ومن جهته قد محمد الحيرش مقاربة تداولية لعلاقة الخطاب بالمقام، مؤكدا علي الموقع الرئيس والجوهري لعنصر المقام في البلاغة العربية. وفي ثنايا مداخلته دافع عن دعوي مفادها أن البلاغة العربية فهمت المقام فهما ديناميا وليس سكونيا كما يزعم بعض الدارسين المحدثين (تمام حسان مثلا)، مبرزا بأن ليس هناك بلاغة عربية واحدة بل بلاغة عربية بصيغة التعدد، ومثل لذلك ببلاغة السكاكي التي ارتقت في دراستها للمقام إلي مستوي الانموذج العلمي الرصين.
علي هذا المستوي من التحليل، فقد ارتبط سؤال المناسبة المقامية التداولية في أجلي صوره بالبحث عن فعالية علمية إقناعية خطابية من جهة (عند الجاحظ مثلا)، كما ارتبط من جهة أخري بملاءمة العبارة للمقاصد ضمن نظرية النظم الاعجازية (أو يمكن ان ندعوه تداولية لسانية في مقابل التداولية الاقناعية النصية)، وارتبط من جهة ثالثة بالبحث عن بلاغة كلاسيكية ذوقية تقوم علي الصحة والمناسبة عند ابن سنان مثلا (6).
وجملة القول، فإنه لن يحول بين الدارس البلاغي الحديث وبين الاهتمام بأسئلة البلاغة العربية واقتحاماتها إلا عدم استيعابها سؤالا وإنجازا (7).
2 ـ نحو مقاربة تواصلية بديلة: نظرية النحو الوظيفي نموذجا
إن المتأمل في نظرية النحو الوظيفي (8) بنماذجها المتعاقبة (ما قبل المعيار ديك 1978 ) والمعيار (ديك 1989 وديك 1997)، يجد بما لا يدع مجالا للشك، أنها النظرية الاكثر استجابة لشروط التنظير والنمذجة (9) مقارنة بمثيلاتها من النظريات اللسانية الاخري. ومن ثم، فإن النظرية اللسانية لا تعد نظرية إلا في مستوي التفسير لا في مستوي الوصف، وبالتالي لا بد لها من موضوع، والذي يحدده هو النظرية، ونظرية النحو الوظيفي تمثل موضوعها في القدرة التواصلية بنموذجها الممثل لها هو نموذج مستعمل اللغة الطبيعية (10).
وحتي تكون الرؤية منسجمة وموضوع الندوة، جاءت مداخلة الدكتور أحمد المتوكل لتكشف اللثام عن ترابط بديع بين البلاغة العربية ونظرية النحو الوظيفي بحيث أبان فيها أن لمصطلح البلاغة ثلاثة معان:
1 ـ البلاغة ظاهرة: ومثلها في مجموعة ظواهر تقوم إلي جانب الظواهر النحوية والصرفية والصوتية، وهي ظواهر رصدت في أبواب علمي المعاني والبديع.
2 ـ البلاغة مكونا: بمعني أن تكون البلاغة مستوي من مستويات التحليل.
3 ـ البلاغة علما: أي كما يفهمها البلاغيون القدماء، وصنفوها في أبوابه، كعلم البيان والمعاني والبديع.
من هذا المنطلق، عمد إلي تلخيص البلاغة باعتبارها مكونا في ثلاث دفوع أساسية:
أ ـ أن مستعملي اللغة الطبيعية منتجين ومتلقين لا يتواصلون بجمل منفردة وإنما بخطابات.
ب ـ أن لمستعملي اللغة الطبيعية قدرة تواصلية متكاملة، أي مجموعة من الملكات في التواصل المنتج (كالملكة المعرفية، الملكة اللغوية، الملكة الادراكية، الملكة المنطقية والملكة الاجتماعية).
ج ـ أن النظرية اللسانية الأكفي هي تلك النظرية التي ترصد جميع الملكات ولا تقتصر علي الملكة اللغوية لوحدها، ويفضل في هذا الاطار النظرية التي توحد المقاربات الخطابية علي مستوي الجهاز الواصف.
أما من حيث كونها علما، فقد اقترح أن تتخذ ـ حسب تصوره ـ أحد الوضعين التاليين:
أ ـ إما أن تؤرخ (تصبح تاريخا)، وإذاك يمكن اعتبارها حقبة تاريخية من تاريخ الفكر العربي.
ب ـ وإما أن تسترجع، بمعني أن تصبح البلاغة العربية مرجعا، وبالتالي يمكن تفعيلها، وهو ما سماه بـ التفعيل الدامج .
وقد زكي هذا الطرح، عرض عز الدين البوشيخي الذي كان يروم من خلاله إلي مطارحة وتقديم تصور تحليلي واضح لنموذج مستعمل اللغة الطبيعية وذلك بالعمل علي نمذجة القدرة التواصلية التي تمكن المخلوقات البشرية من التواصل فيما بينها لغويا، مع إشارته إلي مكونات هذا النموذج وقوالبه وكيفية التفاعل فيما بين هذه القوالب. لكن ونحن نتحدث عن نموذج مستعمل اللغة الطبيعية وإنشاء الخطاب، فالأشكال الذي يظل عالقا هو: كيف تتعالق هذه الطاقات المكونة للنموذج ـ فيما بينها؟ وما هي اللغة التي تتواصل بها؟
في هذا الاطار، استطاع عز الدين البوشيخي أن يختزل هذه الأسئلة في ثلاث إشكالات كبري عميقة: إشكالية البنية، وإشكال العلاقات، واشكال التمثيل، وقد اختار ديك(ديك 1989) أن يعالج هذا الاشكال بالمقاربة القالبية علي النحو التالي:
ـ أن تتصور كل طاقة في صورة قالب.
ـ كل قالب يتمتع باستقلاله الذاتي، ويتجلي ذلك في: بنيته، مبادئ عمله، تطوره.
ـ كل قالب يتفاعل مع القوالب الأخري(11).
في حين راهنت مداخلة د. محمد جدير علي فكرة توسيع الجهاز الواصف في نظرية النحو الوظيفي والانتقال به من نموذج جملي إلي نموذج قادر علي رصد الظواهر اللغوية في أبعادها الخطابية، وحتي يتم التمكن من وضع نحو وظيفي للخطاب ثم اقتراح عدد من المقاربات، كرون (1997)، بولكستاين (1998)، فيت (1998)، والمقاربة الموسعة القالبية هنخفلد (2003)، والمتوكل (2003).
وعملا منه علي تمحيص ورود وكفاية هذه المقاربات، عمد إلي بحث نقطتين جوهريتين:
أ ـ معالجة بعض الظواهر اللغوية، كالاستفهام والوظائف التداولية وتفاعلها مع الوظائف التركيبية والدلالية والقوة الانجازية وربطها بسياقها وظروفها المقامية.
ب ـ فحص قدرة هذه المقاربات علي توفير تأويل دلالي لعمل إبداعي برمته كالعمل الروائي البوليسي الذي يشكل متنا لدراسة رواية ضحايا الفجر لمليودي حمدوشي.
ومن العروض التي عملت علي مقاربة النماذج اللسانية الحديثة، عرض نعيمة الزهري الذي يتجه إلي بحث عملية التواصل بشقيها: الانتاج والتأويل، مؤكدة علي أن النظرية اللسانية التي تروم بلوغ الكفاية التفسيرية عليها وصف هذه العملية في تعقيدها وحركيتها، وأعقبت ذلك بالوقوف عند عملية إنتاج الخطاب كما سطرها عبد القاهر الجرجاني من خلال نظرية النظم من جهة، وكذا عملية إنتاج الخطاب وتأويله كما وردت في نظرية النحو الوظيفي من جهة أخري، مبرزة أوجه الاختلاف والائتلاف بين التصورين.
يمكن القول إجمالا، إن هذه الندوة قد شكلت بالفعل لبنة أساسية ومحطة مهمة وبارزة لكل الباحثين والدارسين للفت الانتباه والاهتمام أكثر بتراثنا البلاغي العربي، والارتقاء به إلي مصاف المقاربات اللسانية الحديثة. والأمل معقود علي عقد أيام دراسية أخري وندوات لتسليط المزيد من الأضواء علي هذه المحطات.
باحث من المغرب
منقول عن القدس العربي
المفضلات