يحتج من يزعم عصمة أسفار العهد القديم وأناجيل الجديد وسلامتها من التحريف بسبع آيات، هي:
1. في سورة آل عمران: " قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(93) ".
2. في سورة النساء: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ.. (47) ".
3. في سورة المائدة خمس آيات: " وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(43)إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(44).. وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(47).. وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ(66).. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ.. (68) ".

ذاك الاحتجاج جوابه ذكره الإمامان ابن حزم وابن تيمية بالتفصيل:

أ) جواب الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى [في الفصل]:

- إقرارُنا بالتوراة والإنجيل، فنعم، وأي معنى لتمويهكم بهذا، ونحن لم ننكرهما قط بل نكفِّر من أنكرهما؟ إنما قلنا إن الله تعالى أنزل التوراة على موسى حقاً، وأنزل الزبور على داود حقاً، وأنزل الإنجيل على عيسى حقاً، وأنزل الصحف على إبراهيم وموسى عليهما السلام حقاً، وأنزل كتباً لم تُسمَّ لنا، على أنبياء لم يُسَموا لنا حقاً نؤمن بكل ذلك.. وبدَّل كفار النصارى الإنجيل كذلك فزادوا ونقصوا، وأبقى الله تعالى بعضها حجة عليهم كما شاء، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون‏. فدرسَ ما بدلوا من الكتب المذكورة.
- وأما قوله تعالى: " قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " [آل عمران: 93]. فنعم، إنما هو في كذب كذبوه ونسبوه إلى التوراة على جاري عادتهم زائد على الكذب الذي وضعه أسلافهم في توراتهم، فبكَّتهم في ذلك الكذب المحدث بإحضار التوراة إن كانوا صادقين فظهر كذبهم‏.
- وأما قوله تعالى: " إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.. " [المائدة: 44
].
فنعم، هذا حق على ظاهره كما هو، وقد قلنا إن الله تعالى أنزل التوراة، وحكم بها النبيون الذين أسلموا كموسى وهارون وداود وسليمان ومن كان بينهم من الأنبياء عليهم السلام، ومن كان في أزمانهم من الربانيين والأحبار الذين لم يكونوا أنبياء لكن حكاماً من قبل الأنبياء عليهم السلام قبل حدوث التبديل‏، هذا هو نصُّ قولنا، وليس في هذه الآية أنها لم تبدَّل بعد ذلك أصلاً، لا بنص ولا بدليل‏.
- وأما قوله تعالى: ".. وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ " [المائدة: 47]. فحق على ظاهره؛ لأن الله تعالى أنزل فيه الإيمان بمحمد ، واتباع دينه، فلا يكونون أبداً حاكمين بما أنزل الله تعالى فيه إلا باتباعهم دين محمد ، فإنما أمرهم الله تعالى بالحكم بما أنزل في الإنجيل الذي ينتمون إليه فهم أهله، ولم يأمرهم قط تعالى بالحكم بما سمي إنجيلاً وليس إنجيلاً، ولا أنزله الله تعالى ـ كما هو ـ قط. فالآية موافقة لقولنا، وليس فيها أن الإنجيل لم يبدل لا بنص ولا بدليل، إنما فيه إلزام النصارى الذين يسمون بأهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه، وهم على خلاف ذلك‏.
- وأما قوله تعالى: " وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ.." [المائدة: 66]، فحقٌّ كما ذكرناه قبل، ولا سبيل لهم إلى إقامة التوراة والإنجيل المنزلين بعد تبديلهما إلا بالإيمان بمحمد ، فيكونون حينئذ مقيمين للتوراة والإنجيل حقاً؛ لإيمانهم بالمنزل فيهما، وجَحْدِهم ما لم ينزل فيهما، وهذه هي إقامتهما حقاً‏.
- وأما قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ " [النساء: 47]. فنعم، هذا عمومٌ قام البرهان على أنه مخصوصٌ، وأنه تعالى إنما أراد: مصدقاً لما معكم من الحق، لا يمكن غير هذا؛ لأننا ـ بالضرورة ـ ندري أنَّ معهم حقاً وباطلاً، ولا يجوز تصديق الباطل أوالحكم به البتة، فصحَّ أنه إنما أنزله تعالى مصدقاً لما معهم من الحق.
- وأما قوله تعالى: " وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ " [المائدة: 43فإنما هو على الاستخفاف بهم والتوبيخ لهم، كقول القائل لآخر: أنا أعلم منك، ثم يأتيه ثانية فيسأله فيقول المسؤول: كيف تسأل وأنت أعلم مني؟
وقد قلنا إن الله تعالى أبقى في التوراة والإنجيل حقاً؛ ليكون حجة عليهم وزائداً في خزيهم، وبالله تعالى التوفيق، فبطُلَ تعلقهم بشيءٍ مما ذكرنا، والحمد لله رب العالمين.

ب) جواب الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى [في الجواب الصحيح]:
" ادَّعى النصارى أن محمدًا صدَّق بجميع ألفاظ الكتب التي عندهم. فجمهور المسلمين يمنعون هذا، ويقولون: إن بعض ألفاظها بُدِّل كما قد بُدِّل كثير من معانيها. ومن المسلمين من يقول: التبديل إنما وقع في معانيها لا في ألفاظها، وهذا القول يقرُّ به عامة اليهود والنصارى. وعلى القولين فلا حجة لهم في تصديق محمد لما هم عليه من الدين الباطل؛ فإن الكتب الإلهية التي بأيديهم لا تدل على صحة ما كفَّرهم به محمد وأمته، مثل: التثليث، والاتحاد، والحلول، وتغيير شريعة المسيح، وتكذيب رسالة محمد . فليس في الكتب التي بأيديهم ما يدل لا نصًا ولا ظاهرًا على الأمانة التي هي أصل دينهم، وما في ذلك من التثليث والاتحاد والحلول، ولا فيها ما يدل على أكثر شرائعهم: كالصلاة إلى الشرق، واستحلال المحرمات من الخنزير والميتة، ونحو ذلك..
والصحيح أن هذه التوراة والإنجيل التي بأيدي أهل الكتاب فيها ما هو حكم الله تعالى ـ وإن كان قد بُدل وغُير بعض ألفاظهما ـ كقوله تعالى: " يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا... وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ " [المائدة 41 43]. وهو أمر من الله أنزله على لسان محمد ، وأمر من مات قبل هذا الخطاب ممتنع، وإنما يكون الأمر أمرًا لمن آمن به من بعد خطاب الله لعباده بالأمر. فعُلم أنه أمر لمن كان موجوداً حينئذ أن يحكموا بما أنزل الله في الإنجيل. والله أنزل في الإنجيل الأمر باتباع محمد كما أمر به في التوراة، فليحكموا بما أنزل الله في الإنجيل مما لم ينسخه محمد ، كما أمر أهل التوراة أن يحكموا بما أنزله مما لم ينسخه المسيح، وما نسخه فقد أمروا فيها باتباع المسيح، وقد أمروا في الإنجيل باتباع محمد ، فمن حكم من أهل الكتاب بعد مبعث محمد بما أنزل الله في التوراة والإنجيل لم يحكم بما يخالف حكم محمد ؛ إذ كانوا مأمورين في التوراة والإنجيل باتباع محمد كما قال تعالى: " الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " [ الأعراف: 157]. وقال تعالى: " وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ " [المائدة: 48فجعل القرآن مهيمناً. والمهيمن الشاهد الحاكم المؤتمن، فهو يحكم بما فيها مما لم ينسخه الله، ويشهد بتصديق ما فيها مما لم يُبدل.. ".

ومن العدل محاكمة النصارى ـ مثيري الشبهة ـ بذات المقياس الذي يحاكمون به اليهود، فالنصارى واليهود يؤمنون بالعهد القديم، لكن النصارى يرون في اليهود كفاراً؛ لأنهم حرَّفوا معنى العهد القديم، ولم يؤمنوا بالكتاب التالي (الجديد).
قال ابن تيمية: " فأما تحريف معاني الكتب بالتفسير والتأويل وتبديل أحكامها، فجميع المسلمين واليهود والنصارى يشهدون عليهم بتحريفها وتبديلها، كما يشهدون هم والمسلمون على اليهود بتحريف كثير من معاني التوراة وتبديل أحكامها، وإن كانوا هم واليهود يقولون: إن التوراة لم تحرف ألفاظها. وحينئذ فلا ينفعهم بقاء حروف الكتب عندهم مع تحريف معانيها، إلا كما ينفع اليهود بقاء حروف التوراة والنبوات عندهم مع تحريف معانيها. بل جميع النبوات التي يقرون بها هي عند اليهود، وهم مع اليهود ينفون عنها التهم والتبديل لألفاظها، مع أن اليهود عندهم من أعظم الخلق كفراً واستحقاقاً لعذاب الله في الدنيا والآخرة.. فعُلم أن بقاء حروف الكتاب مع الإعراض عن اتباع معانيها وتحريفها لا يوجب إيمان أصحابها، ولا يمنع كفرهم ".

وبالمقياس ذاته: " كفر النصارى من جنس كفر اليهود، فإن اليهود بدلوا معاني الكتاب الأول وكذبوا بالكتاب الثاني وهو الإنجيل. وكذلك النصارى: بدلوا معاني الكتاب الأول: الإنجيل، وكذبوا بالكتاب الثاني وهو: القرآن ".