أخلاقيات تلزم الداعية ليكون شخصية محبوبة:
﴿قْلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾(31) }سورة آل عمران{
هذا ولا شك هو الطريق الذي يقود الداعية فيه نفسه؛ ليجعلها محبوبة عند إخوانه خاصة، وعند الناس عامة، وهذا الطريق هو طريق القيم والأخلاق التي منها: التسامح.. المحبة في الله.. صلة الرحم.. إفشاء السلام.. التواضع.. الإيثار.. إبرار القسم.. التبسم في الوجه.وسنتعرض للأخلاقيات الحميدة السابقة بشيء من التفصيل والتوضيح:
- التسامح:
قال تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾(22) }سورة النور{ وهذا الصفح الجميل؛ يرقق القلب المتعلق بالله حين يغفر الأخ لأخيه، ويسامحه على زلته وعثرته. وفي هذا الموضوع قيل: ( إن الإسلام يجعل العفو والصفح سبيلاً من سبل التربية، التي تنظف القلب من الحقد، وتطهره من نزعات السوء، وبذلك يرتفع يقين المسلم، ويزيد إيمانه وكماله، فتعلو منزلته عند الله ويعظم ثوابه…إن المسلم يعلم أن الحلم والعفو منزلة من منازل الإيمان، وليس علامة ضعف ولا أمارة جبن، ولكنه أمارة اليقين بأن الله صاحب الحساب والجزاء، وبأن ثوابه الذي أعده للعافين عن الناس خير من لذة الانتصار والانتقام ) (شخصية المسلم كما يصورها القرآن ص137-138).
(غير أن تلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسمح وهو قادر على الإساءة والرد، وهذه القدرة ضرورية لتؤتي السماحة أثرها حتى لا يصور الإحسان في نفس المسيء ضعفًا، وإذا أحس أنه ضعف لم يحترمه، ولم يكن للحسنة أثرها إطلاقًا، وهذه السماحة قاصرة على حالات الإساءة الشخصية لا العدوان على العقيدة وفتنة المؤمنين عنها) (طريق الدعوة في ظلال القرآن ص193).
وهذا يحتاج إلى توازن والتوازن الذي يعرف متى تكون السماحة ؟ ومتى يكون الدفع بالحسنى؟ درجة عظيمة لا يلقاها كل إنسان، فهي في حاجة إلى الصبر، وهي كذلك حظ موهوب يتفضل الله به على عباده الذين يحاولون فيستحقون)
) طريق الدعوة في ظلال القرآن ص193(.
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(34)وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(35)﴾ }سورة فصلت{. وقال ابن المبارك: المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب العثرات. ( والداعي ينظر إلى العصاة نظرة إشفاق ورحمة، فهو يراهم كالواقفين على حافة وادٍ عميق سحيق في ليلة ظلماء، يخاف عليهم من السقوط، ويعمل جهده لتخليصهم من الهلاك، وهو في سبيل هذه الغاية يتجاوز عن تجاوزهم على حقه إن كانت معصيتهم في حقه، ولا يعيّرهم ولا يشمت بهم ولا يحتقرهم، ولكن له أن يستصغرهم لمعصيتهم وتجاوزهم حدود الشرع، وأن يغضب لهذا التجاوز، قالت عَائِشَة: وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-لِنَفْسِهِ مِنْ شَيْءٍ انْتُهِكَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةٌ هِيَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا ..رواه البخاري ومسلم وأبوداود ومالك وأحمد) ( أصول الدعوة ص394 ).
- المحبة في الله :
عَنْ أَنَس بْن مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ مَرَّ رَجُلٌ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا الرَّجُلَ قَالَ:[ هَلْ أَعْلَمْتَهُ ذَلِكَ] قَالَ لَا فَقَالَ:[ قُمْ فَأَعْلِمْهُ] قَالَ فَقَامَ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا هَذَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ فِي اللَّهِ قَالَ أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ... رواه أبوداود وأحمد، وصححه الألباني.
وهذه المحبة، يجب أن تكون في الله، ولله، فمن ورائها الرحمة، ومن حسن ثوابها: أن المتحابين في الله يكونون يوم القيامة على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء كما أخبر الرسول- صلى الله عليه وسلم- بذلك. وحين يخبر المحب أخاه بحبه إياه تكون صورة هذا المحب ناصعة في قلب أخيه دائمًا، وحين يتذكره، يردّد ويقول: اللهم اغفر لأخي. وحين يريد المحب أن يخبر أخاه بحبه إياه عليه أن يغتنم الوقت المناسب؛ ليكون وقع الكلمة أجمل، وأكثر تأثيراً. وعليه ألا يتصنع ما ليس من سجيته وعادته، ولا يتكلف ما لا يشعر به.
- صلة الرحم :
قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ(21)﴾ }سورة الرعد{ هذا وإن الله تبارك وتعالى يأمرنا أن نصل أرحامنا- وإن لم يصلوا، وإن قاطعوا وهجروا- لأن من وصل رحمه وصله الله، ويا للأجر العظيم الذين يناله المسلم حين يصل أرحامه! ويا للبركة التي تحل عليه في دنياه قبل آخرته! عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: [خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتْ الرَّحِمُ فَأَخَذَتْ بِحَقِْو الرَّحْمَنِ فَقَالَ لَهُ مَهْ قَالَتْ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ قَالَ أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالَتْ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَذَاكِ] قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ:﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ(22)﴾ }سورة محمد{ . رواه البخاري ومسلم وأحمد.
وإن لزيارة الرحم فوائد عديدة:منها التعرف على أحوال الأهل، فتتعرف بذلك على مشاكلهم، فتساعدهم في حلها، وتقف على ما بهم من ضيق وتوسع عليهم.
- السلام:
قال تعالى:﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً(61) ﴾ }سورة النور{. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:[ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ ]... رواه مسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد..
والسلام تحية من عند الله طيبة مباركة، تقود إلى الجنة التي أعدها لعباده المؤمنين الذين يحبون أن تكون كلماتهم ربانية وأفعالهم يحبها الرب جل وعلا؛ فهي عبادة في كل شيء: عبادة في الحركة، وعبادة في القول والكلمة. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيُّ الإسْلامِ خَيْرٌ قَالَ:[ تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ ]... رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه والنسائي وأحمد..
وحين يفشي المسلم السلام على من عرف ومن لم يعرف؛ فإنه يبذر بذور الخير والرحمة والسلام في قلوب الناس، ومن ثَمَّ فإن هذه البذور تتفتح عن ثمار المحبة والمودة.. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:[أيها النَّاسُ أَفْشُوا السَّلامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ] رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي وأحمد، وصححه الألباني.
- التواضع :
قال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ(88) ﴾ [سورة الحجر] والتواضع صفة طيبة يحبها الله لعباده الصالحين، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:[ مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ ] رواه مسلم والترمذي ومالك والدارمي وأحمد.
وتشرق روح قتادة، فيقول: من أعطى مالاً أو جمالاً أو ثيابًا أو علمًا، ثم لم يتواضع فيه؛ كان عليه وبالاً يوم القيامة ..والمسلم إذ يتواضع فلا يعني ذلك أن يحسبه الناس ذليلاً، ولكنه عزيز وكريم، وهذه العزة والكرامة جاءته لكونه يحمل كتاب الله بين أضلعه، ويترجم ذلك عمليًا بتعامله وسلوكه الطيب مع الناس، فيكون بذلك محبوبًا مرغوبًا عندهم.
- الإيثار وحبك لأخيك ما تحب لنفسك :
قال تعالى:﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9)﴾ [سورة الحشر].
فياله من خلق طيب أن يؤثر الأخ أخاه فيما يحب ويحتاج إليه، فانظر إلى وقع هذا الجرس الطيب في نفس من تتعامل معه بهذا السلوك، وإن الله تبارك وتعالى يبارك فيمن تخلّق بهذا الخلق الطيب، ويبشر صاحبه بأنه من المفلحين في الدنيا والآخرة..( ومحبة الخير لكل مسلم أمر واجب في الإسلام، ولازم لصدق الإيمان، وأثر للعقيدة السليمة النقية ) [السلوك الاجتماعي 1/143] ولذلك قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:[ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ]... رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي والدارمي وأحمد.
- إبرار القسم :
( يسن للمسلم ألا يوقع أخاه في الحنث بل يوافقه وينفذ له يمينه. وقال بعضهم: إن إبرار القسم واجب) [السلوك الاجتماعي 3/211-212]. (وعلى المسلم أن يكون هيّنًا ليّنًا مع أخيه بغير قسم، فإن أقسم أخوه؛ فلا يشق عليه في الحنث، ويوقعه في الحرج والتكفير عن اليمين، فإن ذلك مشقة عليه). والمثل العربي يقول: إذا عزّ أخوك فهن أي حينما يعزم عليك أخوك لأمر ما في نفسه؛ فألن الجانب له، وأعنه على إبرار قسمه، وكن أمامه هيّنًا ليّنًا.
- التبسّم في الوجه :
( إنها لا تستغرق أكثر من لمح البصر، ولكن ذكراها تبقى إلى آخر العمر، لن تجد أحداً من الغنى بحيث يستغني عنها..إنها تشيع السعادة في البيت، وتطيب الذكر في العمل، وهي التوقيع على ميثاق المحبة بين الأصدقاء) [كيف تكسب الأصدقاء ص73].
وهناك حديث يرويه لنا أبو ذر- رضي الله عنه- فيه ميزات وخصائص جميلة، حين يمارسها الداعية المسلم؛ تكون دعوة إلى محبته وتقديره واحترامه، منها: التبسم في الوجه، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:[ ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس ] قيل: يا رسول الله، ومن أين لنا صدقة ? فقال:[ إن أبواب الخير لكثيرة : التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتميط الأذى عن الطريق، وتسمع الأصم، وتهدي الأعمى، وتدل المستدل على حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة منك على نفسك ] رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي- مختصراً – وزاد :[ وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وإماطة الحجر والشوك والعظم عن طريق الناس صدقة، وهدايتك الرجل في أرض الضالة صدقة ] ( وإن لهذا الحديث لإيماءات شتى، يدق بعضها ويلطف حتى يصل إلى أعماق النفس، إلى قرار الوجدان، فيهزه هزا، ويوقع على أوتار القلوب لحنًا صافيًا، مشرقًا، جميلاً، يأخذ بالألباب) [قبسات من الرسول- صلى الله عليه وسلم- ص 115]. (والرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- يلفتنا في حديثه عنها، يلفتنا إلى هذه الحقيقة النفسية الواحدة التي تكمن وراء كل عمل من أعمال الخير؛ لنعرف أنه الخير في منبعه وإن تعددت صوره وزواياه.
ولكن الرسول- صلى الله عليه وسلم- لا يريدنا أن نعرف فحسب! فالمعرفة ينبغي أن تكون لغاية، وغاية الغايات في الأرض أن يكون الخير هو المسيطر على حياة البشرية؛ فالخير هو كلمة الله، وكلمة الله هي العليا، ومن هنا تلتقي السماء والأرض، والدنيا والآخرة في رصيد الإسلام. والرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- يريد أن يعودنا على الخير لا أن يعرفنا إياه فحسب) [قبسات من الرسول- صلى الله عليه وسلم- ص119].
ولنعلم أن الابتسامة تبعد الوحشة عن الناس، وتزيل الغربة عنهم، وتفتح القلوب من أجل صداقة جديدة، إن لم تكن معرفة عابرة لها في الذاكرة صورة طيبة، يرتاح لها عند رؤيتها، وتطيب نفسه في تذكرها.
المفضلات