.
{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم }
يقطع هذا النص بأنه ليس من شأن إنسان أن يكلمه الله مواجهة.
وقد روي عن عائشة رضي الله عنها: " من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية "
إنما يتم كلام الله للبشر بواحدة من ثلاث:
1) " وحيا " يلقى في النفس مباشرة فتعرف أنه من الله
{ إِلاَّ وَحْياً } أيْ إلاَّ بأنْ يُوحيَ إليهِ ويلهمَهُ ويقذفَ في قلبهِ كما أَوْحى إلى أمِّ مُوسى وإلى إبراهيمَ عليهما السَّلامُ في ذَبْحِ ولدهِ، وقَدْ رُويَ عن مجاهدٍ: أَوْحَى الله الزبورَ إلى داودَ عليهِ السَّلامُ في صدرِه.
2) { أو من وراء حجاب }. كما كلم الله موسى ـ عليه السلام ـ وحين طلب الرؤية لم يجب إليها، ولم يطق تجلي الله على الجبل
{ وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين }
3) { أو يرسل رسولاً } وهو الملك { فيوحي بإذنه ما يشاء } بالطرق التي وردت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم.
الأولى : ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال: صلى الله عليه وسلم ـ " إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب " .
والثانية : أنه كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتمثل له الملك رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول.
والثالثة : أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إن كان راكبها، ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها.
والرابعة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه. وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم.
هذه صور الوحي وطرق الاتصال.. { إنه علي حكيم }.. يوحي من علو ، ويوحي بحكمة إلى من يختار..
فلنقف أمام هذه الآية،لنتأمل هذا الاتصال ... كيف؟
كيف يكون هذا الاتصال بين الذات الأزلية الأبدية التي ليس لها حيز في المكان ولا حيز في الزمان ، المحيطة بكل شيء، والتي ليس كمثلها شيء. كيف يكون هذا الاتصال بين هذه الذات العلية وذات إنسان متحيزة في المكان والزمان، محدودة بحدود المخلوقات، من أبناء الفناء؟!
ثم كيف يتمثل هذا الاتصال معاني وكلمات وعبارات؟
وكيف تطيق ذات محدودة فانية أن تتلقى كلام الله الأزلي الأبدي الذي لا حيز له ولا حدود؟ ولا شكل له معهود؟
وكيف؟ وكيف؟..
ولكن نعود ونقول: أنت لا تملك أن تتصور إلا في حدود ذاتك المتحيزة القاصرة الفانية؟! لقد وقعت هذه الحقيقة وتمثلت في صورة. وصار لها وجود هو الذي تملك أن تدركه من وجود.
ولكن الوهلة والرجفة والروعة لا تزول! إن النبوة هذه أمر عظيم حقا. وإن لحظة التلقي هذه لعظيمة حقاً. تلقي الذات الإنسانية لوحي من الذات العلوية.. أخي الذي تقرأ هذه الكلمات، أأنت معي في هذا التصور؟! أأنت معي تحاول أن تتصور؟!
الإمام / سيد قطب
.
المفضلات