صلب السيد المسيح
بين السياسة والدين


مسألة صلب السيد المسيح، هذه المسألة حيوية بالنسبة للمسيحي، فهي النبأ السّار الذي تنبّأ به أنبياء بني إسرائيل وهي خلاصة الإنجيل وذِروة سَنَام عَمَل المسيح ومعنى البشارة بملكوت الله ولأجلها تجسّد ابن الله ونزل من السماء في شبه جسدٍ بشري ليموت على صليب العار مكفّرا عن خطايا البشر.
ونُظّمت إصحاحات الإنجيل حولها، وكلّ إنسان غير مؤمنٍ بموت المسيح ليس له خلاصٌ وهو مُدان تحت عبودية الخطية، وقبل كلّ شيء فهذا حدثٌ تاريخي وقع على عهد بيلاطس البنطي والي الرومان على اليهودية، وقد شَهِدَ التلاميذُ بوقوعه وتنبّأ الأنبياء به واتّفق الخصوم عليه. ودوّنته الإدارة الرومانية في وثائقها ونقله التاريخ لنا واحتمل آباء الكنيسة القدامى الموت حرقاً من أجله، وأبرزته جميع أسفار الإنجيل، وعاش به ومن أجله ملايير المسيحيين منذ أكثر من ألفي عام.

هذا ما يعتقدُه المسيحي ويراه، فكيف يصدّق الكتابي رجلا أمّيا خرج من برّية العرب ليقول للنّاس : [وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)] النساء 157.

ثم بعد كلّ هذا ما العيب أو الغريب في صلب عيسى ؟ ألم يذكر القرآن الكريم في عشر آياتٍ على الأقل أنّ اليهود قتـلوا أنبياءهم قال تعالى:

[لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)](آل عمران181-183).

أمام هذا البون الشاسع بين القرآن والإنجيل بخصوص مسألة صلب يسوع، وفي غياب الأبحاث من جانب المسلمين في هذا الشأن أو نُدرَتها وجد المسيحي الإجابة الشافية في الإنجيل:
لم يكن المسلم أوّل من استعظمَ الصلبَ على المسيح المُخلِّص فلقد كبُرَ خبرُه أيضاً على تلميذه سمعان بطرس وقال له :

[22فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ قَائِلاً:«حَاشَاكَ يَارَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هذَا!» 23فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ:«اذْهَبْ عَنِّي يَاشَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ».] متى 16/21 – 23؛ مر 8/31 – 9/1؛ لو9/22.
نعمْ! لقد وسوسَ الشيطانُ، في رأي المسيحي، من قبل وأوحى إلى أمير الحواريين أنّ هذا الأمر مُمتنعُ الحدوث، هكذا يفسّرُ المسيحي موقفَ المسلم.

ومَنْ أراد مِنَ المسلمين أن يجد تفسيراً لماذا تستبيح القوى العظمى دماءنا وتنتهكُ مقدّساتنا فليتأمّل جيّدا النص السالف الذكر، فتلاميذُ الشيطان لا حقّ لهم.

السياق الدّيني الاجتماعي لقضية الصلب

وإذا أردنا أن نستبِقَ مضمون هذا البحث لأجلِ أن نفسّرَ لماذا يرفضُ القرآنُ الكريم صلبَ عيسى عليه السلام فنقول يجب أن ننظرَ للمسألة في سياقها الدّيني الاجتماعي، فنبي النّاصرة عليه السلام إسرائيلي بعثه الله إلى شعبه إسرائيل.

والفكرة المحورية في هذه القضية هي أنّ شريعة التوراة التي هي ضمير الشعب لا تُعَلّقُ رجلا على خشبةٍ إلاّ إذا كان مُجرماً عاتياً أو كافراً بالله تعالى مُجدّفاً، فإذا نجحَ خصُومُه في صلبِه فقد مَسّوا بمصدَاقيته وأقنعوا النّاس من شعبِهم أنّ هذا الرجلَ ليسَ إلا تلميذا للشيطان ، لم يفعلْ عجيبةً من عجائبهِ إلا بقوة بعل زبول ويعني هذا من بين ما يعنيه أنّ الله تعالى قد انهزمَ ورسولَه ( تعالى الله عن ذلك عُلُواً كبيراً ).

وإذا ثبتَ لنا يقيناً من التاريخ أنّ رسالة سيّدنا عيسى عليه السلام استمرّت واشتدّ عودُها بعده فلا تفسير لها سوى أنّه لم يُصلبْ.

ولتقريب الفكرة دعوني أضرِبُ هذا المثل، هبْ أنّ رجلا مسلماً ادّعى الصلاح والكرامات بين المسلمين فتَبِعهُ البُسطاء والسذّجُ واستطاع أن يصنع لنفسه مكانة مقدّسةً بينهم، ثم بمرور الأيام بدأت تُرفعُ إلى النائب العام شكاوى مِن مريديه تتّهِمُه بالنصبِ والاحتيال وخيانة الثقّة والشعوذة والأخلاق الفاحشة، وأُوكِلَ التحقيقُ للشرطة والقضاة وجُمِعت عناصرُ الجريمة واعترفَ المتّهمُ بجرائمه وقضتِ المحكمة الشرعية برَجْمِه جزاء بما قدّمتِ يداه.

لا شكّ أنّ هذا الرجلَ سيسقطُ في عيني النّاس ولا ريبَ أنّ ادّعاءاته ستنفضح، وسيتّضحُ لأتباعه أنّه كان مُغرّراً بهم.

ولنفرضْ أيضاً أنّ رجُلا قام بعدَه وقال ماتَ هذا المرجومُ من أجلِ خطايانا، فهل تجدُ هذه الدعوى بين المسلمين آذانا مُصغيةً ؟.. لا شكّ أنّ محاولةً مثلَ هذه ستفشلُ فشلا ذريعاً، إذ كيف يموت هذا الفاسقُ المجرِمُ من أجلِ خلاصنا؟؟ وإذا نجحت هذه الدعوة فإنّها ستنجحُ لا محالةً بين غيرِ المسلمين من وثنيين وغيرهم.
وهذا ما حدثَ بالفعلِ ففكرةُ المسيح المصلوب نجحَت لا بين اليهود إنّما بين الوثنيين من الإغريق والرومان لأنّها فكرةٌ قريبةٌ من عقائدهم لكنّها بين شعب يسوع عليه السلام فضيحةٌ وجهالةٌ .

وهكذا نستطيعَ تلخيص هذا البحث في الآتي:

يُسلِّمُ اليهودي المؤمنُ بمسيح مصلوب لمّا يسلِّمُ المسلمُ بصلاح وتقوى رجلٍ مَرجُومٍ.
هذا ملخّصُ البحث الذي أضعه أمامكم، إخواني مسلمين ومسيحيين، ليحلّ الإشكالية في إطارها السيّاسي والديني الاجتماعي الذي عاشت في ظلّه الأرض المقدّسة منذ أكثر من ألفي سنة.

ما مصلحة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رفضه للصلب
:

رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمّيٌ خرج من قرية أمّية وكانت المسيحية منتشرة في ثلاث قارات:شمال إفريقيا ، أوروبا وآسيا. وجدهم متّفقين جميعا على أنّ عيسى مات مصلوبا تكفيرا عن خطايا البشر.

وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حريصا على أن يؤمن به النّاس فهل من الدبلوماسية المعهودة في الحسابات البشرية أن يواجه وحده جميع المسيحيين ويخسر تعاطفا ممكنا إن لم يكن من الكلّ فعلى الأقل من البعض .

المنطق يقول أنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن لديه أيّة مصلحة في نكران صلب عيسى ولو لم يكن لديه اليقين العميق من أنّ مصدره متين، أقوى من اعتقاد جميع المسيحيين آنذاك، ما أقدم على قول شيء قد يظهر خطئه بعد حين، خصوصا أنّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن لديه أيّ دليل تاريخي أو نصّي أو أيّ شيء آخر يدعم به موقفه سوى اعتقاده أنّه ينقل خبرا من لدن الحكيم الخبير، ولتوضيح الأمر على ما يمكن أن تكون عليه خيبة المسيحي من عقيدة المسلم نضرب هذا المثل:
نفرض أنّ سياسيا من بولندا أراد أن يكسب الشعب المصري صديقا لقضيته ، فهل يجرؤ على التشكيك في أعزّ ما يفخرُ به المصريون وهو حرب أكتوبر التي هزمت الجيش الذي لا يقهر.

ويقول لهم: ما حاربتم ولا انتصرتم إنّما شبّه لكم؟.
فتصور أخي القارئ كيف يستحيل في منطق البشر ويتعذّر أن تجمع بين إرادتك في كسب أصدقاء مع تكذيبك لأعزّ ما يتمسّكون به.

والحقيقة الجلية أنّ تكذيب القرآن لصلب عيسى كان من شأنه أن يصنع أعداءً لرسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يمكن أن يصنع له أصدقاء. وهذا دليلٌ حاسم في أنّ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مُبلّغا عن ربّه ليس إلا، لا يرجو مصلحة خاصّة من ذلك.

معالجة القرآن الكريم لمسألة الصلب

من الأشياء التي تشدّ انتباه المحقّقين في مثل هذه المسائل، نجد أنّ ما تعتبره الكنيسة جوهر العقيدة والذي أطنب في تفسيره سبع وعشرون سفرا في الإنجيل لم يَرُدّه القرآن الكريم إلا بآية وحيدة في سورة النساء 157.

ما هي الدروس المستخلصة؟


ـ أمّية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وهذا هو الدرس الأوّل .
ليس من منطق البشر إذا أرادوا تفنيد شيء أن يكتفوا بالقول:" هذه القضية لم تحدث"، بل عليهم أن يأتوا بالبيّنات والدلائل على صدق ما يدّعون.
ولو سألنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما دليلك على أنّ عيسى لم يُقتل ولم يُصلب فسيقول أخبرني العليم الخبير. ونِعمَ بالله، فلا علم ولا تاريخ ولا منطق يعلو فوق كلام الله تعالى.

ـ عدالة القرآن: وهو الدرس الثاني.

والمسلم لمّا يستند إلى القرآن الكريم في تفنيد صلب المسيح عيسى عليه السلام سيُواجه من قِبَلِ المسيحي بنصوص إنجيلية تثبت العكس. وأمام هذه المعضلة سيحاول المتجادلان البحث عن مصدر مستقلٍّ يحتكمان إليه، لكن لا توجد وثائق تاريخية ذكرت أو حتّى أشارت إلى اسم يسوع عليه السلام، ولمفاجئة الجميع سنرى أنّ الأناجيل التي بين يدينا هي التي تفنّد صلبه. وبهذا تتحقّق عدالة القرآن الكريم في إقامة الحجّة على المنكرين من كتُبهم التي يطمئنون إليها.
ولن يجد المسيحي خيرا له من نصوصه المقدّسة في علاج هذه المسألة، وهذا أسلوبٌ ربّاني، فقد احتجّ الله تعالى على اليهود بتوراتهم.
قال تعالى: [ قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقي] وقد قال تعالى:[ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن].
فلا شيء أحسن ولا أمضى حجّة من نصوص الكتاب المقدّس عند محاورة إخواننا أهل الكتاب.

ـ معجزة القرآن: من تصفّح ردود المسلمين في مسألة الصلب يتّضحُ جليا أنّ المسألة تتجاوزُهم، فلم يفهموا لماذا رفض القرآن الكريم صلب عيسى عليه السلام ولا أتوا بشيء جديدٍ يدعم إيمانهم، وإذا اتّضح من الأبحاث والدراسات النقدية والتاريخ والآثار التي اكتشفت في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين..
وفي القرن الحالي عرضت قناة ديسكفري الأمريكية فيلماً وثائقياً عن اكتشاف "قبر المسيح" و"ابنه".
وهذا الفيلم أحرج رجال الكنيسة في جميع أنحاء العالم فالدراسات العلمية أثبتت تاريخ القبر وأنه يرجع إلى تاريخ وفاة السيد المسيح، وخرجوا بأنّ عيسى عليه السلام لم يصلب ولم يُقتل. فهذه معجزة المعجزات.
وهذا هو رابط تحميل الفيلم. http://islamegy.wordpress.com

ماذا يستهدف القرآن الكريم بنكرانه صلب المسيح

أنّ القرآن الكريم يستهدف التالي:

• عيسى عليه السلام ليس ملعونا بل نبيا مُباركا، وهذا ردّ على اليهود.
• نفي عقيدة الخلاص وإقرار أن كلّ أمريء بما كسب رهين، وهذا ردّ على النصّارى.
• نفي عقيدة التجسّد القائلة ببنوة عيسى لله تعالى .
• نفي نسخ عيسى عليه السلام لشريعة التوراة.
• نفي أنّ الإنجيل هو العهد الجديد، بل هو آخر أسفار العهد القديم.
• أنّ عيسى لم يؤسّس مملكة الله ، بل بشّر بها فقط.
• عيسى عليه السلام ليس هو خاتم الأنبياء.
• إثبات أنّ الإنجيل عبثت به أيدي الضّالين.
كلّ هذه الأفكار التي عدّدناها تفسّرها حادثة الصلب، فإذا انهارت عقيدة الصلب ستنهار كلّ هذه الأفكار تباعا لها.
والحديث موصول بإذن الله تعالى.