د.إبراهيم عوض

كلمة في رثاء الراحل الكريم

لو كان الدكتور المطعني، نوَّر الله قبره وأكرم نُزُله، فنانًا، مثلاً، حتى لو كان فنانًا لا قيمة له، بل حتى لو كان يوظف فنه في تدمير مقومات الأمة من دين وخلق كريم وقيم اجتماعية وسلوكية رفيعة، لانتفضت الدولة على بكرة أبيها وأمها وأهلها جميعًا وأرسلته للخارج؛ ليُعالج على نفقة الخزانة العامة، رغم غنى أمثاله عن هذا بما يتمتع به من مقدرة مادية هائلة، ولخرج من يسمَّوْن بكبار رجال الدولة فشيعوا جنازته عندما يموت وامتلأت الصحف والإذاعة والمرناء عويلاً ولطمًا للخدود وشقًا للجيوب ودعاء بدعوى الجاهلية.

لكنه كان عالمًا؛ وعالمًا محترمًا. ورغم أنه، طيَّب الله ثراه، كان مثلنا من فئة المساتير ليس إلا، ولم يكن كالفنانين شديدي الثراء الذين تأمر الدولة رغم ذلك بعلاجهم على حساب الخزينة العامة، والذين مهما فعلوا فلن يستطيعوا أن يقدموا عشر معشار ما قدمه من خدمات لأمته ودينه وبلده ثقافة ذلك البلد، فإن الحكومة لم تهتم به، لا أثناء مرضه ولا عند وفاته، كما لا تهتم بأي عالم محترم مثله، حين يأتي عليه الدور ويموت "فطيس" بالتعبير البلدي، أي دون أن يبالى به أحد ممن يُسَمَّوْن بكبار رجال الدولة أو يذرف عليه دمعة، اللهم إلا قلة من الناس يحبون العلم ويحبون الوطن ويقدرون الرجال الشرفاء الكرماء حق قدرهم ممن لا يسمَّوْن بكبار رجال الدولة، وقليل ما هم: قليل ما هم الشرفاء الكرماء، وقليل ما هم أيضًا الذين يبكون الشرفاء الكرماء!

ولكن.. متى كانت الحكومات الجاهلة تهتم بالعلماء؟ إن كل إناء بما فيه ينضح، وليس في إناء الحكومات التي من هذا النوع علم ولا فهم ولا تمييز، فأنَّى يأتيها الاهتمام بالعلم والعلماء؟ فالحمد لله أنها لا تهتم بأهل العلم؛ لأن هذا برهان على أنهم علماء كرام. أما لو اهتمت بأحد منهم فقد يكون هذا سببًا في شك الناس الطيبين في طهارة ذلك العالم وعدم الاطمئنان إلى خلقه وعلمه، إذ إن حكومة كهذه من شأنها أن تجلب الشبهة لمن تقترب منه وتهتم به.

ومن هنا.. فعلى قدر أساي لإهمال الحكومة لمثل الدكتور المطعني، فإني سرعان ما فئتُ إلى الرضا بما وقع؛ لأنه دليل على ما كان يتمتع به ذلك الرجل من طهارة وفضل وعلم وخلق رفيع... إلى آخر تلك الأصناف من البضاعة المزجاة عند حكوماتنا العربية والإسلامية غير الرشيدة!

لقد كان الرجل، رحمه الله، مصابًا بمرض السكر، وتضاعفت في الأعوام الأخيرة إصابته ونتجت عنها في البداية، إزالة جزء صغير من قدمه علمتُ بعد وفاته أنه وصل إلى الركبة. وقد اتصلتُ به من قطر، منذ عدة أعوام، حين كان في البحرين يشتغل في جامعتها أستاذًا زائرًا، ثم علمت، بعد قليل، أنه اضْطُرّ إلى العودة إلى مصر قبل انتهاء العام الدراسي؛ بسبب مضاعفات المرض، فحزنت حزنًا شديدًا. ولما رجعت إلى أرض الوطن كنت أهاتفه بين الحين والحين، اللهم حين ضعف سمعه واتصلتُ به ذات ليلة فردت علىّ ابنته وأعطتنيه وأخذنا نتحدث كالعادة، بيد أني لاحظت أن الحديث بيننا يفتقد الاتساق، إذ أكلمه في شيء فيجيبني بشيء آخر، بل إنه ألقى علىّ السلام في وسط الكلام ووضع السماعة ظنًا منه أنني انتهيت من حديثي معه، رغم أنني لم أكن انتهيت بعد، وهو ما حزَّ في نفسي كثيرًا؛ تألمًا له من شدة محبتي إياه، وإن كنت ممن لا ينخدعون في الدنيا لكثرة ما شاهدت فيها من مرارات وأحزان. إلا أن خبرة الإنسان بالحياة لا تجعله يفقد القدرة على التألم أبدًا. إنه لا يفاجَأ بأحداثها مهما تكن غرابتها، لكن هذا لا يقضي على مشاعره الإنسانية، ومن ثم.. يتألم ويحزن وتصيب نفسه المرارة رغم كل شيء.

وكنت قد زرته ـ عقب عودتي من الخارج بقليل ـ أنا والصديق الصحافي الأستاذ مجدي عبد اللطيف، وهو من الذين يعرفون للرجل الكريم فضله وعلمه، فأكرمَنا الأستاذ الدكتور إكرامًا بالغًا، وأحضر لكل منا، فيما أحضر، قطعتين ضخمتين من الجاتوه.

ورغم أن الجزء المزال من قدمه وقتها كان محدودًا جدًا، فقد كنت حريصًا بقدر إمكاني على ألا أنظر إلى قدمه حتى لا أتألم أكثر مما كنت متألمًا. ومع هذا كان الرجل من ناحيته، أكرمه الله وطيب مثواه، حريصًا على ألا يرى أحد من زواره شيئًا من الابتلاء، الذي وضعه الله فيه، سبحانه وتعالى، بل لم يتطرق إلى شيء مما كان يعانيه، وبدا جَلْدًا صبورًا كبير النفس كأن لا شيء هناك قط، وهو ما زادني له احترامًا على احترام. وأخذنا نضحك ونداعبه كما هي العادة، وهو يتجاوب معنا بكل عقله ووجدانه بما نعرفه عنه من رقة نفس ولين جانب وتواضع قلب.

وترجع معرفتي بكتابات الدكتور المطعني إلى الثمانينات بعد عودتي بقليل من بريطانيا، التي أمضيت فيها ستة أعوام للحصول على درجة الدكتوراه. ولعل جريدة "النور" أول جريدة قرأت فيها له وعنه. وكنت في البداية ولمدة طويلة أتصور أن هناك "مطعنيّين" اثنين: عبد العظيم، وهو ممتلئ قليلاً، وأصلع ويلبس جلبابًا أبيض، وعبد الحكيم، وهو أصغر سنًا، وتبدو عليه سيماء الحزن، ويرتدى بدلة، وله شعر. وكنت أحسبهما ابنَيْ عم... إلى أن اكتشفت أن الأمر كله وهم في وهم، وأن ليس هناك إلا الأستاذ الدكتور عبد العظيم المطعني، وأن عبد الحكيم ليس سوى عبد العظيم في شبابه. وقد ضحكت كثيرًا حينما عرفت هذا، ولعله هو الذي شرح لي السر، ونبهني إلى ما كنت منغمسًا فيه من خلط.

ورغم أنني لم أزر الأستاذ الدكتور في بيته إلا مرات قليلة، فقد كانت بيننا اتصالات بالهاتف ومقابلات هنا وهناك: في الإذاعة أو في مناقشات بعض الرسائل الجامعية مثلاً، كما رشحني أكثر من مرة لبعض الأنشطة العلمية في مصر وخارجها.

كذلك كانت علاقتي بأفراد أسرته ودودة، رغم انحصارها في تلك الفترة القصيرة التي كنت أتصل بها فيه قبل أن ينادوه ليرد عليّ، وهو ما يدل على شدة حبهم له، إذ كانوا يودون مَن يوده، حتى لو لم تكن لهم به معرفة عن قرب. وفي مكتبي عدد من كتبه التي أهدانيها والتي أعتز بها وقرأتها فور وصولها إلى يدي، وكان الرسول بيننا في الغالب هو الأستاذ مجدي عبد اللطيف، الذي اقترح عليّ هذه الكلمة، والذي كنت أنا وهو ننوي، منذ فترة، أن نقوم بزيارة الراحل العزيز معًا، إلا أن الأقدار لم تحقق هذه النية لأمور كانت خارج أيدينا.

رحم الله عالمنا الهمام، وتقبله عنده في الصدِّيقين والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

المصدر
http://www.shareah.com/index.php?/records/view/id/1343/