بسم اللـــــه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين , نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين , أما بعد :
فإن الله تعالى اصطفى من الأزمنة أوقاتا, وشرفها بما أودع فيها من الفضائل والبركات , وبما خصها به من الخيرات ومضاعفة الحسنات ,ومن هذه الأزمنة المباركات , شهر شعبان الذي نصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فضله وفضل الصيام فيه في جملة من الأحاديث أسوق طرفا منها , ليتبين للمسلم ما يسنّ له فعله في هذا الشهر , وما يمنع ويحظر عليه مما أحدثه الناس .
- اعلم أولا : أن شعبان سمّته العرب بذالك لتشعبهم فيه في الغارات بعد أن يخرج شهر رجب الحرام , وقيل : لتشعبهم في طلب المياه , والأول أولى .
وقد ورد في فضل صيامه أحاديث كثيرة منها : ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها ﴿
يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان وما رايته أكثر صياما منه في شعبان ﴾.
- وفيهما عنها رضي الله عنها أنها قالت: ﴿
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرا أكثر من شعبان وكان يصوم شعبان كله, وكان يقول : خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يملّ حتى تملوا ﴾ .
- وفي رواية لمسلم ﴿ ...
كان يصوم شعبان كله , كان يصوم شعبان الا قليلا ... ﴾ .
والجزء الثاني من رواية مسلم تفسير للأول وبيان أن قولها﴿كلّه﴾ أي: غالبه, وعليه يحمل حديث أم سلمة عند أبي داود وغيره ﴿ أنه كان لا يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان يصله برمضان﴾, وقيل ﴿ كان يصوم كله في وقت ويصوم بعضه في سنة أخرى﴾ , وقيل : ﴿كان يصوم تارة من أوله وتارة من آخره وتارة بينهما وما يخلي منه شيئا بلا صيام لكن في سنين﴾ وقيل غير ذالك .
واختلف العلماء في الحكمة من إكثاره صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان , والأولى في ذالك ما ورد في حديث أسامة ابن زيد رضي الله عنه عند النسائي وأبي داود ﴿
قال: قلت يا رسول الله لم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان , قال: ذالك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال الى رب العالمين فأحبّ أن يُرفع عملي وأنا صائم ﴾ . [ الصحيحة 1898 ]
- وأما الأحاديث التي وردت في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين , وكذا ما جاء من النهي عن صوم نصف شعبان الثاني فإن الجمع بينهما ظاهر , بأن يحمل النهي على من لم يدخل تلك الأيام في صيام اعتاده .
- ومما يدل على فضل الصيام في شهر شعبان ما رواه الشيخان من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما , أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل ﴿
هل صمت من سُرَرِ هذا الشهر شيئا ؟ ﴾ - يعني شعبان - قال لا فقال له: ﴿
إذا أفطرت رمضان فصم يومين مكانه ﴾.
وقوله ( سرر ) بفتح السين وكسرها , و حكى القاضي ضمها , قل ( وهو جمع سرّة ) , ويقال أيضا : سَرار وسِرار , وهو من الاستسرار , قال الأوزاعي وأبو عبيد وجمهور العلماء من أهل اللغة – والحديث غريب – المراد بالسرر آخر الشهر سميت بذالك لاستسرار القمر فيها , وهي لليلة ثمان وعشرين , وتسع وعشرين , وثلاثين .
ونقل أبو داود عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز أن سرره ك أوله , ونقل الخطابي عن الأوزاعي كالجمهور .
وقيل : السرر وسط الشهر, ووجهه بأن السرر جمع سرة , و سرة الشيء وسطه ورجحه النووي في شرح مسلم بان مسلما افرد الرواية التي فيها سرة هذا الشهر عن بقية الروايات , وأردف بها الروايات التي فيها الحض على صيام البيض وهي وسط الشهر , وقال ابن السكيت :سرار الارض أكرمها وأوسطها و سرار كل شيء وسطه وأفضله .
وعلى قول الجمهور يكون هذا الحديث مخالفا لأحاديث النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين , فيجاب عن ذالك بما تقدم , وهو أن الصوم المعتاد لا يدخل في النهي , وإنما ينهى عن غير المعتاد .
وفي الحديث دليل على أن من ترك الصيام في شعبان أن السنّة في حقه صيام يومين بعد رمضان , وفيه دليل على أن النوافل تقضى , وأن صيام يوم في شعبان يعدل يومين في غيره .
- فشهر شعبان من الأشهر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصها بالصيام ويحث المسلمين على ذالك أداءً وقضاءً, إلا أن عشاق البدع لا يهنأ لهم عيش إلا إذا خلطوا السنة بالبدعة , فلم يسلم شهر شعبان وقبله شهر رجب من بدعهم , فأحدثوا في شعبان الاحتفال بليلة النصف منه , وتخصيصها بأنواع من الصلاة والذكر, ويزعمون أنها الليلة تقدر فيها الآجال والأرزاق وما يجري في السّنَة من الأحداث ويظنون أنها هي المقصودة بقوله تعالى "
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ"(الدخان 4) وهذا باطل, إذ المراد بالليلة المذكورة في الآية : ليلة القدر كما قال تعالى: "
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ"(القدر1) وهي في رمضان لا شعبان, لأنه سبحانه قال في الآية الأخرى: "
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ"(البقرة 185) , فالقران انزل ليلة القدر وليلة القدر في رمضان بلا خلاف .
وقال ابن كثير في تفسير سورة الدخان ( ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان - كما روي عن عكرمة - فقد أبعد النُّجعة , فإن نص القران أنها في رمضان ,والحديث الذي رواه عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن الزهري أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الاخنس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( تقطع الآجال من شعبان الى شعبان , حتى إن الرجل لينكح ويولد له , وقد أخرج اسمه في الموتى ) فهو حديث مرسل ومثله لا يعارض به النصوص.
وقال ابو بكر محمد ابن الوليد الطرطوشي في كتابه [ الحوادث والبدع ] ( وروى وضاح على زيد بن اسلم قال: ( ما أدركنا أحدا من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون الى النصف من شعبان ولا يروى لها فضلا عن سواها).
وقال ابن رجب في كتابه [ لطائف المعارف ] ( وأنكر ذالك - يعني تخصيص ليلة النصف من شعبان - أكثر علماء الحجاز منهم عطاء وابن أبي حليكة ونقله عبد الرحمن ابن زيد بن اسلم عن فقهاء أهل المدينة .وهو قول أصحاب مالك وغيره وقالوا ذالك كله بدعة ) وقال أيضا ( قيام ليلة النصف من شعبان لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ).
وقال الحافظ العراقي: ( حديث صلاة النصف من شعبان باطل ) وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات ..
وقال النووي في فتاويه: ( صلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان ).
وقال الزبيدي في [ إتحاف السادة المتقين ]: ( بدعتان موضوعتان منكرتان قبيحتان ولا تغتر بذكرهما في " كتاب الفنون " و " الإحياء " ).
- فالواجب على المسلم أن يلتزم في سيره على المنهج المستقيم , وأن يجتهد في هذا الشهر الكريم بما يقربه الى الله تعالى , وذالك إنما يكون باتباع ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم لا بالبدع والمخالفات , فمن كان من عادته قيام الليل في سائر السنة فلا حرج عليه إذا قام تلك الليلة , وكذالك من كان معتادا على الصيام أيام البيض من كل شهر فلا حرج عليه أن يصوم تلك الأيام من شعبان كعادته في سائر الشهر ,وكذالك من صام غالب الشهر اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وإنما يقع الوصف بالبدعة والتحذير من ذالك في تخصيصها يوم أو ليلة بعبادة دون سائر الأيام بغير دليل , لان التخصيص يدل على الأفضلية , وهي لا تثبت إلا بدليل من الشارع , فلا تتبعوا أهل الزيغ الذين يتبعون المتشابه ويعرضون عن المحكم و وينشطون لإحياء البدع وإماتة السنن .
منقول....
المفضلات