الخوف من الرياء

التوحيد
الشرك ووسائله, شروط التوحيد

محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة

المسجد الحرام


ملخص الخطبة

1- الإخلاص من أهم الواجبات وهو شرط لقبول العمل 2- تحذير الشارع من عدم الوقوع في ضده وهو الرياء 3- كلام بعض السلف في هذا


الخطبة الأولى




أما بعد:

فاتقوا الله –عباد الله – واعلموا أن تقواه هي الزاد الذي لا يفنى، وهي الموصلة إلى الله، وهي التي تقي مصارع السوء في الدنيا والآخرة.

عباد الله: إن إخلاص العمل من أوجب الواجبات، ومن أبر الطاعات، وهو أساس لكل عمل صالح إذا خلا العمل من الإخلاص، فلا قيمة له ولا ثواب له في الدنيا والآخرة، بل إن عدم الإخلاص داخل في مسمى الشرك، بل هو محبط للعمل، كما جاء في الحديث القدسي: ((يقول الله – عز وجل - : من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه))[1]، ولقد حذر منه سبحانه في محكم كتابه، مخاطبا نبيه محمدا – - وهو خطاب لأمته: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين [الزمر:65-66].

وإن عدم الإخلاص في العمل هو الشرك الذي حذر الله منه، وحذر منه رسول الله – - وأخبر الله سبحانه وتعالى أنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.


وإن الشرك على نوعين: شرك أكبر مخرج من الملة، وهو أن يصرف العبد لغير الله نوعا من أنواع العبادة الواجبة لله وحده.

وهناك نوع آخر من الشرك، وهو الشرك الخفي الذي هو أخطر ما يكون على الأمة، وهو الرياء وإن كان قليله لا يخرج من الملة، ولكن ما أعظم خطره وما أخوفه على الصالحين، كما قال في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال))؟ قالوا: بلى، قال: ((الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه))[2]. إن هذا هو الرياء الذي خافه – - على أمته، بل خافه على الصالحين؛ لأنه – - خاطب به أصحابه، وقد قال الله عز وجل: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً [ الكهف:110]. فالعمل الصالح هو ما شرعه الله في كتابه ورسوله – - في سنته، ومن شرطه أن يكون خالصا لوجه الله الكريم، لا رياء فيه، ولا سمعة. ولما جاء رجل إلى عبادة بن الصامت – - فقال: أنبئني عما أسألك عنه، أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويصوم يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويتصدق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويحج يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، فقال له عبادة – رضي الله عنه -: ليس له شيء، إن الله تعالى يقول: أنا خير شريك فمن كان له معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه.

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة - - عن النبي – - يرويه عن ربه – عز وجل – أنه قال: ((أنا خير الشركاء فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا برئ منه، وهو للذي أشرك))[3].

وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد أن رسول الله – - قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء، يقول الله – عز وجل – لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم ترآؤن في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء))[4].

وروى أبو يعلى عن ابن مسعود – - قال: قال رسول الله – -: ((من أحسن الصلاة حين يراه الناس، وأساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه – عز وجل - ))[5].

عباد الله : إن الإخلاص سر عظيم يقذفه الله في قلوب من اصطفى من عباده، ليقودهم به إلى جلائل الأعمال، ويحببهم في أحسن الفعال. يبعث فيهم الهمم العالية، والعزيمة الصادقة، والإرادة القوية، ويربي فيهم روحا طيبة طاهرة، وضميرا سليما حيا، فهو الذي يبرئ العمل من العيوب، ويخلصه من المساوي والذنوب، وهو عماد الأعمال، وسر النجاح، فما نهضت أمة من الأمم إلا على أساس الإخلاص، الذي يملك قلوبها، فيوحد صفوفها، ويجمع كلمتها، ويكسبها سدادا في العمل وإحكاما. ويورثها نصرا على الأمم ونجاحا.

أما عدم الإخلاص والاتصاف بالرياء فهو سبب لحرمان أصحابه من النجاح العملي في أمور دينهم ودنياهم؛ لأنه مبني على الخداع والمراوغة، ومخالفة ظاهره لباطنه، فهو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب [النور:39].

نعم، إن الله يحاسب عباده يوم القيامة على حسب نياتهم وإخلاصهم في أعمالهم، فهو سبحانه الذي يعلم السر وأخفى، فقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة – - قال: قال رسول الله – -: ((إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد في سبيل الله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال جريء، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال هو عالم، وقرأت ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي به في النار. ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ فقال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار)) الحديث رواه الإمام مسلم[6].

وجاء في بعض الروايات أن النبي – - قال: ((يا أبا هريرة هؤلاء الثلاثة أول من تسعر بهم النار يوم القيامة)).

عباد الله: إن الموفق هو الذي يعمل العمل خالصا لوجه الله، لا لأجل الخلق ولا لأجل النفس، وإلا دخل عليه شيء من محبة الثناء أو تشوق إلى حظ من حظوظ الدنيا. إنه ينبغي للمؤمن أن يحرص على إخفاء أعماله الصالحة من النوافل؛ لأن الجزاء عند من يعلم السرائر لا إله إلا هو لكن إذا ترجحت مصلحة إظهار العمل على إخفائه لغرض صحيح، كأن يحصل الاقتداء به في الصدقات، أو الزكوات، ويبادر الناس إلى التأسي والاقتداء به، فقد قال الله – عز وجل -: إن تبدو الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم [البقرة:271].

وعن أنس – - عن رسول الله – - قال: ((من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، فارقها والله عنه راض)) رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين[7].

قال بعض السلف: لا يزال العبد بخير ما علم ما الذي يفسد عمله عليه فلا غنى للعبد عن معرفة ما أمرنا باتقائه من الرياء وغيره، لا سيما وقد وصف الرياء بالخفاء، ففي الحديث أنه أخفى من دبيب النمل، فما خفي لا يعرف إلا بشدة التفقد ونفاذ البصيرة بمعرفته حين يعرض، فبالخوف والحذر يتفقد العبد الرياء، وبمعرفته ببصيرته حين يعرض له، فيبتعد العبد عن التصنع للمخلوق، أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني، سوى التقرب إلى الله، وليتذكر وقوفه بين يدي الله يوم القيامة يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر [الطارق:9-10].

وليحذر المؤمن أن يتصف بصفة من صفات أهل النفاق، الذين ذكرهم الله – عز وجل – بقوله: إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يرآؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً [النساء:142].

أعاذنا الله وإياكم من الرياء والنفاق، ومن سيء الأعمال والأخلاق، ونفعني وإياكم بالذكر الحكيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، رقم 2985.

[2] رواه أحمد في مسنده 3/30، وابن ماجة في كتاب الزهد رقم (4204).

[3] رواه أحمد في مسنده :2/301.

[4] رواه أحمد في مسنده :5/428.

[5] رواه أبو يعلى في مسنده :9/54، برقم (151)من مسند عبد الله بن مسعود.

[6] رواه مسلم في صحيحه في كتاب الأمارة ، برقم (1095).

[7] رواه الحاكم في مستدركه : 2/332.