التربية الاجتماعية في الإسلام

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

 

 

    

 

التربية الاجتماعية في الإسلام

صفحة 3 من 3 الأولىالأولى ... 2 3
النتائج 21 إلى 29 من 29

الموضوع: التربية الاجتماعية في الإسلام

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    التجمُّل وحسن المظهر
    سورة الأعراف(7)
    قال الله تعالى: {يابني آدم قد أَنزلنا عليكم لِباساً يُواري سَوْءاتِكُم ورِيشاً.. (26)}
    وقال أيضاً: {يابني آدمَ خذوا زينَتَكم عند كلِّ مسجدٍ.. (31)}
    وقال أيضاً: {قُلْ من حرَّمَ زينةَ الله الَّتي أخرجَ لعباده.. (32)}
    ومضات:
    ـ الإسلام دين الواقع والحياة؛ لأنه الدِّين الَّذي جمع بين مطالب الروح وحاجات الجسد على حدٍّ سواء، وجعل من كلِّ ما ينسجم مع الفطرة السليمة مباحاً حلالاً، وحرَّم ما يتناقض معها ويسيء إليها.
    ـ لمَّا كان التجمُّل والتزيُّن رغبة فطرية في الإنسان، جعله الإسلام أمراً مباحاً في كلِّ حين، ومندوباً وواجباً في الأعياد والصَّلوات الَّتي تجمع كثيراً من الناس في مكان واحد؛ وذلك ليكون قريباً من إخوته في هذه اللقاءات، وبعيداً عن كلِّ ما ينفِّرهم ويؤذي مشاعرهم.
    في رحاب الآيات:
    لقد كرَّم الله الإنسان على جميع مخلوقاته بالعقل والإرادة والتكليف، وميَّزه عنها بأشياء كثيرة وعديدة من أهمِّها اتخاذ الملابس والزينة، لأنها تدلُّ على مظهر حضاري رفيع، أمَّا التجرُّد عنها فـيُعَدُّ انحداراً عن المستوى الإنساني العالي إلى المستوى البهيمي المتدنِّي. وقد امتنَّ الله على الناس بأن خلق لهم المادَّة الَّتي يصنعون منها ثيابهم، وجعلها في متناول أيديهم كالصوف والقطن والوبر والحرير وهذا هو معنى قوله تعالى: {أنزلنا عليكم لباساً}، حيث ألهمهم طرق تصنيعه تحقيقاً لغايتين هما: الستر لعوراتهم فتسمَّى لباساً، وزينة لمظهرهم فتسمَّى ريشاً، فاللباس من الضرورات، والريشُ الَّذي ذكر في الآية الكريمة يعني الزينة من التحسينات والكماليات المباحة الَّتي فُطِرَ الإنسان على الرغبة فيها، بحيث يبدو أمام الناس بالمظهر الجميل اللائق.
    فالمسلم الحقيقي حسن المظهر دائماً، حلو الكلام، عذب اللسان، يألف ويُؤْلف. وقد أحلَّ الله له الاستمتاع بالطيِّبات ملتزماً حدود الاعتدال، فلا إسراف ولا تبذير، ولا إفراط ولا تفريط. وليس من الدِّين في شيءإهمال نظافة الجسد، أو ارتداء البالي من الثياب بحجَّة الزهد والتقشُّف، فقد أخرج أبو داود عن أبي الأحوص عن أبيه قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب دون، فقال: ألك مال؟ قلت: نعم، قال: من أيِّ المال؟ قلت: قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق، قال: فإذا آتاك الله فليُرَ أثرُ نعمةِ الله عليك وكرامته».
    ويشترط في التزيُّن ألا يصل حداً يفتتن الإنسان به، ولابأس في أن يتفنَّن به بما علَّمه الله وهيَّأ له من الأسباب، كي يتوصَّل إلى أنواع كثيرة من الزينة المباحة الَّتي لا يخالطها إسراف أو تكبُّر. أخرج مسلم وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبَّة من إيمان، ولا يدخل الجنَّة من كان في قلبه مثقال حبَّة من كِبْر، فقال رجل: يارسول الله! إنه يعجبني أن يكون ثوبي غسيلاً، ورأسي دهيناً، وشراك نعلي جديداً، وذكر أشياء... أَمِنَ الكِبْرِ ذاك يارسول الله؟ قال: لا، ذاك الجمال، إن الله عزَّ وجل جميل يحبُّ الجمال، ولكن الكِبْرَ من سَفَّهَ الحقَّ وازدرى الناس».
    فالإسلام لا يُحرِّم شيئاً من الزينة الَّتي خلقها الله لعباده، وهو ينكر على الغُلاة والمتشدِّدين تحريمهم لما أحلَّ الله، قال تعالى: {قل من حرَّمَ زينةَ الله الَّتي أخرج لعباده..} فالزينة مباحة لجميع الناس، ولكن الشكر عليها واجب لله الَّذي خلقها وأنعم بها على عباده، وذلك ليقترن نعيم الدنيا برضوان الله، ولتنقلب العادات إلى عبادات وترتفع الأعمال من الأرض وتكتب مقبولة في السموات. روى أحمد والترمذي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من استجدَّ ثوباً فلبسه فقال حين يبلغ تَرْقُوَته: الحمد لله الَّذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمَّل به في حياتي، ثم عمد إلى الثوب الخلِق فتصدَّق به كان في ذمَّة الله وفي جوار الله، وفي كَنَفِ الله، حياً وميتاً».
    فاتخاذ الزينة، وارتداء الثياب النظيفة والجميلة والأنيقة مستحبٌّ ومستحسن كلَّ حين، ولكنَّه أكثر استحباباً عند أداء العبادة لاسيَّما في أماكنها الخاصَّة بها لقوله تعالى: {يابني آدم خذوا زينتكم عند كلِّ مسجد}، وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : «إذا صلَّى أحدكم فليلبس ثوبيه فإن الله عزَّ وجل أحقُّ مَنْ تُزُيِّن له، فإن لم يكن له ثوبان فليأتزر إذا صلَّى» (أخرجه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنه ) ؛ و إقتداءً بعمله صلى الله عليه وسلم واستحبابه لبس الجميل من الثياب، فعن جندب بن مكيث رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قَدِم عليه وفدٌ لَبِسَ أحسن ثيابه، وأمر أصحابه بذلك، فرأيته وَفَدَ عليه وَفدُ كِندَه وعليه حُلَّـةٌ يمانية، وعلى أبي بكر، وعُمر مثل ذلك» (رواه أبو نعيم والواقدي). وعن أبي جحيفة عن أبيه قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه حُلَّـة حمراء» (رواه البخاري). وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «مارأيت أحداً من الناس أحسن في حُلَّـة حمراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم » (رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي) أمَّا عن الزينة في يوم الجمعة فهي سنَّة مستحبَّة يُثاب عليها صاحبها ويؤجر لقوله صلى الله عليه وسلم : «من اغتسل يوم الجمعة ولبس أحسن ثيابه، ومسَّ من طيب إن كان عنده ثم أتى المسجد فلم يتخطَّ أعناق الناس، ثم صلَّى ما كتب الله له ثم أنصت إذا خرج إِمامُهُ حتَّى يفرغ من صلاته كانت كفَّارة لما بينها وبين جمعته الَّتي قبلها» (رواه أبو داود عن سلمان الفارسي رضي الله عنه ).
    ويُستثنى من هذا الحكم خروج المرأة إلى المساجد أو الطرقات وعليها أثر من أثر الزينة، فعن زينب امرأة عبد الله رضي الله عنه قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمسَّ طيباً» (رواه مسلم). فزينة المرأة في بيتها ولزوجها فهو أحقُّ من تتزيَّن له، فإذا خرجت من بيتها فهي مأمورة بالاحتشام وعدم إبداء شيء من تلك الزينة أمام الأجانب والغرباء عنها، حفاظاً على نفسها من أن ينالها ضرر وأذى، وحفاظاً على المجتمع من الانحراف والفساد.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    بعض الأحكام والحدود في الإسلام


    مقدمِّة:


    حرصت جميع الشرائع في تشريعاتها على حماية أصول خمسة، فيها قوام كلِّ مجتمع إنساني، وهي على الترتيب: حماية الدِّين والنفس والعرض والعقل والمال. فهذه الخمسة هي مقاصد الشرائع السماوية، والمحور الَّذي تدور أحكامها حوله، وتُسمَّى بالضروريات الخمس لأن استقرار حياة النَّاس دينياً ودنيوياً متوقِّف عليها، ومرهون بحفظها، فإذا ما فُقِدت اختلَّت الحياة في الدنيا، وانعدم النظام في المجتمع، ووجب العقاب بحقِّ كلِّ مفرِّط ومتهاون.
    ويرى الباحث أن الإسلام قد سلك في سبيل الحفاظ على هذه الضروريات اتجاهين متوازيين:
    أوَّلهما: تحقيقها وإيجادها. وثانيهما: المحافظة على استمرارها وحمايتها من المعتدين وعبث العابثين.
    ففي المجال الأوَّل: أشبع الله ـ سبحانه وتعالى ـ حاجات الإنسان، فهداه إلى التَّوحيد ـ من خلال أنبيائه ورسله ـ تلبية لحاجته الفطريَّة إلى الدِّين والحياة الروحية، ومنحه الحياة وأمره أن يحافظ عليها ويقدِّم لجسده جميع ما يحتاج إليه، ليبقى صالحاً لاستمرارها فيه، لذلك أباح له الطيِّبات من الرزق، من المأكل والمشرب والملبس. وأباح له الزواج ليكون سبباً في بقاء النوع الإنساني إلى ما شاء الله. وأنعم عليه بالمكانة الاجتماعية اللائقة، والاعتبار الإنساني، وأعطاه الأهل والزوجة والولد وأمره أن يصون ذلك كلَّه، فلا يفرِّط بشيء منه تحقيقاً لهذه المطالب الإنسانية الأساسية. ودعاه إلى النظر والتأمُّل في أرجاء هذا الكون الفسيح وفي نفسه وما حوله، والبحث عن الحقائق إشباعاً لمتطلَّبات العقل والحياة الفكرية.
    ولما كان المال عصب الحياة، والنفوس مجبولة على حبِّه، فقد تجاوب الدِّين مع هذه الفطرة، فأباح الكسب الحلال وأطلق الأيدي المنتجة تبدع في إنتاجها فتقدِّم لعباد الله حاجاتهم وتستثمر جهودها، وصان الملكية الفردية المشروعة انسجاماً مع متطلَّبات الفطرة في حبِّ التملُّك، وهذا كلُّه في دائرة الاتجاه الأوَّل لتحقيق تلك الضرورات وإيجادها.
    أمَّا في الاتجاه الثاني وهو اتجاه المحافظة على هذه الضروريات من الأيدي الآثمة والاختيار الخاطئ، فقد حرَّم الله من خلال شرائعه ـ وخاصَّة الإسلام ـ كلَّ اعتداء يحول دون تحقيقها، وفرض عقوبات محدَّدة رادعة بحقِّ المعتدين أيّاً كانوا، تدعى بالحدود، ولم يأت هذا التحريم والعقاب الَّذي يترتَّب على انتهاكه إلا بعد تشريع ما يشبع تلك الرغبات والدوافع من الحلال الطـيِّب. فلم يقمع الشرع الحنيف حاجة من الحاجات،بل جعل لها السبيل الآمن السليم لبلوغها، والوصول بصاحبها إلى الغاية الإنسانية الفضلى المرجوَّة من ورائها، وبذلك يعيش النَّاس جميعاً سعداء آمنين في ظلال العدالة الإلهية، والاطمئنان الروحي والنفسي، والأمن الاجتماعي والصحِّي. وبغية الحفاظ على النفس وضمان حقِّ الحياة لجميع أفراد المجتمع، فقد حرَّم الإسلام قتل النفس وجعله من كبائر الذنوب والآثام، ورتَّب على جريمة القتل عقوبة القصاص بأن يُقْتَلَ القاتل المتعمِّد، وكما حرَّم الاعتداء على النفس، حرَّم كلَّ ما من شأنه أن يوقع ضرراً أو أذى على جسد الإنسان.
    وكذلك حرَّم الإسلام الاعتداء على الأعراض في المجتمع، فصانها من أن يقع النَّاس فيها ويفسدوا على أصحابها حياتهم، ورتَّب على انتهاك هذه الحرمات عقوبات زاجرة تجعل الأعراض بمنأى عن العدوان. وتحقيقاً لذلك فرض عقوبة القذف ـ وهو الاتِّهام بالزِّنا والفاحشة دون دليل ـ وزيادة على عقوبته الجسدية أمر بحرمان القاذف من قبول شهادته في شيء. كما جعل عقوبة الزنا عقوبة شديدة تحجز النَّاس عن هذه الجريمة الكبرى، الَّتي تكاد آثارها الوبائية تقضي على جانب كبير من الجنس البشري.
    كما أن الإسلام حرَّم الاعتداء على العقول والوعي فحفظ على الفرد اتِّزانه وأبقى على عقله ووعيه، فحرَّم شرب المسكرات بأنواعها وكلَّ المخدرات والمُفَتِّرات ـ قليلها وكثيرها ــ وبذلك صان الفرد من سائر أمراض المسكرات، ومن مرض خطير جداً أوسع مدى من أن يكون حالة عارضة من فقد الوعي، ألا وهو مرض الإدمان، الَّذي تئنُّ منه البشرية المعذَّبة الآن، لأنها لم تلتزم بمنهج الله الَّذي رسم مخطط الحياة الفاضلة الآمنة الأمثل. وتحقيقاً لقيام مثل هذا المجتمع، والبعد بالنَّاس عن كلٍّ من السُّكْرِ والإدمان، فقد شرَّع عقوبة رادعة عن شرب الخمر وسائر المؤذيات.
    وحفظاً للأموال وضماناً لحقِّ أبناء المجتمع في التملُّك المشروع، فقد حرَّم الإسلام السرقة، وجميع التصرفات والأعمال الَّتي تؤدِّي إلى أكل أموال النَّاس بالباطل، لذلك فرض عقوبة رادعة على السارق وهو آخِذُ أموال النَّاس بغير وجهٍ مشروع.
    ويلاحظ في هذا المجال أن الإسلام لم يتَّجه هذا الاتجاه، إلا بعد أن ربَّى النبي r المجتمع التربية المُثلى، فارتقى به إلى آفاق عالية من الإيمان والشعور بحقوق الآخرين، والرغبة في رضا الله والخشية من سخطه،وبعد هذا التهذيب الحقيقي لأخلاق وسلوك الأفراد، شُرِّعَت العقوبات لتردع القلَّة الشاذَّة عن هذا المنهج، لئلا تتفشَّى عدواها في المجتمع الإسلامي مرَّة ثانية. ومع كلِّ هذا أمر القاضي أن يكون رؤوفاً بالمخطئين،فيخفِّف عنهم العقاب أو يمنعه لأيِّ شبهة تمنع تطبيقه؛ بغية إعطائهم الفرصة للتوبة والإصلاح، فعن السيِّدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم : «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخَلُّوا سبيله فإنَّ الإمام إنْ يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» (رواه الترمذي والحاكم في باب الحدود والبيهقي).
    وبالإضافة إلى أن الإسلام أمر القاضي بالرأفة بالخاطئين، فإنه دعا المسلمين إلى أن يستر بعضهم هفوات بعض، خصوصاً إذا كان الخاطئ متستِّراً غير مجاهر بالخطأ، وأعطى صاحب الحقِّ سلطة العفو ما لم يعلم بها ولي الأمر، وعندها لا يقبل منه العفو، لأن الحقَّ تحوَّل إلى حقٍّ عام، فوق كونه حقاً شخصياً لصاحبه.
    إن العقوبة في الإسلام شُرعت انطلاقاً من هذه المبادئ، وتحقيقاً لهذه الأهداف، ولا يجوز النظر إليها إلا من خلال هذه المفاهيم، وهي في الوقت نفسه مطهِّرة لصاحبها، مخلِّصة له من عقاب الله في الدار الآخرة، فمن عوقب على ذنبه في الدنيا وفقاً لأحكام شرع الله، لقي الله تعالى طاهراً نظيفاً ما عليه ذنب. عن عبادة بن الصامت في حديث بيعة العقبة، عن رسول الله r «... فإن وفَّيتم فلكم الجنَّة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأُخذتم بحدِّه في الدنيا فهو كفَّارة له...» (رواه البخاري ومسلم).
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    إباحة ما طاب من الأطعمة وتحريم ما خبُث منها
    سورة البقرة(2)
    قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّاس كُلُوا ممَّا في الأرضِ حَلالاً طَيِّباً ولا تَتَّبِعوا خُطُواتِ الشَّيطَانِ إنَّهُ لكُم عَدُوٌّ مبِينٌ(168)}
    سورة المائدة(5)
    وقال أيضاً: {ياأيُّها الَّذين آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أحَلَّ الله لكُم ولا تَعتَدُوا إنَّ الله لا يُحِبُّ المُعتَدينَ(87) وكُلوا ممَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّباً واتَّقُوا الله الَّذي أنتُم به مُؤمِنُونَ(88)}
    سورة النحل(16)
    وقال أيضاً: {فَكُلوا ممَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّباً واشكُروا نِعمَةَ الله إن كُنتُم إيَّاهُ تَعبُدونَ(114) إنَّما حَرَّمَ عليكمُ المَيتَةَ والدَّمَ ولَحمَ الخِنزيرِ وما أُهِلَّ لِغَيرِ الله به فَمَنِ اضطُرَّ غير بَاغٍ ولا عادٍ فإنَّ الله غَفُورٌ رحِيمٌ(115)ولا تَقُولُوا لما تَصِفُ ألسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ لِتَفتَرُوا على الله الكَذِبَ إنَّ الَّذين يَفتَرونَ على الله الكَذِبَ لا يُفلِحُونَ(116)}
    ومضات:
    ـ الخطاب في الآية الأولى عامٌّ لجميع البشر، لأن الرزق نعمة عامَّة يصل خيرها إلى النَّاس جميعاً دون استثناء.
    ـ الحلال هو ما أحلَّه الشرع، والطيِّب هو ما كان مستطاباً في نفسه، غير ضارٍّ بالأجسام ولا بالعقول.
    ـ الشيطان بيِّن العداوة للإنسان، ولا تخفى عداوته على عاقل؛ وقد أخذ على نفسه عهداً بأن يوقع ببني آدم، ويغويهم لكي يُسيئوا إلى الخلافة الَّتي أوكلها الله تعالى إليهم في هذه الأرض. ولايزال يزيِّن لهم من الأسباب والبواعث، ما ينحرفون به عن المنهج الَّذي وضعه الله، لإعمار الأرض وسعادة البشرية، فيعطِّلون الإفادة ممَّا خلقه لنفعهم بتحريمهم له، ويجنحون إلى ما فيه ضررهم بتحليل ما حرَّمه، ومن يتبع إغواء الشيطان فهو يعين عدوَّه على نفسه.
    ـ لا ينبغي للمؤمن أن يهمل نعم الله تعالى أو يسيء استعمالها بحجَّة التقشُّف والزهد، لأن لله تعالى حكمة في خلقها، فقد جعل لها دوراً تؤدِّيه من أجل استمرار حركة إعمار الأرض وازدهارها.
    ـ الحلال بيِّن والحرام بيِّن، والمؤمن الحقيقي لا يتجاوز الحلال إلى الحرام، بل يقف عند حدود الله.
    ـ إنَّ الله تعالى يبغض الَّذين ينحرفون بنعمه عن الصراط السوي المستقيم، ويدعوهم إلى حسن التصرُّف بالأرزاق والطـيِّبات، دون إفراط ولا تفريط بما يكفل لهم حياة خيِّرة طيِّبة.
    ـ يدعو الله تعالى المؤمنين بألطف أسلوب إلى التَّقوى، الَّتي تعني حسن التقيُّد بما ارتضاه لنا، والابتعاد عن كلِّ ما يسيء إلينا أو إلى غيرنا ويكون سبباً لغضبه علينا، وذلك في قوله سبحانه: {واتَّقوا الله الَّذي أنتم به مؤمنون} لأن الإيمان يستلزم التَّقوى، والتَّقوى برهان الإيمان.
    ـ لم يحرِّم الله تعالى على النَّاس ـ بوصفهم أفراداً، ومجتمعات ـ إلا ما فيه ضرر لأنفسهم، وإخلال بالنظام الَّذي تقوم عليه حياتهم.
    ـ من ألجأته الضرورة إلى أكل ما حرَّم الله، ليحفظ على نفسه حياته أو حياة عياله، من غير بغيٍ ولا عدوان، فإنه غير ملوم، والله واسع المغفرة، عظيم الرحمة. وهذا تقرير للمبدأ الشرعي العام: الضرورات تبيح المحظـورات، والقاعدة الأخرى: يُحتمل الضرر الأخفُّ لدفع الضرر الأشد.
    ـ لا ينبغي لأحد، من النَّاس أن يحلِّل أو يحرِّم من تلقاء نفسه، ثمَّ ينسب ذلك إلى الله تعالى، فهذا تلاعب سافر في تعاليم الشريعة وأحكامها. وقد توعَّد الله عزَّ وجل من يفعل ذلك بأنَّ له الخذلان في الدنيا والآخرة.
    في رحاب الآيات:
    الإسلام دين شامليعالج جميع مشكلات الحياة، فيحقِّق منافع النَّاس ويدفع الأذى عنهم، ويتجاوب مع فطرتهم، والله تعالى خلق الإنسان وسخَّر له مافي الأرض جميعاً، وجعل الانتفاع به حلالاً مطلقـاً، لا يقيِّده إلا إذا اقتضت مصلحة الإنسـان ذلك، وهذا التوافق بين الإسلام ومصلحة الإنسان دليل قاطع على شموليته، وحرصه على سعادة النَّاس في كلِّ زمان ومكان.
    ولأن الإسلام دين عالمي، جاء لإسعاد البشرية جمعاء، فقد توجَّه الله بخطابه إلى النَّاس كافَّة دون تخصيص بقوله سبحانه: {ياأيُّهـا النَّاس كُلوا ممَّا في الأرضِ حلالاً طيِّباً..}، فقرَّر حكماً عاماً من شأنه إطلاق يد الإنسان في خيرات البرِّ والبحر من نبات وحيوان، شريطة أن يكون حلالاً طيِّباً. والحلال هو ما أحلَّه الله لأنه طيِّب ونافع، والحرام هو ما حرَّمه الله لأنه ضارٌّ وخبيث. والتحليل والتحريم هما من أمر الله تعالى، وكلُّ من يدَّعي لنفسه الصلاحية لذلك، فهو متجاوز حدوده، معتدٍ على حرمات الله تعالى، وهذا ما وقع فيه بعض رجال الدِّين في كثير من الشرائع، إذ أنهم وضعوا أنفسهم في موضع المشرِّع، وراحوا يحلِّلون الحرام الضارَّ، ويحرِّمون الحلال النافع، وفقاً لأهوائهم ومصالحهم، ويعبثون بما شرَّعه الله من أجل تنظيم حياة النَّاس، سعياً وراء مكاسب دنيوية عاجلة، ورغبةً في التسلُّط، وحبّاً في الظهور، معتدين بذلك على تعاليم الله، وعلى حريَّات النَّاس ومعتقداتهم، وعلى أمنهم الصحيِّ والغذائي والاجتماعي.
    لذلك كان لابدَّ من التركيز على تبيين الحلال والحرام لإزالة الالتباس وتجنُّب الوقوع في المحظورات، وقد أشار الله تعالى إلى مجمل الأحكام المتعلِّقة بهذا الموضوع، في آيات متفرِّقة من كتابه الكريم، نورد بعضها فيما يلي:
    1 ـ أُحِلَّت لنا ذبائح أهل الكتاب بدليل قوله تعالى: {..وطعامُ الَّذين أوتوا الكتابَ حِلٌّ لكم..} (5 المائدة آية 5)، وليس المقصود بكلمة (طعام) هو الخبز والفاكهة فقط، فهذه وأمثالها كلُّها حلال، ولا خلاف في ذلك، إنما المقصود هو ذبائح أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، فهي محلَّلة، أمَّا ذبائح الوثنيين فَيَحْرُمُ أكلها بدليل قوله تعالى: {… وما أُهِلَّ لغيرِ الله به …}.
    2 ـ أُحِلَّ لنا أكل الحيوان البحري، لقوله صلى الله عليه وسلم : «هو الطهور ماؤه، الحلُّ ميتته» (رواه الخمسة عن أبي هريرة رضي الله عنه ) وهذا يعني جواز أكل الحيوان البحري من غير تزكية شرعية (الذبح)، شريطة عدم وضعه في النار قبل التأكد من موته.
    3 ـ وكذلك أُحِلَّ لنا أكل الحيوان البري إلا ما ورد فيه نصٌّ بتحريمه، قال تعالى: {..أُحِلَّتْ لكم بهيمةُ الأنعامِ إلاَّ ما يُتْلى عليكم..} (5 المائدة آية 1) وبهيمة الأنعام تشمل: الإبل والبقر والغنم، والماعز، وبقر الوحش وإبل الوحش، والظباء. وقد ثبت في السُّنة الترخيص في حمار الوحش والضبِّ والأرنب. وأمَّا ما حرَّمه تعالى منها في آيات لاحقة، فهي المنصوص عليها في قوله عزَّ وجل: {حُرِّمَت عليكمُ المَيتَةُ والدَّمُ ولَحمُ الخنزيرِ وما أُهِلَّ لغيرِ الله بِه والمُنخَنِقَةُ والمَوقُوذَةُ والمُتَردِّيَةُ والنَّطِيحَةُ وما أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ ما ذَكَّيتُم وما ذُبِحَ على النُّصُب..} (5 المائدة آية 3)؛ والميتة تشمل كلَّ ما مات من الدابَّة حتف أنفه أو بإحدى الطرق الَّتي ذكرتها الآية الكريمة، وقد كانت حلالاً لو أنها ماتت مذبوحة، ويلحق بها ما قطع من الدابة الحيَّة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : «ما قطع من البهيمة وهي حيَّة فهو ميتة» (رواه أبو داود والترمذي) «وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكل كلِّ ذي ناب من السـباع» (رواه الشيخان) مثل: الذئب والأسد والكلب والفهد والنمر والهر...إلخ.
    4 ـ أمَّا عن الطيور: فقد ثبت في السنة الشريفة الترخيص في أكل الدواجن والجراد والطيور، إلا ما كان منها ذا مخلب، روى مسلم أنه: «نهى عليه السلام عن أكل كلِّ ذي مخلب من الطير»، كالغراب والصقر والحدأة.
    وأمَّا ما سكت عنه الشارع، ولم يَرِدْ نصٌّ بتحريمه فهو حلال ما لم يكن سامّاً مؤذياً فيكون حراماً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الله فرض فرائض فلا تضيِّعوها، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرَّم أشياءً فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها» (رواه الدارقطني عن أبي ثعلبة).
    أمَّا حكم اللحوم المستوردة من خارج البلاد الإسلامية فيحلُّ أكلها بشرطين:
    1 ـ أن تكون من اللحوم الَّتي أحلَّها الله، ولم يخالطها شيء محرم كلحم الخنزير.
    2 ـ أن تكون قد ذُكِّيت ذكاة شرعية (مذبوحة من الوريد إلى الوريد مع أخذ شيء من الحلقوم)، ولا يخفى أن الذبح يُخرج معظم الدم من جسم الحيوان وبأسرع وقت ممكن، ويخفِّف عليه الكثير من الآلام فيما لو قتل بطريقة أخرى غير الذبح بالطريقة المذكورة.
    ويمكن التحقُّق من الشرطين السابقين في عصرنا الحاضر، إذ كثيراً ما يُكتب على المعلَّبات الَّتي تحتوي هذه اللحوم ما يدلُّ على نوعها وطريقة ذبحها، ويمكن الاكتفاء بهذه المعلومات الدالَّة على الشرطين السابقين لأن الغالب فيها هو الصدق.
    وأهمُّ شرط في الذبح هو التسمية بالله. ودفعاً للشكِّ تجب التسمية عند أكلها، عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روته السيِّدة عائشة رضي الله عنها أنه قال: «سمُّوا عليه أنتم وكلوا» (رواه مسلم). أمَّا الذابح فيجب أن يكون عاقلاً سواءً أكان ذكراً أو أنثى، مسلماً أو كتابياً، وأن تكون أداة الذبح حادَّة يمكن أن تخرج الدم، وتقطع الحلقوم والمري بأقصى سرعة وبأسهل طريقة.
    وختام ذلك فإن هناك رُخَصاً أُبيح فيها للمضطر أن يأكل شيئاً من المآكل الَّتي نصَّ الشارع على تحريمها، وذلك عند الاضطرار الشديد، كأن يصل الجوع بالإنسان إلى حدِّ الهلاك، وكذلك إذا وجد المضطر طعاماً لغيره فله أن يأكل منه ما يقيم به أَوَدَه، ولو لم يأذن له صاحبه، على أن يضمن له قيمته، وأن لا يكون مضطراً إليه فيكون صاحبه أولى به. وهذا بيان على مدى يُسْر الإسلام ومراعاته لحاجات الإنسان وضروراته، قال الله تعالى: {..وما جعلَ عليكُم في الدِّينِ من حَرَج..} (22 الحج آية 78).
    أمَّا فيما يتعلَّق بالتداوي بالخمر فقد نهى الإسلام عنه لأن فيه زيادة في أذى المريض، فعن طارق بن سويد الجعفي: «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه عنها، فقال: إنما أضعها للدواء، فقال صلى الله عليه وسلم : إنه ليس بدواء ولكنه داء» (رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي) وقد أجاز بعض أهل العلم التداوي بالكحول أو المواد المخدِّرة، بشرط عدم وجود دواء من الحلال يقوم مقامها، وألا يقصد المتداوي بها اللذَّة والنشوة، وألا يتجاوز المقدار الَّذي يحدِّده الطبيب.
    وبعد فإن الأحكام الشرعية هي جملة أوامرَ ونواهٍ، وضعها الله تعالى لتكون خططاً وبرامجَ لحياة الإنسان المادِّية والروحية ولحسن تعايشه مع من حوله، فلا يجوز للإنسان أن يحرِّم ما أحلَّ الله له من الأشياء الَّتي تطيب بها النفوس، وتميل إليها القلوب بحجَّة التنسُّك والتقرُّب إلى الله، فالله لا يحبُّ من يتجاوز حدود شرائعه ولو بقصد عبادته. إن تحريم الطـيِّبات على النفس لتعذيبها ليس له أصل إلا في العبادات المتوارثة عن قدماء الهنود واليونان، قلَّدهم فيها أهل الكتاب فحرَّموا على أنفسهم ما لم تحرِّمه الكتب المقدَّسة.
    ولما جاء الإسلام أباح الزينة والطـيِّبات، وأرشد إلى إعطاء البدن حقَّه، والروح حقَّها، وبهذا كانت الأمَّة الإسلامية أمَّة وسطاً. والحكمة في ذلك أن الله يحبُّ لعباده أن يستعملوا نعمه الَّتي أنعمها عليهم، فيما خُلِقَتْ له وبالشكل الصحيح، ويشكروه عليها، ويكره لهم أن يتجنَّوا على الشريعة الَّتي شرعها؛ فيغالوا بتحريم ما لم يحرِّمه عليهم القرآن الكريم أو السنَّة النبوية الشريفة. روى أبو داود والترمذي بسند حسن عن المقداد بن مَعْدِ يَكْرِِب رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه (سنته صلى الله عليه وسلم ) ألا لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحِلُّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه» (رواه أبو داود والترمذي)، أي يكتفي بالقرآن الكريم كمصدر للتشريع، ويتجاهل السنَّة النبوية؛ فالنبي محمَّد صلى الله عليه وسلم لاينطق عن الهوى، وقد أكَّد الله تعالى أنَّ إحدى مهامِّه عليه الصلاة والسلام أنَّه: {..يأْمُرهُم بِالمَعْـروف ويَنْهَـاهُم عَنِ المُنكَر ويُحِلُّ لَهمُ الطَّيباتِ ويُحَرِّمُ عَليهِمُ الخَبائِثَ..} (7 الأعراف آية 157).
    سورة الأنعام(6)
    قال الله تعالى: {قُل لا أَجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّماً على طاعِمٍ يَطعَمُهُ إلاَّ أن يَكُونَ مَيتَةً أو دماً مسفُوحاً أو لَحمَ خِنزِيرٍ فإنَّهُ رجسٌ أو فِسقاً أُهِلَّ لغيرِ الله به فَمَنِ اضطُرَّ غيرَ بَاغٍ ولا عَادٍ فإنَّ ربَّكَ غَفُورٌ رحِيمٌ(145)}
    ومضات:
    ـ لم يحرِّم الله تعالى على النَّاس إلا الخبائث، لأنها تحمل في طيَّاتها الضرر المؤكَّد.
    ـ من ألجأته ضرورة قاهرة إلى أكل شيء من المحرَّمات بشرط ألا يكون ساعياً في فساد، ولا متجاوزاً مقدار الحاجة، فلا عقوبة عليه في ذلك.
    ـ الله تعالى يغفر الذنوب ويرحم العباد، ومن رحمته أنه أباح المحرَّمات وقت الضرورة، فلم يجعل على النَّاس في الدِّين من حرج.
    ـ الله تعالى هو المشرِّع للحلال والحرام، ضمن أطر واضحة محدَّدة، بما فيه خير النَّاس وسعادتهم، وليس لإنسان أن يتطاول على شرع الله، فيحلِّل ما يشاء ويحرِّم ما يشاء، مهما بلغ من علم أو دراية.
    في رحاب الآيات:
    لَمَّا كان هذا الكون البديع مخلوقاً وفقاً لقوانين ثابتة، قوامها التوازن والاعتدال؛ فقد كان لابدَّ من وضع نظم تشريعية وصحية واجتماعية للبشرية، تكفل بقاءها وسعادتها على هذه الأرض وتجنِّبها ما يؤذيها في عقلها وجسدها. لذا عُنيَ الإسلام بالنفس الإنسانية، وأولاها اهتماماً كبيراً من حيث تأمين حاجاتها، والحفاظ على سلامتها، وإن من أبرز جوانب هذا الاهتمام؛ العناية بصحَّة الأبدان، كشرط أساسي لقيام الإنسان بواجباته الدِّينية والدنيوية. والجدير بالذكر أن معظم الأحكام الشرعية الإسلامية المتعلقة بصحَّة الأبدان كانت تشريعات وقائية من شأنها أن تدفع الأمراض والأوبئة قبل وقوعها، ومن جملة هذه التشريعاتالَّتي جاء بها الإسلام إباحة الطيِّب والنافع من الطعام والشراب وهو الأصل، وتحريم الخبيث والضارِّ منهما؛ كالميتة والدم ولحم الخنزير.
    وقد كشف العلم والطبُّ في يومنا هذا عن الأضرار والعِلل الَّتي أَدخَلت هذه الأطعمة في دائرة التحريم؛ فثبت أن كلَّ حيوان يموت حتف أنفه يبقى دمه مختزناً في جثَّته، ثمَّ يدبُّ فيه الفساد ممَّا يعرِّض هذه الجثَّةلتغيُّرات عديدة ناجمة عن انحباس الدم فيها: مثل الزرقة في اللون، وسرعة التفسخ الناتج عن تحلل خضاب الدم الزاخر بالجراثيم، ممَّا يسبب انبعاث رائحة كريهة، تجعل المرء يتقزَّز منها، ويبتعد عنها نفوراً واشمئزازاً، ناهيك عن الأضرار الصحِّية الَّتي تصيب الإنسان في حال أكلها.
    أمَّا الدم فيُعدُّ بحقٍّ وسطاً صالحاً لنموِّ أنواع الجراثيم كافَّة الَّتي يمكن أن تتوالد فيه، إضافة إلى أنه يحمل السموم والفضلات الناتجة عن العمليات والتفاعلات الحيوية الَّتي تتمُّ
    داخل الجسم، والَّتي منها: البولة، وحمض البول، وغاز الكربون والكريانتين، وجميعها تُطرَح في الدم بغرض التخلُّص منها بواسطة وسائل الإطراح المختلفة. ناهيك عن أن الدم بحدِّ ذاته لا يُعَدُّ غذاءً بشرياً، فنسبة البروتينات المفيدة فيه قليلة، أمَّا خضاب الدم المتوافر فيه بكثرة فإنه عسير الهضم. ولهذا فإنَّ تناول الدم بغرض معالجة فقر الدم أمر مرفوض علمياً، لأن الحديد الدموي عضوي بطيء الامتصاص، نقيض الحديد اللاعضوي المتوافر في أوراق النباتات الخضراء.. ومن هنا جاءت حكمة الذبح الشرعي الَّذي هو قطع أوردة العنق وشرايينه، ممَّا يكفل تصفية أكبر قدر ممكن من الدم.
    أمَّا عن لحم الخنزير فهو بحقٍّ بؤرة أساسية لمجموعة أمراض منها:
    ا ـ أمراض ينقلها الخنزير بقذارته مثل: الزحار الزقي، وداء وايل ـ وهذا الداء الخطير يسبِّب النزوف والإصابة الكبدية ـ وداء شريطية السمك العريضة، الأميبيا الحالَّة للنسج، الحمرانية أو حصبة الخنزير.
    ب ـ أمراض من أحد أسبابها أكل لحم الخنزير: منها تصلُّب الشرايين وداء النقرس، والتسمم الوشيقي، والَّتي يعود سببها إلى احتواء لحم الخنزير على نسبة عالية من حمض البول، وكذلك ازدياد نسبة الشحوم والأملاح فيه.
    ج ـ أمراض سببها الوحيد أكل لحم الخنزير: مثل الإصابة بالدودة الشريطية المسلَّحة، الَّتي تسبِّب لدى الإنسان اضطرابات هضمية عديدة، وبيوض هذه الدودة قد تتوضَّع في القلب أو الرئة أو الدماغ، محدثة حويصلات تنتفخ في مكانها، مسبِّبة أمراضاً مختلفة تحتاج إلى الجراحة لشفائها. والشعرية الحلزونية الَّتي تسبِّب آلاماً عضلية قد تصل لدرجة الشلل، وإذا أصابت عضلات التنفس أو القلب أدَّت إلى الوفاة.
    هذا بعض ما توصَّل إليه العلم في الوقت الحالي بخصوص مضارِّ لحم الخنزير، إلا أن العقيدة السماوية المنزَّلة من لَدُن ربٍّ عليم، سبقت العلم بقرون طويلة لتُجنِّب الإنسان هذه المضارَّ وتجعله في مأمن منها.
    أمَّا ما أُهِلَّ به لغير الله، فهو ما ذكر عليه عند الذبح غير اسم الله، وبذا تكون النيَّة متوجِّهة إلى غير الله عزَّ وجل. وحكمة تحريمها حكمة شرعية، لأنها من أعمال الوثنية، وفيها إشراك بالله واعتماد على غيره سبحانه، ولأن عدم التوجُّه لله ينافي صحَّة التصوُّر وسلامة القلب، والله طيِّب لا يقبل إلا طيِّباً، ولا يرضى لعباده إلا كلَّ طيِّب خالص لوجهه الكريم.
    وهذا كلُّه إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على رحمة الله تعالى بخلقه، وحرصه على سلامتهم الجسدية والروحية، علاوة على أنه لم يُغفل الضرورات، بل وضعها في الحسبان، فأباح المحظورات بقدر ما تقتضيه هذه الضرورات بغير تجاوز لها أو تعدٍ لحدودها.
    سورة الأنعام(6)
    قال الله تعالى: {فكلوا ممَّا ذُكِرَ اسمُ الله عليه إن كنتم بآياتِهِ مؤمنين(118) وما لكم ألاَّ تأكلوا ممَّا ذُكِرَ اسمُ الله عليه وقد فصَّلَ لكم ما حرَّمَ عليكُم إلاَّ ما اضطُرِرْتُمْ إليه وإنَّ كثيراً ليُضِلُّونَ بأهوائِهِم بغير علمٍ إنَّ ربَّك هو أعلمُ بالمعتدين(119) وذروا ظاهرَ الإثم وباطِنَهُ إنَّ الَّذين يَكسِبُونَ الإثمَ سيُجزَونَ بما كانوا يقترفون(120) ولا تأكلوا ممَّا لم يُذكرِ اسمُ الله عليه وإنَّه لفسقٌ وإنَّ الشَّياطين لَيُوحون إلى أوليائِهِم ليُجادِلوكُم وإن أطعتموهمْ إنَّكم لمشركون(121)}.
    ومضات:
    ـ إنَّ من أبرز أهداف الشريعة الإسلامية الحرص على سلامة الإنسان جسدياً وروحياً. وقد قرن الله تعالى إباحة الطيِّبات من الذبائح بذكر اسمه الجليل عليها عند ذبحها، لتكون الطهارة المعنوية متمِّمة للطهارة الحسية، وليكون إخلاص النية لله تاجاً يُظلُّ أعمال المؤمن لتنال القبول، وبهذا يشعر الإنسان أنه يعيش في مُلْكِ الله، ويأكل من رزقه، ويقوم بسائر نشاطاته في رعاية الله وعنايته.
    ـ إن الإنسان واقع تحت رقابة الله تعالى، وعلى المؤمن أن يقف عند حدود ما أحلَّ الله من الطيبات، ولا يسمح لنفسه بتجاوزها إلا بما تقتضيه الضرورة. ففي الأحوال الاعتيادية يَحْرُم عليه أن يتعدَّى حدود الله تعالى في مأكله ومشربه وملبسه، لأن هذه النعم الإلهية وسائل لأهداف، وأسباب لغايات من أجلِّها وأعظمها التَّقَوِّي على طاعة الله وخدمة دينه، وأي إساءة أو مخالفة في التعامل معها؛ كأن تصبح غايات بذاتها، أو يبلغ الاسترسال فيها حدَّ السرف، أو أن تُستخدم في معصية الله، فإن كلَّ ذلك يوقع صاحبها في دائرة الإثم المنهي عنه.
    في رحاب الآيات:
    لقد دخلت في عقائد الأمم القديمة عادات وتقاليد، وأعراف خاطئة ومشوَّشة، تتعلَّق بطعامهم وشرابهم، وقد توارثوها جيلاً بعد جيل، فامتزج الحلال بالحرام حتَّى أصبح يخالف شرائع السماء. والآيات الكريمة الَّتي نحن بصددها تعالج قضية كانت معاصرة للبيئة الجاهلية، حيث كان المشركون يمتنعون عن أكل ذبائح أحلَّها الله، ويُحِلُّون أكل ذبائح حرَّمها عليهم؛ ويزعمون أن هذا هو شرع الله، وتفصل هذه الآيات في أمر هؤلاء المشرِّعين المفترين على الله، فتقرِّر أنهم إنما يشرِّعون بأهوائهم بغير علم ولا هدى، ويُضِلُّون النَّاس بما يشرِّعونه لهم من عند أنفسهم، معتدين بذلك على شرائع الله حيث تجاوزوا حدودهم وعَتَوا عُتُوّاً كبيراً.
    ولـمَّا كان للعادة سلطانها القويُّ على غالبية النَّاس، حتَّى إنها لتصبح فيهم طبيعة ثانية؛ فقد تكرَّر في القرآن الكريم ذكر الآيات الَّتي تحارب تلك العادات، وتذكِّر أصحابها وتنبِّههم ليعودوا إلى جادَّة الصواب؛ فالصواب أن تكون أعمالنا كلُّها خالصة لوجه الله تعالى، فنحن نأكل باسم الله لكي نتقوَّى بالطعام على طاعته وتنفيذ أوامره، وعلينا أن نتحرَّى الحلال من الأطعمة ونجتَنِبَ الخبيث منها وهو ما حرَّمه الله علينا، لما يترتَّب عليه من إلحاق الضرر الفادح بنا. وكلُّ ذبيحة ذبحت لغير الله تدخل في الأطعمة الَّتي يُحرَّم أكلها؛ ومنها الذبائح الَّتي كان المشركون يذكرون عليها أسماء آلهتهم، أو ينحرونها للمَيسر، ويقتسمونها بواسطة الأزلام، أو الميتة الَّتي كانوا يجادلون المسلمين في تحريمها، ويزعمون أن الله ذبحها، ويقولون: كيف يأكل المسلمون ممَّا ذبحوا بأيديهم ولا يأكلون ممَّا ذَبح الله؟.
    وأمَّا اللحم المذبوح والَّذي يتعذَّر الجزم فيما إذا كان قد ذكر عليه اسم الله عند ذبحه أم لا، فيمكن لنا أن نذكر اسم الله عليه ثمَّ نأكله؛ فعن عائشة رضي الله عنها: «أن ناساً قالوا: يارسول الله! إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذُكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : سمُّوا عليه أنتم وكلوا» (رواه مسلم) وبهذا يتبيَّن لنا أن ذكر اسم الله تعالى على الذبائح، إنما هو تزكية وتطهير لها، ليأكلها المؤمن حلالاً طيباً.
    سورة الأعراف(7)
    قال الله تعالى: {..وكلوا واشربوا ولا تُسْرِفوا إنَّه لا يحبُّ المسرفين(31)}
    ومضات:
    ـ الاعتدال والتوازن من المعايير الَّتي حرص الإسلام عليها وأكَّد الالتزام بها.
    ـ كثير من النَّاس من يملك مفاتيح العلم، ولكنَّ القليل النادر منهم من يملك التوفيق للعمل بما علم. وكثير منهم من يحسن الشكر القولي اللساني، ولكنَّ القليل منهم من يتحقَّق بالشكر العملي، الَّذي يتجسَّد فياستعمال نعم الله بالشكل الصحيح، كما اقتضت الحكمة من خلقها والغاية من إيجادها.
    في رحاب الآيات:
    إن الجسم الإنساني يحتاج إلى الغذاء الكامل ليقوم بوظيفته في الحياة. والطعام والشراب هما الدعامتان اللتان تتوقَّف عليهما فعالية القدرات الجسدية، الَّتي ترتبط بها فعاليات القدرات الأخرى؛ العقلية منها والنفسية وغيرها. والآية الكريمة تقرِّر مبدأً عامّاً للحفاظ على صحَّة الإنسان، ووقاية جهازه الهضمي من الأمراض الَّتي يصاب بها، وغالباً ما يكون الإنسان هو ذاته المتسبِّب بتلك الإصابة؛ وذلك لجهله بكيفية استعمال النعمة الَّتي أكرمه الله بها من طعام وشراب، ونتيجةً لإساءته وجهله، يحيل الغذاء الَّذي بين يديه إلى داء، فإذا ما أراد في هذه الحالة الشفاء، وجد في المبدأ الَّذي وضعته الآية الكريمة خير علاج ودواء.
    فإباحة الطعام والشراب في الإسلام مقيَّدة بالاعتدال، حفاظاً على الصحَّة، فلا يُدخِل المرء طعاماً على طعام، ولا يأكل كلَّ ما اشتهى؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «إن من الإسراف أن تأكل كلَّ ما اشتهيت» (رواه ابن ماجه وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي الله عنه ). ولعدم الاعتدال وجهان: إفراط وتفريط، فالإفراط ما يكون فوق الحاجة الضرورية، أو مخالفاً للشرع، والتفريط: أن ينقص عن قدر الحاجة الضرورية، ويكون سبباً لنقص القوَّة والطاقة، والتقصير في تأدية حقوق الله.
    وقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من مغبَّة الإسراف في تناول الطعام فقال: «ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، حسبُ ابن آدم لقيمات يُقمن صُلبه فإن كان لا محالة فاعلاً، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنـفَسِه» (رواه أحمد والترمذي وحسَّنه النسائي)، فمن الأصول الصحِّية العامَّة أن لا يمدَّ الإنسان يده للطعام إلا وهو جائع، ثمَّ ينبغي أن يرفع اليد عن الطعام قبل الشِّبَع وهو يشتهيه. وفي الحديث الشريف: «أن المقوقس ملك مصر أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم جارية وطبيباً وبغلة، أمَّا الجارية وهي مارية القبطية فقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمَّا البغلة فاتَّخذها رَكوباً له، وأمَّا الطبيب فمكث مدَّة طويلة لم يُقْبِل عليه أحد يشكو مرضاً، فقال للنبي عليه السلام: مكثت مدَّة ولم يأتني مريض، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : نحن قوم لا نأكل حتَّى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع» (أخرجه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها).
    وإذا كان الإسراف في أكل الطعام مذموماً مؤذياً؛ فإن الإسراف في تناول نوع معيَّن منه زيادة عن حاجة الجسم مذموم مؤذٍ أيضاً، والسلوك الأمثل هو الاعتدال في كلِّ شيء.
    إن الله عزَّ وجل يكره من كان جُلَّ همِّه أن يملأ بطنه، لأن البِطنة تُذْهِب الفطنة، وتُوقع في الغفلة وتشكِّل حجاباً حول القلب يحجب عنه نور المعرفة، لذلك فرض الله تعالى الصِّيام على عباده تطهيراً لنفوسهم وجلاءً لقلوبهم. وأمرهم بالاعتدال في طعامهم وشرابهم ليستفيدوا منه، ولئلا يُجهدوا جهازهم الهضمي ويُحمِّلوه فوق طاقته فتضطرب عمليات الهضم، ويؤدي بهم ذلك إلى أسوأ النتائج الَّتي تضرُّ بصحَّتهم، وسلامة أبدانهم. فالاعتدال مطلوب ومحمود، والشراهة والنهمة مكروهة مذمومة، والسعيد من احتاط للمرض واتَّقاه قبل وقوعه، وعمل بقوله تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنَّه لا يُحِبُّ المسرفين}.
    وختاماً: لابدَّ أن نشير إلى أنه من الإسراف والتبذير إتلاف مايزيد عن طعام الآكل، أو عن طعام العائلة، أو عن طعام الولائم والحفلات. ولابدَّ من مراعاة الدقَّة في تقدير ما سنأكله أو سنشربه؛ لتجنُّب إتلاف مايزيد عن حاجتنا. ولو أن العالم كلَّهُ راعى هذه الدقَّة، وابتعد عن هذا الإتلاف بدافع البطر واللامبالاة، لما وُجِد جائع على سطح الأرض، حيث أن كمِّية مايُتلفونه من الطعام تكفي لإشباع فقراء البشرية جمعاء.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    تحريم شرب الخمر وعقوبته



    سورة المائدة(5)
    قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا إنَّما الخمرُ والميسرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ من عملِ الشَّيطانِ فاجتنبوه لعلَّكم تُفلحون(90) إنَّما يُريدُ الشَّيطانُ أن يُوقِعَ بينَكُم العداوةَ والبغضاءَ في الخمرِ والميسرِ ويَصُدَّكم عن ذكرِ الله وعن الصَّلاةِ فهل أنتم منتهون(91)}
    ومضات:
    ـ يسعى الإسلام إلى بناء شخصيَّة الإنسان المسلم، وحمايتها من كلِّ الأضرار الَّتي يمكن أن تلحق بها، فيحذِّره من تعاطي المواد المضرَّة الَّتي تفتك بجسده وعقله، ومن اتِّباع السُّبل الَّتي تدخله في متاهات الإنفاق الطائش، طلباً للَّذائذ السريعة والمتع الجسدية الآنيَّة؛ الَّتي تشغله عن ذكر الله عزَّ وجل والشعور برقابته، وتجعله ينغمس في الأخطاء والمعاصي والآثام.
    ـ الإنسان لا يمارس القمار ولا ينزلق إليه غالباً إلا بعد معاقرته للخمر، الَّذي يذهب بعقله ويفقده الإرادة والاتِّزان والتصرُّف السليم، وفي جميع الأحوال فإن الخسائر الماديَّة والمعنويَّة، الَّتي تلحق بمدمن الخمر وممارس القمار، توقعه في براثن العداوة للآخرين والحقد عليهم، فهم الَّذين جرُّوه إلى دائرة الخطأ، وأوقعوا به واستنزفوا أمواله.
    في رحاب الآيات:
    الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، عيدان في حزمة واحدة، تربطها النتائج المشتركة الَّتي تصدر عنها، وهي أنها تؤدِّي جميعاً إلى الفجور وإفساد بنية المجتمع. وقد بدأ الإسلام بكسر هذه العيدان بشكل منهجي، فغزا القلوب وطهَّرها أوَّلاً من رجس الشرك؛ باجتثاث جذور الجاهليَّة الفاسدة، الاجتماعيَّة منها والاقتصاديَّة والأخلاقيَّة، ثم نقَّى تربتها من رواسب الشيطان، وغرس فيها بذار عقيدة التَّوحيد الطـيِّبة، فحلَّ بذلك عقدة الشِّرك، ومنع كلَّ ما من شأنه أن يشكِّل رابطة بين الإنسان والوثنيَّة وما يتَّصل بها لحكمة لا تخفى على كلِّ ذي لُبٍّ، وأهمُّ أشكال هذه الوثنية كانت الأنصاب والأزلام.
    فالأنصاب هي الحجارة الَّتي كان الجاهليون يذبحون ذبائحهم عليها وينضحونها بها، وهي الرمز الأهم للوثنية. وأمَّا الأزلام فهي قطع رقيقة من الخشب بهيئة السهام كانوا يستقسمون بها على سبيل التفاؤل والتشاؤم، وهذا مناقض لما يؤمن به المسلم من أن القضاء والقدر هما من أمر الله وحده، وأنه لا دخل لأيَّة قوَّة في تسييرهما أو تحويل مجراهما نحو النفع أو الضرر، وأن علم الغيب من اختصاص الله لا يعلمه إلا هو، فلا يعلم القسمة إلا من قسمها. وبالقضاء على الأنصاب والأزلام انتهت المعالم الأخيرة لعبادة الأصنام، وتحرَّرت قلوب المؤمنين من قيود الوثنية، وانطلقت من أسر الخرافات والأضاليل والأوهام.
    وبعد مرحلة الإعداد النفسي والروحي للمؤمنين، بدأ تشريع التكاليف المتعلِّقة بالشعائر التعبُّدية وبالحلال والحرام، فلاقت في هذه القلوب الطاهرة خصوبة وسرعة استجابة، وتنافساً على الطاعة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشرع الحنيف جعل الأصل في الأشياء الإباحة، إلا ما نصَّ على حكمه وبيَّنه؛ بدليل قوله تعالى: {هو الَّذي خلقَ لكم ما في الأرضِ جميعاً..} (2 البقرة آية 29).
    لقد أحلَّ الله تعالى لعباده جميع الطـيِّبات من الرزق من مأكل ومشرب، إلا أنه جلَّ وعلا استثنى منها ما فيه ضرر للإنسان وأنزل فيه نصّاً خاصّاً، كما هو الحال بالنسبة للخمر والدم والميتة ولحم الخنزير. وقد حرَّم الله تعالى الخمر والميسر في هذه الآية الكريمة، وشدَّد على ذلك تشديداً بالغاً، لما فيهما من ضرر كبير وخطورة عظيمة تهدِّد الأمَّة والمجتمع وتقوِّض دعائم الحياة السليمة.
    أمَّا الخمر فهو كلُّ شراب مسكر سواء أكان من عصير العنب أم التمر أم التفاح أم غيره، وهذا مذهب جمهور المحدِّثين، قال صلى الله عليه وسلم : «كلُّ شراب أسكر فهو حرام» (أخرجه الستة). وعلَّة تحريمها أنها تُذهِب العقل وتنهك الصحَّة، وتضيِّع المال، ومتى ذهب العقل حلَّ الإجرام وكانت العربدة. وحَسْبُ السكران ضرراً أنه لا يفرِّق بين النافع والضارِّ، ولا يميِّز بين الجواهر والأقذار، لغياب عقله، إلى جانب الأضرار النفسية والجسمية والعقلية الَّتي تستدعي تحريمها وهي تتلخَّص بما يلي:
    1 ـ تثبيط وظيفة قشرة الدماغ وتعطيلها مع التشكُّلات الشبكية في أعلى الدماغ المتوسط وأُذينةِ المخيخ والجذع المخِّي والأعصاب القحفية والشوكية.
    2 ـ التهاب المريء والمعدة الَّذي قد يؤدي إلى إصابتها بالتَّقرُّح.
    3 ـ التهاب البنكرياس الحادِّ وتشمُّع الكبد.
    4 ـ اعتلال العضلة القلبية وتسريع حوادث التصلُّب الشرياني.
    5 ـ اضطرابات سوء الامتصاص والإصابة بمختلف أنواع فقر الدم.
    6 ـ الإصابة بأمراض نفسية كثيرة كالهذيان الارتعاشي والتأخُّر العقلي.
    وقد أثبت الطبُّ الحديث ضرر الخمرة الفادح، فقال أحد أطباء ألمانيا: [اقفلوا الحانات أضمَنْ لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات والمِصحَّات العقلية والسجون].
    أمَّا من الناحية الدِّينية والاجتماعية: فإن غيبوبة العقل بأي مسكر تنافي اليقظة الَّتي يطلبها الإسلام من المسلم ليكون متصلاً بالله في كلِّ لحظة، مراقباً له في كلِّ خطوة، ليلعب دوره الموكول إليه في هذه الحياة، وهو القيام بالتكاليف تجاه ربِّه أو نفسه أو أهله أو مجتمعه أو إخوته في الإنسانية. ثم إن الغيبوبة الَّتي ينشدها مُعاقِر الخمر ما هي في الواقع إلا محاولة فاشلة للهروب من مشاكله ومسؤولياته، والإسلام ينكر عليه هذه الطريق، ويريد منه أن يكون قوياً صلباً في مواجهة الواقعات والأحداث، لأن مواجهتها هي مِحَكُّ العزيمة والإرادة، أمَّا الهروب منها إلى تصوُّرات وأوهام، فهو طريق التحلُّل والانسلاخ عن الواقع، الَّذييفقد صاحبه هويَّته ومقوِّمات شخصيته، ويعطِّل دوره الإنساني. وأمَّا إذا كان ينشد ما يسمُّونه النشوة، فإن كلَّ لحظة منها ستكلِّفه من سوء السمعة وفساد الصحَّة ما لا يقدَّر بثمن.
    من أجل ذلك كلِّه شدَّد الإسلام العقوبة على شارب الخمر، وأمر أن يُجْلَد ردعاً له وإنقاذاً لروحه؛ أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من شرب الخمرة فاجلدوه، قالها ثلاثاً، فإن شربها الرابعة فاقتلوه». وفي صحيح مسلم أن عثمان رضي الله عنه قال: (جَلَدَ النبي شارب الخمر أربعين جلدة وكذلك فعل أبو بكر). وعن الإمام علي كرَّم الله وجهه قال: (إذا شرب الرجل سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة) (رواه الدارقطني). واجتناب الشيء لغة يعني الابتعاد عنه، والاجتناب للخمر لا يعني فقط الامتناع عن شربها؛ وإنما الابتعاد عن كلِّ ما يمتُّ لها بصلة، وعن كلِّ تعامل معها بأيِّ شكل كان، بدليل ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «أتاني جبريل فقال: يامحمَّد إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها وساقيها ومسقيها» (أخرجه الحاكم وصححه البيهقي).
    على أن تحريم الخمر في الإسلام لم يأت دفعة واحدة، بل لقد جاء عبر مراحل وخطوات تمهيدية، لعلاج الأمراض الناجمة عنها، والمتغلغلة في حنايا النفوس وخلايا الجسد. وهذا من الحكمة الَّتي انتهجها الإسلام في معالجة الأمراض الاجتماعية، فقد سلك بالناس طريق التدرُّج في تشريع الأحكام، حتى تتهيَّأ لها النفوس، وتصبح قادرة على تطبيقها، بقناعة فكرية وقبول نفسي، فبدأ بتنفير الناس من الخمر بطريق غير مباشر،كخطوة أولى، وذلك حين أنزل الله تعالى: {ومن ثمراتِ النَّخيلِ والأعنابِ تتَّخذونَ منه سَكَراً ورزقاً حَسناً..} (16 النحل آية 67) وهي تتضمَّن تلميحاً إلى ضرره مع وجود منافع اقتصادية للنخيل والأعناب، حيث ذكر أنهم اتخذوا من ثمراتها سَكَراً ورزقاً فوصف الرزق بأنه حسن وسكت عن السَّكَر لِيَفهمَ السامعَ أنه قبيح.
    ثم تبعتها الخطوة الثانية، وهي تحريك الوجدان الدِّيني في نفوس المسلمين، وتنفيرهم بشكل مباشر من الخمر؛ عن طريق الموازنة بين نفعها المادي الضئيل، وضررها الجسدي والروحي الكبير؛ بنزول الآية الكريمة: {يسألونكَ عن الخمرِ والميسرِ قلْ فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافِعُ للنَّاسِ وإثمُهُما أكبرُ من نفعِهِما..} (2 البقرة آية 219) وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأَوْلى مادام الإثم أكبر من النفع، إذ أنه قلَّما يخلو شيء من نفع، ولكن الحِلَّ والحرمة ترتكزان على غلبة الضرر أو النفع، فما غلب نفعه حلَّ وما رجح ضرره حرم.
    ثمَّ كانت الخطوة الثالثة، وهي التحريم الجزئي للخمر في أوقات الصلاة، لما لها من أثر سيء على العقل والتفكير، فهي تفقد شاربها القدرة على التركيز والتوجُّه أثناء إقامة فريضة الصلاة، فنزلت الآية الكريمة: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تَقْربوا الصَّلاةَ وأنتم سُكارى حتَّى تعلموا ما تقولون..} (4 النساء آية 43) وفي هذا تقليل لفرص المعاقرة العملية للشراب، وكسر لسلطان عادة الإدمان، بتدريب الجسم على ترك الخمر في أوقات معينة، تساعده في النهاية على تركها نهائياً. فكأنَّما حرَّم الخمر في هذا النصِّ سائر النهار، ولم يبق للمولعين بها إلا الليل من بعد صلاة العشاء، وفي هذا التضييق على شاربي الخمر، إعداد لهم وتأهيل، لاستقبال الحكم النهائي بالتحريم القطعي لها.
    ثم جاءت الخطوة الحاسمة، وهي التحريم القطعي للخمر، وفي جميع الأوقات، بعد أن تهيَّأت النفوس والأجساد لها؛ فصدر الأمر الجازم في قوله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا إنَّما الخمرُ والميسرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ من عملِ الشَّيطانِ فاجتنبوهُ لعلَّكمْ تُفلحون}، وكان جواب المؤمنين هو السمع والطاعة. جاء في مسند أحمد وأبي داود والترمذي: أن عمر رضي الله عنه كان يدعو الله تعالى (اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً) فلما نزلت آية البقرة قرأها عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ظلَّ على دعائه، وكذلك لما نزلت آية النساء، فلما نزلت آية المائدة دُعي فقرئت عليه، فلما بلغ قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} قال: انتهينا، انتهينا. ونلاحظ في قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} استفهاماً خرج عن معناه إلى معنى الأمر، أي انتهوا؛ وهذا أسلوب للنهي بألطف الوجوه وأشدِّها تأثيراً في النفوس.
    وفي تحريم الخمر على هذا الترتيب حكمة بالغة، ذلك أن القوم كانوا قد ألِفوا شرب الخمر حتى أصبحت جزءاً من حياتهم، فلو حُرِّمت دفعةً واحدة، ومنذ بداية عهدهم بالإسلام، لشقَّ ذلك عليهم تحت سلطان العادة، وربَّما لم يستجيبوا لهذا النهي. ولا يسعنا في هذا المجال إلا أن نشير إلى أن الإسلام نجح في مكافحة الخمر، وقطع دابره من المجتمع الإسلامي دون إحداث أي ضجيج، في حين فشلت تشريعات البشر في القضاء على ظاهرة الخمرة في المجتمع. فهذه الولايات المتحدة الأمريكية، أصدرت فيما مضى قانوناً يمنع الخمر لشدَّة الأضرار الناجمة عنه، واضطرَّت إلى التراجع عن هذا المنع لأنها لم تسلك السبيل الصحيحة إلى ذلك؛ ألا وهو الإيمان الراسخ بالله عزَّ وجل وبكلِّ عناصر العقيدة، وهذا ما يقوِّي إرادة الإنسان، ويشحنه بطاقات هائلة، فيكون على استعداد لامتثال أمر الله عزَّ وجل، لأنه يجد في هذا الامتثال أعلى درجات السعادة والمتعة. هذا هو السبيل للخلاص من الخمر ولا سبيل سواه، وما على البشرية المعذَّبة، والَّتي تكتوي بنار الخمر، إلا أن تلجأ إلى الله وتعتصم بشرعه الحنيف، لتتخلَّص من كلِّ ما ينغِّص عليها صحَّتها وسعادتها.
    ويجدر بنا الحديث هنا عن تدخين التبغ؛ حيث صدرت أخيرا عدَّة فتاوى بتحريمه، قياساً على تحريم الدم والخمر ولحم الخنزير، لثبوت ضرره بالدَّلائل العلمية القطعية، حـيث أن مادَّة النيكوتين الموجودة في التبغ تتسبَّب في مقتل الجينات الناظمة لتكاثر الخلايا في جسم الإنسان، مما يؤدِّي إلى الإصابة بالسرطان الَّذي هو تكاثر فوضوي غير منضبط للخلايا، وقد اعترفت الشركات المصنِّعة للتبغ بأضراره، ووضعت التحذيرات الصحيَّة على كلِّ علبة لفائف (سجائر أو سيجار).
    ولكن المؤسف هو أن تلك الفتاوى قُوبلت من المدخنين بكثير من العناد، وذلك بسبب تخاذلهم، واستسلامهم لسلطان الإدمان وقهره؛ وهنا يأتي دور الإيمان، ويظهر أثره من خلال التوجُّه نحو حضرة الله، وطلب المدد والعون والقوَّة منه، مع الإرادة القويَّة، والعزم والتصميم، حتى يصل إلى اتخاذ قرار ـ لا رجوع فيه ـ للإقلاع عن التـدخين، حماية لصحَّته وصحَّة زوجه وأولاده ـ حتى الجنين في رحـم أمه ـ وحماية لمن حوله، وهذا ما يتَّفق مع قوله تعالى: {.. وَلا تُلْقُوا بَأَيْدِيكُم إِلى التَّهْلُكَة.. } (2 البقرة آية 195). وما ينطبق على التدخين ينسحب على جميع أنواع المفتِّرات والمخدِّرات والمغيِّبات، أيّاً كان نوعها.
    أمَّا الميسر، أي القمار، فقد حرَّمه الله تعالى لأنه يُفقد الإنسان الإحساس والشعور أثناء انغماسه في اللعب، حتَّى إنه لا يبالي بالمال يخرج من يده إلى غير رجعة، طمعاً في أن ينال أكثر منه، فإذا رجع خاسراً أكلت قلبه الندامة وحرق جوفه الحسد، وامتلأت نفسه حقداً وغيظاً على من سلبه المال. وربَّما أدَّى به ذلك إلى قتل من كان سبباً في خسارته، أو ربَّما قتل نفسه هرباً من عواقب الجريمة الَّتي ارتكبها في حقِّ نفسه وحقِّ عياله. فكم من أسرة تهدَّمت وكم من عائلة تشرَّدت بسبب مقامرة أربابها، بعد أن كانت تتقلَّب في ربوع النعيم والرفاهية. إضافة إلى أنه وسيلة كسبٍ غير مشروعة، لأنها تقوم على الحظِّ والمصادفة، ولا تحتاج إلى عناء عمل أو إعمال فكر، يعودان في النهاية بفائدة على المجتمع. وهكذا فإن طاعة الله عزَّ وجل فيما جاء به من أوامر وإرشادات، للمحافظة على قوام المجتمع سليماً معافى، تقطع دابر الشيطان وتسدُّ في وجهه جميع المنافذ، وتأخذ بيد الإنسان إلى واحة الطمأنينة والسكينة المنشودة، والَّتي هي أمل كلِّ إنسان، لكنَّها لا تتحقَّق إلا بالسير على المنهج الإلهي للحياة.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    تحريم القتل وعقوبته
    سورة الإسراء(17)
    قال الله تعالى: {ولا تقتلوا النَّفسَ الَّتي حرَّمَ الله إلاَّ بالحقِّ ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليِّه سُلطاناً فلا يُسْرِفْ في القتلِ إنَّه كان منصوراً(33)}
    ومضات:
    ـ الإسلام دين الحياة ودين السَّلام، وقتل النفس يُعَدُّ من أكبر الكبائر ويأتي بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى، فالله عزَّ وجل هو واهب الحياة وليس لأحد أن يزهقها.
    ـ القاتل يُقتَل ويجري عليه القصاص من قبل الحاكم المسؤول، ولا يُسمَح أبداً أن يَطالَ القصاص غير القاتل ممَّن لا ذنب لهم، كعادة (الأخذ بالثأر) الَّتي أبطلها الإسلام.
    في رحاب الآيات:
    لا يمكن للإنسان أن يحقِّق أهدافه، ويبلغ غاياته إلا إذا تمتَّع بحقوقه كاملة، وفي مقدِّمتها حقُّ الحياة وحقُّ التملك، وحقُّ صيانة العرض، وحقُّ الحرِّية وحقُّ المساواة وحقُّ التعلُّم. وكلُّ هذه الحقوق واجبة له من حيث أنه إنسان، بغضِّ النظر عن لونه أو دينه أو جنسه أو وطنه أو مركزه الاجتماعي، قال الله تعالى: {ولقد كرَّمنا بني آدمَ وحملناهُم في البَرِّ والبحرِ ورزقناهُم من الطَّيِّباتِ وفضَّلناهُم على كثيرٍ ممَّن خلقْنا تفضيلاً} (17 الإسراء آية 70). وقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع فقال: «أيُّها الناس! إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلَّغت؟ اللهمَّ فاشهد» (متفق عليه).
    وقد حرص الإسلام أشدَّ الحرص على حماية حياة الإنسان، فهدَّد من يستحلُّها بأشدِّ عقوبة بقوله تعالى: {ومن يَقْتُلْ مؤمناً متعمِّداً فجزاؤهُ جهنَّمُ خالداً فيها وغَضِبَ الله عليه ولعنَهُ وأعدَّ له عذاباً عظيماً} (4 النساء آية 93)، وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبَّهم الله في النار».
    إن القتل يُشيع الفساد والخراب في البلاد، قال تعالى: {ولا تُفسدوا في الأرض بعد إصلاحها..} (7 الأعراف آية 56). ولو أنه أُبيح؛ لفتكَ القويُّ بالضعيف واختلَّ الأمن، وأصبحت الحياة حِكْراً على الأقوى والأغنى. وقد جعل الإسلام لكلِّ نفس حَرَماً آمناً لا يُمسُّ إلا بالحقِّ، وهذا الحقُّ الَّذي يبيح قتل النفس واضح لا غموض فيه، وليس متروكاً للرأي ولا متأثِّراً بالهوى. فمن قُتل مظلوماً بغير حقٍّ فقد جعل الله لوليِّه سلطاناً على القاتل، إن شاء سلَّمه للعدالة لتقتله جزاء فعلته، وإن شاء عفا عنه بِدِيَةٍ أو بلا دِيَة، ومع هذا ينهاه الإسلام عن الإسراف في القتل، أي أن يتجاوز القاتلَ إلى غيره ممن لا ذنب لهم، أو أن يقوم بالتمثيل بالقاتل أو تعذيبه. فالإنسان في شرع الله غير مفروض عليه مخالفة ما غُرس في فطرته من الرغبة العميقة في القصاص، لذلك يلبِّي الإسلام حاجات هذه الفطرة في الحدود المأمونة، ولا يتجاهلها، فلم يفرض التسامح فرضاً، إنما هو يدعو إليه ويؤثره، ويحبِّب فيه، ويؤجر عليه ولكن بعد أن يعطي وليَّ المظلوم حقَّ القصاص، فلوليِّ الدم أن يَقتصَّ أو يصفح، وفي هذا تهدئة للغليان والألم الَّذي تستشعره نفسه، ومن تقيَّد بما شرعه الله من القصاص نصره الله، ونصره الحاكم، وأيَّده الشرع.
    ويستوي في الحرمة قتل المسلم أو الذِّمي، فقد روى البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل مُعاهَداً لم يَرِحْ رائحة الجنَّة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً».
    وفيما يتعلَّق بقتل النفس فقد حذَّر الله جلَّ وعلا من أن يقتل الإنسان نفسه حيث قال في كتابـه الكريـم: {..ولا تقتلوا أنفسـكم إن الله كان بكم رحيمـاً} (4 النسـاء آية 29)، وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من تردَّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردَّى فيها خالداً مخلَّداً أبداً، ومن تحسَّى سُمّاً فقتل نفسه فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجَّأ بها (يضرب بها نفسه) في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً»، وهكذا فإن الإسلام قد حرَّم قتل النفس؛ وجعله من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، فالله واهب الحياة، وليس لأحد غيره أن يتصرَّف فيها إلا بإذنه وضمن الحدود الَّتي رسمها.
    سورة المائدة(5)
    قال الله تعالى: {من أجْلِ ذلك كتبنا على بني إسرائِيلَ أنَّه من قتلَ نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنَّما قتلَ النَّاس جميعاً ومن أحياها فكأنَّما أحيا النَّاسَ جميعاً ولقد جاءتهُم رسُلُنا بالبيِّناتِ ثمَّ إنَّ كثيراً منهُم بعد ذلك في الأرض لمسرِفونَ(32)}
    ومضات:
    ـ الشريعة الإسلامية شديدة الحرص على توجيه سلوك الإنسان وأخلاقه، وحماية حياته من أي اعتداء، لذلك فهي تشدِّد على ضرورة اتحاد المنظومة البشرية في وجه أية عملية قتل غير مبررة شرعاً.
    ـ ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة مثلاً، ببني إسرائيل، بسبب تقديسهم للدم اليهودي واستباحتهم ما سواه خلال فترات التاريخ كلِّها ولغاية اليوم.
    ـ شدَّد رسل الله على التعاليم المتعلِّقة بقدسية حياة الإنسان وكرامته، ولكن المتهاونين في تطبيق هذه التعاليم كثيرون، بسبب اعتدادهم بلونهم أو عرقهم أو انتمائهم الدِّيني.
    في رحاب الآيات:
    إن حقَّ الإنسان في الحياة هو أغلى الحقوق وأقدسها على الإطلاق لأن الحياة هي أثمن ما وهبه الله، وبدونها فإنه لا قيمة لأي شيء آخر يملكه مهما كان عظيماً. ولهذا فقد اعتبر الإسلام أن الاعتداء على هذا الحقِّ بالقتل هو أفظع جريمة يرتكبها الإنسان في حقِّ أخيه الإنسان، وقد أغلظ الله تعالى العقوبة عليها، وشدَّد في التحذير منها، وقيَّد إنزال عقوبة القتل بالفرد بشرطين صارمين لا يمكن الحياد عنهما وهما:
    أوَّلاً: أن يكون القتل دفعاً للقتل أو جزاءً عليه. فمن يتعرَّض لاعتداء مباشر على حياته أو أهله أو ماله أو عرضه، لا رادَّ له إلا قتل المعتدي، يحقُّ له أن يقاتل ذلك المعتدي ليدفع أذاه. والقاتل بغير حقٍّ يُقتَل لقاء ما اقترفته يداه، منعاً من انتشار جريمة القتل النكراء بين الناس أو الاستهانة بأمرها.
    ثانياً: أن يكون القتل منعاً للإفساد في الأرض. فيتعيَّن قتل من ينشر الفساد ويلجأ إلى القتل بدافع اللصوصية والاعتداء على الحرمات، أو يمارس تجارة المخدِّرات وأشباهها فينشر السموم بين صفوف الشباب الَّذين هم عماد المجتمع وبُناته الأقوياء، أو أن يخون وطنه ويتجسَّس لصالح أعدائه، فمثل هذا الإنسان يُعدُّ مصدر قلق وخطر يهدِّد حياة الآخرين، وفي قتله صيانة لحياتهم وأمنهم. والهيئة القضائية فقط هي الَّتي تنفِّذ قتله لا الأفراد، ولا يحقُّ لأيِّ جهة سواها، فردية كانت أو جماعية، أن تُنزِلَ الموت بأي إنسان مهما علا شأنها اجتماعياً أو سياسياً أو مادياً.ولكنَّ بعض الناس يخالفون هذا الضابط الدِّيني الَّذي يحفظ الحياة والكرامة الإنسانية، وينتهكون حرمات الله بالاعتداء على أرواح الأبرياء بغير حق.
    لقد كان بنو إسرائيل ولا زالوا أوضح نموذج لهؤلاء الناس، فقد قام المنحرفون والمتطرِّفون منهم بقتل كثير من الأنبياء على مدار التاريخ، وحاول أشقياؤهم قَتْلَ الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم لأنه كشف تحريفهم للتوراة وإضلالهم للناس. لذلك فقد خصَّهم الله تعالى بالذِّكر في هذه الآية، مصوِّراً حالهم الَّذي لم يتبدَّل منذ القرون الغابرة وحتى اليوم. فنحـن نجـد في عصرنــا هذا ـ عصر العلـم والحضـارة والرقي الفكري ـأن الغلاة منهم والمتطرِّفين لا يزالون يستبيحون دماء الناس، وعلى مشهد من أعين العالم أجمع، دون رادع يثنيهم أو وازع يصرفهم عن جرائمهم، وفي كلِّ يوم نطالع خبراً جديداً عن مقتل العرب من سكان الأراضي المحتلة على أيديهم، وكأن دماء أولئك العرب مباحة، أو كأنهم ليسوا من جنس البشر، مع أنهم شركاؤهم في الإنسانية والعبودية لله الواحد الأحد، وأَتْباعٌ مثلهم لرسالة سماوية مقدَّسة تنزَّلت من عند الله ربِّ الناس أجمعين. وفي الوقت ذاته يُعظِّمون حرمة دمائهم، فيغضبون ويثورون إذا قُتِلَ يهودي واحد في أي بقعة من بقاع العالم وكأنهم قُتلوا جميعاً، ولا يزالون يطالبون بثأره ويلاحقون قاتله بعقدة الذنب إلى قيام الساعة.
    وليست هذه الصورة بعيدة أبداً عما يمارسه بعض البيض هنا وهناك ضد الملوَّنين، حيث يرتعون في أحضان الرفاهية المادية، بينما يضطهدون الملوَّنين ولا يتورَّعون عن قتلهم إذا اقتضت مصالحهم ذلك، دون أن يطرف لهم جفن أو تتحرَّك ضمائرهم قيد أُنملة، وكأن هؤلاء الناس لا يستحقُّون الحياة، ولا يحقُّ لهم صيانتها.
    أمَّا الإسلام، الدِّين الإنساني العالمي، فإنه يحفظ حقَّ الحياة لكلِّ إنسان مهما كان جنسه أو لونه أو عرقه أو انتماؤه الدِّيني، ويقرِّر عقوبة شديدة في حقِّ من يعتدي على هذه الحياة، وهي العذاب الشديد والطرد من رحمة الله، ويعتبره معتدياً على الإنسانية كلِّها، وبالتالي ففي حماية الفرد ـ وهو الجزء ـ حماية للإنسانية ككلّ، فمن سوَّلت له نفسه قتل إنسان بريء، لم يتورَّع عن قتل الآلاف لوجود نوازع الشر لديه. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن كرامة الفرد من كرامة أُمَّته، وقد يؤدي مقتل فرد من أفرادها على يد فرد من أمَّة أخرى، إلى نشوب حرب طاحنة بينهما، يُقتل فيها الآلاف وجميعهم ضحيَّة لفعل القاتل الأوَّل. ومن حفظ حياة إنسان بأن منع عنه القتل، أو نجَّاه من غرق أو حرق أو هلكة أو سوى ذلك، فكأنما أحيا الناس جميعاً، لأن بذرة الخير مزروعة في نفسه ولابدَّ أن تنمو وتزهر وتثمر ويعمَّ خيرها الناس جميعاً.
    والله جلَّ وعلا لم يترك عباده تائهين في شعاب الحياة، بل أرسل إليهم الرسل بالآيات البيِّنات الَّتي تحذِّر وتنذر، وتحبِّب وترغِّب، ولكن ظلمة بعض النفوس حجبت نور الله عنها، فعشَّش الشيطان فيها واتخذها مطية له، فمشى أصحابها في الأرض يُهلكون الحرث والنسل، استعلاءً وغروراً، وحباً للسيطرة واستغلالاً لثروات غيرهم.
    سورة النحل(16)
    قال الله تعالى: {وإنْ عاقبْتُم فعاقبوا بمثلِ ما عُوقِبْتُم به ولئنْ صبَرتُم لهو خيرٌ للصَّابرين(126)}
    ومضات:
    ـ تكفل الشريعة الإسلامية للمؤمن عزَّته وكرامته، وتبيح له الاستعداد واستعمال القوَّة، ليتمكَّن من الدفاع عن نفسه وردِّ أي اعتداء عليه بمثله. وهي في الوقت ذاته تدعوه حين يملك القوَّة والإمكانات للردِّ الحاسم، إلى تمالك أعصابه والتحلِّي بالصبر، صبر الشجاعة مع القدرة لا صبر المهانة، وترغِّبه بالتجاوز عن خصمه والعفو عنه، عسى أن يثوب إلى رشده حين يرى عظمة الإسلام في منعته وفي عفوه.
    في رحاب الآيات:
    الإسلام دين العدل والاعتدال، دين السلم والمسالمة، إلا أنه يدفع عن نفسه وعن أهله البغي. لذلك يُقِرُّ القرآن الكريم وهو الدستور المتوازن الأمثل، في عدد من آياته قاعدة القصاص، وهي المعاملة بالمثل، صيانة للنفس البشرية وحماية لها؛ فالدفاع عنها في حدود القصد والعدل، يحفظ لها كرامتها وعزَّتها، فلا تهون في نفوس الناس. والله تعالى لا يترك دعوته مهينة مهيضة الجناح، والمؤمنون لا يقبلون الضيم وهم دعاة إلى الله ـ والعزَّة جميعاً لله ـ ثم إنهم أمناء على إقامة الحقِّ في الأرض، وتحقيق العدل بين الناس، وهداية البشرية إلى الطريق القويم؛ فكيف ينهضون بهذا كلِّه وهم يُعاقَبون ولا يُعاقِبون، ويُعْتَدَى عليهم فيستكينون؟. ومع تقرير مبدأ القصاص فإن القرآن يدعو إلى العفو والصبر مع الصفح عند القدرة، وذلك في الحالات الَّتي يكون فيها المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان، ولكنَّهم يميلون إلى العفو والصبر، إذا كان أجمل وأعمق أثراً، وأكثر فائدة للدعوة، فأهواؤهم الشخصية لا وزن لها حين تميل مصلحة الدعوة إلى العفو والصبر.
    إنَّ رسولَ الله محمَّداً صلى الله عليه وسلم هو المثل البشري الأعلى في ذلك، فقد أخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أُحُدْ عندما قُتِل حمزة ومُثِّل به: «لئن ظفرت بقريش لأمثِّلنَّ بسبعين رجلاً منهم، فأنزل الله تعالى: {وإن عاقبْتُم فعاقبوا بمثلِ ما عُوقِبْتُمْ به ولئن صبَرتُم لهو خيرٌ للصَّابرين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل نصبر يارب. ولما مكَّنه الله تعالى منهم وفُتِحت مكَّة عفا عنهم جميعاً وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء». ومن هنا ندرك أنه على الرغم من أن ضبط الإنسان لانفعالاته هو من الصعوبة بمكان، وخاصَّة عندما يتعرَّض للاعتداء أو الإهانة، وعلى الرغم من وجود القوانين السماوية الَّتي تبيح للمُعتدى عليه ردَّ الاعتداء، ومعاقبة المعتدي بمثل ما اعتدى به، وردِّ المظالم إلى أهلها، فإن الله تعالى يرغِّب عباده بالتعالي والتسامي فوق الأحقاد، والتعامل مع الخصوم بالصبر والتسامح، أملاً بتحويل عداوتهم إلى محبَّة، وأذاهم إلى إصلاح، قال تعالى: {ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ ادفع بالَّتي هي أحسنُ فإذا الَّذي بينك وبينه عداوةٌ كأنَّه وليٌّ حميم} (41 فصلت آية 34).
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    تحريم الزنى وعقوبته
    سورة النور(24)
    قال الله تعالى: {سورةٌ أَنْزَلناها وفَرضْناها وأَنْزلنا فيها آياتٍ بيِّناتٍ لعلَّكم تَذَكَّرون(1) الزَّانيةُ والزَّاني فاجْلِدوا كلَّ واحدٍ منهما مائةَ جلدةٍ ولا تأْخذْكُم بهما رأْفَةٌ في دينِ الله إن كنتم تؤمنونَ بالله واليومِ الآخرِ وَلْيَشْهدْ عذابَهُما طائفةٌ من المؤمنين(2)}
    سورة النور(24)
    وقال أيضاً: {إنَّ الَّذين يُحبُّونَ أن تَشِيعَ الفاحشَةُ في الَّذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدُّنيا والآخرةِ والله يعلمُ وأنتم لا تعلمون(19) ولولا فضْلُ الله عليكم ورحمَتُهُ وأنَّ الله رؤوفٌ رحيم(20) ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تتَّبِعوا خُطُواتِ الشَّيطانِ ومن يتَّبعْ خُطُواتِ الشَّيطانِ فإنَّه يأمرُ بالفحشاءِ والمنكرِ ولولا فضْلُ الله عليكم ورحمَتُهُ ما زَكَى منكم من أحدٍ أبداً ولكنَّ الله يُزكِّي من يشاءُ والله سميعٌ عليم(21)}
    ومضات:
    ـ إن جريمة الزنى من أشدِّ الأخطار الَّتي تصيب صميم المجتمع في ضميره وشرفه ووجدانه وصحَّته، لأنها تجعل منه مجتمعاً منحلاً أخلاقياً، ومنهاراً اجتماعياً وصحِّياً.
    ـ الغريزة الجنسية قوَّة فطرية جامحة لا يستطيع المرء لجمها ووضعها في المسار الصحيح إلا بعون الله تعالى ورعايته؛ وبما يملأ قلبه من حبِّ الله وخشيته؛ فتزكو النفس المريضة، وتكتسب المناعة ضدَّ دوافع الشهوة والانحراف.
    ـ إن الكثير من أبناء الدول المتحضرة الَّذين يدرسون الإسلام يرغبون في تطبيق تعاليمه في مجتمعاتهم؛ لكي يتجنَّبوا الأمراض الناجمة عن الفُحش والإباحية.
    في رحاب الآيات:
    يكاد يكون المحور الأساسي الَّذي تدور حوله سورة النور مقتصراً على عملية التربية، الَّتي تشتدُّ في وسائلها إلى درجة تطبيق الحدود كعقاب رادع، وترِقُّ في أسلوبها إلى درجة الاحتكاك مع الإنسان باللمسات الوجدانية الرقيقة، الَّتي تصل القلب بنور الله وآياته المبثوثة في كلِّ مخلوقٍ في هذا الكون الفسيح، وفي ثنايا الحياة الَّتي يعجُّ بها، والهدف واحد في كلٍّ من حالتي الشدَّة واللين ألا وهو تربية الضمائر، وترقية المقاييس الأخلاقية للحياة.
    وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على أحكام عامَّة تتعلَّق بالأسرة الَّتي هي النواة الأولى للمجتمع الأكبر؛ ووضَّحت الآداب الاجتماعية الَّتي يجب أن يتمسَّك بها المؤمنون بدءاً من الاستئذان عند الدخول، إلى غضِّ البصر، وحفظ الفرج، وتقييد الاختلاط، كما ذكرت ما ينبغي أن تكون عليه الأسرة المسلمة من العفاف والستر والطهارة والنزاهة، صيانة لها، وحفاظاً عليها من عوامل التفكُّك والانهيار الخلقي. كذلك ذُكرت في هذه السورة بعض الحدود الشرعية كحدِّ الزنى وقذف المحصنات (الاتِّهام بالزنا من غير دليل)، وهذه الحدود إنما شُرعت تطهيراً للمجتمع من الفساد والفوضى، والتحلُّل الخلقي وحفظاً للأمَّة من عوامل التردِّي في مهاوي الإباحية والفجور، الَّتي تسبِّب ضياع الأنساب وذهاب العرض والشرف.. إضافة إلى الأمراض الجسدية الفتَّاكة والمعضلات الاجتماعية الَّتي تنتج عنها. وباختصار فإن هذه السورة عالجت أموراً تخصُّ الأسرة من النواحي الأخلاقية والأدبية والشرعية والصحِّية، وتعرَّضت كذلك لما هو سبب لإشاعة الفاحشة بين الناس، وغير ذلك ممَّا يُعَدُّ علاجاً للأمراض الاجتماعية والمفاسد الخُلقية الَّتي تفتك بالأسرة والمجتمع، إضافة إلى ما فيها من آداب سامية وحكم عالية، وإرشادات سديدة إلى أسس الحياة الفاضلة، وما يجب أن تكون عليه بيوت المؤمنين من النزاهة والعِفَّة والاستقامة والطهر.
    وقد تعرَّضت السورة الكريمة للحديث عن الزنى لأنه يُعَدُّ في نظر الإسلام جريمة نكراء، فهو قتلٌ من نواحٍ شتى، إنه قتل ابتداء لأنه إراقة لمادَّة الحياة في غير موضعها الشرعي، وهو قتل للجماعة من جانب آخر، إذ أن سهولة قضاء الشهوة عن طريق الزنى يجعل الحياة الزوجية أمراً ثانوياً، فتصبح الأسرة وأعباؤها تَبِعةً لا داعي لها، وما من أمَّة فشت فيها الفاحشة إلا كانت عاقبتها الانحلال والدمار؛ منذ قديم الزمان وحتَّى يومنا هذا.
    والله جلَّ وعلا، بحكمته البالغة، أوجد الارتباط بين الذكر والأنثى بالشكل المنظم والمضمون، الَّذي يكفل الحقوق للطرفين وللأولاد، وارتقى بهذه العلاقة إلى المستوى الإنساني الكريم، فحماها من التردِّي إلى الدرك البهيمي الذميم. لقد وضع الإسلام العلاقة بين الزوجين في دائرة الطهارة والعفاف، عن طريق الزواج الشرعي الَّذي يحقِّق الهدف النبيل، والغاية الإنسانية المُثلى، في بقاء النوع الإنساني كما قال تعالى: {والله جعـلَ لـكم من أنفسِـكُم أزواجـاً وجعـلَ لكم من أزواجِكُم بنينَ وحفدة..} (16 النحل آية 72).
    وإذا استقرأنا الواقع وجدنا أن الحضارة الأوربية الَّتي عاشت عشرات السنين وهي تدعو إلى الحرِّية المطلقة، بما في ذلك الحرِّية الجنسية، قد بدأت اليوم تحصد هي وأنصارها نتائج هذا الانفلات من قيود الفضيلة، أمراضاً وأوبئة تفتك بالمذنب بشكل مباشر، كما تفتك بالبريء بشكل غير مباشر عن طريق الوراثة والعدوى ونقل الدم؛ حيث يولد الطفل مصاباً بالمرض الَّذي تحمله الأم الجانية أو الأب الآثم، أو يصاب بمرض كاليرقان فيضطر الطبيب إلى إعطائه دماً تعويضياً، ثم يظهر أن هذا الدم ملوَّث بجرثوم الإيدز. وفي مثل هذه الحالة لو عُرِض الأمر على القضاء وسمح القاضي لوالد هذا الطفل أن يقتصَّ من الجاني الحقيقي الَّذي عاث في الأعراض فساداً كما يشاء، فهل سيكتفي هذا الوالد المتحضِّر بعقابه مئة جلدة، أم أنها ستكون عقوبة صارمة جداً؛ يقتلع بها جذور الشرِّ من أعماق المجتمع الإنساني؟. إن الغربيين لا يعدُّون الزنى جريمة يعاقب عليها القانون إلا إذا تمَّ بالإكراه، أمَّا إذا كان بالرضا فإنه برأيهم لا يستوجب العقوبة لأنه يخلو حينئذٍ من فكرة العدوان، ونتيجة لهذه النظرة المادِّية البحتة والواقع العملي الَّذي نتج عنها، فقد فسدت الروابط العائلية بينهم، وتخرَّبت الأسرة، وانتشرت الأوبئة والجرائم الخُلُقية في مجتمعاتهم. فإذا سلكنا مسلكهم في ذلك نالنا ما نالهم، فالحذرَ الحذرَ من الانزلاق إلى منزلقاتهم، لاسيَّما وقد بدأت بؤر من العدوى تظهر بيننا؛ إنها صرخة الغيور على مجتمعه وأمَّته كي تعتصم بحبل الله وشرعه الكريم، وبذلك تمتطي قارب النجاة في هذا البحر الهادر فتتحقَّق سلامتها بعون الله تعالى.
    والقرآن الكريم يحذِّر من مجرَّد مقاربة ما يفضي إلى الزنى بقوله تعالى: {ولا تَقرَبوا الزِّنا إنَّه كان فاحشةً وساءَ سبيلا} (17 الإسراء آية 32) وهي مبالغة في التحرز؛ لأن الزنى تدفع إليه شهوة عنيفة، لكنها لا تتولَّد بلا أسباب، فإذا ما باشر الإنسان أسبابها ودواعيها لم يبق هناك ضمان لكبحها. لذلك فالإسلام يكره الاختلاط في غير ضرورة، ويحرِّم الخلوة، ويأمر بغضِّ النظر، وينهى عن التبرُّج، ويحضُّ على الزواج لمن استطاع، ويوصي بالصَّوم من لا يستطيع، ويجعل من كلِّ حاجز يمنع من الزواج مكروهاً، وينفي الخوف من العَيْلة والإملاق بسبب الأولاد، ويحضُّ على مساعدة من يبتغون الزواج ليحصِّنوا أنفسهم؛ وفي مقابل ذلك كلِّه فإنه شدَّد العقوبة على من يقع في الزنا، وحدَّدها على الشكل التالي:
    1 ـ عقوبة المُحْصَنَيْنِ (المتزوِّجَيْنِ): إن كان الزانيان مُحْصَنَيْنِ وكانا بالغين عاقلين، حُرَّين، مسلمين، متزوِّجَين بعقد صحيح، وجب رجمهما حتَّى الموت، ويكون ذلك على مرأى من المسلمين ليعتبروا بهما؛ وقد ثبت هذا بالسُّنة برواية الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم .
    2 ـ عقوبة غير المُحْصنين: إذا كان الزانيان غير محصنين (أي لم يسبق لهما زواج)، فالعقوبة مائة جلدة لكلٍّ منهما بحضور جمعٍ من المسلمين، كما مرَّ معنا في الآية الكريمة.
    ولما كان الزنى جريمة منكرة وكانت عقوبته عقوبة صارمة وهي (الجلد أو الرجم) فقد شرطت الشريعة الإسلامية شهادة الشهود لإثبات جريمة الزنى، وأخضعت هذه الشهادة لشروط شديدة حاسمة، بتحقُّقها يُقام الحد، وهي:
    أوَّلاً: أن يكون الشهود أربعة لقوله تعالى: {واللاَّتي يَأتِيْنَ الفاحشةَ من نسائِكُم فاستشهدوا عليهِنَّ أربعةً منكم..} (4 النساء آية 15) وقوله أيضاً: {والَّذين يرمونَ المحصناتِ ثمَّ لم يأتوا بأربعةِ شهداءَ فاجلدوهم ثمانينَ جلدةً..} (24 النور آية 4) بخلاف سائر القضايا فإنه يُقبَل فيها شهادة اثنين فقط.
    ثانياً: أن يكون الشهود ذكوراً من أهل العدالة ــ كما في كلِّ شهادة ـ لقوله تعالى: {..وأَشْهدوا ذَوَيْ عدلٍ منكم..} (65 الطلاق آية 2).
    ثالثاً: أن يكون الشهود مسلمين عاقلين بالغين.
    رابعاً: أن يكونوا قد رأوا الجريمة بتفاصيلها ودقائقها بأعينهم (أي أن يروا ما يمكن وصفه بالمِيل في المُكحُلَة)، بهذا الوضوح التام الَّذي لا شبهة فيه على الإطلاق، وهذا بلاشك لا يمكن أن يتحقَّق أو يُتَصوَّر إلا إذا كان الزانيان يباشران جريمتهما بشكل مكشوف كما يفعل الحيوان.
    خامساً: اتحاد المجلس بأن يشهد الشهود مجتمعين، فإن جاؤوا متفرقين لا تقبل شهادتهم.
    وكان غرض الشارع من هذا التشديد أن يسدَّ السبيل على الَّذين يتَّهمون الأبرياء ظلماً ويقذفون المحصنات بهتاناً، كلُّ ذلك بغية حماية الإنسان أن تطاله العقوبة وهو بريء من فعل ما يوجبها، إذ أن غرض الإسلام منها هو الردع عن ممارسة أسبابها؛ لا إيقاعها بالفعل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ادرؤوا الحدود بالشُّبُهات» (رواه الخمسة) فربَّما كانا في فراش واحد ولم تحصل منهما جريمة الزنى.
    كما يمكن إثبات الزنى عن طريق الإقرار، بأن يشهد الشخص على نفسه ويعترف اعترافاً صريحاً بالزنى. وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم باعتراف ماعز والغامدية، وأقام عليهما الحدَّ بعد إصرارهما على الاعتراف ولم يكلِّفهما البيِّنة، ولكن التثبُّت في أمر الإقرار مطلوب، حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لماعز ما عساه أن يصرفه عن الاعتراف فقال له أربع مرات: «لعلك قبَّلت، لعلك نظرت» حتَّى ذكر له ماعز أنه فعل الزنا باللفظ الصريح الَّذي لا شُبْهة فيه، كلُّ ذلك بغية التثبُّت من جهة، وفتحاً لباب الرجوع عن الاعتراف واللجوء إلى التوبة والاستغفار، فإن التائب من الذَّنْب كمن لا ذَنْب له، شرط أن تكون هذه التوبة توبة حقيقية. وعدَّ بعض الفقهاء حمل المرأة الَّتي ليست في عصمة رجل، قرينة على اقتراف فاحشة الزنى.
    ولم يحصل في عصره صلى الله عليه وسلم إقامة حدِّ الزنى إلا عن طريق الإقرار، وفي حادثتين اثنتين، إحداهما حادثة ماعز بن مالك الأسلمي، الَّذي جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه:«يارسول الله إني زنيت. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه، وتنحَّى عنه. فأعرض قبله فقال: (إني زنيت) فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ثانية وتنحَّى عنه، فأعرض قبله فقال: طهِّرني يارسول الله فقد زنيت. فقال له أبو بكر الصديق: لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكنه أبى فقال: يارسول الله زنيت فطهِّرني. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعلك قبَّلت أو غمزت أو نظرت؟ قال: لا. فسأله رسول الله باللفظ الصريح الَّذي معناه (الجماع) فقال: نعم. قال: حتَّى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم. قال: كما يغيب الميل في المُكْحُلة والرشاء في البئر؟ قال: نعم. فسأله النبي صلى الله عليه وسلم : هل تدري ما الزنى؟ قال: نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من أهله حلالاً، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: إني أريد أن تطهِّرني. فأمر صلى الله عليه وسلم به فرُجم. وسمع الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة يتكلَّم عنه ويقول: لقد رُجم رجم الكلاب فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: لقد تاب توبة لو قُسِمَتْ بين أمَّة لوسعتهم». وفي رواية أخرى: «والَّذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنَّة ينغمس فيها» (رواه الشيخان وأبو داود والترمذي).
    أمَّا الحادثة الثانية فهي حادثة الغامدية، فقد روى مسلم في صحيحه أن امرأة تدعى الغامدية جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «يارسول الله إني زنيت فطهِّرني. فردَّها صلى الله عليه وسلم ، فلما كان من الغد قالت: يارسول الله لِمَ ترُدُّني؟ لعلك تردُّني كما رددت ماعزاً؟ فوالله إني لحبلى، فقال: أمَّا الآن فاذهبي حتَّى تَلِدي. فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: فاذهبي فأرضعيه حتَّى تفطميه. فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يانبي الله قد فَطَمتُه وقد أكل الطعام. فدفع الصبيَّ إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فنضح الدم على وجه خالد بن الوليد فسبَّها، فسمعه صلى الله عليه وسلم فقال: مهلاً ياخالد فوالَّذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مُكْسٍ لغُفِرَ له، ثم أمر بها فصُلِّي عليها ودفنت» (رواه مسلم وأصحاب السنن) (المكس: هو النقص والظلم)، فانظر إلى هذه النفوس الكريمة الَّتي لم تتحمل عِظَمَ هذا الذنب فجاءت تريد الطهارة منه.
    ولعلَّ بعض الَّذين تأثَّروا بالثقافة الغربية يرون في هذه الحدود والعقوبات، شيئاً من الشدَّة والقسوة، الَّتي لا تتَّفق مع روح العصر، والواقع أن العقوبة الَّتي شرَّعها الإسلام صارمة، ولكنَّها في الوقت نفسه عادلة، فهي تقع فقط على من استهتر، وسعى في طريق شهوته دون أن يبالي بأي طريق نال الشهوة، ولا ما يترتَّب عليها من أخطار وأضرار. ثمَّ إن الإسلام يعتبر الزنى لوثة أخلاقية وجريمة اجتماعية خطيرة، ينبغي أن تكافَحَ دون هوادة، ولكنه لا يفرض هذه العقوبة الصارمة (الجلد أو الرجم) ـ كما بيَّنا ـ لمجرد التهمة أو الظن، بل على النقيض يوجب التحقُّق والتثبُّت، ويُدرأ الحدُّ بالشُّبُهات، ويشترط شروطاً شديدة تكاد لا تتوافر؛ هي شهادة أربعة رجال مؤمنين عدول يشهدون بوقوعها، ويشهدون على مثل ضوء الشمس، أو اعترافاً صريحاً لا شُبهة فيه من الشخص الَّذي اقترف الجريمة. ولا يخفى على كلِّ ذي نظر أن الاعتراف سلوك باعثه داخلي ذاتي، ولا يحصل إلا من قِبَل أصحاب الإحساس المرهف، والضمير الإيماني الحي اليقِظ، الَّذي يحمل صاحبه على الاعتراف بأمرٍ ستره الله عليه لينال عقاب الدنيا ويطهِّر به نفسه من دنس المعصية، فيَلقى ربَّه طاهراً نقياً. فأي سلطان للقاضي في مثل هذه الأحوال إذا قام الفرد بعمله وكتم ذلك في نفسه، لاسيَّما وأن الله تعالى فتح باب التوبة لكلِّ من أراد إرادة حقيقية تَرْكَ ما حرَّم الله، وسلوكَ سبيلِ ما أباح وأحلَّ.
    إن الناظر بعُمقٍ يرى أن إثبات جريمة الزنى بالبيِّنة والشهادة أمر شبه مستحيل، وأن الإسلام أمَرَ القاضي بهذا الحرص الشديد في قبول الاعتراف من المعترفين، فيخرج بنتيجة مفادها أنه أمر بالحدِّ والعقوبةتلويحاً بها وزجراً، فإذا ما وقع بها بعض المسلمين تحت ظرف ما من الظروف، وبعد أن عاد إلى رُشده وصحا إيمانه وضميره؛ التمس له الشرع الوسائل والأسباب الَّتي تمنع عنه العقاب، وتوجِّهه إلى أبواب رحمة الله، ضارعاً إليه تائباً متنصِّلاً من ذنبه، ليجد ربَّه غفوراً رحيماً.
    ونظراً لبشاعة جريمة الزنى ولفداحة الخسائر الَّتي تنجم عنه، فقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأخطار سواء منها الدنيوية والأخروية، فقد رُوي عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يامعشر الناس! اتقوا الزنى فإن فيه ستَّ خصالٍ: ثلاثاً في الدنيا وثلاثاً في الآخرة، أمَّا الَّتي في الدنيا فيُذهب البهاء، ويُورث الفقر، وينقص العمر، وأمَّا الَّتي في الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى، وسوء الحساب، وعذاب النار» (أخرجه البيهقي في الشعب).
    وقد حذَّر الله تعالى من الرأفة أو الرحمة في إقامة الحدِّ؛ بعد أن تثبت الجريمة بشكل قاطع، لا لَبْس فيه ولا خفاء، فقال تعالى: {الزَّانية والزَّاني فاجلدوا كلَّ واحد منهما مائة جلدة ولا تأْخُذْكُم بهما رَأْفَةٌ في دينِ الله}، لأن الرأفة والرحمة قد تُخَفِّف شدَّتكم في الحقِّ فتعطِّلوا الحدود، أو تخفِّفوا الضرب؛ فالواجب هو أن تكونوا حازمين في دين الله، وذلك لاجتثاث أسباب الفتنة من جذورها، وليأخذ المتهاونون في شرع الله الأمر على محمل الجد، وتدبُّر العواقب قبل أن تقع الواقعة. والعقوبة لا تقتصر على من يرتكب جريمة الزنى فحسب، بل إنها تمتدُّ لتشمل كلَّ من يُعين عليها، ويكون سبباً في إشاعتها؛ بنشر الفاحشة بين الناس وتشجيعهم على ارتكابها، لأنه مجرم في حقِّ مجتمعه إذ يحوِّله إلى مجتمع بهيمي حيواني، لا عقلانية تردعه ولا أخلاق تقوِّمه. ومن ذلك ما يفعله تجار الجنس في يومنا هذا، زمن الأفلام والفيديو، حيث يُحضرون زناة من الجنسين، وحتَّى من الجنس الواحد ليمارسوا أقبح الأعمال وأوقحها، وآلة التصوير تدور معهم حيثما داروا، ليُخرِجوا بذلك فيلماً تتخاطفه النفوس المريضة، ويشاهده المراهقون في غفلة من آبائهم، لتنهار بذلك القيم، ولنخرج بإحصائية مرعبة نجد فيها أطفالاً يمارسون الجنس، وفتيات يَحملن دون زواج وهنَّ دون الخامسة عشرة من أعمارهن، ولنجد أعمال الجنس تُمارَس في الأسرة الواحدة بين الأب وبناته، وبين الأخ وأخته، وبين الرجل والرجل وبين الفتاة والفتاة. ومحصِّلة ذلك كلِّه: أوبئة تستشري، ومجتمعات تنحلُّ، ومخدِّرات تتفشى، حتَّى ليتمنَّى المرء من هؤلاء أن يدركه الموت في أيَّة لحظة ليتخلَّص من الآلام الَّتي تنهش فيه، علاوة على الاضطرابات الفكرية والنفسية، الَّتي أودت وتودي بكثير منهم إلى الانتحار أو الجنون. ولو أنَّا أقمنا عقوبة الرجم في حقِّ تجار الجنس وأعوانهم، لأنقذنا عدداً كبيراً من الناس من الهلاك والدمار. لذلك كلِّه، يشدِّد الله تعالى في تحذير عباده من اتِّباع خطوات الشيطان، أو سلوك مسالكه بإشاعة الفاحشة، فمن ينهج نهجه فإنه يضلُّ عن السبيل القويم، فهو لا يأمر إلا بالمنكر الَّذي ينكره الشرع، وتنفر منه العقول والأذواق السليمة. ولولا فضل الله على المؤمنين الَّذي تفضَّلَ به عليهم، بإخراجهم من ظلمات الجهل والضلال، إلى نور العلم والتربية، ما زَكى ولا تطهَّر منهم من أحد، ولكنهم عندما اهتدَوْا بذلك النور ظهرت آثاره في أخلاقهم وآدابهم، وانعكس ضياؤه في قلوبهم فأشرقت، وفي أرواحهم فرقَّت وشفَّت، وفي ضمائرهم فاستيقظت وتنبَّهت، فاستنارت جميع جوانب حياتهم، بذلك النور الإلهي الشامل لجميع ما في الكون.
    سورة الأعراف(7)
    قال الله تعالى: {ولوطاً إذ قالَ لقومِهِ أتأتونَ الفاحشةَ ما سبَقَكُم بها من أحدٍ من العالَمِين(80) إنَّكم لتأتونَ الرِّجالَ شهوةً من دونِ النِّساءِ بل أنتم قومٌ مُسرفون(81) وما كان جوابَ قومِهِ إلاَّ أن قالوا أخرِجوهم من قريَتِكم إنَّهم أُناسٌ يتطهَّرون(82) فأنجيناهُ وأهلَهُ إلاَّ امرأَتَهُ كانت من الغابِرين(83) وأمطرنا عليهم مطراً فانْظُرْ كيف كان عاقبةُ المجرمين(84)}
    سورة العنكبوت(29)
    وقال أيضاً: {ولوطاً إذ قال لقومِهِ إنَّكم لتأتونَ الفاحشةَ ما سبَقَكُم بها من أحدٍ من العالمين(28) أئنَّكم لتأتونَ الرِّجالَ وتقطعونَ السَّبيلَ وتأتونَ في ناديكُمُ المنكَرَ فما كان جوابَ قومِهِ إلاَّ أن قالوا ائتِنا بعذابِ الله إن كنتَ من الصَّادقين(29) قال ربِّ انصرني على القومِ المفسدين(30)}
    سورة الأنبياء(21)
    وقال أيضاً: {ولوطاً آتيناهُ حُكْماً وعِلْماً ونجَّيناهُ من القريةِ الَّتي كانت تعمل الخبائثَ إنَّهم كانوا قومَ سَوْءٍ فاسقين(74) وأدخلناهُ في رحمَتنا إنَّه من الصَّالحين(75)}
    ومضات:
    ـ لو علم الله خيراً في الشذوذ الجنسي لأباحه، وما كان تحريمه إلا لكثرة أضراره النفسية والصحِّية والاجتماعية، وحتَّى اليوم لم يكتشف العلم عنه سوى المزيد من الآثار المدمِّرة لصاحبه ولمجتمعه.
    في رحاب الآيات:
    لقد خلق الله تعالى الحياة وجعل لها نظاماً دقيقاً تسير أمورها وفقاً له، وخلق الإنسان وأعطاه إمكانات التعايش مع هذا النظام، وإن أي إساءة في تطبيقه أو معاندة في تنفيذه، تحدث الخلل والاضطراب في حياة الإنسان وما حوله. والإنسان يلتزم تلقائياً بهذا النظام في حياته العملية، سعياً للحفاظ على راحته وبقائه، والأجدر به أن يلتزم في سلوكه الجنسي بالقوانين الإلهية، للحفاظ على سعادته الروحية والإبقاء على الجنس البشري وحضارته. وإن من هذه القوانين قانون الله في التوالد الَّذي يحكم الكون بأسره، فما من شيء في هذا الوجود إلا ويتوالد بالتقاء عنصرين متخالفين متكاملين: الذكر والأنثى، أو السالب والموجب. وفي عموم الطبيعة نشهد تلاقح الذكورة مع الأنوثة؛ ففي النبات يولِّد الثمرة، وفي مجال الكهرباء تتولَّد الطاقة والإضاءة من تلاقي الشحنات الكهربائية السالبة مع الشحنات الموجبة، بينمايسفر تلاقي الشحنات المتماثلة عن تنافر، ولا يأتي بأية طاقة. وكذلك النسل والإنجاب عند الإنسان لا يتمُّ إلا عن طريق التقاء الرجل مع المرأة؛ ولولا تلاقيهما لانقرض الجنس البشري، وكذلك الحال في عالم الحيوان. إذن، فقانون بقاء النوع قائم على هذا التزاوج الإيجابي البنَّاء، وإن الإخلال بهذا القانون يؤدِّي إلى تعطيل توالد هذه الأجناس ومن ثَمَّ اندثارها.
    والآيات الكريمة الَّتي نحن بصددها تعرض نموذجاً لهؤلاء الَّذين عطَّلوا قانون الله بانحرافهم عن فطرتهم، وفساد سلوكهم، فألحقوا بأنفسهم الدمار والخراب، إنهم قوم لوط، الَّذين أحدثوا في عهدهم ما لم يحدثه غيرهم من الأمم السابقة، حيث جنحوا إلى الاتصال الجنسي بين الرجل والرجل بما فيه من القبح الَّذي يمجُّه الذوق السليم، وينبو عنه الخلق الكريم، وانحدروا بذلك حتَّى عن مستوى البهائم. فلم نرَ أبداً حيواناً ذكراً يقارب ذكراً مثلـه، لأن غريزتـه لا تتحـرَّك في هذا الاتجاه ـ إلا في حالات نادرة ـ فهل يُعقل أن تكون الغريزة الحيوانية أرقى من بعض أفراد النوع البشري؟؟ لقد عطَّلوا بذلك قانون الزوجية الَّذي يقضي بالتقاء الرجل والمرأة لغايتين نبيلتين: أولاهما تحقيق المتعة الحلال كما أمر الله تعالى، وثانيتهما إنجاب الأولاد لحفظ النسل وعمارة الكون.
    وقد حرَّم الله تعالى الشذوذ الجنسي هذا لأنه:
    1 ـ مفسدة لنفسية الشـباب يزرع السـلبية فيهم ولا يشـبع عواطفهم، فهم لا يستطيعون ممارسته غالباً إلا بعد تعاطي الخمرة أو المخدِّرات لخلق جو وهمي من المتعة بداخلهم؛ وهذا يعني أنه يجرُّهم إلى المزيد من الدمار والعدائية.
    2 ـ مفسدة للنساء اللواتي ينصرف أزواجهن عنهن إلى الرجال، ويقصِّرون فيما يجب عليهم من إحصانهن، فينجرفن إلى طريق الانحراف أو الشذوذ بين بعضهن، أو يرتمين في أحضان رجال غرباء عنهن.
    3 ـ تقليل النسل؛ فمن وقع في براثن الشذوذ فرغب عن الزواج، وتنصَّل من تحمُّل مسؤوليته، فقد ساهم في تهديم مجتمعه، والحدِّ من نسبة التوالد فيه.
    4 ـ الأمراض الفتَّاكة القاتلة الَّتي تنجم عنه، والَّتي كان آخرها مرض فقد المناعة الخطير المعروف باسم الإيدز أو السِيدا.
    لذلك كلِّه بعث الله الرسل، ليحذِّروا أقوامهم وينذروهم من أن يضلُّوا في شعاب الرذيلة، أو ينغمسوا في حمأة الخطيئة، فها هو لوط عليه السَّلام كما تصفه الآيات الكريمة، يفتح باب الحوار بينه وبين قومه، طارحاً عليهم سؤالاً استنكارياً: {أتأتونَ الفاحشة} وهو يعرف جوابه ولكنه ينكره لبشاعته، فلعلَّ ألسنتهم تخجل من النطق به، ولعلَّ صحوتهم الروحية ترتدُّ إليهم، لكن القوم جاهروا بالمعصية وأصرُّوا عليها، فتابع حواره معهم أملاً في إنقاذهم، وعدولهم عن فعلتهم الذميمة، وترغيبهم بمباشرة النساء بالزواج المشروع، فهنَّ أطهر وأزكى، لكنَّهم سخِروا منه وقالوا: أنت تعلم أننا لا نرغب في النساء! ولكنه لم يَيئَسْ وبيَّن لهم بشاعة فضائحهم الأخلاقية من إتيان الذكور، والتعرُّض لهم في الطرقات، والقيام بأعمال مُخِلَّة بالآداب العامَّة؛ لإثارة غرائزهم كالصفير، ورمي الحصى، وفكِّ الإزار، ثم انتقل إلى مجالسهم فعرَّاها بكلِّ ما فيها من فواحش، حيث كانوا يمارسون الشذوذ بشكل علني دون تورُّع ولا خجل، وأنذرهم عقاب الله. ولكنَّ جهوده كلَّها لم تؤثِّر في تلك القلوب الميتة، فتابع تحذيرهم، وذكَّرهم بمصير الأمم السابقة الَّتي عتت عن أمر ربِّها، فكانت عاقبة أمرها خُسراً، فأمعنوا في السُّخرية منه وسفَّهوا رأيه وقالوا متحَدِّين إيَّاه: أرنا إذن العذاب الَّذي تتوعَّدنا به. وازدادوا عناداً وإصراراً، وائتمروا به ليخرجوه من قريتهم، ورمَوه بأنبل تهمة يمكن أن توجَّه إلى إنسان؛ وهي الطعن به أنه طاهر، تلك الصفة الجليلة ذات الأهمية البالغة، في نظر من استقامت به السبل، وانعقدت له أسباب الهداية.
    هنالك، أعيت لوطاً عليه السَّلام الحيلة، ونفض يديه من القوم، ودعا الله قائلاً: {..ربِّ انصُرني على القومِ المفسدين}، فأوحى إليه ربُّه أن اترك القرية وارحل ومعك أهلك، إلا امرأتك فإنه مُصيبها ما أصاب القوم، وخرج من القرية، فأمطرها الله بوابل من العذاب، وخسف الأرض بمن كان عليها من الشواذ، وأصبحوا عبرة لمن أراد أن يعتبر حتَّى قيام الساعة.
    وقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من الاقتداء بقوم لوط فقال: «إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط» (أخرجه أحمد والترمذي وحسَّنه ابن ماجه والبيهقي) وورد عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (أخرجه عبد الرزاق وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي).
    وممَّا يؤسف له أشد الأسف أن نرى اليوم شرذمةً من أبناء الدول الراقية يمارسون هذا الشذوذ، في وقت أدركوا فيه من خلال علومهم المتقدِّمة نتائجه الفتَّاكة، والأمراض الخطيرة الناجمة عنه، والَّتي عمَّ ضررها المذنب والبريء. فهل من عودة إلى طريق الله المستقيم؟ وهل من استجابة لنداء الله الَّذي يتَّفق مع الفطرة الَّتي تتلوَّى ألماً، والضحايا يتساقطون بالملايين، فيصحو الإنسان من شرِّ عمله، وتعود إليه طمأنينته وعافيته وتوازنه النفسي، فيسعد في دنياه قبل أن يسعد في أخراه؟!
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    تحريم القذف وعقوبته
    سورة النور(24)
    قال الله تعالى: {والَّذين يرمونَ المُحْصناتِ ثمَّ لم يأتوا بأربعةِ شهداءَ فاجلِدُوهم ثمانينَ جلدةً ولا تقْبَلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك همُ الفاسقون(4) إلاَّ الَّذين تابوا من بعدِ ذلك وأصلحوا فإنَّ الله غفورٌ رحيم(5)}
    ومضات:
    ـ إنَّ تَرْكَ الألسنة تنهش في أعراض الناس، دون دليل قاطع وشهادة بيِّنة، يُنذِرُ بتفشي حالة من الشكِّ والريبة بين أفراد الأسر الشريفة، ويهدِّد بانهيارها.
    ـ لقد حمى الإسلام أعراض الناس وأموالهم وحريَّاتهم الشخصية، فأحاطها بسياج كثيف من الضمانات والزواجر الرادعة، وجعل أيَّ اعتداء عليها سبباً للعقاب الشديد، والحرمان من بعض الحقوق المدنية.
    ـ على الرغم من فداحة ذنب التعدِّي على حرمات الناس، فقد ترك الله تعالى باب التوبة مفتوحاً، لمن تاب من أولئك المعتدين، وأصلح ما أفسده واستقام في سيرته.
    في رحاب الآيات:
    اعتاد كثيرون من عامَّة الناس وجهلائهم أن يقضوا أوقات التقائهم وسهراتهم في التحدُّث عن الآخرين، وتعرية أخطائهم وانتقاد تصرُّفاتهم الشخصية، ونادراً ما تخلو أحاديثهم من الإضافات والمبالغات بغرض الإثارة والتشويق. وهذه التُرَّهات من الكلام محرَّمة شرعاً وتدخل تحت مصطلح الغيبة والنميمة، فلا يجوز حضور هذه المجالس حتَّى يخوض أصحابها في أحاديث مثمرة مفيدة لمصلحة الفرد والجماعة.
    ويتمادى الناس في تلك المجالس في انتهاك أعراض الآخرين، وتشويه سمعتهم الأخلاقية، ويبلغ تماديهم ذروته عندما يرمي بعضهم رجلاً أو امرأة بتهمة الزنى، سواء كان رَميه لهما مباشراً كأن يقول: فلان رجل زان، أو فلانة امرأة زانية، أو كان رميه غير مباشر كأن ينسب شخصاً إلى غير أبيه، أو يشتمه بقوله: أنت ابن حرام. فمن صدر منه هذا التصرف اعتبر قاذفاً، وجزاؤه أن يُجلد ثمانين جلدة، ما لم يأت بأربعة شهداء، رأوا المتَّهم بأعينهم وهو يزني، وإلا فيُقامُ عليه الحَدُّ، رجلاً كان القاذف أو امرأة. ولا يخفى أنه يُشترط في هذه الشهادة من التثبُّت واليقين ما يُشترط لإثبات الزنى، وإلا عُدَّ الشهود جميعاً قاذفين، ويجب على القاضي إقامة حدِّ القذف عليهم، كلُّ ذلك ضماناً للأعراض وعدم تركها ألعوبة تلوكها ألسنة السفهاء وتشوِّهها النيَّات الخبيثة.
    وقد أشارت الآية الكريمة إلى شرط من أهمِّ الشروط الَّتي توجب العقوبة؛ وهو أن يكون المقذوف مُحْصَناً؛ ذَكراً كان أم أنثى. ومعنى الإحصان هنا أن لا يكون المتَّهم قد ارتكب جريمة الزنى قبل أن يُقذف بها، بل كان عفيفاً طاهراً. أمَّا إن ثبت عنه ذلك فلا يكون محصناً، وبالتالي تسقط العقوبة الدنيوية عن القاذف، ولا يخلو اتِّهامه هذا من إثم يستحقُّ عليه العقوبة في الدار الآخرة.
    وقد خصَّ الله تعالى المقذوفات من النساء بالذِّكر في الآية بقوله: {المُحْصَنات} لأن قذف المرأة والنَّيلَ من سمعتها يتعدَّى ضرره إلى جميع أفراد أسرتها، فيُلْحِق بهم عاراً كبيراً بخلاف الرجل. أمَّا تخصيصه للقاذفين من الرجال بقوله: {والَّذين يرمون} لأن صنف النساء يغلب عليهن الحياء عادة فلا يقذفن الرجل بالزنى.
    ولم يكتف الإسلام بعقوبة الجَلْدِ في حقِّ القاذفين، بل إنه أقام حَجْراً مدنياً على هؤلاء المتهتكين، فلم يقبل لهم شهادة بعدها أبداً، وهذا العقاب أشدُّ إيلاماً للنفس وأوجع. وهناك عقوبة ثالثة هي وصمهم بالفسق، والانحراف عن طريق الله المستقيم. وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تتبُّع عورات المسلمين وإفشاء سرِّهم فقال: «يامعشر من أسلم بلسانه ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه! لا تؤذوا المسلمين ولا تتبَّعوا عوراتهم، فإن من تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عزَّ وجل عورته، ومن تتبَّع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» (رواه الترمذي وغيره مرفوعاً) وقال أيضاً: «من علم من أخيه سيئة فسترها ستر الله عليه يوم القيامة» (رواه الطبراني).
    وتبقى مِظلَّة الإسلام الرحيم، تشمل التائب بظلالها وبركاتها، فتنشر عليه عفو الله ومغفرته، فمن اعترف بذنبه من بعد معاقبته، والتزم بشروط التوبة الحقيقية، وأصلح الضرر الحاصل عن شهادته الكاذبة، فإن الله تعالى غفور رحيم.
    ونستنتج من ذلك كلِّه أن الإسلام قد حرص أشدَّ الحرص على تمتين الروابط الاجتماعية والأخلاقية في المجتمع الإسلامي، وصان سمعة الناس بصيانة أعراضهم وخاصَّةً النساء؛ لأن سمعة المرأة الأخلاقية أثمن شيء تملكه، فجاء زَجْرُ السُّنَّةِ عن انتهاك الأعراض كما مرَّ في الحديث السابق؛ وهاهو ذا كتاب الله الخالد يهدِّد هؤلاء المجرمين بحقِّ ?أعراض غيرهم، بأشد تهديد يمكن أن يسمعه أولئك المغفَّلون، الَّذين أطلقوا لألسنتهم العنان تنهش في أعراض إخوانهم، فقال تعالى: {إنَّ الَّذين يرمونَ المُحْصَناتِ الغافلاتِ المؤمناتِ لُعِنوا في الدُّنيا والآخرةِ ولهم عذابٌ عظيم} (24 النور آية 23).
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    أحكام استثنائية رُخِّص بها لرفع الحرج
    سورة البقرة(2)
    قال الله تعالى: {..يريدُ الله بكمُ اليُسْرَ ولا يريدُ بكمُ العُسْرَ.. (185)}
    سورة النساء(4)
    وقال أيضاً: {يُريدُ الله أَن يُخفِّفَ عنكم وخُلِقَ الإنسانُ ضَعيفاً(28)}
    سورة الحج(22)
    وقال أيضاً: {..وما جعلَ عليكم في الدِّينِ من حرجٍ.. (78)}
    ومضات:
    ـ اليُسْرُ وعدم الحرج سِمَة بارزة في الأحكام الَّتي كَلَّف الله بها عباده، وتتمثَّل في الإقرار بوجود الدوافع الفطريَّة وتنظيم الاستجابة لها، ليكون التوازن قائماً ومنسجماً، بين التكليف وبين متطلَّبات الحياة، على صعيد الفرد والجماعة.
    ـ ليست غاية الإسلام تعذيب النفس وإرهاقها بالمبالغة في التكاليف والأعباء الدِّينية، فقد رحمها الله تعالى لضعفها وعجزها، حيث أن قدراتها محدودة واستعداداتها الطبيعية متفاوتة.
    في رحاب الآيات:
    من كمال حكمة الله التخفيف على عباده فيما شرع لهم من الحدود والأحكام، وذلك رحمة منه بهم، ومراعاة لضعفهم، ورفعاً للحرج ودفعاً للمشقَّة عنهم، فلا ضرر ولا ضرار. وتأكيداً على هذه المبادئ الَّتي تُبرز يُسر الإسلام وسماحته؛ شُرع كثير من أحكام الرُّخَص الَّتي تتعلَّق بالعبادات والمعاملات والعقوبات، والأمثلة عليها كثيرة وعديدة، سنأتي على ذكر بعضها، فيما يتعلَّق بالعبادات من صلاة وصيام وحج.
    فعلى سبيل المثال فرض الله تعالى عدداً من ركعات الصَّلاة يومياً، لكنَّه رخَّص بجواز قَصْرِها في ظروف معيَّنة، كما ورد في قوله تعالى: {وإذا ضرَبْتُم في الأرضِ فليس عليكم جُنَاحٌ أن تَقْصُرُوا من الصَّلاة..} (4 النساء آية 101) أي إذا سافرتم أيُّها المؤمنون في الأرض للجهاد ـ وقياساً لأي داعٍ من دواعي السفر ـ فلا إثم عليكم في أن تَقصُروا الصَّلاة المفروضة، فَتُصَلُّوا الرباعيَّة ركعتين، لأن في السفر من المشقَّة والتعب ما لا يخفى على أحد، والإسلام دين اليُسر الملائم لكلِّ الظروف، وكذلك أبيح الجمع بين فرضين بسبب وجود حرج على المكلَّف، أو دون سبب لما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه : «صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولاسفر»، وهذا استثناء وليس قاعدة عامَّة.
    كما أنه يجوز لمن جهل جهة القبلة، وتعسَّر عليه تحديد جهتها في سفر أو غيره؛ أن يتوجَّه في صلاته إلى أي جهة يغلب على ظنِّه أنها جهة القبلة. كما يجوز للمصلِّي أن يصلِّي صلاة النافلة على المركوب الَّذي يمكن توقيفه والنزول عنه كالدابَّة والسيارة، أمَّا صلاة الفريضة في القطار والباخرة والطائرة، فيمكنه أداءها قاعدا، فيما إذا تعذَّر عليه الصَّلاة واقفا. وتكون قبلته حيث تتجه مركوبته، لما أخرجه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي وهو مُقبل من مكَّة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت الآية: {ولله المَشرقُ والمَغربُ فأينما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجهُ الله..}» (2 البقرة آية 115). فالحكمة من الاتجاه للقبلة هي توحيد وجهة المصلِّين، ولكنَّ يُسر الإسلام يحكم بجواز الاتجاه لغير جهتها، فيما إذا كان المصلِّي يخضع لظرف يمنعه من استقبالها. فالله موجود في كلِّ مكان، لا تقيِّده الحدود، ولا تحدُّه الجهات، بل هو الواسع العليم، الَّذي يتقبَّل العبادة من المكلَّف على الشكل الَّذي يمكنه أن يقوم بأدائها عليه، وهو الرحيم الرؤوف الَّذي يتجاوز عن الضعفاء من عباده، ولا يكلِّفهم ما لا يطيقون، فيرخِّص لهم في الأحكام في ظروف الجهل والمرض والسفر والخطأ والنسيان وغيرها من الأسباب الاضطرارية، لأنه يريد بهم اليُسر ولا يريد بهم العُسر.
    ومن الرُّخَص الَّتي شُرعت فيما يتعلَّق بالصَّلاة، التخفيف عن المؤمنين بمقدار صلاة قيام الليل، ونَسْخُ حُكمها من الوجوب إلى التطوُّع، لأنه عندما نزل قول الله تعالى: {ياأيُّها المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيلَ إلاَّ قليلاً * نِصفَهُ أو انقُصْ منه قليلاً * أو زدْ عليه ورتِّلِ القرآنَ ترتيلاً} (73 المزمل آية 1ـ4) سارع الرسول صلى الله عليه وسلم مع طائفة من أصحابه إلى امتثال أمر الله في المداومة على قيام الليل. قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية شقَّ ذلك عليهم فكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتَّى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وامتقعت ألوانهم، فرحمهم الله تعالى وخفَّف عنهم، بعد أن أثنى عليهم في محكم تنزيله فقال جلَّ من قائل: {إنَّ ربَّكَ يعلمُ أنَّك تقومُ أدْنى من ثُلُثَي اللَّيلِ ونصفَهُ وثُلُثَهُ وطائفةٌ من الَّذين معك والله يُقَدِّرُ اللَّيلَ والنَّهارَ عَلِمَ أن لن تُحصوهُ فتابَ عليكم فاقرؤوا ما تيسَّرَ من القرآن عَلِمَ أنْ سيكونُ منكم مرضى وآخرونَ يَضْربونَ في الأرضِ يبْتغونَ من فَضْلِ الله وآخرونَ يُقاتِلونَ في سبيلِ الله فاقرؤوا ما تيسَّرَ منه..} (73 المزمل آية 20).
    ففي هذا منتهى الرأفة بهم من الله تعالى، وغاية العناية الربَّانية الَّتي شاءت أن تخفِّف عنهم وتيسِّر أمورهم، ليبقى التوازن قائماً بين متطلَّبات الروح وحاجات الجسد، فقد يكون الإنسان مريضاً أو مسافراً لأجل كسبه ومعاشه، وقد يكون مجاهداً في سبيل الله لإعلاء كلمته ونشر دينه، وكلٌّ من هؤلاء الثلاثة قد يشقُّ عليه قيام الليل، فخفَّف الله عنهم وعن أمثالهم، وأسقط عن عموم المسلمين وجوب قيام الليل، وتركه نافلة للمتطوِّعين الراغبين في ذلك. ويؤكِّد ذلك الحديث الصحيح عند مسلم والنسائي والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه الَّذي قال فيه: «قال السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل عليَّ غيرها؟ يعني الصَّلوات الخمس، فقال: لا، إلا أن تَطَّوَّع»؛ فهو يدلُّ على عدم وجوب غير الصلوات الخمس المفروضة، ومن تطوَّع خيراً فهو خير.
    أمَّا عن الأحكام المتعلِّقة بالصَّوم، فقد فرض الله على عباده المسلمين صيام شهر رمضان، ولكنَّه رخَّص لهم بالإفطار لأسباب مانعة أو مرهقة كالمرض أو السفر، قال تعالى: {..فمن شَهِدَ منكمُ الشَّهرَ فلْيَصُمهُ ومن كان مريضاً أو على سفرٍ فعِدَّةٌ من أيامٍ أُخَرَ يُريدُ الله بكمُ اليُسرَ ولا يُريدُ بكمُ العسرَ..} (2 البقرة آية 185) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : «إن الله تعالى وضع شطر الصَّلاة عن المسافر، وأرخص له في الإفطار، وأرخص فيه للمرضع والحبلى إذا خافتا على ولديهما» (أخرجه أصحاب السنن عن أنس بن مالك رضي الله عنه ). وقد كان الصحابة الكرام تجاه مثل هذه الأحكام على فريقين، فبعضهم يأخذ بالعزيمة ـ في حال السـفر أو المرض ـ إذا وجد في نفسه القدرة فيصوم، وبعضهم الآخر يأخذ بالرخصة إذا وجد في الصَّوم مشقَّة وحرجاً فيفطر، إلا أنه لم يكن صائمهم ليَعيب على مفطرهم، ولا مفطرهم على صائمهم. والأخذ بمثل هذه الرُّخص سنةٌ؛ ولا ينقص من الأجر شيئاً، كما أن عدم الأخذ بها يجعل المكلَّف آثماً إذا ترتَّب على عدوله عنها ضرر يؤذيه. ويؤكِّد ذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فصام بعض وأفطر بعض، فتحزَّم المفطرون وعملوا، وضعُف الصُوَّام عن بعض العمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذهب المفطرون اليوم بالأجر» (رواه مسلم والنسائي).
    وعن جابر رضي الله عنه قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكَّة في رمضان فصام حتَّى بلغ كُراع الغميم فصام النَّاس، ثمَّ دعا بقدح من ماء فرفعه حتَّى نظر النَّاس ثمَّ شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض النَّاس قد صام، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة» (أخرجه مسلم والترمذي) ويؤيِّد هذا حديث آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم : «ليس من البرِّ الصيام في السفر» (رواه الخمسة عن جابر رضي الله عنه ).
    أمَّا فيما يتعلق بفريضة الحج فقد رُخِّص في بعض أحكامها المتعلِّقة ببعض شعائره كَرَمي الجمار؛ فأصل الحكم في ذلك أنه لا يجوز لأحد أن يرمي قبل نصف الليل الأخير بالإجماع. إلا أنه يُرخَّص للنساء والصبيان، والضعفاء، وذوي الأعذار، ورعاة الإبل أن يرموا جمرة العقبة من نصف ليلة النحر (ليلة الإفاضة من عرفات)، فعن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة ليلة النحر فرمت ثمَّ أفاضت» (رواه أبو داود والبيهقي).
    والأمثلة على التخفيف في الإسلام كثيرة يضيق المجال عن إحصائهـا، وهي تصل إلى حدِّ إباحة بعض ما حرَّم الله في حال الضرورة القصوى، ومن ثمَّ فإن ميزة التيسير ميزة واضحة في التشريع الإسلامي، نلمس آثارها وملامحها في معظم سور القرآن الكريم، وفي كثير من الحوادث الَّتي جرت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي كثير من الأقوال الَّتي أُثِرت عنه في هذا الصدد، كقوله عليه الصَّلاة والسلام فيما رواه أحمد عن جابر رضي الله عنه : «بُعثت بالحنيفية السمحة»، وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنه حين بعثهما إلى اليمن: «بشِّرا ولا تنفِّرا ويسِّرا ولا تعسِّرا» (رواه البخاري ومسلم).فاليسر في الدِّين هدية من الله لعباده، والتشدُّد فيه والتطرُّف بدعة يبتدعها المتعصِّبون والغُلاة، والله ورسوله بريئان منهم، ويؤكِّد هذا ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: «جاء ثلاثة رَهْط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا كأنَّهم تقالُّوها (عدُّوها قليلة) فقالوا: وأين نحن من النبي وقد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر؟ فقال أحدهم: أمَّا أنا فإني أصلِّي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الَّذين قلتم كذا وكذا؟ أمَّا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنِّي أصوم وأفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوَّج النساء، فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني» (رواه البخاري ومسلم) وبهذا فإنه صلى الله عليه وسلم عدَّ من يسعى إلى التطرُّف في دين الله، والغُلُو في تطبيق أحكامه، معادلاً للمقصِّر في دين الله، والراغب عن سنَّته صلى الله عليه وسلم ، وتبرَّأ منه. وخَيْرُ منهجٍ في هذا السبيل منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث صحَّ عنه أنه صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر بين أمرين، إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً.
    ومع ذلك كلِّه فإننا نصادف أناساً يشدِّدون على أنفسهم وعلى غيرهم من المسلمين، وينصِّبون أنفسهم قضاة عليهم، يُسفِّهون هذا ويُكفِّرون ذاك بداعي التعصُّب والغُلُو، وبدعوى أنهم يريدون من النَّاس أن يكونوا كاملين، بينما يؤكِّد الله تعالى أن الإنسان مخلوقٌ ضعيفٌ وليس بكامل {يُريدُ الله أن يُخففَ عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً}. ثمَّ إنهم يلجؤون إلى الوعظ بفظاظة وغلظة، فيُنفِّرون النَّاس منهم ومن الإسلام، حتَّى كان بعضهم سبباً في جعل بعض الدول تلاحقهم، وتمنعهم من نشر أفكارهم، لما فيها من دعوة إلى العنف والتطرُّف باسم الإسلام، والإسلام من عنفهم وتعصُّبهم بريء؛ فإذا كان الله تعالى قد أراد أن يخفِّف عن المؤمنين، فلماذا يجنح هؤلاء ليثقلوا كواهلهم بتشدُّدهم؟!
    سورة البقرة(2)
    قال الله تعالى: {لله ما في السَّمواتِ وما في الأَرضِ وإن تُبدُوا ما في أنفسِكُم أو تُخفُوهُ يُحاسِبْكُم به الله فَيَغفِرُ لمن يشاءُ ويُعَذِّبُ من يشاءُ والله على كلِّ شيءٍ قديرٌ(284)}
    سورة البقرة(2)
    وقال أيضاً: {لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسعَهَا لها ما كَسَبَت وعليها ما اكتَسَبَت ربَّنا لا تُؤاخِذْنا إن نَسِينا أو أخطَأنا ربَّنا ولا تَحمِلْ علينا إصْراً كما حَمَلتَهُ على الَّذين من قَبلِنا ربَّنا ولا تُحَمِّلنَا مالا طاقةَ لنا به واعْفُ عنَّا واغفِر لنا وارحَمنا أنتَ مولانا فانصُرنَا على القومِ الكافرين(286)}
    سورة آل عمران(3)
    وقال أيضاً: {قلْ إن تُخفوا ما في صدورِكُم أو تُبْدوهُ يَعْلَمْهُ الله ويعلمُ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ والله على كلِّ شيءٍ قديرٌ(29)}
    ومضات:
    ـ كيف لخالق هذا الكون بمجرَّاته اللامعدودة وآفاقه اللامحدودة أن يغيب عنه ما نُخفي، أو ما نُسِرُّ وما نعلن، والوجود كلُّه تحت بصره، محاط برعايته وعنايته.
    ـ لقد وضَعَنا الإسلام أمام نظام اجتماعي تربوي في غاية المثالية، فمن التزم به سعد بالمغفرة ونال رضا الله، ومن خالفه أشقى نفسه وحكم عليها بالعذاب.
    ـ لم تتجاهل الدعوة الأخلاقية في الإسلام طاقة النفس البشرية ومقدار تحمُّلها، إنما راعت ظروفها في حالة النسيان وحالة الخطأ غير المتعَمَّد، لتبقي على زخمها المتجدِّد في صلتها بالله تعالى، واستمدادها العون والقوَّة منه عزَّ وجل.
    في رحاب الآيات:
    الإسلام دين سَمْحٌ قويم، لم يفرض على الإنسان إلا ما يرفع عنه الأغلال ويحطُّ عنه الأثقال، ويُفيض عليه الرحمة واليُسر وأسباب الاستقامة على الطريق السويِّ. وعندما نزل قول الله تعالى: {لله ما في السَّمواتِ وما في الأرض وإن تُبْدوا ما في أنفسِكُم أو تُخفوهُ يُحاسِبْكم به الله..} اشتدَّ ذلك على الصحابة، فأتوا الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: (كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق: الصَّلاة والصِّيام والجهاد والصَّدقة، وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها)، فأمرهم صلى الله عليه وسلم بالطاعة والتسليم الكامل لأمر الله حتَّى يكونوا من القوم المهتدين. فلما قرأها القوم وجرت بها ألسنتهم، وتغلغلت في قلوبهم، أنزل الله تعالى : {لا يُكلِّفُ الله نَفْساً إلاَّ وُسْعَها لها ما كَسبَت وعليها ما اكتَسبَت..} فَنَسَخت هذه الآيةُ الآيةَ الأولى.
    لقد أنزل الله تعالى في الآية الأولى ما أخاف المسلمين، فهي تنبِّئهم بأن الله سبحانه مالك لكلِّ ما في السموات والأرض، مطَّلعٌ على ما فيهن، عالمٌ بظواهر الأمور وبواطنها، ومحاسبٌ عليها جميعاً. وقد قال الصحابة ما قالوه لأنهم يرجون الوصول إلى الكمال الخلقي والعملي برغبة صادقة، ولكنهم أدركوا الضعف البشري الَّذي يتسلَّط على النفوس في بعض اللحظات، كالغضب والحبِّ والبغض والكراهية، وما إلى ذلك من جملة الانفعالات، الَّتي تولِّد لدى الإنسان خواطرَ وأفكاراً شتَّى، لا يستطيع التحكُّم بها في لحظتها، لأنها أمور قلبية نفسية بعيدة عن الإرادة والاختيار، فأقبلوا على الرسول صلى الله عليه وسلم ملتجئين إليه ممَّا يعتصر قلوبهم من الخوف، لعدم أهليَّتِهم لتحمُّل ما تكلِّفهم به الآية، مدفوعين بالرجاء من حضرة الله عزَّ وجل ليخفِّف عنهم بعض ما أصابهم. ويطالبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالامتثال دون اعتراض، كي يُقدِّموا الدليل الساطع على صحَّة إيمانهم واستسلامهم لأمر الله، فيكونوا من أصحاب السمع والطاعة؛ ويمتثل الصحابة الكرام وينجحون في الامتحان، فتأتيهم البُشرى من عنده سبحانه وتعالى لتهدِّئ من روعهم وتثلج صدورهم، فتتنزَّل الآية الَّتي تطمئنهم بأن الله تعالى، خالقهم ومولاهم، ولا يريد بهم إلا خيراً، ولن يكلِّفهم من الأمر ما لا يطيقون. فهو العليم بما يختلج في نفس العبد من الأفكار والميول، وما يكتنفه من خواطر وخصوصاً في لحظات الضعف، ولهذا فإنه لا يحاسبه إلا على ما تأصَّل في نفسه، وعقد العزم على الاستجابة له من النوايا والمشاعر، الَّتي كان لها دورٌ موجِّهٌ في أعماله، كمشاعر الحقد والحسد والعُجْب وغيرها، والله سبحانه يتجاوز له عن الخواطر والهواجس الَّتي تتوارد على قلبه بغير إرادته، ولا تترك أثراً في نفسه ولا ينتج عنها فعل، أو قول يكرهه الله، أمَّا إذا استرسل فيها إلى أن قادته إلى دائرة الأذى وإلحاق الضرر بالآخرين فإنه آثم، ويحاسَبُ على ما اقترف من أعمال سيئة.
    وبهذا لم يُغفل الإسلام مراعاة متطلَّبات الطبيعة البشرية للإنسان ـ وما فيها من قوَّة وضعف ـ أثناء عملية توجيه مسار سلوكه وتربية نفسه؛ بل نظر إليه على أنه وحدة متكاملة مؤلَّفة من جسد ذي نوازع ودوافع، وعقل ذي تفكير وتقدير، وروح ذات أشواق وآفاق، ففرض عليه من التكاليف ما يطيق، وراعى التناسب بين الطاقة والتكليف بدون مشقَّة، ولبَّى حاجات الجسد والعقل والروح في تناسق ينسجم مع الفطرة، فكلُّ تَوَهُّمٍ باستحالة القيام بهذه التكاليف هو من وساوس الشيطان، الَّذي يثني صاحبه عن الطاعات وما صلح من الأعمال والعبادات. فسائر التكاليف في الشريعة الإسلامية هي في حدود الطاقة البشرية وقدراتها، والله تعالى لا يكلِّف نفساً إلا وُسْعها، وهذا ما يدفع المسلم إلى تحسُّس آثار رحمة ربِّه وعدله، فيشعر بالطمأنينة والراحة والأُنْس، وقوَّة العزيمة للنهوض بهذه التكاليف.
    لقد نسخت هذه الآية الكريمة ما أشفق منه الصحابة في قوله تعالى: {..وإن تُبْدوا ما في أنفسِكُم أو تُخفوهُ يُحاسِبْكم به الله..} فلئن سأل الله تعالى وحاسب فإنه لا يعذِّب إلا بما يملك الإنسان دفعه، أمَّا ما لا يملك دفعه من وساوس النفس وحديثها فهو لا يعاقب عليه. وكلُّ نفس تحاسَبُ وتُجزى بما فعلت، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
    ومن كمال عدله وإحسانه تعالى أنه يجازي المسيء بقدر إساءته، فلا يضاعف له العقاب، ولا يحاسبه على نيَّة السوء ما لم تقترن بالعمل، بل إنه يكافئه إذا عدل عنها فلم ينفِّذها. ومن فضله وكرمه أيضاً أنهيجزي المحسن على نيَّته إذا عزم على عمل حسنة؛ وإن لم يتيسَّر له تنفيذها، ويضاعف له ثواب حسنةٍ عمل بها عشرات الأمثال ويزيد، قال صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الله كتب الحسنات والسيئات ثمَّ بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة» (رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنه ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تجاوز لي عن أمَّتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تَكلَّم أو تعمل» (رواه الستة).
    بعد هذا يرشدنا الله إلى كيفية سؤاله والتضرع إليه: {ربَّنالا تُؤاخِذْنا..} ويقدِّم لنا صورة رائعة البيان للدعاء الَّذي يُظهر حال المؤمنين مع ربِّهم وإحساسهم بضعفهم وافتقارهم إليه سبحانه، وحاجتهم إلى مدده وعونه.فدائرة الخطأ والنسيان تُحْكِمُ حصارها حول الإنسان، وحينها يتوجَّه إلى ربِّه يطلب منه العفو والسماح إذا وقع فيهما بعد بذل الجُهد والتفكر. إن هذا الدعاء يقوِّي في النفس خشية الله ورجاء مغفرته، فيتحوَّل إقبال المؤمن على ربِّه إلى نور تنقشع به ظلمة النسيان والخطأ والتقصير، فيستحقُّ العفو والمغفرة من الله الرَّحمن الرَّحيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله وضع عن أمَّتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه» (رواه ابن ماجه والبيهقي). ومن خلال هذا الدعاء يتصل الخطاب بين الأرض والسماء، وتتَّجه القلوب المؤمنة الوَجِلة إلى خالقها، تطلب الإعفاء من التكاليف الشاقَّة، الَّتي تعجز عن القيام بها، والَّتي كُلِّفت بها أمم سابقة. ولا يخفى ما يمثِّله هذا الدعاء من الشعور بنعمة الانطلاق والتحرُّر من أسر العبودية لغير الله، وتَلَقِّي الشرائع والقوانين منه وحده، مع الاستعداد التام للتقيُّد بها والالتزام. ويتابع المؤمنون تضرُّعهم إلى الله راجين أن يرحم ضعفهم، فلا يكلِّفهم فوق طاقتهم كي لا يقصِّروا في أداء ما فرضه عليهم، وأن يمحو ذنوبهم، ويستر عيوبهم، ويرحمهم برحمته الواسعة الَّتي وسعت كلَّ شيء.
    وهكذا فالإسلام دين كامل متكامل لا تعارُضَ بين أهدافه وغاياته، ولا بين طرق وأساليب تطبيقه المنسجمة مع الطاقات البشرية، إنه يصنع القلوب الَّتي يشرِّع لها، والمجتمع الَّذي يدعو إليه، صنعة إلهية متكاملة تسمو به إلى أُفُق الالتزام العقائدي، فلا رقابة سوى رقابة الضمير الإيماني، ولا هدف إلا رضا الله.
    إن أي قانون في العالم يمكن التحايل عليه، وكشف ثغراته ومنافذه، بسبب عدم كمال واضعه ومحدوديَّة إمكاناته، ولأنَّه يتعامل مع ظاهر أفعال الإنسان وتحرُّكاته؛ أمَّا التشريع الإسلامي الإلهي فإنه يُوَجَّهُ إلى كلِّ مُعتقِدٍ ملتزمٍ يُحِسُّ برقابة الله، الَّذي لا يخفى عليه شيء في ملكوته، فيستقيم المؤمنون عليه ويلتزمون بأحكامه، مع علمهم اليقيني المحسوس بأن الله تعالى لا يشاء لعباده إلا ما فيه الرحمة والعدل. ومن ثمَّ يتجرَّد المؤمنون تجرُّداً مطلقاً، ويطلبون من الله تعالى العون والنصر والسداد في سائر أمورهم الَّتي تتعلَّق بدينهم ودنياهم، فيا سعادة مثل هؤلاء القوم ويا هنيئاً لهم دنياهم العاجلة وأخراهم الآجلة.
    سورة البقرة(2)
    قال الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ الله باللَّغوِ في أَيمَانِكُم ولكن يُؤَاخِذُكُم بما كَسَبَت قُلُوبُكُم والله غفورٌ حليمٌ(225)}.
    سورة المائدة(5)
    وقال أيضاً: {لا يُؤَاخِذُكُمُ الله باللَّغو في أَيمَانِكُم ولكن يُؤَاخِذُكُم بما عَقَّدْتُمُ الأَيمانَ فَكفَّارَتُهُ إطعامُ عَشَرَةِ مساكينَ من أوسَطِ ما تُطعِمونَ أَهلِيكُم أو كِسوَتُهُم أو تحريرُ رَقَبَةٍ فمن لم يَجِد فصيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ ذلكَ كَفَّارَةُ أيمانِكُم إذا حَلَفتُم واحفَظُوا أيمانَكُم كذلك يُبَيِّنُ الله لكم آياتهِ لعلَّكُم تَشْكرون(89)}
    ومضات:
    ـ تُقَـيَّم الأعمال عند الله تعالى بالنيَّات، ومن هنا كانت محاسبته على اليمين مرهونة بالنيَّة المعقودة عليها، ولهذا كانت الكفَّارة واجبة على اليمين المؤكَّدَة وبعد الحِنْث بها، لا على اليمين الَّتي ينزلق بها اللسانلغواً ودون قصد اليمين؛ وفي كلِّ الأحوال فإن لليمين حُرمة وقدسية لا يجوز أن تُنتَهك.
    ـ إن الله واسع المغفرة، يغفر الزلاَّت ويتجاوز عن ضعف العبد، طالما أنه لا يقصد بخطئه الإساءة إلى العباد، ولا مخالفة أمر الله سبحانه.
    ـ الإسلام دين المجتمع، لهذا فقد شرَّع أغلب الكفارات بشكل يجعل فائدتها تعود على المجتمع بشكل عام، فهو يُلزم مَنْ أقسَمَ يميناً ثمَّ حَنِث بها بإطعام عشرة مساكين، على ألا يرهق نفسه بل يكون إطعامهم مماثلاً لما يأكل، أو كسوتهم ممَّا يرتديه وأُسرَتُهُ، أو تحرير عبد من عبوديَّة الإنسان. وبعد أن أعطى الأولوية لهذه الخدمات الاجتماعية تحت شعار الكفَّارة وأعطى الفرد الحرِّية في اختيار إحداها، شرع الكفَّارة الفردية، لمن لا يقدر على واحدة ممَّا سبق بأن يصوم ثلاثة أيام، وهي كفَّارة تعود منفعتها المباشرة على المرء شخصياً، وتنعكس منافعها بشكل غير مباشر على المجتمع، بتقويم أفراده وتهذيبهم.
    ـ الله تعالى يفصِّل الأحكام بما يتلاءم ومصلحة الخلق، وعليهم في مقابل ذلك أن يشكروه ويقدِّروا نعمه عليهم.
    في رحاب الآيات:
    اليمين في الشرع هو قَسَمٌ يعقده الحالف على نفسه ليؤكِّد به ثبوت أمرٍ أو نفيه، أو عزمه على فعل أمر أو تركه، بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته، ويترتَّب عليه التزامه بصحَّة ما أقسم عليه، وتنفيذه حفظاً لحرمة اليمين وقدسيته. ومن بعض آثاره الهامَّة إيجاب حقٍّ للحالف أو حجب ذاك الحقِّ عمن امتنع عن القسم، ومن هنا كان لليمين دورٌ فاعلٌ في العلاقات بين النَّاس لاسيَّما القضائية منها. ولا يجوز شرعاً الحلف إلا بالله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم : «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد (أي الأصنام) ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون» (رواه أبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
    ويُشترط فيمن يعقد اليمين: العقل والبلوغ وإمكان التنفيذ والاختيار (الحرِّية) فمن حلف مُكْرَهاً لم تنعقد يمينه.
    واليمين أنواع: 1 ـ اللغو 2 ـ المنعقدة 3 ـ الغموس
    1 ـ اللغو في اليمين: هو ما يجري على اللسان من غير قصد الحلف بمقتضى العرف والعادة، أو أن يحلف المرء على شيء يظنُّ صدقه فيظهر خلافه، فهو من باب الخطأ، وهذا اليمين لا كفَّارة فيه ولا مؤاخذة عليه.
    2 ـ اليمين المنعقدة: هي اليمين الَّتي يقصدها الحالف ويصمِّم عليها، فهي يمين متعمَّدة ومقصودة، وحكمها وجوب الكفَّارة عند الحِنْث بها، والحِنْث في اليمين يكون بفعل ما حُلف على تركه أو ترك ما حُلف على فعله.
    3 ـ اليمين الغموس: هي اليمين الكاذبة الَّتي يُقصد بها الغشُّ والخيانة، وهي من الكبائر، لأنه يقصد بها اغتصاب الحقِّ من صاحبه وإلحاقه بمعتدٍ كاذب. ولا كفَّارة فيها ويجب التوبة منها، وردُّ الحقوق المتعلِّقة بها إلى أصحابها؛ إذا ترتَّب عليها ضياع هذه الحقوق، قال صلى الله عليه وسلم : «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس» (رواه البخاري).
    والمقصود بالكفارات: الأعمال الَّتي تكفِّر بعض الذنوب وتسترها، حتَّى لا يكون لها أثر يؤاخذ به صاحبها في الدنيا أو في الآخرة.
    وكفَّارة اليمين المنعقدة إذا حنث فيها الحالف هي، الإطعام أو الكسوة أو العتق، فمن لم يستطع أي أمر منها فليصم ثلاثة أيام. أمَّا الإطعام فإنه لم يرد نصٌّ شرعي في بيان مقداره، إنما يرجع في تقديره إلى العُرْف فيكون الطعام مقدَّراً بقدر ما يُطعم منه الإنسان أهل بيته من الطعام المتوسط، وقد حدَّدت الآية الإطعام إمَّا لعشرة مساكين يوماً واحداً، أو مسكيناً واحداً لعشرة أيام، كلَّ يوم أكلتين مشبعتين.
    وأمَّا الكسوة فهي إكساء عشرة مساكين ثوباً سابغاً لكلِّ واحد منهم، وأَقَلُّ ذلك ما يلبسه المساكين عادة، قال مالك وأحمد رضي الله عنهما: (يُدفع لكلِّ مسكين ما يصحُّ أن يصلِّي فيه إن كان رجلاً أو امرأة كلٌّ بحسبه).
    وأمَّا تحرير الرقبة فهو عَتْقُ رقيق وتحريره من العبودية. فإذا تعذَّرت الوسائل الثلاث كان عليه أن يصوم ثلاثة أيام، فإن لم يستطع لمرض أو نحوه، ينوي الصِّيام عند الاستطاعة.
    ويجوز للحالف أن يحنث بيمينه عمداً ويُكفِّر عنها إذا اقتضت المصلحة ذلك؛ شريطة أن لا يترتَّب على الحِنْث المتعمَّد إيذاءٌ لأحد أو ضياعٌ للحقوق، قال صلى الله عليه وسلم : «إذا حلفْتَ على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فَأْتِ الَّذي هو خير وكفِّر عن يمينك» (رواه أحمد والبخاري ومسلم)
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

صفحة 3 من 3 الأولىالأولى ... 2 3

التربية الاجتماعية في الإسلام

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. 12 خطأ يقع فيه المربون . التربية السليمة . اخطاء التربية
    بواسطة مريم في المنتدى قسم الأطفال
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 18-06-2012, 07:29 PM
  2. مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 16-07-2010, 07:46 PM
  3. مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 16-07-2010, 07:42 PM
  4. 12 خطأ يقع فيه المربون . التربية السليمة . اخطاء التربية
    بواسطة مريم في المنتدى قسم الأطفال
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-07-2010, 10:10 PM
  5. الآفات الاجتماعية وموقف الإسلام منها
    بواسطة فريد عبد العليم في المنتدى المنتدى الإسلامي العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 15-12-2009, 02:00 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

التربية الاجتماعية في الإسلام

التربية الاجتماعية في الإسلام