إنّا عرضنا الأمانة
إن من الأمور التي جلبت ولا تزال تجلب الحيرة بين الناس هي تعدد الآراء بين علماء الدين البارزين فيما يخص التفسير في كتاب الله وذلك نيجة إعتماد الغالبية من العلماء على آراءهم الشخصية أو آراء شيوخهم الذين تتلمذوا على إيديهم والتي في العادة يُقدموها على آراء الآخرين من المفسرين، وبالتالي نراهم في خُطبهم ودروسهم أو ما يُنقل عنهم يدلون كُل بدلوه في معظم مساءل العقيدة الحساسة من دون الإجماع على تفسير موَّسع وشامل يتفقون عليه ويعتمدوه، ومن دون الإحتكام إلى مرجعية دينية صحيحة وشرعية وموثقة يتخذوها قاعدة يجتمعون عليها، ولذلك فإن كُثرة هذه التناقضات والإختلافات وإن بقيت من دون تصحيح ستؤدي في النهاية إلى انقسام الناس وستدفعهم لأن يفقدوا الثقة في دينهم وعلمائهمإن من أحد أهم هذه المواضيع التي لا زالت عالقة والتي حيّرت أهل العلم والفضل هو موضوع الأمانة والذي رأينا في تفسيراتها المتعددة الكثير من الاختلاف فيما بينهم، ولذلك فلقد رأيت بأن يكون لي نصيب أنا الآخر في التحقيق فيها، مع العلم بأن هذه الرؤية والتي سنطرحها أمام أصحاب الفكر والتخصص والإجتهاد والإهتمام هي في الحقيقة لشخص غير معروف بين الناس لا بإسمه أو بعلمه أو بمركزه أو بصيته أو بماله، فصاحبها لا يُقاس بأهل العلم لا بعلمهم ولا بعملهم ولا بمستواهم ولكن أراد بإجتهاده وعمله هذا هو خوض تجربة عمل جديدة يُعبر فيها عن اجتهاد الآخر وغير مما اعتاد عليه المفسرون وتوارثوه أو تأثروا به وحصروه فيما بينهم، ولذلك فلقد بدأت حُجتي بعرض بعض من آراء أهل التخصص من العلماء الأفاضل في هذا الشأن بالصوت والصورة وذلك حتى يتسنى للقاريء والمستمع مقارنة رؤيتنا المتواضعة بآرائهم فيَطّلِعوا عليها ويتمحصوها ويتدبروها ويتفحصّوها، ويعملوا على تقييمها والرد عليها إذا شاءوايقول الله تعالى “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا” سورة الأحزاب 72 لقد كان من بعض التفسيرات للأمانة هو تفسير الأمانة للشيخ الكريم صالح المغامسي والذي في إحدى تسجيلاته المعروضة على اليوتوب رأيناه يقول بأن الأمانة هي التكليف بالعبودية، ولكن كيف نسي شيخنا الكريم بأن السماوات والأرض والجبال أبين حملها، وكيف إذن تكون هي التكليف بالعبودية ومع ذلك يمتنعن عن تكليف الله لهم بها، فهل التكليف هو بالخيار أم التكليف هو أمر وبالتالي فإن عدم طاعة امر الله فيه معصية وكفر … أليس كذلك، بالإضافة على أن الله أخبرنا بقبول الإنسان لحمل الأمانة وبالتالي أي أن الإنسان كان قد قَبِل تكليف الله له بالعبودية وأطاع خالقه ولكن ومع ذلك لم يُثني الله عليه بل أخبرنا بظلمه وجهله نتيجة قبوله بحملها
الشيخ صالح المغامسي – الأمانة
►
- ولو أخذنا تفسير آخر للامانة وهو للدكتور الفاضل زغلول النجار والذي يُعرِّف الأمانة على أنها القدرة على الإختيار بالإرادة الحُرة وأخذنا قوله تعالى “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا”وقمنا بالأخذ بتفسيرها حسب ما ذهب إليه شيخنا الكريم لحصلنا على التالي وهو بأن الله “عرض القدرة على الإختيار بالإرادة الحًرّة” على السماوات والأرض والجبال فأبين أي امتنعن لأن يحملن القُدرة على الإختيار، ولكن أليس في مجرد امتناعهن لأن يحملن القدرة على الإختيار هو في الحقيقة تَجَسُد لقُدرتهن على الإختيار لأنه لا يمكن الإمتناع عن شيء دون توفر القدرة على الإمتناع، وبالتالي إذن فوضوح قدرتهن على الإختيار والإمتناع هو في ذاته حمل للأمانة وليس الإمتناع عن حملها، لأن الإمتناع وليس العرض هو الذي أكّد وأظهر قُدرتهم على الإختيار بالإرادة الحُرّة وإلا لما كانوا تمكنوا من الإمتناع … وبالتالي فهذا كلام غير واضح ومتداخل في بعضه البعض ولا يفي بالغرض من البحث في موضوع الأمانة وبقي تحيطه التساؤلات والحيرة والغموض … وبذلك يكون تفسيره هذا يجلب الحيرة ويتناقض مع ما جاء في الآية الكريمة. وبالتالي ومن خلال بحث بسيط للمعنى القاموسي للأمانة نتوصل إلى معنى يُخالف ما ذهب إليه الدكتور
-
إنا عرضنا الأمانة – زغلول النجار
►
-
ولو أخذنا تفسير آخر للشيخ الفاضل صالح الفوزان والذي عرَّف على أن المُراد في الأمانة هي الأوامر الشرعية، أي فعل الطاعات وتجنُب المحرمات مع توحيد الله عز وجل وعدم الإشراك به وهذا هو أعظم الأمانة التي حمّلَها الله لخلقه، كما وأخبرنا في تفسيره للآية الكريمة بأن السماوات والأرض والجبال أبين لأن يحملن الأمانة لأن الله عرضها على تلك المخلوقات العظيمة عرض تخيير ولم يعرضها عرض إلزام فمن أدّاها وحافظ عليها له الأجر ومن خانها فعليه الإثم، فآثرت هذه المخلوقات السلامة على الغنيمة فأبين أن يحملنها وامتنعن عن حملها لعظم مسؤوليتها وأشفقن منها أي خفن من الأمانة وهذا يُدل على عظم الأمانة وحملها الإنسان آدم وذريته آثروا الغنيمة على السلامة حُباً للأجر فحملوها .. وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا وأنا أتساءل كيف افترض شيخنا الكريم على أن عرضْ الأمانة على السماوات والأرض والجبال كان عرض تخيير على الرغم من تعريفه للأمانة على أنها الأوامر الشرعية وهي فعل الطاعات وتجنب المحرمات، فكيف تكون الأمانة هي الأوامر الشرعية ” والتي هي ربانية” لأن مصدر التشريع هو الله ومع ذلك يُخبرنا الشيخ الكريم بأن السماوات والأرض والجبال كان لهم الخيار بالإمتناع عن الإستجابة لأمر الله خاصة وأنهم آثروا السلامة على الغنيمة .. وماهي السلامة التي يتحدث عنها شيخنا خاصة وأنها تؤدي إلى معصية الخالق. أليس الإمتناع عن حملها حسب هذا التفسير الذي ذهب إليه الشيخ هو امتناع عن تأدية الأوامر الشرعية وفي ذلك إذن عدم الإلتزام بفعل الطاعات وفي ذلك معصية وخروج عن طاعة الخالق . .. ولكن ومع ذلك لم يخبرنا الله بظلمهم أو جهلهم، على الرغم بأن امتناعهن حسب ما ذهب إليه الشيخ في تفسيره هو الظلم والجهل بعينه، وماذا عن الإنسان والذي قبل لأن يحمل الأمانة فلقد خصّه الله في الظلم والجهل فهل كان جزاء قبوله للأوامر الشرعية والتزامه بحملها استجابة لأمر الله وطاعته بأن ذُمَّ وقُبِحْ … وبالتالي فهل من المعقول لأن يكون هذا ما اراد الله بالأمانة وعرضها. كما ولقد عرَّف شيخنا الكريم الجهل على أنه على قسمين جهل بمعنى عدم العلم وجهل بمعنى عدم الحلم وأخذ بمعنى عدم الحلم على أنه المقصود بالآية الكريمة، وسنأتي على ما المقصود بالظلم والجهل في رؤيتنا والتي لا تتفق فيها مع ما ذهب إليه شيخنا الكريم
-
صالح الفوزان – إنا عرضنا الأمانة
►
-
ولو أخذنا تفسير آخر للشيخ الكريم بسام جرّار فهو يُخبرنا بأن الامانة تتراوح بين حفظ وأداء وبالتالي فهو كالكثير من علماء الأُمة والذين يزعمون بأن المقصود بها هي التكاليف، ويُخبرنا الشيخ جرّار بأن الأمانة لم تُعرض على الإنسان بل كُلف بها ويُخبرنا بأن الإنسان حمل الأمانة لأنه يملك الإستعدادات أي فهو بالقادر على حملها وبأن قوله تعالى بأن الإنسان كان ظلوماً جهولا هو مدح له وتعظيم له وليس تحقير وذم، ولكن فهذا الزعم فيه تضليل للحقيقة القرآنية المُراد بها وكان عليه التمهل قبل أن يبدأ بالتسويق لهذه الفكرة الخاطئة، فكيف يكون الظلم مدح ولقد حرمه الله على نفسه ونهانا عن ظلم أنفسنا أو ظلم الآخرين، ولو كان قد كلفه الله بالأمانة كما زعم شيخنا الكريم وأخبرنا الله بأن بِحمله لها كان بالظلوم إذن فهذا يقودنا على أن الظلم كان قد أوقعه الله عليه ولم يكن قد جلب الظلم على نفسه من نفسه وبالتالي هذه مصيبة كبيرة لأن الله لا يظلم مثقال ذرة فكيف يحمله الله للأمانة ويُكلفه بها ثم يصفه بالظلم أي بالظالم لنفسه فمن المسؤول عن الظلم إذن حسب ما ذهب إليه الشيخ وهذا غير معقولكما ويُبلغنا الشيخ الكريم بأن الله أوجد في الإنسان الإستعدادات الهائلة والتي لا تُطيقها السماوات والأرض وتضعف أمامها وبأن الإنسان لا يُقَدِر طاقاته ويجهل حقيقة خلقه، ونحن نتفق معه هنا فقط إذا كان يُشير بالتحديد على آدم عليه السلام، ولكن فإن ذِكر الإنسان في الآية الكريمة وليس آدم بالتحديد كان يُعبر عن الهوية الإنسانية والتي يجب علينا تقصيها منذ حداثتها والتعرف على تحولها من ذات جهولة إلى ذات عليمة، كما وأن الأمانة لا تعني التكاليف لأن التكليف يأتي مع الأمر خاصة إن كان من عند الله جل وعلا أما الأمانة فهي كُل ما يُراد إيداعه أو عهده “اي فهي العهدة أو الوديعة”، ومن تُعْهد عنده الأمانة أو يُؤمر بحفظها أو يكون قد كَلَّف نفسه بها يكون قد وقع عليه التكليف أو أوقعه على نفسه وبالتالي لزم عليه الحفظ والإداء للأمانة، فالتكليف بها شيء والأمانة والتي يُراد التكفُل بها شيء آخر، ولكننا نلتقي مع شيخنا الفاضل على أن الإنسان كان قد كُلِف بها ولكن ليس هذا الإنسان البدائي والذي هو ظلوماً جهولا والمُشار إليه في الآية الكريمة فهذا الخلق الأولي كان بأن أوقعها على نفسه من دون تكليف بها وبالتالي حمَّلها لنفسه على العكس من آدم والذي كلَّفه الله بها، وبالتالي بقي تفسير شيخنا للأمانة غير مُكتمل ولا يفي بالغرض المطلوب وبالتالي فإن مثل هذا التسّرع في التفسير وعرضه على الملأ بهذه الصورة الموسَّعة قد يُسبب في كثير من المغالطات والإختلافات والتي تزيد من الحيرة والتخبط فيما بين الناس
-
بسام جرار-تفسير-انا عرضنا الامانة
►
-
ولو أخذنا تفسير آخر للشيخ والعلامة الكبير محمد متولي شعراوي لرأينا بأن له هو الآخر مفهوم آخر للأمانة حيث ونختلف معه بمعنى حملها الذي ذهب إليه شيخنا لأن قوله بأن الإنسان حملها وفسّرّها على أنه كان قد رَضِيَ بها وقال “أنا أحملها” يعني بانه خُيِّر بحملها ولكن لم يعطنا الدليل على أنه كان قد خُيِّر، وعرَّف الأمانة ضمنياً على أنها رِضى الإنسان لأن يبقى الإختيار معه في جُزيئات العقيدة والإيمان، فإن شاء أن يؤمن يؤمن وإن شاء يكفُر يكفُر وإن شاء يطيع يطيع وإن شاء يعصي يعصي، إذن فالإنسان أجل إختياره للأحكام المفردة .. أي وكأن الشيخ أراد لأن يقول بأن الإنسان وضع ذاته تحت عبء ما يتخذ من قرارات تتعلق بمصيره ولكن فالمُشكلة في تفسيره هو زعمه بأن الإنسان رضي لأن يبقى الإختيار معه وهذا نختلف معه فيه لأن حمله للأمانة كان نتيجة عدم طاعته وليس نتيجة رضاه بحملها، وعلى الرغم من ذلك فإن تفسير الشيخ الكريم هو الاقرب لمفهوم حفظ الذات … ولكنه بقي غير مُكتمل -
الأمانة – شعراوي
►
-وقال ابن كثير في تفسير الآية الكريمة في “تفسير ابن كثير ” 6 / 489 ” وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عُوقِبَ، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه، إلا مَنْ وفق اللَّهُ”وقال الشنقيطي في “أضواء البيان” 36/ 139” ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه عرض الأمانة، وهي التكاليف مع ما يتبعها من ثواب وعقاب على السماوات والأرض والجبال، وأنهن أبين أن يحملنها وأشفقن منها، أي: خفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك عذاب الله وسخطه، وهذا العرض والإباء والإشفاق كله حق، وقد خلق الله للسماوات والأرض والجبال إدراكا يعلمه هو جل وعلا، ونحن لا نعلمه، وبذلك الإدراك أدركت عرض الأمانة عليها، وأبت وأشفقت أي: خافت” كما وأن تفسير الأمانة هي التكاليف الشرعية “الفرائض” هو قول ابن عباس والحسن البصري ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وابن زيد وأكثر المفسرين، فلقد روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنهما قالا: الأمانة هي الفرائض التي افترضها الله تعالى على عبادهوقال قتادة: الأمانة هي: الدين والفرائض والحدودوقال زيد بن أسلم الأمانة ثلاث: الصلاة، والصوم، والاغتسال من الجنابةوقال ابن عمر: عُرضت على آدم الطاعة والمعصية وعُرّف ثواب الطاعة وعقاب المعصية، قال: والذي عندي فيه أن الأمانة ههُنا النيّة التي يعتقدها الإنسان فيما يُظهره باللسان من الإيمان ويؤديه من جميع الفرائض في الظاهروقيل: المقصود بالأمانة في هذا الموضع هو أمانات الناسوقال الطبري في تفسير الطبري” 20 / 342” وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قاله الذين قالوا: إنه عُنِي بالأمانة في هذا الموضع: جميع معاني الأمانات في الدين وأمانات الناس وذلك أن الله لم يخص بقوله: (عَرَضْنَا الأمَانَةَ) بعض معاني الأمانات لما وصفنا وقال القرطبي في “الجامع لأحكام القرآن” 14 / 252” الأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهوروقال السعدي “في تفسير السعدي” صفحة 547” جميع ما أوجبه الله على عبده أمانة، على العبد حفظها بالقيام التام بها، وكذلك يدخل في ذلك أمانات الآدميين، كأمانات الأموال والأسرار ونحوهما، فعلى العبد مراعاة الأمرين، وأداء الأمانتين – إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها-لقد اختلف العلماء في مفهوم الأمانة المُشار عليها في الآية الكريمة وتحيروا في مُرادها فافترضوا بأن عرض الأمانة هو التخيير بحملها ولكنهم ضلّوا وبلا شك، فما هي يا ترى هذه الأمانة التي عرضها الله على أعظم خلقه وأبين حملها ومع ذلك حملها الإنسان لأن العرض للإمانة كان من أجل التعريف بها من خلال وعن طريق إبرازها وسنأتي على ذلك بالتفصيل
المفضلات