أورد بديع الزمان الهمذاني هذه الرواية في مقاماته ... وهي من الروعة بمكان ... فأحببت أن أنقلها إليكم
كان بشر بن عوانة العبدي صعلوكا فأغار على ركب فيهم أمرأة جميلة فتزوج بها وقال : ما رأيت كاليوم
فقالت :
أعجب بشرا حور في عيني = وساعد ابيض كاللجين
ودونه مسرح طرف العين = خمصانة ترفل في حجلين
أحسن من يمشي على رجلين = لو ضم بشر بينها وبين
أدام هجري وأطال بيتي = ولو يقيس زينها بزيني
لأسفر الصبح لذي عينين
قال بشر : ويحك من عنيت
فقالت : بنت عمك فاطمة
فقال : اهي من الحسن بحيث وصفت
قالت : وأزيد وأكثر
فأنشأ يقول :
ويحك يا ذات الثنايا البيض = ما خلتني منك بمستعيض
فالآن اذ لوحت بالتعريض = خلوت جوا فاصفري وبيضي
لا ضم جفناي على تغميض = ما لم أشل عرضي من الحضيض
فقالت:
كم خاطب في امرها ألحا = وهي اليك ابنة عم لحا
ثم ارسل الى عمه يخطب ابنته , ومنعه العم أمنيته فآلى ألا يرعي على أحد منهم ان لم يزوجه ابنته ثم كثرت مضراته فيهم , واتصلت معراته اليهم فاجتمع رجال الحي الى عمه وقالوا :كف عنا مجنونك فقال : لا تلبسوني عارا , وامهلوني حتى أهلكه ببعض الحيل فقالوا : انت وذاك ثم قال له عمه : إني آليت أن لا أزوج إبنتي هذه إلا ممن يسوق إليها ألف ناقة مهرأ ولا أرضاها إلا من نوق خزاعة
_ وغرض العم كان أن يسلك بشر الطريق بينه وبين خزاعة فيفترسه الأسد
لأن العرب قد كانت تحامت عن هذا الطريق , وكان فيه أسد يسمى داذا وحية تدعى شجاعا
يقول فيهما قائلهم :
أفتك من داذ ومن شجاع = ان يكن داذ سيد السباع
فانها سيدة الأفاعي
ثم ان بشر سلك ذلك الطريق , فما نصفه حتى لقي الأسد , وقمص مهره , فنزل وعقره ,ثم اخترط سيفه الى الأسد , واعترضه , وقطه ,
ثم كتب بدم الأسد على قميصه الى ابنة عمه :
أفاطم لو شهدت ببطن خبت = وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا
اذا لرأيت ليثا زار ليثا = هزبرا أغلبا لاقى هزبرا
تبهنس اذ تقاعس عنه مهري = محاذرة فقلت : عقرت مهرا
أنل قدمي ظهر الأرض ؛اني = رأيت الأرض أثبت منك ظهرا
وقلت له أبدى نصالا = محددة ووجها مكفهرا
يكفكف غيلة احدى يديه = ويبسط للوثوب على أخرى
يدل بمخلب وبحد ناب = وباللحظات تحسبهن جمرا
وفي يمناي ما ضى الحد أبقى = بمضربه قراع الموت أثرا
ألم يبلغك ما فعلت ظباه = بكاظمة غداة لقيت عمرا
وقلبي مثل قلبك ليس يخشى = مصاولة فكيف يخاف ذعرا
وأنت تروم للأشبال قوتا = وأطلب لأبنة الأعمام مهرا
ففيم تسوم مثلي ان يولي = ويجعل في يديك النفس قسرا
نصحتك فالتمس ياليث غيري = طعاما ان لحمي كان مرا
فلما ظن أن الغش نصحي = وخالفني كأني قلت هجرا
مشى ومشيت من اسدين راما = مراما كان اذ طلباه وعرا
هززت له الحسام فخلت أني = سللت به لدى الظلماء فجرا
وجدت له بجائشة أرته = بأن كذبته ما منته غدرا
وأطلقت المهند من يميني = فقد له من الأضلاع عشرا
فخر مجدلا بدم كأني = هدمت به بناء مشمخرا
وقلت له : يعز علي أني = قتلت مناسبي جلدا وفخرا
ولكن رمت شيئا لم يرمه = سواك فلم أطق ياليث صبرا
تحاولأن تعلمني فرارا = لعمر أبيك قد حاولت نكرا
فلا تجزع فقد لاقيت حرا = يحاذر أن يعاب فمت حرا
فان تك قد قتلت فليس عارا = فقد لاقيت ذا طرفين حرا
فلما بلغت الأبيات عمه ندم على ما منعه تزويجها, وخشى ان تغتاله الحية , فقام في أثره وبلغه وقد ملكته سورة الحية , فلما رأى عمه أخذته حمية الجاهلية
فجعل يده في فم الحية وحكم سيفه فيها فقال :
بشر الى المجد بعيد همه = لما رأه بالعراء عمه
قد ثكلته نفسه وأمه = جاشت به جائشة تهمه
قام الى ابن للفلا يؤمه = فغاب فيه يده وكمه
ونفسه نفسي وسمي سمه
فلما قتل الحية قال عمه :
اني عرضتك طمعا في أمر قد ثنى الله عناني عنه, فارجع لأزوجك ابنتي فلما رجع جعل بشر يملأ فمه فخرا , حتى طلع أمرد كشق القمر على فرسه مدججا في سلاحه فقال بشر: ياعم اني اسمع حس صيد , وخرج فاذا بغلام على قيد فقال : ثكلتك أمك يا بشر ! أن قتلت دودة وبهيمة تملأ ما ضغيك فخرا ؟ انت في أمان ان سلمت عمك
فقال بشر : من أنت لا أم لك ؟!
قال : اليوم الأسود والموت الأحمر
فقال بشر :ثكلتك من سلحتك
فقال : يا بشر ومن سلحتك
وكر كل واحد منهما على صاحبه , فلم يتمكن بشر منه وأمكن الغلام عشرون طعنة في كليتة بشر كلما مسه شبا السنان حماه عن بدنه ابقاء عليه ثم قال :
يا بشر كيف ترى؟
اليس لو اردت لأطعمتك أنياب الرمح ؟
ثم القى رمحه واستل سيفه فضرب بشرا عشرين ضربة بعرض السيف ولم يتمكن بشر من واحدة ثم قال : يا بشر سلم عمك واذهب في أمان
قال بشر : نعم ولكن بشريطة ان تقول من أنت
فقال : أنا ابنك !!
فقال بشر : يا سبحان الله ما قارنت عقيلة قط فأنى لي هذه المنحة ؟؟؟
فقال الغلام: أنا ابن المرأة التى دلتك على ابنة عمك
فقال بشر :
تلك العصا من هذه العصية = فهل تلد الحية الا الحية
وحلف لا ركب حُصانا ولا تزوج حَصانا .
ثم زوج ابنة عمه لأبنه
المفضلات