بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين


دعوى تفضيل المسيح - عليه السلام - على محمد صلى الله عليه وسلم (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن المسيح - عليه السلام - أفضل من محمد - صلى الله عليه وسلم -. ويستدلون على هذا بما يزعمونه من أن عيسى - عليه السلام - لم يخطئ قط، بينما أخطأ محمد - صلى الله عليه وسلم - في غير ما موضع؛ فعاتبه ربه في القرآن, كما يزعمون أن القرآن فضل عيسى - عليه السلام - على محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) (البقرة: ٢٥٣), وقوله تعالى عن المسيح: (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) (النساء: ١٧١)، بينما أكد القرآن أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - بشر، وأمره أن يخبر بهذه الحقيقة كل الناس، فقال: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) (فصلت: ٦)، وقد قال الله - سبحانه وتعالى - عن المسيح عليه السلامـ: (وإنه لعلم للساعة) (الزخرف: ٦١)، أما عن محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله) (الأحزاب: ٦٣), ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتاج إلى شق صدره ليطهر قلبه من الذنوب والخطايا، بينما ولد المسيح - عليه السلام - طاهرا زكيا, ويدعون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بسفك الدماء، بينما حرم المسيح - عليه السلام - قتال الأعداء، وتوعد كل مسيحي يقاتل بالسلاح أن يكون جزاؤه جهنم.
هادفين من وراء ذلك إلى التشكيك في نبوته - صلى الله عليه وسلم - وفي وصفه بسيد المرسلين؛ رغبة منهم في تفضيل غيره من الأنبياء عليه؛ إيذانا لإخراجه من جملتهم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) دعوة الأنبياء والرسل الكرام دعوة واحدة تقوم على إفراد الله تعالى بالوحدانية المطلقة، فلا فرق في الإسلام بين نبي وآخر، ما دامت دعوتهم واحدة، فهم جميعا بشر فضلهم الله على غيرهم واصطفاهم بالرسالة والنبوة.
2) إن العتاب الوارد في القرآن الكريم للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على صدور الذنب أو الخطأ منه - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو كرامة له - صلى الله عليه وسلم ـ, ودليل على قربه من الله عز وجل.
3) الآية التي يستدلون بها على أفضلية عيسى - عليه السلام - هي في حقيقتها تؤكد أفضلية النبي - صلى الله عليه وسلم - على غيره من الأنبياء الآخرين.
4) علم الساعة غيب اختص الله به نفسه، فلم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا.
5) كان لشق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم عظيمة، اختص الله بها نبيه دون غيره من الأنبياء.
6) النبي - صلى الله عليه وسلم - هو نبي الرحمة ونبي الملحمة، وقد شرع الجهاد دفاعا عن الحق، وليس للعدوان، كما أنه ليس صحيحا أن المسيح - عليه السلام - قد حرم القتال والحرب، بل دعا إليهما في أكثر من موقف، والشواهد من كتب أهل الكتاب على ذلك كثيرة.
التفصيل:
أولا. دعوة الأنبياء والرسل دعوة واحدة تقوم على إفراد الله تعالى بالوحدانية المطلقة:
إن الإسلام دين التوحيد الخالص، ولهذا فإن المسلم يعترف بصحة كل ما ورد عن أهل الكتاب من قول، أو حديث يؤكد توحيد الله ويدعو إليه، ومن أمثلة ذلك ما نجده في الأسفار, مصدقا لما يقرره القرآن في هذا الشأن:
· ففي الوصية الأولى لموسى - عليه السلام - ولبني إسرائيل: "أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إلهك إله غيور". (الخروج 20: 2 - 5).
· وفي الوحي إلى إشعياء: "قبلي لم يصور إله وبعدي لا يكون، أنا أنا الرب وليس غيري مخلص". (إشعياء 43: 10، 11).
· وفي أقوال المسيح وتعاليمه ما يقرر ذلك: "وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته". (يوحنا 17: 3).
· وورد في إنجيل مرقس: "فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه أجابهم حسنا سأله: أي وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك.. هذه هي الوصية الأولى". (مرقس 12: 28 - 30).
وفي القرآن الكريم قال سبحانه وتعالى:(وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)) (الأنبياء), ويقول سبحانه وتعالى:(إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما (98)) (طه)، ويقول سبحانه وتعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (110))(الكهف)[1].
هكذا نجد أن دعوة الأنبياء جميعا هي التوحيد الخالص لله عز وجل، وهذا يدل على بشرية هؤلاء الأنبياء جميعا، وأن الله اصطفاهم بهذه الرسالات وجعلهم هداة للبشرية، فهم القدوة الصالحة، فلقد اقتضت رحمة الله وعدله أن يبعث رسله إلى الأمم بهذا التوحيد، وهذه العقيدة, قال تعالى: (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24)) (فاطر)، وقال سبحانه وتعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (النحل: ٣٦). فهذه الدعوة الواحدة تقتضي بشرية كل رسول من الرسل ما دام الإله واحدا لا شريك له.
ثم إن بشرية النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أكدها القرآن في أكثر من موضع, قال سبحانه وتعالى: (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (93))(الإسراء)، وقال سبحانه وتعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (94))(الإسراء). وقد أكد القرآن أيضا على بشرية جميع الأنبياء، ومنهم عيسى - عليه السلام -، يقول سبحانه وتعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد (117))(المائدة).
فهكذا وضح القرآن الكريم أن عيسى - عليه السلام - بشر، أرسله الله إلى بني إسرائيل ليصحح ما حرفوه في توراتهم, ويهديهم صراطا مستقيما.
إن المسلم يعلم يقينا أن المسيح - عليه السلام - جاء رسولا من الله إلى بني إسرائيل، وأنه كان نبيا من أفضل الأنبياء، وهو أولا وأخيرا عبد من عباد الله المكرمين، ولهذا يؤمن المسلم بكل قول في الأسفار يضع المسيح - عليه السلام - في موضعه الصحيح, ولا يتعداه بأن يجعله إلها أو ابن إله، ومن أمثلة ذلك:
· شهد المسيح أنه نبي، وذلك في قوله: "فقال لهم يسوع: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه، وبين أقربائه وفي بيته". (مرقس 6: 4).
· وحين أحيا الميت - الابن الوحيد لأمه الأرملة - هتف الجميع بأنه نبي عظيم، فعندما: "تقدم ولمس النعش، فوقف الحاملون، فقال: أيها الشاب، لك أقول: قم، فجلس الميت وابتدأ يتكلم، فدفعه إلى أمه، فأخذ الجميع خوف ومجدوا الله قائلين: قد قام فينا نبي عظيم، وافتقد الله شعبه". (لوقا 7: 14ـ 16).
ولقد شهد تلاميذ المسيح أنه عبد الله ورسوله ولا شيء أكثر من هذا، فها هو متى يقرر في إنجيله أن المسيح حين جاء صدقت فيه نبوءة إشعياء في الإصحاح 42، فقال: "فلما خرج الفريسيون تشاوروا عليه لكي يهلكوه، فعلم يسوع وانصرف من هناك. وتبعته جموع كثيرة فشفاهم جميعا. وأوصاهم أن لا يظهروه؛ لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل: هوذا فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي سرت به نفسي. أضع روحي عليه فيخبر الأمم بالحق. لا يخاصم ولا يصيح، ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ، حتى يخرج الحق إلى النصرة. وعلى اسمه يكون رجاء الأمم". (متى 12: 14 - 21)[2].
تلك هي العقيدة التي يعتقدها المسلم في أنبياء الله ورسله، وأنهم ليسوا أكثر من عباد مكرمين، وبهذا يتضح لنا أن الأنبياء ما هم إلا بشر اصطفاهم الله وكرمهم بالنبوة والرسالة؛ ليكونوا حجة على الناس في تبليغهم ما أمرهم الله - عز وجل - به: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما (165)) (النساء).
ثانيا. حقيقة العتاب الوارد في القرآن من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:
إن عتاب الأنبياء الوارد في القرآن الكريم هو في الظاهر عتاب، وفي الحقيقة إكرام لهم وقرب لله - عز وجل ـ, وتنبيه لغيرهم ممن ليس في درجتهم من البشر بمؤاخذتهم بذلك، ليستشعروا الحذر، ويلتزموا الشكر على النعم، والصبر على المحن، والتوبة عند الزلة. فلله تعالى أن يعاتب أنبياءه وأصفياءه، ويؤدبهم، ويطلبهم بالنقير والقطمير من غير أن يلحقهم في ذلك نقص من كمالهم، ولا غض من أقدارهم، حتى يتمحصوا لعبودية الله - عز وجل ـ؛ لأن غاية أقوال الأنبياء وأفعالهم التي وقع فيها العتاب من الله - عز وجل - لمن عاتبه منهم، أن تكون على فعل مباح، كان غيره من المباحات الأخرى أولى منه في حقهم.
ثم إن المباحات جائز وقوعها منهم، وليس فيها قدح في عصمتهم ومنزلتهم، فهم لا يأخذون من المباحات إلا الضرورات، مما يتقوون به على صلاح دينهم، وضرورة دنياهم، وما أخذ على هذه السبيل أصبح طاعة، وقربة، وعلى هذا فليس كل من أتى ما يلام عليه يقع لومه، فاللوم قد يكون عتابا، وقد يكون ذما، فإن صح وقوع لومه، كان من الله عتابا له لا ذما؛ إذ المعاتب مسرور والمذموم مدحور[3].
ثم إن العتاب فيما قيل أنه عوتب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنما كان على ما حكم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاجتهاد، والاجتهاد محتمل الخطأ، فكان تصحيح الخطأ في اجتهاده من الله - عز وجل - بتوجيهه - صلى الله عليه وسلم - إلى الأخذ بالصواب، فعاد الحكم بذلك إلى الوحي، ثم إنه ما من آية ظاهرها عتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا وهي واردة في مقام المنة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبيان عظيم فضله ومكانته عند ربه[4].
وخلاصة القول أن في هذا المقام أمورا ثلاثة:
1. أن خطأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من جنس الأخطاء المعروفة التي يتردى فيها كثير من ذوي النفوس الوضيعة، كمخالفة أمر من الأوامر الإلهية الصريحة، أو ارتكاب فعل من الأفعال القبيحة، إنما كان خطؤه - صلى الله عليه وسلم - في أمور ليس لديه فيها نص صريح، فأعمل نظره وأجال فكره، وبذل وسعه، ولكن رغم ذلك كله أخطأ.
2. أن الله - سبحانه وتعالى - لم يقر رسوله - صلى الله عليه وسلم - على خطأ أبدا؛ لأنه لو أقره عليه لكان إقرارا ضمنيا بمساواة الخطأ للصواب، والحق للباطل، ما دامت الأمة مأمورة من الله باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يقول ويفعل، ولكان في ذلك تلبيس على الناس, وتضليل لهم عن الحق الذي فرض الله عليهم اتباعه، وثبت أن العليم الخبير لا يقر القدوة العظمى على خطأ أبدا، بل لا بد أن يبين له وجه الصواب، ويكون مع هذا البيان لون من ألوان العتاب؛ لطيفا أو عنيفا، توجيها له وتكميلا، لا عقوبة وتنكيلا.
3. أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يرجع إلى الصواب الذي أرشده إليه مولاه دون أن يبدي غضاضة، ودون أن يكتم شيئا مما أوحي إليه من تسجيل الأخطاء عليه، وفي ذلك أنصع دليل على عصمته وأمانته، وعلى صدقه في كل ما يبلغ عن ربه، وعلى أن القرآن ليس من تأليفه، ولكنه تنزيل العزيز الرحيم[5].
وبهذا يتبين لنا أن العتاب الوارد في القرآن الكريم في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيه ذم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا إثبات ذنب له، ولكنه يدل على مدى قربه من الله تعالى ومنته عليه بأن وجهه التوجيه الصحيح.
ثالثا. الآية التي يستدلون بها على أفضلية عيسى - عليه السلام - هي في حقيقتها تثبت وتؤكد أفضلية النبي - صلى الله عليه وسلم - على غيره من الأنبياء والرسل:
يقول الله: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) (البقرة: ٢٥٣).
يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي في تفسيره: إن كل أعمال الحق - عز وجل - تصدر عن حكمة؛ لأنه سبحانه ليس له هوى ولا شهوة، فكلنا جميعا بالنسبة إليه سواء، إذن هو سبحانه حين يعطي مزية، أو يعطي خيرا، أو يعطي فضيلة، يكون القصد فيها إلى حكمة ما.
وحينما قال الحق:(وإنك لمن المرسلين (252)) (البقرة) جاء بعدها بالقول الكريم: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) (البقرة: 253), وأعطانا نماذج التفضيل فقال: (منهم من كلم الله) يأتي في الذهن مباشرة موسى - عليه السلام ـ, وإلا فالله - عز وجل - قد كلم الملائكة, وبعد ذلك يقول الحق:(ورفع بعضهم درجات)، ثم قال:(وآتينا عيسى ابن مريم البينات) إنه سبحانه قد حدد أولا موسى - عليه السلام - بالوصف الغالب فقال: (كلم الله)، وكذلك حدد سيدنا عيسى - عليه السلام - بأنه قد وهبه الآيات البينات، وبين موسى - عليه السلام -، وعيسى - عليه السلام - قال الحق: (ورفع بعضهم درجات)، والخطاب في الآيات لمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولم يصرح القرآن باسم محمد, من باب إخفاء المعلوم؛ لأنه لا يستحق هذه المكانة سوى رجل واحد, ولن يكون غير محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد جعله الله تعالى في الوسط بين موسى وعيسى؛ لينبه على فضله عليهما, فإن واسطة العقد هي أفضل شيء فيهما وهذا المفهوم شائع في لغة العرب, ومن ذلك قول الشاعر:
توخى[6] حمام الموت أوسط صبيتي

فلله كيف اختار واسطة العقد
وإذا أردنا أن نعرف مناطات التفضيل، فإننا نجد رسولا يرسله الله إلى قريته مثل سيدنا لوط مثلا، وهناك رسول محدود الرسالة أو عمر رسالته محدود، ولكن هناك رسول واحد قيل له: أنت مرسل للإنس والجن كلهم بلا حدود في المكان، إلى أن تقوم الساعة، إنه محمد صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان التفضيل هو مجال العمل، فهو لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإذا نظرنا إلى المعجزات التي أيد الله بها رسله؛ ليثبتوا للناس صدق بلاغهم عن ربهم، نجد أن كل المعجزات، قد جاءت معجزات كونية، أي معجزات مادية حسية, الذي يراها يؤمن بها، فالذي رأى عصا موسى - عليه السلام - وهي تضرب البحر فانفلق، هذه معجزة مادية آمن بها قوم موسى، والذي رأى عيسى - عليه السلام - يبرئ الأكمه والأبرص، فقد شهد المعجزة المادية وآمن بها، ولكن هل لهذه المعجزات الآن وجود غير الخبر عنها؟ لا ليس لها وجود, ولا يؤمن بمثل هذه المعجزات إلا من يؤمن بصدق الخبر.
إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - حينما يشاء الله أن يؤيده بمعجزة، لا يأتي له بمعجزة من جنس المحسوسات التي تحدث مرة واحدة وتنتهي - رغم أنه كانت له معجزات حسية كثيرة، إنه سبحانه قد جعل رسالته إلى أن تقوم الساعة، فرسالته غير محدودة، ولا بد أن تكون معجزته غير محسوسة وإنما تكون معقولة؛ لأن العقل هو القدر المشترك عند الجميع، لذلك كانت معجزته القرآن، ويستطيع كل واحد الآن أن يقول: محمد رسول الله، وتلك معجزته.
إن معجزة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - هي واقع محسوس، وفي مناط التطبيق للمنهج نجد أن الرسل ما جاءوا ليشرعوا، إنما كانوا يبلغون الأحكام عن الله، وليس لهم أن يشرعوا، أما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو الرسول الوحيد الذي قال الله عنه:(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (الحشر: ٧). وقد اختصه الله تعالى بالتشريع، أليست هذه مزية؟ وأيضا تفضيل من الله سبحانه وتعالى.
إذن حين يقول الله سبحانه وتعالى: (ورفع بعضهم درجات), فهذا لا ينطبق إلا على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل من التصريح بالاسم[7].
وقد روي عن جابر - رضي الله عنه ـقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» [8].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه ـقال: قال - صلى الله عليه وسلم -: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع»[9].
فمحمد - صلى الله عليه وسلم - لا يفخر بذلك، إنما يتحدث عن نعم الله التي أعطاها له وأكرمه بها لقوله سبحانه وتعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث (11)) (الضحى). فهو سيد المتواضعين وإمام المتقين، فقد شرح الله صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، فلن تقبل "لا إله إلا الله" إلا مقرونا بها "محمد رسول الله"، ولا يصح الإيمان بالله مع الكفر بمحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالإيمان مقترن بالتصديق بالله وأن محمدا رسول الله.
لذا فقد أخذ الله ميثاق جميع الأنبياء والرسل إن أدركوا محمدا أن يؤمنوا به وينصروه، قال سبحانه وتعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (81)) (آل عمران).
وقد خصه الله دون غيره بست لم يعطها أحد من الأنبياء قبله، ففي الحديث: عن أبي هريرة - رضي الله عنه ـأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» [10].
ففي هذا الحديث يخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن الله فضله على غيره بست، أوتي جوامع الكلم، وذلك بأن يجمع في القول الوجيز المعاني الكثيرة, ونصر بالرعب، وذلك بما يلقيه الله في قلوب أعدائه من الخوف من رسوله وأتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم ـ, وأحلت له الغنائم، وكانت غنائم من قبلنا من الرسل وأتباعهم تجمع، ثم تنزل نار من السماء تحرقها, وجعلت له ولأمته الأرض مسجدا وطهورا، فحيثما أدركت رجلا من هذه الأمة الصلاة، فبإمكانه أن يتوضأ، فإن لم يجد يتيمم، ثم يصلي في مسجد مقام، أو في منزل في الصحراء, وأرسل إلى الناس كافة عربهم وعجمهم أبيضهم وأصفرهم وأحمرهم، من كان في وقت بعثته ومن يأتي من بعده حتى تقوم الساعة: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)(الأعراف: ١٥٨), وأرسله إلى الجن كما أرسله إلى الإنس، وقد رجع وفد الجن بعد استماع القرآن، والإيمان بما نزل من الحق، داعين قومهم إلى الإيمان: (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم (31) ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين (32))(الأحقاف), والفضيلة السادسة أنه خاتم الأنبياء فلا نبي بعده: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) (الأحزاب: ٤٠). وإذا كان رسولنا خاتم الأنبياء، فهو خاتم المرسلين من باب أولى، ذلك أن كل رسول هو نبي لا شك في ذلك، فإذا كانت النبوة بعد نبينا ممنوعة مقطوعة، فالرسالة ممنوعة أيضا؛ لأن الرسول لا بد أن يكون نبيا.
ومعنى كونه خاتم الأنبياء والمرسلين أنه لا يبعث رسول من بعده يغير شرعه، ويبطل شيئا من دينه، أما نزول عيسى - عليه السلام - آخر الزمان، فهو حق - كما أخبر به المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولكنه لا ينزل ليحكم بشريعة التوراة أو الإنجيل، بل يحكم بالقرآن، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويؤذن بالصلاة[11].
وبهذا يتبين لنا أن الآية التي يستشهدون بها على أفضلية عيسى - عليه السلام - على محمد - صلى الله عليه وسلم -، هي في حقيقتها تثبت أفضلية النبي - صلى الله عليه وسلم - على سائر الأنبياء والناس كافة.



(*) الإسلام في تصورات الغرب، د. محمود حمدي زقزوق مكتبة وهبة، مصر، 1407هـ/ 1987م.
[1]. الإسلام والأديان الأخرى: نقاط الاتفاق والاختلاف، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1419هـ/ 1998م، ص27، 28 بتصرف يسير.
[2]. الإسلام والأديان الأخرى: نقاط الاتفاق والاختلاف، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1419هـ/ 1998م، ص35 بتصرف.
[3]. المدحور: المطرود.
[4]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد الشربيني، مطابع دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص168، 169 بتصرف.
[5]. مناهل العرفان في علوم القرآن، د. محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ/ 1996م، ج2، ص313 بتصرف يسير.
[6]. توخى: قصد وتعمد.
[7]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج2، ص1071: 1073 بتصرف.
[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، أوائل كتاب التيمم (328)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، أوائل كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1191).
[9]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا على جميع الخلائق (6079).
[10]. أخرجه مسلم في صحيحه، أوائل كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1195).
[11]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص217: 219 بتصرف يسير.

يُتبع