بذلك هم المؤمنون، فلا مقتضى لقصر الحشر على الكون إلى الله بالنسبة إليهم.

كما ألف الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي - حفظه الله - كتابا سماه " الإنسان مسير أم مخير ؟ " وهو " دراسة علمية شاملة لمسألة التسيير و التخيير و القضاء و القدر وما يتعلق بها من ذيول و مشكلات " .. قد أتى في كتابه على الآية منن سورة الأنفال .

سوف أنقل لكم بعض الفقرات التي بين فيها معنى الشق الثاني من الآية و هو قوله تعالى " و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه "

ففي حديثه عن معنى آية المدثر " و ما يذكرون إلا أن يشاء الله " يقول :

الآية توقف فعل الإنسان على أن يشاء الله له ذلك الفعل .أي مهما عزم الإنسان على فعل أو تصرف ما فلن يتأتى منه ذلك إلا بعد أن يشاء الله أن يقدره و يوفقه لتنفيذ ذلك الفعل . و هذه حقيقة ثابتة لا ريب فيها , سبق أن أوضحناها و ذكرنا الأدلة عليها عند حديثنا عن خلق الله لفعل الإنسان و بيََـنـََا أن هذه الحقيقة لا تخل بالحرية الثابتة للإنسان .....
غير أنك قد تسأل قائلا: فما الحاجة إلى التذكير بشيء أبرم البيان الإلهي القرار بشأنه عندما أكد منح الله الحرية و المشيئة للإنسان ؟ إن هذا القرار الذي أبرمه البيان الإلهي و أكده يوضح أن الإنسان عندما يوجه مشيئته و عزمه إلى شيء فلا بد أن يشاء الله له الفعل المتفق مع مشيئته و عزمه . و من ثم فلا بد أن يخلق في كيانه الفعل الذي اتجه إليه عزمه و قصده . فما الحاجة إلى أن يقول بعد هذا القرار الذي أكده له : إنك لن تستطيع ممارسة التذكرة و وضعها من حياتك العملية موضع التنفيذ إلا إن شئتُ لك ممارسة ذلك و تنفيذه ؟

و الجواب أن هذا الكلام هنا سيق مساق التهديد لأولئك الذين ظلوا معرضين عن التذكرة التي تعرفهم و تنبههم و تحذرهم ..فهو يقول لهم : بوسعكم إن شئتم أن تلتفتوا إلى هذه التذكرة و تحفلوا بها و لكن فلتعلموا أن هذا الوسع قد يُـحجب عنكم إذا شاء الله ذلك و تطاول أمد استكباركم و إعراضكم ..ترغبون عندئذ في الالتفات إلى هذه التذكرة و العمل بها و لكنكم لا تقدرون على ذلك و لا تجدون سبيلا إليه و هذا من قبيل قول الله تعالى " و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه " و من قبيل قوله :" سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق و إن يروا كل آية لا يؤمنوا بها و إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا و إن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا " و من قبيل قوله :" الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري و كانوا لا يستتطيعون سمعا "

فها هنا تصريح بأن هؤلاء الناس قد حيل بينهم و بين الاستفادة من عقولهم و أسماعهم و قواهم على الرغم من أنهم يتمتعون بذلك كله .. و ذلك بمقتضى عقاب عاجل حاق بهم من الله عز و جل جزاء على إمعانهم في العناد و الاستكبار . وهي سنة ربانية يأخذ الله بها بعضا من عباده ...

و صفوة القول أن المشيئة التي يتمتع بها الإنسان في اختيار تصرفاته و أعماله متوقفة على مشيئة الله أن يكرمه و يمتعه بها . و لما شاء الله أن يمتع عباده بهذه النعمة كانت هي المزية الكبرى التي امتازواا بها عن سائر الحيوانات الأخرى . و غني عن البيان أن الله إن شاء سلب عن عباده هذه المكرمة كما يسلبها فعلا عن أناس حاق بهم غضب الله عز و جل ....


..... أما الإنسان الذي ركل فطرة البحث عن الحق و الرغبة في الركون إليه بقدمه و استسلم لأمواج التربية الجانحة و الضلالات الفكرية الباطلة ثم آثر الانقياد لكبرياء نفسه على الاستجابة لقرار عقله ثم أصر إصراره على أن يستمر على هذا النهج معرضا عن التذكرة و الحوار مستكبرا عليهما آنا و ساخرا بهما و بأصحابهما آنا آخر . فهل من الظلم له أن يطبع الله على قلبه بعد طول تنبيه و تحذير و إنذار كما قد قرر في الآيات التي سبق إيرادها مما يتضمن هذا القانون الرباني ؟
وعن هؤلاء العتاة و المستكبرين يقول الله تعالى وهو يصف جانبا من استكبارهم على الحق و سخريتهم به : " و منهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم : ماذا قال آنفا * أولئك الذين طبع الله على قلوبهم و اتبعوا أهواءهم " سورة محمد 16
( * تعليق من الكاتب : أي قالوا ذلك استهزاء و يأتي بعد هذه الآية مباشرة قوله تعالى " و الذين اهتدوا زادهم هدى و آتاهم تقواهم " فانظر إلى دقة المقابلة لتدرك دقة القانون الإلهي )

أجل أعود فأسأل : هل منن الظلم أن يعاقب الله هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بهذا العتو و الاستكبار فيطبع على قلوبهم و يستلب منها قابلية الهداية نتيجة لما حكموا به على أنفسهم من الظلم لها و الإساءة إليها ؟

لقد كان الإنسان خلال مرحلة طويلة من حياته قادرا على أن يتحرر من كبره و عصبيته و عناده و أن يختار لنفسه الانقياد لقرار عقله إذ لم يكن العقاب الرباني العاجل قد حل بعد , و لكنه أصر .. ثم أصر .. ثم أصر .. فلما ثابر على هذه الحال و أصر إصراره نزل به عقاب الله و حكمه فقطع روافد الهداية عن عقله و طبع على قلبه و غلفه بالران فلا العقل يعي و لا القلب يرق و يتأثر . و كأن الله يقول له : ما حاجتك إلى هاتين النعمتين و أنت لا تستعملهما إلا لحظوظ نفسك و إشباع كبريائك . فها أنا بقضاء عادل مني أحول بينك وبينهما فلن ترقى بهما بعد اليوم إلى سدة الهداية و الرشد و هذا معنى قوله عز وجل " واعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه " أي عندما يشاء عز وجل وو إنما تسير مشيئته طبق هذا القانون الذي ألزم به ذاته .

وأليك هذه الحادثة التي تبرز جانبا عمليا واضحا من هذه السنة الإلهية التي لا يلحقها خلف .
أستاذ جامعي ذو ثقافة واسعة كان دأبه التباهي بانحلاله و ابتعاده عن ضوابط الدين و قيمه . ولم يكن يقابل تذكرة الناصحين و المذكرين له إلا بالتعالي و السخريةة .. توفي قريب لصديق له فدخل داره معزيا مع زميل له . وما كاد يجلس مع الجالسين في قاعة العزاء و تطرق سمعه آيات من كتاب الله تعالى يتلوها القارئ حتى همس في أذن زميله قائلا: قم .. قم .. فإن هذا الكلام الذي أسمعه يكاد يغير لي فكري .. و هب فقام منصرفا لا يلوي على شيء .

أليس هذا من الغرابة بمكان ؟ هل هناك من يعادي عقله فيفر من نصائحه و أحكامه ؟
أجل هناك من يعادي عقله في مجال الهداية و اتباع سبيل الرشد و هم أولئك الذين حاق بهم مقت الله و أنزل بهم عقابه العاجل فضرب بينهم و بين عقولهم بحاجز و أفقد سلطانها على نفوسهم فكانوا مظهرا دقيقا لقوله عز و جل : " إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم وقرا وو إن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذن أبدا " الكهف 57 . " و لقوله عز و جل " و لاتطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان أمره فرطا " الهف 28. و لقوله تعالى " و عرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عنن ذكري و كانوا لايستطيعون سمعا " الكهف 100-101 .