حرصاً على مصالح الناس وأساليب حياتهم المستقرة
الإسلام يقرّ الأعراف المتفقة مع مبادئه




الجمعة ,18/02/2011


مظاهر التيسير والرحمة في شريعة الإسلام كثيرة ومتنوعة وتؤكد عظمة هذه الشريعة واتجاهها إلى التيسير على الناس بكل الوسائل، مراعاة لأحوالهم وترغيباً لهم في الالتزام بأحكام الله وشريعة السماء العادلة .

ومن بين مظاهر التيسير التي تمسكت بها الشريعة الإسلامية “مراعاة الأعراف السائدة بين الناس” خاصة عندما لا توجد نصوص شرعية ملزمة بأمور معينة . وهذه مساحة واسعة في الشريعة الإسلامية تؤكد حرصها على الارتباط بحياة الناس عن طريق الاعتراف بما اعتادوه من سلوكيات مقبولة وتصرفات معتدلة، وما تراضوه في شؤون حياتهم .

يقول الفقيه الدكتور حامد أبوطالب أستاذ الشريعة الإسلامية وعضو مجمع البحوث بالأزهر: الشريعة الإسلامية ترتبط دائما بحياة الناس وأحكامها ليست صادمة لهم ولا تشكل انقلابا في منظومتهم الاجتماعية، بل هي تحرص في كل الأحكام الثابتة والمتغيرة على ربط الناس بها وجذبهم للاحتكام إليها راضين قانعين راغبين طامحين إلى حل مشكلاتهم .

مراعاة أحوال الناس

ويضيف: مراعاة العرف السائد بين الناس أحد الأمور التي راعتها الشريعة للتيسير عليهم ومراعاة أحوالهم، والفقهاء يلجأون إلى العرف عندما تختفي النصوص الشرعية الملزمة بأمر معين .

والعرف في منظور علماء الشريعة هو: ما اعتاده الناس وتراضوه في شؤون حياتهم وأنسوا به واطمأنوا إليه وأصبح أمراً معروفاً بينهم، سواء أكان عرفاً قولياً أم عملياً، عاماً أم خاصاً .

ويوضح الدكتور أبوطالب هدف شريعة الإسلام من الاعتداد ببعض الأعراف السائدة في حياة الناس فيقول: عندما جاء الإسلام كانت للعرب أعراف مختلفة، وبما أن هذا الدين ليس ديناً صدامياً يتجاهل مشاعر الناس وأعرافهم وما ارتضوه من أساليب حياة مستقرة، فقد أقر الإسلام من هذه الأعراف السائدة في حياة العرب ما يتفق مع مقاصده الشرعية وما يتلاءم مع مبادئه، ولا يتصادم مع تشريعاته العادلة التي تستهدف مصلحة الإنسان . وفي المقابل رفض كل عرف سائد يضر بالإنسان أو ينشر الظلم بين الناس، أو يهدر حقوق الإنسان . كما قامت الشريعة الإسلامية بأمر آخر مهم للغاية وهو إجراء تصحيحات وتعديلات على بعض الأعراف حتى تتوافق مع مبادئه وأخلاقياته . أي أنه قام بعملية “تهذيب” واسعة لأعراف سائدة ووجه كثيرا منها وجهة أخلاقية .

الإنفاق على الزوجة

ويضرب أستاذ الشريعة الإسلامية بالأزهر بعض الأمثلة على الأعراف التي أقرتها الشريعة الإسلامية وأخذت بها في أحكامها الشرعية ويقول: الدارس للشريعة الإسلامية والقارئ المستوعب لها يدرك أنها تركت أشياء كثيرة لم تحددها تحديداً جامداً صارما”، بل تركتها للعرف الصالح السائد بين الناس ليحكم فيها ويحدد تفاصيلها . فمثلاً في قول الله تعالى: “وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف” تشريع إسلامي يلزم الأب بالإنفاق على زوجته فهذه مسؤوليته هو حتى ولو كانت تملك مالاً وذات ثراء . لكن الإسلام وهو دين عادل ترك تفاصيل هذا الإنفاق للعرف السائد ولم يحدده وهذا لمصلحة الإنسان، وهي هنا الزوجة، فنفقة زوجة العامل غير نفقة زوجة الأمير، ونفقة زوجة الرجل الثري غير نفقة زوجة الفقير أو محدود الدخل، وهنا يكون الأخذ بالعرف محققا للمصلحة العامة ومؤكدا لمصداقية الشريعة الإسلامية وتحيزها لمصلحة الإنسان وربط كل أحكامها بهذه المصلحة .

متعة المطلقة والمهر

وأيضاً في قوله عز وجل “وللمطلقات متاع بالمعروف” إعمال للعرف السائد بين الناس في تحديد القيمة العادلة لنفقة متعة المطلقة، فمطلقة رجل محدود الدخل قد تكتفي بنفقة متعة متواضعة رفقا بحاله ولكن مطلقة ملياردير تريد عدة ملايين لكي ترضى ولذلك لم يحدد الإسلام قدرا معينا لنفقة متعة المطلقة .

كذلك في أمر الزواج ألزم الإسلام الزوج بتقديم مهر لزوجته ليعلن على الناس جميعا رغبته فيها وحرصه عليها، وحث الإسلام على التيسير في المهر وعدم المغالاة . . إلا أنه ترك تحديد قيمة المهر لما تعارف عليه الناس، وأعطى للرجل حق الإعلان عن رغبته في المرأة التي يريد الزواج منها بالطريقة التي يرتضيها وترضيها، ولذلك قال فقهاء الإسلام بعدم وجود قدر محدد للمهر، بل هذا متروك لسعة الزوج وقدرته وللأعراف السائدة بين الناس، فمهر فتاة من أسرة كبيرة يختلف عن مهر فتاة من أسرة بسيطة، ومهر فتاة متعلمة تعليما راقيا يختلف عن مهر فتاة لم تنل حظا وافرا من التعليم وهكذا .

أعراف فاسدة

الفقيه الشيخ عبدالحميد الأطرش الرئيس السابق للجنة الفتوى بالأزهر يوضح الفرق بين العرف الصالح المتفق مع تعاليم الإسلام ومقاصد الشريعة وبين العرف الفاسد المرفوض شرعا وعقلا . فالأول له اعتباره في شريعة الإسلام . والثاني لابد من نبذه ورفضه ومحاربته . ويقول: لقد تعارف الناس على حرمان الأنثى من الميراث وعلى تفضيل الذكر على الأنثى وعلى إهدار كثير من حقوق المرأة، وهذا عرف فاسد لا تقره الشريعة الإسلامية . أما العرف الذي تعترف به وتأخذ به عند غياب النصوص المنظمة فهو العرف الذي يحقق مصلحة حقيقية للإنسان ولذلك قال أحد الفقهاء الناظمين للشعر:

والعرف في الشرع له اعتبار ....... لذلك عليه الحكم قد يدار

ولذلك نظر علماء الشريعة الإسلامية إلى العرف في هذه الحالة على أنه نوع من رعاية المصلحة، إذ من مصلحة الناس الاعتراف بما تعارفوا عليه وارتضوه واستقر عليه أمرهم على مر السنين والأجيال، خاصة وأن العرب توارثوا عادات اجتماعية يعسر عليهم أن يتركوها . ومراعاة هذه العادات والتقاليد والاعتراف بالصالح منها من مظاهر التيسير والرحمة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية . خاصة وأن شعار الإسلام هو التيسير ورفع الحرج والعنت عن الناس والله سبحانه وتعالى هو القائل: “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” وهو القائل: “هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج” .

يضيف الشيخ الأطرش: يعتد بالعرف السائد بين الناس، إذا لم يكن هناك نص صريح منظم لمسألة معينة وإذا لم يكن العرف السائد عنها يتصادم مع نص ثابت أو إجماع يقيني للعلماء، وكذلك إذا لم يكن من ورائه ضرر خالص أو راجح . . فالعرف الذي يتصادم مع النصوص الشرعية هو الذي يحل الحرام، أو يبطل الواجبات أو يقر البدع في دين الله، أو يشيع الفساد والضرر في دنيا الناس، وهذا العرف لا اعتبار له ولا يجوز أن يراعى في تقنين أو فتوى أو قضاء .

فمثلاً إذا تعارف أهل قرية أو مدينة أو دولة على أن يعيش الرجل مع المرأة فترة اختبار قبل الزواج بحيث يحل لكل منهما أن يرى من الآخر ما يريد أو تباح المعاشرة الزوجية بينهما على سبيل التجريب، وهذا للأسف شائع بين طبقة معينة من المنحرفين والفاسدين من المسلمين، فإن هذا العرف فاسد وكل ما يترتب عليه باطل لأن فيه أضراراً كثيرة اجتماعية وأخلاقية ودينية .

وهنا ينبه الشيخ الأطرش إلى ضرورة تنقية الأعراف السائدة بين المسلمين وإعلان الحرب على الأعراف الفاسدة والمنحرفة والتي يترتب عليها فساد أخلاقي أو انحراف سلوكي أو ضياع حقوق أو تخل عن واجبات والتزامات شرعية . . فما أحوج المسلمين إلى الالتزام بشرع الله وتحكيمه في كل سلوكياتهم وأعرافهم حتى تستقيم أمورهم على منهج الله .