126)‏ أو لم يروا إلي الطير فوقهم صافات
ويقبضن مايمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير‏*‏
‏*(‏ الملك‏:19)*‏

بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
هذه الآية الكريمة جاءت في نهاية الثلث الثاني من سورة الملك‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها ثلاثون‏(30)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بالشهادة لله‏(‏ تعالي‏)‏ بأنه هو الذي بيده الملك وهو علي كل شيء قدير‏.‏ ومن أسماء هذه السورة الكريمة‏(‏ المانعة‏)‏ و‏(‏المنجية‏)‏ لأنها تمنع قارئها من عذاب القبر‏,‏ وتنجيه منه وذلك لقول رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ فيها‏:‏ هي المانعة‏,‏ وهي المنجية‏,‏ تنجي من عذاب القبر‏(‏ أخرجه الترمذي‏).‏
ويدور المحور الرئيسي لسورة الملك حول قضية العقيدة الاسلامية ومن ركائزها الايمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ ربا واحدا أحدا‏,‏ بيده ملك كل شيء‏,‏ وهو علي كل شيء قدير‏,‏ وبأنه عليم بذات الصدور وبأن النصر من الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وحده‏,‏ وأن الرزق منه وحده‏,‏ ومن هنا وجبت عبادته وخشيته‏,‏ والتوكل عليه وحده‏.‏

ومن ركائز العقيدة الاسلامية التيقن بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي خلق الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملا‏,‏ والايمان بكل ما وقع بالمكذبين من الامم السابقة من عقاب‏,‏ وبأن للذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير‏,‏ وأن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير‏.‏ والايمان برسالة الانسان في هذه الحياة‏:‏ عبدا مستخلفا في الأرض يعبد الله‏(‏ تعالي‏)‏ بما أمر‏,‏ ويقوم بتنفيذ أوامره بالمشي في مناكب الأرض والاجتهاد في عمارتها‏,‏ وإقامة عدل الله فيها‏,‏ وهو مؤمن بحتمية العودة إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ يوم البعث والنشور‏,‏ وبالآخرة وما فيها من حشر وعرض أكبر أمام الله‏,‏ وحساب‏,‏ وجزاء‏,‏ وخلود إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏.‏
وتبدأ سورة الملك بقول الحق‏(‏ سبحانه وتعالي‏):‏
تبارك الذي بيده الملك وهو علي كل شيء قدير‏(‏ الملك‏:1)‏

وفي هذا الاستهلال تعظيم لله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لأن من معاني‏(‏ تبارك‏):‏ تعالي وتعاظم‏,‏ وكثر خيره‏,‏ ودام فضله وإحسانه‏,‏ وثبت إنعامه ثبوتا لايزول ولايحول أبدا‏,‏ وتنزه عن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لايليق بجلاله‏.‏
وفي هذا الاستهلال أيضا تأكيد لتفرد الخالق‏(‏ عز وجل‏)‏ بالألوهية‏,‏ والربوبية‏,‏ والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه ـ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولامنازع‏,‏ ولاصاحبة‏,‏ ولا ولد‏,‏ لأن هذه كلها من صفات المخلوقين والخالق منزه عن جميع صفات خلقه‏,‏ ولأن من معاني الملك أنه السلطان والقدرة ونفاذ الأمر‏,‏ والذي له ذلك لايشاركه أحد‏,‏ ولا ينازعه منازع‏,‏ وليس في حاجة إلي الصاحبة أو الذرية‏.‏

وانطلاقا من تفرده‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بالملك وبالقدرة علي كل شيء‏,‏ كان إثبات ألوهيته‏,‏ وربوبيته‏,‏ ووحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه‏,‏ ومن صفاته‏(‏ جل جلاله‏)‏ أنه هو العزيز أي الغالب الذي لايقهر‏,‏ والذي لايعجزه شيء‏,‏ وأنه هو الغفور أي العفو عن المقصرين من عباده‏,‏ الغافر لذنوبهم‏,‏ ومن تفرده‏(‏ سبحانه‏)‏ بالملك والقدرة‏,‏ وبخلق الموت والحياة‏,‏ وبالعزة المطلقة فوق جميع خلقه‏,‏ وبالعفو‏,‏ والمغفرة لهم‏,‏ فلا يعبد سواه‏,‏ ولايقصد غيره بدعاء أو رجاء أو طلب‏.‏
ومن مبررات ذلك خلقه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ سبع سماوات طباقا‏(‏ أي متطابقة حول مركز واحد هو الأرض‏,‏ يغلف الخارج منها الداخل‏,‏ ولولا هذا البيان الالهي الذي تكرر عشرات المرات في القرآن الكريم ما كان أمام الانسان من سبيل لادراك ذلك‏,‏ لأن كل ما يراه علماء الفلك في زمن العلم والتقنية الذي نعيشه لايتعدي جزءا من السماء الدنيا الدائمة الاتساع‏,‏ بمعني أنه كلما طور الانسان أجهزته فلن يلحق بسرعة اتساعها أبدا‏,‏ وعلي الرغم من ذلك فإن الانسان يستطيع أن يدرك بحسه المحدود‏.‏ وقدراته المحدودة دقة بناء السماء‏,‏ وإحكام خلق كل صغيرة وكبيرة فيها‏,‏ فلا خلل ولانقص‏,‏ ولا اضطراب‏,‏ وإلا ما استقام وجود الكون‏,‏ ولذلك تطالب الآيات كل ذي بصيرة بإعادة النظر في السماء حتي يتحقق من بديع صنع الله فيها‏,‏ وتستشهد السورة الكريمة بعدد آخر من الآيات الكونية علي صدق ما جاء بها من أمور الغيب ومن ركائز العقيدة الاسلامية‏.‏ وتختتم بأمر من الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ إلي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ يقول له فيه‏:‏ قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين‏*‏ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين‏.‏
‏(‏الملك‏:29:30)‏

من الأشارات الكونية في سورة الملك
‏(1)‏ الاشارة إلي مرجعية عليا للكون‏(‏ الله الذي بيده الملك‏)‏ وهو ما تنادي به اليوم أحدث الدراسات الفلكية‏.‏

‏(2)‏ الاشارة إلي تطابق السماوات حول مركز واحد‏,‏ وإلي بنائها بناء محكما بغير فراغات ولا اضطراب‏,‏ والعلم الكسبي يؤكد أن كوننا كون منحن وذلك لعجز العلماء عن رؤية أبعاد السماء الدنيا كلها‏,‏ ورؤية جزء منها يثبت ذلك الانحناء ويشير إلي تكور السماء‏.‏

‏(3)‏ الاشارة إلي أن النجوم زينة السماء الدنيا‏,‏ وأن منها رجوم الشياطين أي الشهب والنيازك‏,‏ والعلم الكسبي يشير الي وحدة بناء مادة الكون‏,‏ فالنجوم‏,‏ والكواكب‏,‏ والأقمار‏,‏ والكويكبات‏,‏ والشهب والنيازك‏,‏ والمادة بين مختلف أجرام السماء أصلها كلها واحد وهو الدخان الكوني‏.‏

‏(4)‏ الاشارة إلي تذليل الأرض للانسان بحجمها‏.‏ وكتلتها‏,‏ وبعدها عن الشمس‏,‏ وسرعات حركاتها المختلفة‏,‏ وأنشطتها الداخلية والخارجية المتعددة‏,‏ ونطق الحماية المهيأة لها‏,‏ وتشكيل سطحها وضبط تضاريسها‏,‏ وتكوين صخورها‏,‏ ومعادنها‏,‏ وتربتها‏,‏ وثرواتها‏,‏ وخلق مختلف صور الحياة عليها‏,‏ والحكمة البالغة والدقة المتناهية في تحقيق ذلك مما تشهد به العلوم المكتسبة‏.‏

‏(5)‏ الاشارة إلي العلاقة بين خسف الأرض ومورانها‏,‏ وهي علاقة لم تدرك إلا بعد فهم الميكانيكية التي تحدث بها الزلازل‏.‏

‏(6)‏ الاشارة إلي الرياح الحاصبة‏,‏ وهي رياح ذات سرعات عالية تمكنها من حمل الرمال والحصي معها مما يضاعف من قدراتها التدميرية الكبيرة‏.‏

‏(7)‏ ذكر طرائق تحليق الطيور في السماء تارة بجناحين مبسوطين ساكنين‏,‏ وتارة أخري بجناحين متحركين إلي أعلي وإلي أسفل يضمان ثم يبسطان بسرعات فائقة مما يشهد للخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بطلاقة القدرة في الخلق‏.‏

‏(8)‏ تأكيد أن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هو خالق الانسان‏,‏ ومبدع جميع حواسه‏,‏ وفي مقدمتها السمع والأبصار والأفئدة‏.‏ وتقديم السمع علي الأبصار في سورة الملك وفي غيرها من سور القرآن الكريم أثبتت الدراسات العلمية مؤخرا دقته العلمية‏,‏ وذلك لأن أول الحواس نضجا في جنين الإنسان هو السمع‏,‏ وآخرها إكتمالا هو البصر‏.‏

‏(9)‏ الاشارة إلي إمكان غور الماء في الآبار‏,‏ وهي ملاحظة علمية دقيقة‏.‏

وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة السابعة من القائمة السابقة والتي تتعلق بطرائق تحليق الطيور في جو السماء كما تصفها الآية رقم‏(19)‏ من سورة الملك‏.‏ وقبل الوصول إلي ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من العلماء السابقين في تفسير هذه الآية الكريمة‏.‏

من أقوال المفسرين في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
أو لم يروا إلي الطير فوقهم صافات ويقبضن مايمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير
‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ مامختصره‏:(‏ أو لم يروا إلي الطير فوقهم صافات ويقبضن‏)‏ أي تارة يصففن أجنحتهن في الهواء‏,‏ وتارة تجمع جناحا وتنشر جناحا‏,(‏ ما يمسكهن‏)‏ أي في الجو‏(‏ إلا الرحمن‏)‏ أي بما سخر لهن من الهواء من رحمته ولطفه‏,(‏ إنه بكل شيء بصير‏)‏ أي بما يصلح كل شيء من مخلوقاته‏..‏

‏*‏ وجاء في تفسير الجلالين‏(‏ رحم الله كاتبيه‏)‏ مامختصره‏:(‏ أو لم يروا‏)‏ ينظروا‏(‏ إلي الطير فوقهم‏)‏ في الهواء‏(‏ صافات‏)‏ باسطات أجنحتهن‏(‏ ويقبضن‏)‏ أجنحتهن بعد البسط أي‏:‏ وقابضات‏(‏ مايمسكهن‏)‏ عن الوقوع حال البسط والقبض‏(‏ إلا الرحمن‏)‏ بقدرته‏(‏ إنه بكل شيء بصير‏)‏ المعني‏:‏ ألم يستدلوا بثبوت الطير في الهواء علي قدرتنا أن نفعل بهم ما تقدم وغيره من العذاب؟‏.‏

‏*‏ وذكر صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ مامختصره‏:...‏ وهذه الخارقة التي تقع في كل لحظة‏,‏ تنسينا بوقوعها المتكرر‏,‏ ماتشي به من القدرة والعظمة‏.‏ ولكن تأمل هذا الطير‏,‏ وهو يصف جناحيه ويفردهما‏,‏ ثم يقبضهما ويضمهما‏,‏ وهو في الحالين‏:‏ حالة الصف الغالبة‏,‏ وحالة القبض العارضة يظل في الهواء‏,‏ يسبح فيه سباحة في يسر وسهولة‏,‏ ويأتي بحركات يخيل إلي الناظر أحيانا أنها حركات استعراضية لجمال التحليق والانقضاض والارتفاع‏!..‏

والقرآن يشير بالنظر إلي هذا المشهد المثير‏:(‏ أو لم يروا إلي الطير فوقهم صافات ويقبضن؟‏..)‏ ثم يوحي بما وراءه من التدبير والتقدير‏:(‏ مايمسكهن إلا الرحمن‏)‏ والرحمن يمسكهن بنواميس الوجود المتناسقة ذلك التناسق العجيب‏,‏ الملحوظ في كل صغيرة وكبيرة‏,‏ المحسوب فيه حساب الخلية والذرة‏..‏ النواميس التي تكفل توافر آلاف الموافقات في الأرض والجو وخلقة الطير‏,‏ لتتم هذه الخارقة وتتكرر‏,‏ وتظل تتكرر بانتظام‏.‏ والرحمن يمسكهن بقدرته القادرة التي لاتكل‏,‏ وعنايته الحاضرة التي لاتغيب‏,‏ وهي التي تحفظ هذه النواميس أبدا في عمل وفي تناسق وفي انتظام‏,‏ فلا تفتر ولاتختل ولاتضطرب غمضة عين إلي ماشاء الله‏:(‏ مايمسكهن إلا الرحمن‏)..(‏ إنه بكل شيء بصير‏)‏ يبصره ويراه‏,‏ ويبصر أمره ويخبره‏,‏ ومن ثم يهييء وينسق‏,‏ ويعطي القدرة‏,‏ ويرعي كل شيء في كل لحظة‏,‏ رعاية الخبير البصير‏...‏
‏*‏ وذكر كل من صاحب صفوة البيان وصاحب صفوة التفاسير‏(‏ جزاهما الله خيرا‏)‏ كلاما مشابها‏,‏ إلا أن الأخير اضاف لمحة لغوية جميلة عن صاحب التسهيل لعلوم التنزيل قال فيها‏:...‏ ولما كان الغالب هو فتح الجناحين فكأنه هو الثابت عبر عنه بالاسم‏(‏ صافات‏)‏ وكان القبض متجددا عبر عنه بالفعل‏(‏ ويقبضن‏).‏ قال في التسهيل‏:‏ فإن قيل‏:‏ لم لم يقل‏(‏ قابضات‏)‏ علي طريقة‏(‏ صافات‏)‏؟ فالجواب أن بسط الجناحين هو الأصل في الطيران‏,‏ كما أن مد الأطراف هو الأصل في السباحة‏,‏ فذكره بصيغة اسم الفاعل‏(‏ صافات‏)‏ لدوامه وكثرته‏,‏ وأما قبض الجناحين فإنما يفعله الطائر قليلا للاستراحة والاستعانة‏,‏ فلذلك ذكره بلفظ الفعل لقلته‏...‏

‏*‏ كذلك ذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم‏(‏ جزاهم الله خيرا‏)‏ كلاما مشابها‏,‏ ولكن أضاف الخبراء بالهامش كلاما علميا رائعا جاء فيه‏:‏ الصف هو أن يبسط الطائر جناحية دون أن يحركهما‏,‏ وفي طيران الطيور آيات معجزات لم نفهم بعضها إلا بعد تقدم علوم الطيران ونظريات الحركة‏(‏ الديناميكا‏)‏ الهوائية‏,‏ ولكن أكثر مايثير العجب هو أن يمضي الطائر في الجو بجناحين ساكنين حتي يغيب عن الأبصار‏,‏ وقد كشف العلم أن الطيور الصافة تركب متن التيارات الهوائية المساعدة التي تنشأ إما من اصطدام الهواء بعائق ما‏,‏ أو من ارتفاع أعمدة من الهواء الساخن‏,‏ فإذا ما كانت الريح هينة ظلت الأعمدة قائمة وصفت الطيور في أشكال حلزونية‏,‏ أما إذا اشتدت انقلبت الأعمدة أفقيا فتصف الطيور في خطوط مستقيمة بعيدة المدي‏.‏ وتتحلي الطيور عامة بخصائص منها خفة الوزن‏,‏ ومتانة البناء‏,‏ وعلو كفاءة القلب ودورة الدم وجهاز التنفس‏,‏ ودقة إتزانها‏,‏ وانسياب أجسامها‏,‏ وهي خصائص أودعها فيها العليم البصير لتحفظها في الهواء حين تبسط جناحيها أو تقبضهما‏,‏ إلا أن الطيور الصافة تتميز علي سائر الطيور باختصار حجم عضلات صدورها مع قوة الأوتار والأربطة المتصلة بأجنحتها حتي تستطيع بسطها فترات طوال من دون جهد كبير‏.‏ أما الطيور صغار الأحجام‏,‏ التي تعتمد في طيرانها علي الدفيف فإنها تضرب بجناحيها إلي أسفل وإلي الأمام لتوفير الدفع والرفع اللازمين لطيرانها ثم تقبض أجحتها ولكنها تظل طائرة بقوة اندفاعها المكتسبة‏,‏ وهكذا يتضافر البناء التشريحي والتكوين الهندسي للطيور بجميع أنواعها علي طيرانها وحفظ توازنها وتوجيه أجسامها في أثناء الطيران‏.‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة
أولا‏:‏ في قوله تعالي‏:(‏ أو لم يروا إلي الطير فوفهم‏...):‏
إن في إعطاء الطيور القدرة علي ارتقاء الهواء‏,‏ والسبح فيه بكفاءة عالية‏,‏ لهو من أعظم الدلالات علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الكون‏,‏ والتي أعطت كل بيئة من بيئات الأرض مايتلاءم مع ظروفها الطبيعية والكيميائية من كائنات‏,‏ كما هيأت كل كائن حي للتواؤم مع البيئة التي أنشأتها القدرة الإلهية فيها‏,‏ ومن هنا كان لفت أنظار المكذبين بالدين إلي هذه الحقيقة الكونية التي يمر عليها كثير من الناس بقلوب غافلة‏,‏ وعقول شاردة‏,‏ وأبصار عليها غشاوة لعل ذلك أن يوقظهم من غفلتهم‏..!!‏

والطيور من الحيوانات ذات الفقار‏,‏ والدم الحار‏,‏ والأجنحة‏,‏ والريش‏,‏ والمناقير القرنية التي حلت محل الفكوك بلا أسنان‏,‏ والتي تمشي علي رجلين نظرا لإحلال الجناحين محل الطرفين الأماميين‏,‏ والتي تبيض إناثها‏,‏ وتحتضن البيض حتي يفقس‏,‏ وترعي صغارها حتي تكبر‏.‏
وتختلف الطيور في أحجامها من بضعة سنتيمترات إلي عدة أمتار‏,‏ كما تختلف في أشكالها‏,‏ وأشكال مناقيرها‏,‏ وأقدامها‏,‏ وأنواع طعامها‏,‏ فمنها ما يتغذي علي الحبوب‏,‏ أو الثمار‏,‏ أو رحائق الأزهار‏,‏ ومنها مايأكل اللحوم بدءا من الحشرات وانتهاء بالثدييات الصغيرة‏,‏ ومنها مايأكل الجيف‏.‏

وهذه المجموعة من الفقاريات التي أعطاها الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ القدرة علي الطيران‏(‏ وإن كان القليل منها لايطير‏)‏ تضم في طائفة واحدة تعرف باسم طائفة الطيور‏(ClassAves=Birds)‏ تحتوي علي نحو العشرة آلاف نوع‏(‏ أكثر من‏8600‏ نوع من أنواع الطيور المعروفة اليوم‏)‏ والتي تصنف في نحو‏(27)‏ رتبة‏,‏ ويعتقد أنها تمثل اليوم بأكثر من عشرة بلايين طائر بري يعيش في مختلف بيئات اليابسة‏,‏ بالإضافة إلي بلايين الأفراد من الطيور البحرية المعروفة وغير المعروفة والتي تزخر بها محيطات الأرض وبحارها التي تغطي مياهها أكثر قليلا من‏71%‏ من مساحة الكرة الأرضية‏.‏
والطيور عمرت الأرض منذ أكثر من تسعين مليون سنة مضت‏(‏ منذ العهد الطباشيري المتأخر‏),‏ وإن كانت الطيور الحديثة لم تعرف إلا منذ حوالي ستين مليون سنة فقط‏(‏ في عهد الباليوسين أو الفجر القديم للحياة الحديثة‏).‏ وإن كان الصيد الجائر بواسطة الإنسان يتهدد العديد من الطيور اليوم بالانقراض‏.‏

وقد وهب الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ الطيور عددا من الصفات الشكلية والتشريحية من أجل تمكينها من الطيران منها مايلي‏:‏
‏(1)‏ الشكل الخارجي الانسيابي للجسم بصفة عامة حتي يسهل اختراقه لطبقة الهواء‏.‏

‏(2)‏ الجناحان المدعومان بعظام الطرفين الأماميين‏,‏ والمشدودان إلي الجسم بمفاصل تسهل حركتهما‏,‏ وبعدد من الأربطة والأوتار القوية‏,‏ والمغطيان بالريش بكثافة ملحوظة مما يزيد من مساحة جسم الطائر دون زيادة ملحوظة في وزنه‏.‏

‏(3)‏ الريش الذي يغطي الجسم بالكامل ويمتد في الذنب‏,‏ والذي يعمل علي تجميع الهواء بين وحداته المختلفة مما يساعد علي تخفيف وزن الطائر‏,‏ وعلي حفظ درجة حرارة جسمه المرتفعة من مختلف التقلبات الجوية‏,‏ ويعين الكثير من الطيور علي العيش في المناطق المتجمدة والباردة‏,‏ وعلي تحمل الانخفاض في درجة حرارة الغلاف الجوي للأرض مع الارتفاع فوق مستوي سطح البحر إلي مسافات شاهقة في بعض الأحيان‏.‏

‏(4)‏ خفة وزن الهيكل العظمي للطائر‏,‏ وامتلائه بالهواء خاصة في العظام الطويلة‏,‏ مع صلابته وشدة تماسكه والتحامه‏,‏ وامتداد عظمة القص إلي أسفل علي هيئة حافة القارب السفلي لكي تعطي مساحة كافية لارتباط عضلات الصدر المحركة للأجنحة‏(‏ عضلات الطيران‏)‏ وتعطيها قدرا من المتانة والقوة‏.‏ ومعظم أجزاء الهيكل العظمي للطيور متراكب وملتحم مع بعضه بعضا زيادة في قوته ومتانته‏,‏ فباستثناء الفقرات العنقية فإن بقية الفقرات تلتحم مع الحزام الحوضي مكونة مايسمي باسم العجز المركب‏).‏

‏(5)‏ بالإضافة إلي الرئتين زود الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ أجسام الطيور بشبكة من حويصلات الهواء التي تتشعب في مختلف أجزاء الجسم مما يضاعف الحيز الموجود لتخزين الهواء إلي عشرة أضعاف حجم الرئتين‏.‏

‏(6)‏ إعطاء الطيور القدرة علي تناول كميات كبيرة من الأطعمة ذات الطاقة الحرارية العالية تفوق بكثير أوزان أجسامها‏,‏ وتزويد الجهاز الهضمي للطائر بكل من الحوصلة‏(Crop)‏ كمخــــزن للــغذاء‏,‏ والقونصة‏(Gizzard)‏ التي تعمل علي طحن الغذاء قبل وصوله إلي المعدة‏,‏ مما يساعد علي إتمام وإسراع عمليات الاحتراق الداخلي للطعام‏,‏ وإنتاج الطاقة التي تحتاجها الطيور في أثناء عمليات الطيران بسرعات كبيرة ولمدد طويلة‏.‏

‏(7)‏ تزويد الطيور برئات لها ممرات خاصة لكل من الهواء الداخل إليها والخارج منها‏,‏ وبقدرات فائقة علي استخلاص الأكسجين من الهواء مهما قلت نسبته حتي تقاوم نقص هذا الغاز المهم في الارتفاعات الشاهقة‏.‏

‏(8)‏ وهب الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ الطيور قلوبا ذات كفاءة عالية‏,‏ ويتكون قلب الطائر من أربع حجرات منفصلة مما يحفظ الدم المؤكسد بمعزل عن الدم غير المؤكسد‏,‏ ويعمل علي سرعة دوران الدم بشكل فعال وبكفاءة عالية في كل الجسم‏.‏

‏(9)‏ جعل درجة حرارة أجسام الطيور عالية نسبيا‏(‏ في حدود‏41‏ درجة مئوية‏)‏ مما يعين علي إتمام وسرعة إنجاز عمليات الاحتراق الداخلي للطعام‏,‏ وفي الوقت نفسه يساعد ذلك علي مزيد من إنتاج الطاقة التي تحفظ درجة حرارة الجسم ثابتة مهما انخفضت درجات حرارة الجو المحيط‏.‏

‏(10)‏ إعطاء الطيور قدرات إبصار ورصد فائقة‏,‏ ومراكز لتنظيم الحركة علي درجة عالية من التقدم‏,‏ من أجل الرؤية‏,‏ وتجميع المعلومات من الارتفاعات الشاهقة التي تصل إليها لرصد الطعام‏,‏ والمناورة لتحاشي الأعداء‏.‏

‏(11)‏ القدرة الفائقة التي وهبها الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ للطيور في التعرف علي المواقع والاتجاهات والطرق التي تسلكها في هجراتها وعودتها إلي مواطنها الأصلية مهما تعاظمت المسافات التي تقطعها‏.‏

هذه الميزات التي خص الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بها الطيور فمكنها من الطيران بسرعات تقارب المائة كيلومتر في الساعة‏,‏ وإلي ارتفاعات تصل إلي قرابة التسعة كيلومترات فوق مستوي سطح البحر‏,‏ والتي لم يتمكن الإنسان من تقليدها إلا في القرن العشرين بعد مجاهدة استغرقت الآلاف من العلماء‏,‏ كأنها هي المقصودة بقول الحق تبارك وتعالي‏:(‏ أو لم يروا إلي الطير فوقهم‏..‏؟‏)‏ وهو سؤال تقريعي‏,‏ تبكيتي‏,‏ تقريري موجه إلي كل كافر ومشرك وجاحد لعله يلتفت إلي شيء من قدرة الله المبدعة في خلقه للطيور‏,‏ وتلك المواهب الفطرية المعجزة التي مكنتها من الطير قبل أن يتمكن الإنسان من تحقيق شيء من ذلك بملايين السنين‏,‏ هذا فضلا عن الإعجاز في ألوانها الزاهية‏,‏ وأصواتها المغردة‏,‏ وإدراكها المذهل‏,‏ وقدراتها علي التخاطب والتفاهم فيما بينها‏,‏ وعلي تحديد مناطق نفوذها‏,‏ وعلي غير ذلك من الصفات التي تشهد لله الخالق بطلاقة القدرة‏,‏ وببديع الصنعة‏,‏ وبإحكام الخلق‏.‏

ثانيا‏:‏ في قوله تعالي‏:(..‏ صافات ويقبضن‏..):‏
إن الاعجاز في خلق الطيور لايتوقف عند حدود الصفات الشكلية والتشريحية التي وهبها إياها الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ ولكنه يتعدي ذلك ـ علي إحكام صنعه ـ إلي القدرات الفائقة التي أعطاها الخالق العظيم لهذه المخلوقات الضعيفة فمكنتها من اتقان المناورة في جو السماء بذكاء ودقة بالغين‏,‏ وذلك لأن هناك فرقا بين سرعة الجسم المتحرك في الهواء‏(AirSpeed)‏ وسرعته إذا تحرك علي سطح الأرض‏(Groundspeed).‏ فالسرعة في الهواء تعني سرعة هذا الجسم الغازي مرورا فوق الجسم المتحرك‏,‏ أما سرعته علي الأرض فتعني سرعة الجسم المتحرك نفسه في اختراقه للغلاف الغازي المحيط بالأرض والذي تصل سرعته الي الصفر فوق سطح الأرض أيا كانت سرعاته في مستوياته الأعلي‏,‏ لذلك يتم طيران الطيور بمناورات بالغة الذكاء والدقة‏.‏
ويتم طيران الطيور بعمليتين أساسيتين هما الصف أو التحليق‏(GlidingorSoaring)‏ والقبض‏,‏ أو الخفق‏,‏ أو الرفرفة‏,‏ أو ضم الجناحين وبسطهما‏,‏ أو مايعرف أحيانا باسم التصفيق بالجناحين‏(Flapping).‏ والصف أو التحليق هو بسط الجناحين إلي أقصي امتداداتهما‏,‏ دون تحريكهما علي هيئة سطح انسياب هوائي‏(Airfoil)‏ حاكاه الانسان في صنع جناحي الطائرة‏.‏ وباندفاع الطائر وسط كتلة الهواء يندفع الهواء إلي أسفل الجناحين مما يزيد الضغط عليهما فيساعد ذلك الطائر علي الارتفاع الي أعلي‏,‏ وعلي التقدم بالانزلاق الي الأمام ويتحقق دفع الطائر الي الأمام بتحكمه في زاوية ميل كل جناح من الجناحين‏,‏ وفي درجة انحناء كل منهما‏,‏ وبذلك يتحرك الهواء بسرعة فوق الجناحين وأمامهما تزيد علي سرعته أسفل منهما وخلفهما مما يقلل الضغط فوق الجناحين‏,‏ وأمام الطائر باستمرار فيساعده علي الاندفاع في الطيران إلي الأمام‏,‏ وإلي أعلي كلما أراد ذلك‏.‏ ومن الذكاء الفطري الذي وهبه الله‏(‏ تعالي‏)‏ للطيور مايمكنها من ركوب متن التيارات الهوائية أو الرياح‏,‏ في عملية تسمي عملية التزلج الديناميكي‏(Dynamicsoaring).‏

وتعرف الرياح بأنها الهواء المتحرك حركة مستقلة عن ارتباطه بجاذبية الأرض‏,‏ ويلعب الدور الرئيسي في ذلك اختلاف معدلات الضغط الجوي باختلاف درجات الحرارة من منطقة إلي أخري وباختلاف كم الطاقة الشمسية عبر خطوط العرض المختلفة‏,‏ ودوران الأرض حول محورها‏,‏ بالاضافة الي تباين التضاريس الأرضية‏.‏
وتقسم الرياح بالنسبة لارتفاعها إلي رياح سطحية‏,‏ ومتوسطة‏,‏ ومرتفعة‏.‏ وبالنسبة لشدتها من صفر للرياح الساكنة الي‏12‏ درجة أعلاها‏(‏ الأعاصير‏).‏ ونتيجة لذلك تكونت دورة عامة للرياح شديدة الانتظام حول الأرض وذات عدة دوائر كبيرة بين خط الاستواء وكل واحد من قطبي الأرض مع وجود عدد من الجبهات الهوائية بين تلك الدوائر‏,‏ ويزيد من تعقيد هذه الصورة التباين بين اليابسة والماء‏,‏ وفي تضاريس اليابسة‏,‏ والاختلافات الفصلية‏,‏ وماينشأ عن ذلك من حركات أفقية ورأسية للرياح تستغلها الطيور في حركتها في الهواء بذكاء بارع‏,‏ فاذا كانت الرياح أفقية فإن الطيور تصف في خطوط مستقيمة موازية تماما لاتجاه هبوب الرياح‏,‏ وإذا كانت الرياح رأسية استغلتها الطيور الصافة في الارتفاع الي أعلي في أشكال حلزونية موازية تماما لحركة دوامات الرياح الي أعلي‏.‏

والطيران بواسطة الصف أي الانزلاق المستمر‏(ConstantGliding)‏ شائع في الطيور الكبيرة خاصة اذا أرادت التحرك لمسافات بعيدة‏.‏
أما القبض أوالخفق أو الرفرفة‏(Flapping)‏ فهي طريقة الطيران المثلي لمسافات قصيرة‏,‏ وتنتشر بالأخص بين الطيور الصغيرة الحجم‏,‏ وهذه الطريقة تستدعي حركتين سريعتين هما الضرب بالجناحين إلي أسفل ثم إلي أعلي‏,‏ والحركة الأولي تدفع بالطائر الي الأمام‏,‏ والثانية تدفع به إلي أعلي‏,‏ خاصة إذا كانت مقدمة الجناح مائلة إلي الأمام ولو قليلا مما يدفع بالهواء إلي الخلف ويدفع بالطائر الي الأمام‏,‏ بينما يبقي معظم الجناح عموديا علي الجسم فيساعد في ارتفاع الطائر إلي أعلي‏,‏ وبذلك يتحقق للطائر كل من الدفع إلي الأمام والرفع الي أعلي‏,‏ ويتحكم في ذلك الطائر بتحكمه في حركة أجنحته‏,‏ وعادة ماتضم الطيور اجنحتها في أثناء الضرب إلي أعلي كي لاتدفع بكميات كبيرة من الهواء في هذا الاتجاه‏,‏ وإذا وصل الطائر إلي السرعة المناسبة له قبض جناحيه إلي جنبيه ويظل محمولا بقوة الاندفاع المكتسبة من قبل‏,‏ وبتغيير درجة ميل أي من الجناحين يستطيع الطائر تغيير اتجاهه في الهواء حيث يشاء‏,‏ ومهما كانت سرعة الرياح من حوله‏,‏ ويعينه في ذلك ذنبه الذي يلعب دورا مهما في تلك المناورات‏.‏ ويستطيع الطائر أن يحقق رفع جسمه إلي أعلي بسرعة الضرب بجناحيه إلي أعلي وأسفل مستخدما في ذلك عضلات صدره القوية‏,‏ وقد تصل حركة الجناحين إلي سبعين خفقة في الثانية‏,‏ وتصل سرعة الطائر الي حوالي المائة كيلو متر في الساعة كما هو الحال في الطائر المعروف باسم الطنان الذي يضرب بجناحيه الي الأمام والخلف في عملية شبيهة تماما بعملية التجديف في الماء فيرسم بحركة جناحيه في الهواء الرقم‏(8)‏ في وضع أفقي بالنسبة إلي جسم الطائر مما يمكنه من تحريك جسمه مع كل ضربة إلي أعلي أو إلي أسفل‏.‏

ومن الابداع الإلهي في خلق الطيور ارتباط جناحي الطائر بجسمه بواسطة نظام دقيق من المفاصل يسمح للطائر بتغيير زاوية ميل كل جناح علي حدة بالنسبة لجسمه‏,‏ ففي الضرب بالجناحين إلي أسفل يكونان مفرودين إلي أقصي امتداداتهما باستقامة كاملة عموديا علي الجسم مما يمكنهما باندفاعهما إلي الأمام من دفع أكبر كمية ممكنة من الهواء إلي أسفل فيرتفع ذلك بالطائر الي أعلي وإلي الأمام‏,‏ ولكن في رفع الجناحين إلي أعلي يضمهما الطائر بإلهام من الله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ كي لا يدفعا إلي أعلي إلا قدرا ضئيلا من الهواء تماما كما يفعل الذي يقوم بالتجديف في الماء بين ضربته الخلفية الشديدة التي تدفعه إلي الأمام‏,‏ وضربته الأمامية الخفيفة التي تهيئ للضربة الخلفية التالية‏.‏
ومن الفطرة التي فطر الله‏(‏ تعالي‏)‏ الطيور عليها البدء بالطيران المنخفض البطئ ثم زيادة كل من السرعة والارتفاع بالتدريج حتي تصل الي أقصي معدلات ذلك‏,‏ والطيور عادة ماتتحرك في الهواء بسرعات تتراوح بين‏(30)‏ و‏(50)‏ كيلو مترا في الساعة‏,‏ وقد يتزايد ذلك إلي‏(75)‏ كيلو مترا في الساعة‏,‏ ولكنها إذا طوردت فإن بامكانها زيادة سرعتها الي أكثر من‏100‏ كيلو متر في الساعة‏,‏ ولكن بعض الجوارح من الطيور مثل الصقور لها سرعات أعلي بكثير إذ تتراوح سرعات طيرانها بين‏(160)‏ و‏(320)‏ كيلو مترا في الساعة‏.‏ ويمكن للطائر ان يستمر في الطيران لمدد تتراوح بين‏(5)‏ و‏(6)‏ ساعات متصلة بسرعات تتراوح بين‏(25)‏ و‏(30)‏ كيلو مترا في الساعة‏.‏

ومعظم الطيور لاتكاد تتعدي في طيرانها ارتفاع‏(150)‏ مترا فوق مستوي سطح البحر‏,‏ ولكنها في هجراتها الطويلة ترتفع الي منسوب‏(3000)‏ مترا في المتوسط فوق مستوي سطح البحر‏(‏ بمدي يتراوح بين‏(1500)‏ متر‏,‏ و‏(6000)‏ متر‏)‏ وذلك للاستفادة بالتناقص الشديد في كل من الضغط والحرارة عند تلك الارتفاعات‏,‏ ولتجنب الجفاف بالبعد عن الهواء الحار الملامس لسطح الأرض والقريب منه في أثناء بذل هذا المجهود المضني في رحلات الهجرة الطويلة‏,‏ وأعلي ارتفاع شوهدت عليه هجرة الطيور وصل الي نحو التسعة كيلو مترات حين شوهدت من إحدي الطائرات‏,‏ وذلك لأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد وهب الطيور قدرات خاصة لاستخلاص أقل قدر ممكن من أكسجين الهواء الذي تتناقص نسبته بالارتفاع وهو مالا يستطيعه الانسان ومالاتستطيعه جميع الحيوانات الثديية ومنها الخفافيش‏.‏

ثالثا‏:‏ في قوله تعالي‏:‏ مايمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير‏:‏
من كل ماسبق يتضح بجلاء لكل ذي بصيرة أن الذي فطر الطير علي صفات شكلية وتشريحية محددة أعطته القدرة علي الطيران هو الله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ والذي زوده بقدر من الذكاء وحسن الادراك ليمكنه من حسن القيام بالمناورات المعقدة وهو في مهب الريح بصف جناحيه في الوقت المناسب‏,‏ وخفقهما أو قبضهما في الوقت المناسب‏,‏ وإمالة جناحيه‏,‏ أحدهما أو كليهما‏,‏ بالزوايا المناسبة‏,‏ فوهبه بذلك القدرة علي التحكم في الاتجاه‏,‏ والارتفاع‏,‏ والسرعة المناسبة في كل حالة‏,‏ وعلي الاقلاع والهبوط حيث أراد‏,‏ وعلي الانقضاض علي الأرض والارتفاع عنها في لمح البصر والذي وهب الطير كل ذلك هو الله الخالق‏(‏ جلت قدرته‏),‏ وهذا الإله الخالق‏,‏ المبدع‏,‏ المصور‏,‏ الرحمن‏,‏ الرحيم يمسك بالطير في جو السماء بالنواميس التي وضعها باحكام وقدرة بالغين‏..‏ في كل من الغلاف الغازي للأرض وجسم الطير‏,‏ وفي تصريف الرياح‏,‏ والتوزيع الدقيق لتضاريس الأرض‏,‏ وتوزيع درجات الحرارة علي سطحها‏,‏ فجاء كل أمر منها في تناسق فريد‏,‏ وتناغم معجز يشهد لله‏(‏ تعالي‏)‏ بطلاقة القدرة‏,‏ وعظيم الصنعة‏,‏ وإبداع الخلق‏...!!‏ ولم يكن لأحد من الخلق إدراك لتفاصيل حركات الطير في جو السماء إلا في القرنين الماضيين‏,‏ تلك الحركات المعقدة والدقيقة التي لم يستطع الانسان محاكاة شيء منها إلا في القرن العشرين‏,‏ وفي العقود المتأخرة منه علي وجه التحديد‏,‏ وبعد مجاهدات طويلة وعسيرة استغرقت جل أعمار الآلاف من العلماء‏,‏ لعشرات‏,‏ بل لمئات من السنين‏,‏ حتي أصبحت حركات الطير في جو السماء علما يدرس في أغلب جامعات العالم تحت مسمي هندسة الطيران‏(‏ ويشمل علوم التحرك في الهواء‏,‏ ديناميكية الهواء‏,‏ بناء الطائرات والنفاثات والصواريخ‏,‏ والملاحة في الهواء‏),‏ والمعلم الأول في هذا العلم هو الطير‏:..‏ صافات ويقبضن مايمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير

من هنا تأتي هذه الإشارة القرآنية المعجزة سبقا علميا بثلاثة عشر قرنا للمعارف الانسانية كلها التي لم تتمكن من بناء طائرة بدائية جدا إلا في مطلع القرن العشرين‏(1903‏ م‏),‏ وهذا السبق العلمي لايمكن لعاقل أن يتخيل له مصدرا غير الله الخالق الذي أنزل القرآن الكريم بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده في ذات لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد‏,‏ وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏,‏ فالحمد لله علي نعمة القرآن الكريم‏,‏ والحمد لله علي بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ والحمد لله الذي حفظ لنا رسالته الخاتمة في صفائها الرباني‏,‏ واشراقاتها النورانية في كتابه العزيز‏,‏ وسنة نبيه المطهرة‏(‏ والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون‏)...!!‏